تفسير سورة الطلاق

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ
سورة الطلاق وهي مدنية

سُورَةُ الطَّلَاقَ وهي مدنية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ):
فإنه يخرج على الإضمار - واللَّه أعلم - كأنه يقول: يا أيها النبي قل لأمتك: إذا أردتم أن تطلقوا نساءكم فطلقوهن لعدتهن؛ والدليل على أنه هكذا؛ فإنه يخرج الخطاب بعده كله للجماعة؛ حيث قال: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أو خاطب به النبي والمراد أمته، وذلك كثير في القرآن.
ثم قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أمر بالطلاق للعدة، ولم يبين أن الطلاق للعدة كيف يكون؟ وذكر في بعض القراءات (فطلقوهن لِقُبُلِ عدتهن)، ثم ترك بيان ذلك لا يخلو: إما أن يكون الرسول - عليه السلام - قد بين ذلك لهم، فعرفوا ذلك؛ فلم يبين لهم ذلك في الآية، أو جعل معرفة بيان ذلك إليهم؛ ليعرفوا بالاجتهاد.
ثم قوله: (لقبل عدتهن) يحتمل أول عدتهن، ويحتمل ما يقابل عدتهن وهو الحيض من المقابلة فمن يقول: الاعتداد بالأطهار يجعل القبل كناية عن أول الطهر، ومن
49
يقولها بالحيض يجعل القبل ما يقابل العدة وهو الحيض، ثم لنا أن ننظر أي التأويلين أقرب؟
وقد أجمعوا أن له أن يطلقها في آخر الطهر إذا لم يجامعها فيه، دل أن تأويل القبل بما يقابل العدة أحق وهو الحيض، والاعتداد به أولى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).
يخرج على وجهين:
أحدهما: احفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة؛ فأدوها.
والثاني: احفظوا نفس ما تعتدون به، وهو عدد الحيض الذي بها تعتدون؛ لئلا تزاد ولا تنقص.
ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج، يحتمل وجهين:
أحدهما: أنهم هم الذين تلزمهم الحقوق والمؤن.
والثاني: أنه بهم يقع تحصين الأولاد في العدة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
دل قوله: (مِنْ بُيُوتِهِنَّ) على صحة مسألة لأصحابنا - رحمهم اللَّه - فيمن حلف ألا يدخل بيت فلان، فدخل بيتا هو فيه بإعارة أو إجارة أنه يحنث.
ووجه ذلك: أن اللَّه تعالى أضاف البيوت إليهن وإن كان حقيقة الملك للأزواج فيها، ألا ترى إلى قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ)، ثم قال: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)؛ فدل قوله (مِنْ بُيُوتِهِنَّ): أنه أراد به البيوت التي أسكنهن الأزواج فيها، وإذا صحت هذه الإضافة؛ دل على صحة المذهب.
وقال الشافعي فيمن حلف لا يدخل مسكن فلان، فدخل مسكنا هو فيه بإعارة: إنه يحنث، وقال فيمن حلف لا يدخل بيت فلان: إنه لا يحنث، واحتج في المسكن: أنه إنما يحنث؛ لأنه وجد حقيقة السكنى من المحلوف عليه، فإن كان هذا هو الدليل على الحنث، فالواجب عليه أن يحنثه في البيت؛ لوجود البيتوتة على ما حنثه في المسكن،
50
لوجود السكنى.
وبعد: فإن الحنث أقرب في البيت؛ لأن اللَّه تعالى أضاف البيوت إليهن في كتابه وإن كن هن فيها بإعارة ولم يوجد في السكنى ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ).
(مُبَيِّنَةٍ) قرئا جميعًا: فمنهم من حمل الاستثناء بقوله: (إِلَّا) على قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، وصرفه إليه.
ومنهم من صرفه إلى قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ) ولكل من ذلك وجهان:
فأما من حمله على قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ) فإنه جعله استثناءً، وللاستثناء وجهان:
أحدهما: لا تخرجوهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أي: بزنى يزنين، فتخرجوهن؛ لإقامة الحد عليهن.
أو لا تخرجوهن إلا أن يظهر منهن بذاءة اللسان على أهل أزواجهن فتخرجوهن؛ لمكان البذاءة التي في لسانهن.
ومن حمله على قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ فإنه يجعل معنى قوله: (إِلَّا) على معنى: لكن؛ كما قيل في قوله تعالى: (لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا)، أي: لا يسمعون فيها لغوا، ولكن سلاما، إذ لا يحتمل استثناء السلام من اللغو؛ لما ليس في جملة اللغو سلام؛ فيستثنى منه فكذلك قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فكأنه قال: لا يخرجن، ولكن إذا خرجن فخروجهن فاحشة، ويدل هذا على أن النهي لنفس الخروج، لا للانتقال.
ووجه آخر في ذلك، وهو: ألا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة، فإنهن إذا خرجن، خشي عليهن أن يأتين بفاحشة مبينة كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: " أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر "، وكان المعنى من ذلك: أنه إذا تزوج فوطئ فهو عاهر، ولكن نهي عن النكاح؛ لأنه يخشى عليه في النكاح أن يطأها فيصير عاهرا، لا أن يكون نفس التزوج منه زنى، فكذلك (وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) فيكون النهي لا عن نفس الخروج، ولكن لكونه سببا للفاحشة في الجملة، وطريقا إليها.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مُبَيِّنَةٍ).
51
فمن قرأ (مُبَيِّنَةٍ) بالخفض فمعناه: أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها المرء، ونظر تبين له: أنها فاحشة.
ومن قرأ (مُبَيَّنَةٍ) بالفتح، عني به: أنها مبينة بالبراهين والحجج.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ).
الحدود: الموانع والنواهي، لا يحل مجاوزتها، ومن ذلك سمي الحداد: حدادًا؛ لأنه يمنع تحديده كل أنواع أمتعته أن تجاوز حدها الذي جعل لها، والحد في الحقيقة هو: النهاية التي يُنتهى إليها فلا يجاوز، وإذا كان كذلك كان الخيار إلى صاحب التأويل: فإن شاء حمله على الحد بين الطاعة والمعصية أو بين الحلال والحرام؛ حيث ذكر في هذه الآية أنواعا من النهي؛ فسمي ذلك كله: حدودًا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).
أي: ضر نفسه، ويجوز أن يكون المعنى منه، أي: إن جاوز هذا الحد الذي جعله لله تعالى، فقد وضع نفسه مكانا لم يضعه فيه ربه، والظلم في الحقيقة وضع الشيء في غير موضعه.
والتأويل الآخر: أن من جاوز موانع اللَّه ونواهيه، فقد ظلم نفسه؛ دل هذا على أن منافع هذه النواهي ومضارها لا ترجع إلى اللَّه، بل ترجع نفس الممتحنين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا).
أي: لا يطلق؛ فإنه إذا طلق لا يدري لعل اللَّه يحدث بعد ذلك ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها؛ فيكون فيه دلالة النهي عن نفس الطلاق، وقد بينا كراهة نفس الطلاق في الحكمة في أنه ليس من نوع ما يتقرب به؛ فيكون فيه الزيادة في القربة ولا مما يستمتع به فيكون فيه زيادة في الاستمتاع، بل المقصود منه التأديب والمَخْلَصُ، وفي الواحدة كفاية عما زاد عليها؛ فكان في هذه الآية دلالة النهي عن نفس الطلاق، وعن الزيادة على الواحدة واللَّه أعلم.
52
قال: فإن كان تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ - (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) هو الرغبة فيها أو الندامة على ما سبق منه؛ فإنه دلالة على إبطال قول المعتزلة؛ لأن الرغبة والندامة جميعًا من فعل العباد، واللَّه تعالى قد أضاف ذلك إلى نفسه بقوله: (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)، وإذا كان كذلك، ثبت أن لله تعالى في إحداث أفعال العباد صنعا وتدبيرا، واللَّه أعلم.
وقال أصحاب الشافعي: إن قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) يدل على تعليم الوقت في الطلاق دون العدد، فله أن يطلقها في الوقت أي عدد كان، ولا يستقيم ذلك؛ لأن التأويل إنما يستقيم على أحد وجهين: إما على ما جرى به التفاهم في العادات بين العباد، وإما على ما جرى به التفاهم في حق الحكمة، وليس يفهم من قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ) العدد الثلاث على واحد من الوجهين اللذين وصفناهما؛ ألا ترى أن من قال لآخر: طلق امرأتي، لم يجز أن يطلقها ثلاثا إلا أن يكون نوى ثلاثًا؛ فثبت أنه لا يفهم به في عبارته لفظ الثلاث.
