تفسير سورة سبأ

تفسير آيات الأحكام للسايس
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير آيات الأحكام للسايس المعروف بـتفسير آيات الأحكام للسايس .
لمؤلفه محمد علي السايس .

من سورة سبأ
قال الله تعالى في قصة سليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣)
هذا شيء من قصة نبي الله سليمان عليه السلام المذكورة في هذه السورة، ولتعلم سياق الحديث فيها نذكر لك ما قبل هذه الآية. قال الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) [سبأ: ١٠- ١٢].
فضمير يَعْمَلُونَ عائد على الجن، وضمير (له) يعود على سليمان. فكما سخّر الله لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وسخّرها عاصفة تجري إلى مسافات بعيدة، سخّر له الجن، وجعلهم طوع أمره، ورهن مشيئته، يعملون صنوفا مما يشاء من أصناف يتعذّر عملها على البشر في ذلك الوقت، وبالسرعة التي يعملها بها الجن، ومن هذه الأشياء المحاريب: وهي جمع محراب، وهي القصور الشامخات، أو البيوت المرتفعة، أو أماكن العبادة، وقد ذكر الله المحراب في القرآن في مواضع في سورة آل عمران وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمران: ٣٧] فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ [آل عمران: ٣٩] وفي سورة ص وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) [ص: ٢١].
ويقول الذين يفسرون المحراب بالقصر: إنه سمّي بذلك لأنه يحارب من أجله.
وقد يبدو من قوله تعالى: يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أنّه المكان المعدّ للصلاة. وأما المحاريب المعروفة الآن بما يدخل في الحائط على سمت القبلة ليتبيّن الناس منها جهة القبلة. فيقول المفسرون: إنها شيء لم يكن قد عرف في الصدر الأول.
غير أنّه قد يرجّح كون المحاريب بمعنى القصور الشامخات أنها ذكرت على أنها مما كان يعمله الجنّ لسليمان، وقد يكون عمل القصور مما يستعصي على الناس في ذلك الزمن، لجهلهم بفن العمارة. والتماثيل جمع تمثال بكسر التاء، وهو بوزن تفعال، ولم يرد هذا الوزن في القرآن إلا في لفظين (تلقآء) و (تبيان).
670
وتمثال الشيء مثاله وصورته أيا كان المثال والصورة، ذات جسم أو ليست ذات جسم، فمثال الشيء ما يماثله ويحكيه.
والجفان جمع جفنة: إناء يوضع فيه الطعام، وقيل: إناء عظيم.
والجواب أصله الجوابي جمع جابية، وهي الحوض العظيم. والقدور جمع قدر، وهو ما يطبخ فيه الطعام، وراسيات: ثابتات، إشارة إلى أنها قدور عظيمة لا تنقل من مكانها من ثقلها.
وقوله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً إمّا جملة مستأنفة بتقدير القول، أي قلنا:
اعملوا يا آل داود شكرا، أو حالية من فاعل (سخّرنا) أي سخّرنا قائلين اعملوا، و (شكرا) مصدر وقع موقع الحال، أي اعملوا شاكرين، وقيل: هو مفعول لأجله، وقيل غير ذلك.
والشكور هو الذي يشكر في جميع أحواله من الخير والضر، قيل: هو المتوفّر على أداء الشكر ما وسعه بقلبه ولسانه لا يني.
هذا وقد جاء ذكر سليمان في القرآن الكريم ست عشرة مرة في ست من سوره:
في البقرة، وفي النساء وفي الأنعام، وفي الأنبياء، وفي النمل، وفي سبأ، وفي ص.
ولم يجئ هذا الذكر لتوفية قصة بتمامها أو قصص، وإنما هو تعداد لآلاء الله على سليمان:
منها ذكاؤه وبصره النافذ في القضاء والحكم وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ [الأنبياء: ٧٨].
ومنها تعليمه منطق الطير وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: ١٦]. ومنها تسخير الرياح له، تجري بأمره رخاء حيث أصاب.
ومنها إسالة عين القطر وهو النحاس المذاب، والقرآن في هذا يحدّث عن عملية صهر المعادن.
ومنها تسخير الجن، وقد جاء الكلام عن تسخير الجن في القرآن الكريم بالآية التي معنا، وفي قوله: وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) [ص: ٣٧]. وفي قوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ [النمل: ١٧] وقد صرّح القرآن الكريم في الآية التي معنا بأنّهم كانوا يعملون بين يديه بإذن ربه، لا يستطيعون أن يحيدوا عن ذلك وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ ثم تحدّث عما كانوا يعملون فقال: يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ إلخ.
هذا وقد يفهم من الآية- بل هي صريحة في ذلك- أنّ نبي الله سليمان كان
671
يتخذ التماثيل، فالقرآن صريح في امتنان الله على سليمان بأنّه سخّر له الجن لتعمل له ما يشاء عمله، من المحاريب والتماثيل، والجفان، والقدور الراسيات. صحيح أنّه لم يذكر في القرآن صراحة أنّ الجن عملت له المحاريب