وأما وجه الحكمة؛ فلما ذكرنا: أن الطلاق ليس مما يتقرب به رغبة في الاستكثار منه زيادة في القربة، ولا مما يستمتع فيستكثر منه زيادة في الانتفاع، وإنما المراد منه التأديب والمخلص، وما كان مخرجه هذا المخرج، كان في حد الرخصة وما خرج مخرج الرخص، لم يعتد به عما وقعت به الرخصة، وإذا ثبت ما وصفنا، ثبت أنه لا يجوز الفهم من قوله تعالى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) الثلاث، والتعليم في العدد أليق به من الوقت؛ لأنه لا ضرر يلحقه في تعديه عن الوقت المجعول له فيه الطلاق، ولا شك أنه يلحقه الضرر في تعديه في العدد والزيادة منه، واللَّه أعلم.
ومما يدل على أن المراد من قوله (فَطَلِّقُوهُنَّ) ليس عدد الثلاث قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ولا شك أنه إذا أوقع عليها ثلاثا، لم يملك إمساكها، ومعلوم أن قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) الطلاق المتقدم من قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ)، ولو كان المراد عدد الثلاث، لم يكن لقوله: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ) معنى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ... (٢)، فيه فوائد
53
شتى، وأدلة متفرقة من الفقه والأحكام:
أحدها: أن اللَّه تعالى قال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والمعروف إليها في المتعارف من نوع الفعل أظهر من نوع القول؛ لأنه إنما يحسن إليها، استمتاعا وإنفاقا ونحو ذلك، فذلك نوعه نوع الفعل؛ فثبت أن حقيقة الإمساك بالمعروف في الأفعال؛ فلذلك قلنا: إنه إذا رأجعها بالفعل يكون مراجعًا؛ فَإِنْ قِيلَ: أليس قال اللَّه تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) والإشهاد على الفعل غير صحيح؟
فجوابه أن يقال: إن اللَّه تعالى قال: (وَأَشْهِدُوا)، ومعلوم أن هذا لو كان بحضرة الشهود، لم يكن للإشهاد معنى، بل إذا سمعوا ذلك، صاروا شهداء أشهدوا أو لم يشهدوا، وإذا كان كذلك، ثبت أن المعنى من هذا الإشهاد على الإمساك المتقدم، وذلك في الأفعال مستقيم، واللَّه أعلم.
ووجه آخر: وهو أن كل عقد استقام بغير شهود جرى فيه الأمر بالإشهاد نحو قوله: (وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ)، وكل ما جعل الشهود فيه شرطا لقوام العقد، جرى الذكر فيه " لا... إلا " بشهود، نحو قوله: " لا نكاح إلا بشهود "، فلما جرى الذكر في هذه الآية بالأمر بالإشهاد بقوله تعالى: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)، ثبت أنه يستقيم من غير شهود، واللَّه أعلم.
ثم في قوله: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) دليل على أن المراد من الأقراء هو الحيض؛ فإنه ذكر نوع هذا في كتاب اللَّه في مواضع؛ قال اللَّه تعالى في موضع: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، وقال في آية أخرى: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ)، وقال في هذا الموضع: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، ومعلوم أن معاني هذه الألفاظ مختلفة وإن اتفقت مخارجها، واختلافها: أن يكون المراد ببلوغ الأجل في أحد النوعين على التمام وانقضاء الأجل، والثاني على الإشراف عليه، وأحق ما يكون في حق الإشراف على البلوغ هو ما يرجع إلى الأزواج؛ لأنه قد كان لهم حق الإمساك قبل انقضاء الأجل، وهم أحق بهن ما لم يتم بلوغ الأجل لا بعده، وإذا ثبت أن المعنى من قوله: (فَإِذَا فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) في هذا الموضع هو الإشراف على البلوغ والقرب من انقضاء الأجل دون التمام، ثبت أن الأقراء: هي الحيض؛ لأنه لو كان المراد منها الأطهار لم يعرف إشراف الأجل
54
على البلوغ؛ لأنه لا نهاية لأكثر الطهر، وأما الحيض فإنه له غاية معلومة؛ لأن أيامها لا تخلو إما أن تكون عشرا أو دون العشر، فإن كان عشرا فيعرف بالعد، وإن كان دون العشر فإن دمها إذا انقطع راجعها قبل أن تغتسل، وذلك وقت إشراف أجلها على البلوغ، والأطهار ليس يتحقق فيها المعنى الذي وصفنا، واللَّه أعلم.
ثم قال هاهنا: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؛ فدل الأمر بالإمساك في الظاهر أنها ما دامت في العدة، فهي على ملكه، وقال في موضع آخر: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ)؛ فدل على أنه قد وقع شيء من الزوال حتى أمره بردها؛ فيكون حجة للشافعي في أن الطلاق الرجعي يحرم الوطء، ولكن المعنى عندنا في هذا - والله أعلم -: أنا قد عرفنا بقوله: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ) بعد وجود الطلاق المتقدم: أنه لم يرد به الفرقة للحال، ولكن معناه: اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فتفارقوهن؛ فثبت أنه قد وقع شيء من شبهة الفراق بالطلاق، وهو أن صار الفراق مستحقًّا لازما حال انقضاء العدة؛ فيكون له عَرَض الوجود للحال، فقال: (فَأَمْسِكُوهُنَّ) على إبقائهن على أصل الملك، وقال: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ)، في ذلك؛ لرفع تلك الشبهة الواقعة بالطلاق؛ وهذا على سبيل ما قال تعالى: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وكان الفيء هو الرجوع، ومعلوم أنه لم يقع بالإيلاء شيء من الفرقة، ولكن لما كان الإيلاء موجبا للبينونة في العقد، أوجب في الحال شبهة الفرقة، وهو استحقاق الزوال، فذكر الفيء؛ لرفع تلك الشبهة؛ وكان تركها منه لا يفيء إليها عزم منه على الطلاق، فكذلك الأول واللَّه أعلم.
والمعروف إذا صنع إليك إنسان صنيعة، فعرفتها واستحسنتها، فهو معروف، وما دفعته وأنكرته، فليس بمعروف.
أو هو الذي عَرَّفَنا اللهُ - تعالى - من المراجعة والمفارقة.
ثم المعروف في الحقيقة ما تطمئن إليه القلوب وتسكن عنده الأنفس.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).
دل قوله - تعالى -: (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) أن قد يكون منا فساق، وأن الفسق لا يخرجه من الإيمان، وكذلك قوله: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ)، فثبت أن قد يكون منا من لا يرضى، وأن خروجه ممن يرضى لا يخرجه من الإيمان.
55
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ).
حيث أضافها إلى نفسه هو أنه لا بد في الشهادة من نفع يقع لأحد الخصمين، وضرر يرجع إلى الآخر، فكأنه قال: لا ينظر بعضكم إلى رضا من تنفعه الشهادة وإلى سخط من تضره، ولكن اجعلوها لله تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
الموعظة وإن كانت لمن يؤمن ولمن لا يؤمن، فالمعنى في هذا: ذلكم يتعظ بما يوعظ به من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر كما كان المعنى من قوله: (إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)، أي: إنما ينتفع بالإنذار من يتبع الذكر، وكما كان في قوله: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، أي: ينتفعون بتلاوته فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله: (يُوعَظُ بِهِ).
أي: بما أمر فيما تقدم من الآيات من الطلاق للعدة، والنهي عن إخراجهن من البيوت والإنفاق عليهن، ونحوه إنما يوعظ به -أي: يأخذ بما أمر به، ونهي عنه في هذه الآيات- من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا).
قد بينا أن التقوى إذا ذكر مفردًا انتظم الأوامر والنواهي، وإذا ذكر معه البر والإحسان، صرف التقوى إلى معنى، والبر إلى معنى، وذكر في هذا الموضع مفردا؛ فجاز أن ينتظم الأوامر والنواهي، ثم جاز أن يكون المعنى من قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) فيما بين له من الحدود، فلم يضيعه، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) فيما لم يبين له، وفيما اشتبه من الحد.
أو يجوز أن يكون المعنى من قوله (وَمَن يَتَقِ اللَّهَ)، أي: يجاهد فيما أمره ونهاه، يجعل له مخرجا في أن يهديه، ويبين له السبيل؛ ألا ترى إلى قوله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).
قال: ويجوز أن ينال من يلزم التقوى خير الدنيا والآخرة؛ لأن اللَّه تعالى ذكر التقوى، وما يليه بألفاظ مختلفة، فقال في موضع: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) وقال: في موضع آخر (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، وفي موضع آخر (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) وفي موضع آخر (إِنَّ
56
اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)، أي: إن اللَّه مع الذين اتقوا في النصرة والمعونة أو التوفيق والعصمة، ومن نصره اللَّه - تعالى - فلا يغلبه أحد، ومن يعصمه اللَّه تعالى فلا يضله أحد، وإذا نال هاتين الخصلتين، فقد نال خير الدنيا والآخرة.
أو يجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) يعني: يتقي عقابه، يجعل له مخرجا من الشدة في الدنيا وعن سكرات الموت وغمراته وعن شدائد الآخرة وأهوالها.
ويجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) في مكاسبه، يجعل له مخرجا من الشبه والحرمات فيسلم منها.
أو يجوز أن يكون قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ) فيما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها من صحبة النساء على ما أمر به، (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) مما أهمه من ناحيتهن، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ... (٣) يجوز أن يكون هذا فيما بين له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال.
ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاسب والتجارات؛ لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح؛ لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات، وأنها إذا نُفِيَت من تجاراتهم لا يرزقون مثل ذلك؛ فأخبر - جل ثناؤه - أنهم إذا اتقوا في تجاراتهم تلك الشبه والحرمات، رزقهم من حيث لم يحتسبوا.
أو يجوز أن يكون هذا خطابا للكفرة؛ وذلك أنهم كانوا يخافون أنهم إذا آمنوا برسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حرموا من الرزق، وابتلوا بالضيق، ألا ترى إلى قوله: (وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا..) الآية، فكأن اللَّه - تعالى - أمنهم عما يخافون بسبب الإسلام، وأخبرهم أنهم إذا وحدوا اللَّه تعالى وآمنوا برسوله، رزقهم من حيث لم يحتسبوا، ووسع عليهم الرزق، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).
يجوز أن يكون معناه: أي: من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة.
والوكيل: هو الموكول إليه الأمور.
وقيل الوكيل: هو الحافظ؛ فكأنه قال: ومن يعتمد على اللَّه فيما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ).
57
أي: فيما أخبر من حكمه ووعده ووعيده: أن ينزل بهم.
ويجوز أن يكون (بَالِغُ أَمْرِهِ)، أي: مبلغ ما أمر رسوله بتبليغه إلى آخر عصابة تكون من أمته في تسخيرهم؛ ليصيروا كأن الرسول بلغهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا).
قال الحسن: جعل لكل شيء من أعمال العباد قدرًا وثوابًا في الآخرة.
والوجه عندنا: قد جعل اللَّه لكل شيء مما كان ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة قدرا؛ ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان إلى زمان ومكان ونحو ذلك؛ ليعلم أن اللَّه - تعالى - هو الذي قدر ذلك المكان والزمان والفعل، حتى خرج فعل هذا العبد عن تقديره الذي قدره، واللَّه أعلم.
وفي قوله - تعالى -: (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ) وجه آخر، وهو أنه لو جعل جميع الرزق من حيث لا يحتسب، جاز؛ لأن الرزق في الحقيقة هو الذي يتقوى به الإنسان ويتغذى به، وليس ذلك في عين الأكل والشرب، ولكن فيما يتفرق من قوة الطعام والشراب في الأعضاء، وذلك باللطف من اللَّه تعالى، فثبت أن قوة الأكل والشرب إنما تصل إلى الأعضاء من حيث لا يحتسب الإنسان، واللَّه أعلم.
ثم ليس في قوله - تعالى -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) تخصيص أن من لا يتقيه لا يرزقه من حيث لا يحتسب؛ لأنا قد نرى في الشاهد من يرزق من حيث لا يحتسب اتقاه أو لم يتقه؛ فثبت أن فائدة التخصيص ليس نفي غير المذكور، ولكن فائدة تخصيص المتقي بالذكر هو أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي، واللَّه المستعان.
ثم ليس في قوله: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) ما يدل على ترك الأسباب، ولكن لما رأى الناس يفزع بعضهم إلى بعض ويستغيث بعضهم ببعض، أمرهم أن يجعلوا المقصد والمفزع إلى اللَّه تعالى، وأن يصيروا هذه الأسباب كلها محنة عليهم، لا أن يروا أرزاقهم معصومة متعلقة بها، ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) كيف أمر بإدراك فضله من تلك التجارة؛ فثبت أن هذه المكاسب كلها أسباب للخلق، بها يتوصلون إلى فضل اللَّه تعالى، وأن المقصد والمفزع فيها إلى الله
58
تعالى، واللَّه أعلم.
ثم اختلفوا في أن عدة:
فمنهم من قال: هي استبراء الرحم.
ومنهم من قال: هي عبادة تتبع النكاح الذي استوفي فيه المقصود بالنكاح، وهذا القول عندنا أصوب؛ لأوجه:
أحدها: أن الاستبراء واجب في حق السنة والأدب قبل الطلاق؛ فإن من أراد أن يطلق امرأته فالواجب عليه أن يستبرئها بحيضة ثم يطلقها، وأما العدة فإنها لا تجب إلا بعد الطلاق، فثبت أنها على ما ذكرنا من العبادة التي تتبع النكاح الذي المتوفي فيه المقصود، واللَّه أعلم.
ومعنى آخر: وهو أن العدة لو كانت استبراء، لكانت تكتفى بالحيضة الواحدة، فلما قرنت بالعدد، وفي الواحدة مندوحة عما سواها في حق الاستبراء، ثبت أنها على الوجه الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤).
هذا يدل على أن المراد من الأقراء الحيض؛ وذلك لأن الأصل عندنا في الأصول أن الشيء متى ذكر باسم مشترك، ثم جرى البيان له عند ذكر البدل باسم خاص؛ دل على أن المراد من الاسم المشترك هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)، وكان اسم الغسل مشتركا يتناول الماء وكل مانع، فلما قال عند ذكر البدل: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا)، تبين أن المراد من ذلك الاسم المشترك هو هذا الاسم الخاص المذكور عند البدل، فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ).
اختلفوا في قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ): أنه أريد به: إن ارتبتم في حيضهن أو في عدتهن؟
وعندنا الارتياب في عدتهن؛ لأنه لو كان المراد منه الارتياب في حيضهن، لكان من حق الكلام أن يقول: " إن ارتبتن " أو يقول: " واللائي ارتبن " ليكون منسوقا على قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ) فلما قال: (ارْتَبْتُمْ) وثبت أن المراد: إن ارتبتم في عدة الآيسات والصغائر، فهي ثلاثة أشهر، واللَّه أعلم.
أو لأن المرتابة إذا رأت الحيض ارتفع ريبها، وصار عدتها بالحيض، وخرجت من ْالعدة بالشهور، وأما الآيسة والصغيرة؛ فإنه لا يتوهم عليهما ارتفاع الإياس والصغر؛
59
فيكون عدتهما بالأشهر؛ فلذلك قلنا: إن هذا الارتياب في عدة الآيسات والصغائر.
ثم من قول أصحابنا: إن الرجل إذا طلق امرأته الآيسة أو الصغيرة أو الحامل للسنة يطلقها متى شاء، وليس له وقت معين في طلاقها للسنة، وإنما كان كذلك؛ لأنا قد وصفنا في قوله: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ): أن المراد منه: لقبل عدتهن، ومعلوم أن عدة التي ترى الحيض أحد شيئين: إما الدم ولم يعتبر ما يقابله وهو الطهر من العدة، وكذلك من جعل عدتها بالأطهار لم يعتبر ما يقابلها وهو الحيض من العدة، وإذا كان كذلك لم يكن بد من أن يكون هاهنا شيء يقابل عدتها؛ فثبت فيه معنى قبل عدتها؛ فجعل ذلك الطهر، وأما الآيسة والصغيرة والحامل فجميع أيامها من عدتها، وهي ثلاثة أشهر، وليس في أيامها شيء يقابل عدتها، فلذلك قلنا: إن له أن يطلقها في أي وقت شاء، وكذلك له أن يطلق الحامل التي من ذوات الأقراء؛ وذلك لأنه إنما نهي -عندنا- عن الطلاق على أثر الجماع في التي تحيض؛ لتوهم أن يكون الجماع أحبلها، فإذا طلقها ثم أراد نفي الحبل في العدة، لم يتهيأ له ذلك، وأما الآيسة والصغيرة والحامل، فليس فيهن هذا التوهم، واللَّه أعلم.
ثم إن هذه العدة وإن ذكرها في هذه السورة على أثر الطلاق الواحد؛ فكأنها في التطليقات الثلاث؛ لأن هذه العدة مكان العدة التي ذكر اللَّه تعالى في سورة البقرة من قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)؛ لأنه ذكر هاهنا: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) على الإجمال وذكرها ثَمَّ على التفسير؛ فإذا التحق التفسير بالمجمل يصير في المعنى والحكم كأنه واحد، ومعلوم أن تلك في الواحدة والثلاث؛ ألا ترى إلى قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، وقوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) هي التطليقة الثالثة.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا، ثبت أن للمرء أن يطلق امرأته الحامل للسنة ثلاثا، والله أعلم.
قال - رحمه اللَّه -: في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ) أوجه من الفقه:
60
أحدها: أنه لما قال: (مِنْ بُيُوتِهِنَّ) دل أنه ألزمهن السكون في بيوتهن التي كن فيها في حالة قيام النكاح؛ فيكون دليلا لقول أصحابنا: إنه ليس للزوج أن يسكنها معه في بيته الذي هو فيه، بل يتركها في ذلك المسكن، وينتقل هو بنفسه إن كان يريد الانتقال؛ يصحح هذا قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) فلما أدخل حرف (من) في هذه الآية دل أن الواجب على الزوج أن يسكنها في بيت من بيوته، ولا يدخل عليها في ذلك البيت إلى أن تنقضي عدتها، واللَّه أعلم.
ثم المعنى عندنا في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)؛ ليَحْصِنَّ ماءكم، ولا يخرجن؛ خوفا من وطء غير الأزواج واشتباه النسب لو حبلن، وإذا كان النهي عن إخراجها من البيت لهذا المعنى، لم يكن بد من إيجاب النفقة عليه؛ لأنها إنما تكتسب نفقتها بالخروج، فإذا نهيت عن الخروج؛ لتحصن ماءه، لم يحتمل أن تكون النفقة على غيره، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ).
روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من شاء باهلته أن قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) نزل بعد قوله في سورة البقرة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا)، وجعل عدة الحامل بوضع الحمل، ولا يعتبر أبعد الأجلين، لكن إن كان ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يباهل، فعلي - رضي اللَّه عنه - لا يباهَل، ويقول بأن قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ)، لا يجوز أن يدخل في قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ)؛ وذلك لأن قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) إنما ذكر في عدة الطلاق، وعدة الطلاق لا تتضمن عدة الوفاة إذا كانت بالحيض، لم تدخل عدة الطلاق في عدة الوفاة؛ ألا ترى أن من طلق امرأته وهي حائل ممن تحيض، ثم مات عنها زوجها قبل انقضاء عدتها، لم تدخل عدة الوفاة في الحيض الثلاث، بل الحِيَضُ هي التي تدخل في عدة الوفاة في الحيض، وتؤمر: أن تعتد بأبعد الأجلين، فكذلك أمر الحامل، وإذا اشتبه الحال أمرت فيه بالاحتياط أن تعتد بأبعد الأجلين،
61
ولأن عدة الوفاة لم تلزم لوطء متقدم؛ ألا ترى أنها قد تلزم من لم يكن زوجها من أهل الوطء، وأما عدة الحبل والحيض، إنما لزمت لوطء متقدم، وإذا لم تكن عدة الوفاة من جنس العدة بالحبل، لم تدخل في عدة الحبل فلا نوجب فيها الاحتياط، وذلك في الاعتداد بأبعد الأجلين.
ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحوامل يحتمل أن يكون بمعنى أنها في الحقيقة لا تدخل في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ)؛ لأنا قد وصفنا أنها إنما نهيت؛ لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر، فقد خرجت عن التحصين، فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، لكن اللَّه تعالى حث على الإنفاق في جميع المدة؛ لأنها لا محالة إنما بقيت في هذه المدة؛ لوطئه المتقدم؛ فلذلك حث اللَّه تعالى في الإنفاق على الحوامل فيما يقع عندنا، واللَّه أعلم.
وأما ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه يجوز أن يكون قوله - تعالى -: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ) عنده مبتدأَ خطاب، ليس بمعطوف على قوله: (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ)؛ لأنا نعلم أنه لا يجوز أن يقع الارتياب فيمن تحتمل القروء؛ وذلك لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض، وإذا كانت الحامل ممن تحتمل القروء لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها؛ ليسألوا عن عدتها.
وإذا كان كذلك، ثبت أنه خطاب مبتدأ، وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العِدد كلها، ومما يدل على أنه مبتدأ خطاب ما روي في خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية: أنها وضعت بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة، فأمرها رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن تتزوج؛ فدل إباحته النكاح قبل مضي أربعة أشهر وعشر على أن عدة الحامل تنقضي بوضع الحمل في جميع الأحوال.
وقال الحسن: إن الحامل إذا وضعت أحد الولدين، انقضت عدتها، واحتج بقوله: (أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ولم يقل: " أحمالهن "؛ ولكن لا يستقيم ما قاله؛ لوجهين أحدهما: أنه قرأ في بعض القراءات (أن يضعن أحمالهن).
والثاني: أنه قال: (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ)، ولم يقل: " يلدن "، بل علق بوضع حملهن، والحمل اسم لجميع ما في بطنهن، ولو كان كما قاله، لكان عدتهن بوضع
62
بعض حملهن، واللَّه تعالى جعل أجلهن أن يضعن حملهن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
فقد وصفنا أن التقوى إذا ذكر مطلقًا مفردًا، تناول الأوامر والنواهي، فكأنه قال: ومن يتق اللَّه في أوامره أن يضيعها أو في نواهيه أن يرتكبها، يجعل له من أمره يسرًا.
ثم قوله: (يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا).
له وجهان:
أحدهما: له من أمره يسرًا في نفس التقوى أن نيسره عليه، كما قال في قوله: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ)، وفي قوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)، يعني: ييسر عليه فعل التقوى والطاعة، فكذلك الأول.
ويحتمل أن يكون في جميع الأمور في المكاسب والتجارات وغيرها: أن من اتقى الله من الحرام ييسر اللَّه عليه الحلال، ومن اتقى اللَّه من الشبه يسر عليه في المباح، ومن يتق اللَّه في تجارته، رزقه ما يرجو من الربح ويأمله، وكذلك جميع الأمور على هذا السبيل، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون معنى قوله: (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ) أي: ذلك التقوى أمر اللَّه أنزله إليكم.
ويحتمل أن يكون أراد بقوله: (ذَلِكَ) ما تقدم من الآيات في المراجعة والإشهاد والطلاق والعدة وغير ذلك: أنها وإن خرجت في الظاهر مخرج الخبر، فإنها كلها أمر الله تعالى، أنزله إليكم؛ فاتبعوها وخذوا بأمره فيها، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا).
هذا يدل على ما وصفنا: أن التقوى إذا ذكر مفردا انتظم الأمر والنهي جميعًا، ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وقال هاهنا: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ). فجعل التقوى تكفر السيئات، فلولا أن في التقوى أعظم الحسنات، لم يكن لقوله: (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ) معنى، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ - -: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) وفي قراءة عبد اللَّه بن
63
مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم) ويجوز أن تكون قراءة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضًا؛ ألا ترى أنه قال: " لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "، فالكتاب هذا، والسنة يجوز أن يكون سمعها من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - في ذلك.
أو يجوز أن يكون عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذا تلاوة قد رفع عينها وبقي حكمها؛ لذلك قال: " لا ندع كتاب ربنا " ألا ترى إلى ما قاله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمر الزنى: " سيأتي على الناس زمان يقولون: لا نجد الرجم في كتاب اللَّه، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا، فارجموهما ألبتَّة؛ نكالا من اللَّه، واللَّه العزيز حكيم " فقد رفعت التلاوة، وبقي حكمها؛ فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة وحكمها باقٍ، واللَّه أعلم، وقوله: " لا ندع كتاب ربنا " في الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب اللَّه، بقول امرأة لم ندر أصدقت أم كذبت؟ ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة، وإلا لم يكن احتجاجه بقوله: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة " معنى، بل كان يقول: " لا ندع كتاب ربنا بالسنة "، فلما قال: " لا ندع كتاب ربنا بقول امرأة؛ لا ندري أصدقت أم كذبت "؟ دل أن السنة قد تنسخ الكتاب، واللَّه أعلم.
وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حديثها تركت روايتها إلى زمن مروان، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها، فأخبر بذلك مروان، فدعاها فروت هذا الحديث، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقالت له: أين كتاب ربنا؟ فتلا عليها قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، فقالت: كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا، واللَّه يقول في هذه (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)؛ ومعنى الإمساك في المطلقة ثلاثًا معدوم؛ فأفحم مروان، ولو فهم مروان ما فهمه عمر لم يفحم؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)، ولا فرق هناك بين المطلقة الواحدة والثلاث، وإذا كان المذكور في هذه
64
العدة مكان تلك، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكور في تلك، وليس في تلك الآية ذكر الفرق بين الثلاث والواحدة؛ فلذلك قلنا: في كتاب اللَّه تعالى دلالة إيجاب النفقة للمبتوتة والمطلقة ثلاثًا، واللَّه أعلم؛ فيكون حجة على الشافعي؛ ومما يدل عليه هو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله: (فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان، فلأن يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ولا يكون الإسكان، إلا بالإنفاق؛ لاتصاله به - أحرى، فصار قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ) دليلًا على وجوب الإنفاق، وإنَّمَا قلنا: إن الإنفاق متصل بالإسكان؛ لأنه إذا نهي عن إخراجها عن بيته وأمر بإسكانها فلا يحتمل أن يؤمر بالإنفاق؛ لأن في ذلك تضييقًا عليها وتعسرًا؛ ألا ترى: أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج، فإذا نهى الزوج عن إخراجها، ونهيت هي عن الخروج، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزوج ضرورة، واللَّه أعلم.
ولأجل أنا نظرنا: أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل، لم تجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته، لم يلزم نفقته عليه، وقد وجدنا هذا الحكم، نحو: حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها فولدت ولدا: أن نفقة الولد على السيد، وكان يجب عليه ما دام في بطن أمه، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا، وإن كان الحبل بحيث لو وضعته لم يلزمه نفقته - ثبت أن النفقة في الحامل؛ لمكان العدة لا للحبل، والعدة في الحائل والحامل واحدة؛ فكذلك كان حكمهما واحدًا، واللَّه أعلم.
ثم الأصل عندنا ما وصفنا: أن النفقة إنما وجبت؛ لاستمتاعه المتقدم، فما دامت محبوسة؛ لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه، وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة، واللَّه أعلم.
ولأن في قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)، إضمار النفقة، كأنه يقول: أسكنوهن من حيث سكنتم، وأنفقوا عليهن من وجدكم؛ لأنه لولا هذا الإضمار، لم يكن
65
لقوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) على الظاهر معنى؛ لأنه لما قال: (أَسْكِنُوهُنَّ)، علم أنه جعل الإسكان عليهم، ومن كان عليه الإسكان، فإنما يكون من وجده، فلم يكن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إلا إعلام ما قد علمناه، وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ) إضمارًا يستقيم عليه المعنى في قوله: (مِنْ وُجْدِكُمْ)، وليس بين القراءتين اختلاف، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، و: (أَيْمَانَهُمَا)، ولم يحمل ذلك على الاختلاف، بل حملت إحداهما على الإجمال والثانية على التفسير، فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
مع أنه لم يثبت اللفظ في قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأقله أن يكون من خبر الآحاد، ومعلوم أن خبر ابن مسعود وإن كان من خبر الآحاد فما يسنده إلى رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مقبول، ولما وجب قبول خبر أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع ما قيل فيه من الضعف، فلأن يقبل خبر ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع فضله وورعه وكثرة صحبته مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وتبحره في الفقه أولى، ومن هجر قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خيف عليه الزلة، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عَبَّاسٍ - رضي اللَّه عنهما - أنه سأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، فقال: ما تعدون آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: كلا، كان يعرض القرآن على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - كل عام مرة، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - مرتين، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإذا كان ابن مسعود قراءته آخر القراءات، وهو الذي شهد قراءة القرآن على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - آخر مرة لم ينبغ أن نعرض عن قراءته، ونهجره، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ) دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه، لا في الموضع الذي يسكنه هو؛ لأن حرف (من) للتجزئة والتبعيض.
وقوله: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ).
يحتمل وجهين من التأويل:
أحدهما: أي: لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن، أو لا
66
تضاروهن في المسكن، فتدخلوا عليهن من غير استئذان؛ فيضيق عليهن المسكن؛ فيخرجن، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ).
دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج، كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق.
ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى: أنها في الحقيقة، لم تدخل في قوله: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ)؛ لأنا قد وصفنا أنها نهيت عن الخروج لتحصين ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين؛ فكان الواجب أن تسقط النفقة بعد التسعة، وقد ذكرنا هذا المعنى فيما تقدم.
ويحتمل أن يكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا - واللَّه أعلم - أنه لولا هذه الآية، لكانت الحوامل يخرجن عن قوله - تعالى -: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ)، ومن قوله: (وَلَا يَخْرُجْنَ)؛ لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن بأن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليس لحق الأزواج، ولكن لحق ما في بطنها من الولد؛ ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح وإن كان الولد من غيره، وقد قلنا: إن النفقة إنما وجبت في غير الحوامل؛ لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج، فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج، جاز أن يكون هذا حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم، وإذا كان كذلك، حث اللَّه لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن؛ لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم؛ ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
هذا يتضمن أوجهًا من أدلة الفقه:
أحدها: أنه قال: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)، ثبت أن الإرضاع كان بإجارة، وأنه إذا استأجرها ليرضع ولده منها بعد المفارقة، جازت الإجارة وحل لها أخذ الأجر، وأنه إذا استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز، ولم يكن لها أخذ الأجر؛ لأن اللَّه - تعالى - ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ: (الرزق) بقوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
67
الآية ٦ وقوله تعالى :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ﴾ في قراءة ابن مسعود ١ :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم ﴾ وأنفقوا عليهن﴿ من وجدكم ﴾. ويجوز أن تكون قراءة عمر/٥٧٦-ب/رضي الله عنه هذه أيضا.
ألا ترى أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت، أم كذبت ؟ فالكتاب هذا، والسنة : يجوز أن يكون سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. أو يجوز أن تكون عند عمر رضي الله عنه في هذا تلاوة، قد رفعت عينها، وبقي حكمها، لذلك قال : لا ندع كتاب ربنا.
ألا ترى[ إلى ما ]٢ قال عمر رضي الله عنه في أمر الزنى : سيأتي [ على الناس ]٣ زمان يقولون : لا نجد الرجم في كتاب الله، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب : إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم، فقد رفعت التلاوة، وبقي حكمها ؟
فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة، وحكمها باقيا، والله أعلم.
ثم قوله [ رضي الله عنه ]٤ : لا ندع كتاب ربنا :[ في ]٥ الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة، لأن عمر رضي الله عنه إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب ربه لقول امرأة، لم ندر أصدقت أم كذبت. ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة، وإلا لم يكن لاحتجاجه٦ بقوله : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة، لا ندري أصدقت، أم كذبت، معنى. بل كان يقول : لا ندع كتاب ربنا بالسنة. فلما قال : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة، لا ندري أصدقت، أم كذبت، دل أن السنة قد تنسخ الكتاب، والله أعلم.
وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر رضي الله عنه حديثها، تركت روايتها، إلى زمن مروان، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها، فأخبر بذلك مروان فدعاها، فروت هذا الحديث، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر رضي الله عنه وقالت له : أين كتاب ربنا ؟ فتلا عليها قوله :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم ﴾ وأنفقوا عليهن ﴿ من وجدكم ﴾ فقالت : كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا ؟ والله يقول في هذه ﴿ فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ﴾ [ الطلاق : ٢ ] ومعنى الإمساك في المطلقة معدوم، فأفحم مروان. ولو فهم مروان ما فهمه غيره لم يفحم ؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله :﴿ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ﴾[ البقرة : ٢٢٨ ] ولا فرق هناك بين التطليقة الواحدة والثلاث.
وإذا كان المذكور في هذه العدة مكان تلك، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكورة في تلك الآيات [ وليس في تلك الآية ٧ فرق بين الثلاث والواحدة، فلذلك قلنا : في كتاب الله تعالى دلالة إيجاب النفقة في المبتوتة والمطلقة ثلاثا، والله أعلم، ويكون حجة على الشافعي.
ومما يدل عليه، وهو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله :﴿ فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان، فلان يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق، ولا يكون الإسكان إلا بالإنفاق لاتصاله به، أحرى، فصار قوله :﴿ أسكنوهن ﴾ دليلا على وجوب الإنفاق. وإنما قلنا : إن الإنفاق متصل بالإسكان لأنه نهى عن إخراجها من بيته، وأمر بإسكانها، فلا يحتمل ألا يؤمر بالإنفاق لأن في ذلك [ تضييقا عليها وتعسيرا ]٨.
ألا ترى أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج، فإذا نهي الزوج عن إخراجها، ونهيت هي عن الخروج، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزواج ضرورة، والله أعلم ؟.
ولأجل أنا نظرنا أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل، لم يجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته لم يلزم نفقته عليه. وقد وجدنا هذا الحكم نحو حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها، فولدت ولد : أن نفقة الولد على السيد، وكان يجب عليه مادام في بطن أمه، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا، وإن كان بحيث لو وضعته لم تلزمه نفقته. ثبت أن النفقة في الحامل لمكان العدة لا للحبل. والعدة في الحائل والحامل واحدة، فكذلك كان حكمها واحدا، والله أعلم.
ثم الأصل عندنا ما وصفنا أن النفقة إنما وجبت لاستمتاعه المتقدم. فإذا كانت محبوسة لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه. وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة، والله أعلم.
ولأن في قوله :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ﴾ إضمار النفقة، كأنه يقول :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم ﴾ وأنفقوا عليهن ﴿ من وجدكم ﴾ لأنه لولا هذا الإضمار لم يكن لقوله :﴿ من وجدكم ﴾ على الظاهر معنى، لأنه لما قال :﴿ أسكنوهن ﴾ علم أنه جعل الإسكان عليهم. ومن كان عليه الإسكان فإنما يكون من وجده. فلم يكن في قوله :﴿ من وجدكم ﴾ إلا إعلام ما علمناه. وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله :﴿ من وجدكم ﴾ [ إضمارا٩ يستقيم عليه المعنى في قوله :﴿ من وجدكم ﴾١٠ وليس بين القراءتين اختلاف، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله :﴿ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ﴾ [ المائدة : ٣٨ ] [ فاقطعوا أيمانهما ]١١ ولم يحمل ذلك على الاختلاف، بل حملت إحداهما على الإجمال، والثانية على التفسير، فكذلك الأول، والله أعلم، مع ما إن لم يثبت اللفظ في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فتأويله١٢ أن يكون من خبر الآحاد.
ومعلوم أن خبر ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان من خبر الآحاد في ما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقبول. أو لما وجب قبول خبر أبي هريرة رضي الله عليه مع ما قيل فيه من الضعف، فلأن يقبل خبر ابن مسعود رضي الله عليه مع فضله وورعه وكثرة مصاحبته١٣ مع النبي صلى الله عليه وسلم وتبحّره في الفقه أولى. ومن هجر قراءة ابن مسعود رضي الله عنه خيف عليه الزّلّّّة.
ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون آخر القراءة ؟ قالوا : قراءة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : كلاّ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم كل عام مرة، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود رضي الله عنه وإذا كان ابن مسعود، قراءته آخر القراءات، وهو الذي شهد عليه قراءة القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر مرة لم ينبغ أن يعرض عن قراءته، وتهجر، والله أعلم.
وفي قوله :﴿ أسكنوهن من حيث سكنتم ﴾ دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه لا في الموضع الذي يسكنه، هو لأن حرف ﴿ من ﴾ للتجزئة والتبعيض.
وقوله تعالى :﴿ ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ﴾ يحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : أي لا تضارّوهن في الإنفاق، فتضيقوا عليهن النفقة، فيخرجن.
[ والثاني :]١٤ لا تضاروهن في المسكن، فتدخلوا عليهن من غير استئذان، فيضيق عليهن المسكن، فيخرجن، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ﴾ دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق.
ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى أنها في الحقيقة لم تدخل في قوله :﴿ لا تخرجوهن ﴾ لأنا قد وصفنا أنها نهيت[ عن الخروج ]١٥ لتحصّن ماء الزوج، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين، فكان الواجب أن تسقط النفقة/٥٧٧-أ/بعد التسعة، قد ذكرنا هذا المعنى في ما تقدم.
ويحتمل أن تكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا، والله أعلم، أنه لولا هذه الآية لكانت الحوامل يخرجن عن قوله تعالى :﴿ لا تخرجوهن من بيوتهن ﴾ وعن قوله :﴿ ولا يخرجن ﴾، لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن أن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليست لحق الأزواج، ولكن لحق ما في بطنها من الولد١٦.
ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح من غيره، وقد قلنا : إن النفقة إنما أوجبت في غير الحوامل لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج ؟ فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج جاز أن يكون حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم.
وإذا كانت كذلك حث الله لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن، لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم. ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا، والله أعلم.
وقوله تعالى :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ هذا يتضمن أوجها من أدلة الفقه :
أحدهما : أنه قال :﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ يثبت أن الإرضاع كان بإجارة، وأنه إذا استأجرها لترضع ولده منها بعد المفارقة جازت الإجارة، وحل لها أخذ الأجر، وأنه [ لو ]١٧ استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز، ولم يكن لها أخذ الأجر لأن الله تعالى ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ الرزق بقوله :﴿ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ } فإذا سمى ما ذكره الله تعالى رزقا أجرا لم يكن أجرا، وكان بحق الرزق والكسوة، فلذلك لم تجز الإجازة في صلب النكاح، والله أعلم.
[ والثاني ]١٨ : قوله﴿ فآتوهن أجورهن ﴾ دليل على أن اللبن، وإن خلق لمكان الولد، فهو ملك لها، ولولا ذلك لم يكن لها أن تأخذ الأجرة على لبن ليس لها فيه ملك.
[ والثالث ]١٩ : فيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد، وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات، ولولا ذلك لكان بعض الأجر، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج، وعلى الزوجات الكفالة والإمساك، والله أعلم.
[ والرابع ]٢٠ : لأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكا للولد مخلوقا له، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها لكانت نفقتها تغني، ولا يتهيأ لها كسب النفقة لاشتغالها بالإرضاع [ تجوع، وتهلك، ويذهب لبنها، فيبطل الرضاع ] ٢١ وإذا كان إيجاب الرضاع عليها يسقط [ عنه ]٢٢ من حيث يراد جعل النفقة، أسقطناه٢٣ عنها، وجعلنا ملك اللبن [ لها ]٢٤ لتأخذ الأجر عليه، والله أعلم.
[ والخامس ]٢٥ : في هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع فإنه قال :﴿ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن ﴾ إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع.
[ والسادس٢٦ : في قوله :﴿ أجورهن ﴾ دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت. لذلك قال أصحابنا : إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل.
وقوله تعالى :﴿ وأتمروا بينكم بمعروف ﴾ له وجهان :
أحدهما :﴿ وأتمروا ﴾ يعني تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي.
والثاني :﴿ وأتمروا ﴾ أي اعملوا بأمر من جعل الله تعالى إليه الأمر بالمعروف.
وقوله تعالى :﴿ وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ﴾ يعني إذا تنازعتم في الرضاع، وأبت الأم أن ترضعه، فاطلبوا أخرى، ترضعه عندها.
١ انظر معجم القراءات القرآنية: ج/١٦٨..
٢ من م، ساقطة من الأصل..
٣ من م ساقطة من الأصل.
٤ ساقطة من الأصل وم..
٥ من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل وم.
٦ في الأصل وم: احتجاجه..
٧ من م، ساقطة من الأصل..
٨ في الأصل و م: تضييق عليها وتعسيره..
٩ في م: إضمار..
١٠ من م، ساقطة من الأصل..
١١ من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: فإيمانهما، وهي قراءة ابن مسعود، أنضر معجم القراءات القرآنيةج٢/٢٠٨..
١٢ في الأصل و م: فأوله..
١٣ في الأصل و م: صحبته..
١٤ في الأصل و م: أو..
١٥ ساقطة من الأصل و م..
١٦ من م، في الأصل: الولدان..
١٧ من م، ساقطة من الأصل..
١٨ في الأصل و م: ثم.
١٩ في الأصل و م: و.
٢٠ في الأصل و م: و.
٢١ من م، ساقطة من الأصل..
٢٢ ساقطة من الأصل و م..
٢٣ في الأصل و م: فأسقطناه..
٢٤ ساقطة من الأصل و م..
٢٥ في الأصل وم: و..
٢٦ في الأصل وم: و..
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)، فإذا سمى ما ذكره اللَّه تعالى رزقًا: أجرًا، لم يكن أجرًا وكان بحق الرزق والكسوة؛ فلذلك لم تجز الإجارة في صلب النكاح، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
دليل على أن اللبن وإن خلق لمكان الولد فهو ملك لها، ولولا ذلك، لم يكن لها أن تأخذ الأجر على لبن ليس لها فيها ملك، وفيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات، ولولا ذلك لكان لها بعض الأجر دون الكل، فلما أمر بإيتاء كل الأجر، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج وعلى الزوجات الكفالة والإمساك، واللَّه أعلم.
ولأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكًا للولد مخلوقًا له، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها، لكانت نفقتها تفنى ولا يتهيأ لها كسب النفقة؛ لاشتغالها بالإرضاع؛ فتجوع وتهلك ويذهب لبنها؛ فيبطل الإرضاع؛ فإذا كان إيجاب الإرضاع عليها يسقط من حيث يراد جعل النفقة، فأسقطنا عنها، وجعلنا ملك اللبن لها؛ لتأخذ الأجر عليه، واللَّه أعلم.
وفي هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع، فإنه قال: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع.
وفي قوله: (أُجُورَهُنَّ) دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت؛ لذلك قال أصحابنا: إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: - (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ)، له وجهان:
أحدهما: أن يقول: (وَأْتَمِرُوا) يعني: تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي.
والثاني: (وَأْتَمِرُوا) أي: اعملوا بأمر من جعل اللَّه تعالى إليه الأمر بالمعروف، وهو الحاكم، إذا أمركم في أمر الولد بالمعروف.
وقوله: (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى).
يعني: إذا تنازعتم في الرضاع، وأبت الأم أن ترضعه، فاطلبوا أخرى ترضعه عندها.
وقوله: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧).
أي: من وسع اللَّه عليه في الرزق، فلينفق نفقة واسعة، (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ)، يعني: ضيق عليه و (قُدِرَ) هاهنا بمعنى: ضيق عليه، وهو كما قال: (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)
أي: فظن أن لم نضيق عليه، وكذلك قوله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ)، يعني: ويضيق عليه، أي: من ضيق عليه، فلينفق نفقة ضيقة؛ فذلك قوله: (فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا).
فهو يدل على أن العباد ما اكتسبوا من الأموال، فهي كلها مما آتاهم اللَّه تعالى، وأن لله - تعالى - في أفعال العباد وفيما يكتسبونه من الأموال صنعا وتدبيرًا؛ لأنه لولا ذلك، لكان يجوز أن يكلفه اللَّه تعالى وإن لم يؤتها لهم، إذا كان في قدرته أن يكتسب ما لم يؤته اللَّه تعالى.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
هذا دليل على أنه إذا عجز عن نفقة امرأته، لم نفرق بينها وبينه؛ لأنه إذا فرق بينهما، لم نصل إلى زوج ينفق عليها للحال، بل نحتاج فيه إلى انقضاء العدة، وقد يتوهم في خلال ذلك أن يوسر الزوج؛ لأن إنجاز وعد اللَّه تعالى في اليسار بعد العسر أقرب من قدرتها على زوج ينفق عليها، وليس هذه كالأمة؛ لأنه إذا باع الأمة دخلت في ملك آخر ينفق عليها، واللَّه أعلم.
ثم يجوز أن يكون قوله: (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) وعدًا لجميع الأمة أن من ابتلى بالعسر يتبعه اليسر.
ويجوز أن يكون خطابا لأصحاب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حين كانوا في عسر وضيق عيش، فوعدهم اللَّه - تعالى - بعد ذلك العسر الذي كانوا فيه يسرًا، وقد أنجز ذلك الوعد حيث فتح لهم الفتوح، ونصرهم على أعدائهم؛ فغنموا أموالهم، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ)، وصف اللَّه تعالى القرية
69
بالعتو، ومعلوم أنها لا تعتو، ولكن المراد منه، أي: عتا أهلها عن أمر ربهم، وقد يجوز أن يكنى بالمكان عن الأهل، كما قال في آية أخرى (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا)، يعني: واسأل أهل القرية وفي هذا دلالة أن ما خرج مخرج الكناية في الحقيقة، لم يكن كذبا، وإن كان في ظاهره يرى أنه كذب؛ ألا ترى إلى قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً)، ومعلوم أنه لم يكن هناك نعجة، ولكن كناية عن النساء، فخرج على الصدق في الحقيقة؛ كأنه قال: إن هذا أخي، لو كان له تسع وتسعون امرأة، فكذلك الأول واللَّه أعلم.
والعتو: النهاية في الاستكبار؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى -: (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا): له أوجه من التأويل:
أحدها: يقول: (فَحَاسَبْنَاهَا)، أي: بلغوا في الكفر والعتو والاستكبار مبلغا صاروا من أهل الحساب الشديد والعذاب المنكر.
أو يجعل ما ذكر اللَّه تعالى من نزول النقمة بالأمم الماضية؛ لعتوهم واستكبارهم حسابًا شديدًا لهذه الأمة؛ ليتذكروا ويتعظوا.
أو يكون معناه (فَحَاسَبْنَاهَا) أي: سنحاسب حسابًا شديدًا في الآخرة، كما كان معنى قوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ)، بمعنى: وإذ يقول اللَّه، فكذلك الأول، واللَّه أعلم.
ووجه نزول هذه الآيات: أن يكون له معنيان:
أحدهما: تخويف أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - والكفرة من أهل مكة بما نزل بالأمم الخالية حين تركوا اتباع رسلهم والإيمان بهم، واستكبروا في أنفسهم، وعتوا لكي ينتهي أهل قريته - عليه السلام - عما هم فيه من الكفر والعتو، [ويحذروا] الوقوع فيه في حادث الأوقات.
ويحتمل أن يكون هذا تسكينا لقلب رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، وتهوينا عليه ما يلقى من كفر قومه وعصيانهم وعتوهم، وليعلم ما لقيت الرسل المتقدمة من أممهم حتى بلغ كفرهم واستكبارهم المبلغ الذي وقع اليأس منه عن إيمانهم، حتى أنزل اللَّه تعالى بهم ما أنزل من
70
النقم والعقوبة.
ويجوز أن يكون هذه محنة امتحن بها رسوله؛ ليعلم شفقته على أمته في ترك الدعاء عليهم بالإهلاك، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا... (٩).
أي: شدة أمرها، أو نقمة أمرها، وعقوبة كفرها.
وقوله: (وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا).
أي: عاقبة عتوها خسارة في الآخرة.
وقوله: (أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠).
أي: فاتقوا اللَّه يا من تدعون أن لهم لُبًّا، فاتقوه عن أن تكفروا به وبرسوله.
وفيه دلالة: أن خطاب اللَّه إنما يتناول العقلاء منهم، وأن من لا عقل له لا خطاب عليه.
وقوله: (قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا)، له وجهان:
أحدهما: أن يجعل الذكر والرسول كله واحدًا، فيقول: أنزل اللَّه إليكم ذكرا، وهو الرسول، وإنما سماه: ذكرا؛ لوجهين:
أحدهما: أن من اتبعه شرُفَ وصار مذكورا.
أو سماه: ذكرا؛ لأنه يذكرهم المصالح والمضار، وما يرجع إليهم من أمر دينهم وعقباهم.
ويجوز أن يكون فيه إضمار، وهو أن يقول: أنزل اللَّه إليكم ذكرًا، وأرسل إليكم رسولا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ... (١١).
بالخفض؛ فمعناه أنه يبين الحلال والحرام والأمر والنهي ونصب، الآيات والأعلام والحجج.
فمن قرأ (مُبَيِّنَاتٍ) بالخفض، فمعناه: أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي.
ومن قرأ بالنصب؛ فكأنه يريد به: أن اللَّه - تعالى - أوضح آياته وبينها، حتى إن من تفكر فيها وفي جوهرها، علم أنها من عند اللَّه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) كل من
الآية ١٠ وقوله تعالى ﴿ أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولي الألباب ﴾ أي فاتقوا الله يا من تدّعون أن [ لكم ألبابا ]١ فاتقوه عن أن تكفروا به وبرسوله.
وفيه دلالة أن خطاب الله إنما يتناول العقلاء منهم، وأن من لا عقل له فلا خطاب عليه.
١ في الأصل وم: لهم لبا..
الآية ١١ وقوله تعالى :﴿ قد أنزل الله إليكم ذكرا ﴾ ﴿ رسولا ﴾ له وجهان :
أحدهما : أن يجعل الذكر والرسول [ كلمة واحدة ]١ فيقول ﴿ أنزل الله إليكم ذكرا ﴾ وهو الرسول. وإنما سماه ذكرا لوجهين :
أحدهما : أن من اتبعه شرف، وصار مذكورا.
و[ الثاني ] ٢ : سماه ذكرا لأنه يذكّرهم الصالح والضار وما يرجع إلى دينهم وعقباهم.
والثاني٣ : يجوز أن يكون فيه إضمار، وقوله تعالى : أن يقول : أنزل الله إليكم رسولا.
وقوله تعالى :﴿ يتلوا عليكم آيات الله مبينات ﴾ [ بالخفض والنصب ]٤.
فمن قرأ﴿ مبينات ﴾ بالخفض فمعناه أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي.
ومن قرأ بالنصب فكأنه يريد أن الله تعالى أوضح آياته، وبيّنها، حتى إن من تفكّر فيها وفي جوهرها علم أنها من عند الله.
وقوله تعالى :﴿ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور ﴾ وإذا كان هذا هكذا فحق هذا الكلام أن يقول :
ليخرج الذين آمنوا٥ من الظلمات إلى النور، ولكن يحتمل أن يكون معناه ليخرج الذين يؤمنون على ما جاز أن يراد من
الماضي المستقبل. كقوله٦ تعالى :﴿ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم ﴾ [ المائدة : ١١٦ ] أي وإذ يقول الله : يا عيسى ابن مريم جاز،
أن يراد من المستقبل الماضي. وهذا سائغ في اللغة.
ويحتمل أن يقول : ليخرج الذين آمنوا من ظلمات، تحدث لهم بعد إيمانهم، إلى النور، والله أعلم.
وقيل : قوله :﴿ الذين آمنوا ﴾ يعني الذين وحدوا الله تعالى، وعظموه، وبجّلوه [ ونزّهوه ]٧ من معاني الشبه، ووصفوه بالتعالي عن العبوب والآفات، وعملوا في إيمانهم صالحا، إذ٨ خافوه، ورجوه بإيمانهم ؛ وذلك عملهم الصالح في الإيمان، وذلك معنى قوله :﴿ أو كسبت في إيمانها خيرا ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ] ومعنى ذلك الكسب من التعظيم والتبجيل والرجاء والخوف في نفس الإيمان، والله أعلم.
ويجوز أن يكون معنى قوله :﴿ وعملوا الصالحات ﴾ في أداء الفرائض التي افترض الله عليهم.
وقوله تعالى :﴿ قد أحسن الله له رزقا ﴾ أي طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة. وذلك معنى قوله عز وجل :﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ [ البقرة : ٢٠١ ].
وفي هذه الآية دلالة أن من نال الإيمان فإنما ناله بفضل الله ورحمته، لأنه لولا ذلك٩ لم يكن ليمن الله تعالى عليه بذلك.
١ في الأصل وم: وله واحدا.
٢ في الأصل وم: أو..
٣ في الأصل وم: و..
٤ أدرج بعدها في الأصل وم: فمعناه أنها تبين الحلال والحرام والأمر والنهي، وأدرج بعد: والنصب: الآيات الأعلام والحجج، انظر معجم القراءات القرآنية ج ٧/١٧٠..
٥ في الأصل و م: كفروا..
٦ في الأصل و م: وقوله..
٧ ساقطة من الأصل و م..
٨ في الأصل و م: إذا..
٩ في الأصل و م: هكذا..
آمن، فقد خرج من الظلمات إلى النور.
وإذا كان هذا هكذا فحق هذا الكلام أن يقول: ليخرج الذين كفروا من الظلمات إلى النور، ولكن يحتمل أن يكون معناه: ليخرج الذين يؤمنون؛ على ما جاز أن يراد من الماضي المستقبل.
وقوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ).
أي: إذ يقول اللَّه: يا عيسى ابن مريم، جاز أن يراد من المستقبل الماضي، وهذا سائغ في اللغة.
ويحتمل أن يقول: ليخرج الذين آمنوا من ظلمات تحدث لهم بعد إيمانهم إلى النور، واللَّه أعلم.
وقيل قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا) يعني: الذين وحدوا اللَّه، وعظموه وبجلوه من معاني الشبه ووصفوه بالتعالي عن العيوب والآفات، وعملوا في إيمانهم صالِحًا إذا خافوه ورجوه بإيمانهم وذلك عملهم الصالح في الإيمان، وذلك معنى قوله: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)، ومعنى ذلك الكسب: ما وصفنا من التعظيم والتبجيل والرجاء والخوف في نفس الإيمان، واللَّه أعلم.
ويجوز أن يكون معنى قوله: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في أداء الفرائض التي افترض الله عليهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا).
أي: طاعة في الدنيا وثوابا في الآخرة؛ وذلك معنى قوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وفي هذه الآية دلالة أن من نال الإيمان، فإنما ناله بفضل اللَّه تعالى وبرحمته، لأنه لولا ذلك، لم يكن ليمن اللَّه - تعالى - عليه بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢).
اختلفوا في قوله: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ):
منهم من قال (مِثْلَهُنَّ) أي: طباقًا مثل السماوات بعضها طباق فوق بعض.
ومنهم من قال (مِثْلَهُنَّ) يعني: سبع جزائر، على مثل ما قال: (سَبْعَةُ أَبْحُرٍ)، فكذلك خلق سبع جزائر.
ومنهم من قال: خلق هذه الأرض التي نشاهدها على حد السماء ومقدارها، والست من وراء هذه السماء، واللَّه أعلم.
72
وليس بنا إلى أن نعرف ما بينها وكيفيتها وعددها حاجة؛ لأنه ليس في تعرفها حكم يتعلق به، واللَّه أعلم.
وقوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ).
له تأويلان:
أحدهما: ينزل الوحي بينهن، وما ينزل اللَّه تعالى من الكتب والرسل بينهن، ومعناه: أن اللَّه تعالى ذكر أمة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنهم لم يخصوا بمحنة الرسل والكتب والوحي، بل كل من في السماوات والأرض ممتحن بذلك.
والثاني: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) يعني التكوين، ووجه ذلك: أنه لا يخلو مكان في السماوات والأرض في كل وقت من مكون يكونه اللَّه تعالى، أو محدث يحدثه، وذلك قوله: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)؛ فيجوز أن يكون المراد بالأمر في قوله: (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ): أمر التكوين، ومعناه: ما وصفنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
أي: لكي تعلموا إذا تفكرتم في خلق السماوات والأرض، وما جرى من التدبير فيهما أن من بلغت قدرته هذا المبلغ كانت قدرته ذاتية، لا يعجزه شيء عما أراده.
أو يدل هذا التدبير أنه خرج عن عالم لا يخفى عليه شيء، واللَّه أعلم.
قوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
يحتمل أوجها:
أحدها: أن اللَّه تعالى على خلق فعل كل فاعل من خلائقه قدير.
ووجه ذلك: أن اللَّه تعالى قد كان أعلمهم بخلق السماوات والأرضين بقوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) فلما قال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، لم يكن بد من أن يكون هذا في غير خلق السماوات والأرضين؛ فثبت أن فيه دلالة قدرته على خلق فعل كل مخلوق.
ولأنه لما بلغ قدرته وتدبيره في السماوات والأرضين مع عظم أمرهما وشأنهما، ومع عجز البشر عن تدبير مثلهما؛ فلأن يبلغ قدرته وتدبيره فيما يقع فيه تدبير البشر -وهو أفعالهم- أحق، واللَّه المستعان.
ووجه آخر: أن يقول: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) بما وعد وأوعد أو على كل
73
شيء من منافع العباد ومضارهم قدير، وعلى قول المعتزلة: إن اللَّه تعالى لا يقدر على فعل بعوضة فما فوقها، ولا يقدر على إصلاح أحد من خلقه وإن أنفد جميع خزائنه، وإن من صلح فإنما يصلح بنفسه، ومن فسد فإنما يفسد بنفسه؛ وهذا خلاف ما وصف الله به نفسه من أنه على كل شيء قدير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا).
يعني: أن علمه لا يشذ عنه شيء، ولا يخفى عليه شيء من الفعل والأمر وغيره، واللَّه أعلم. تمت السورة.
* * *
74
Icon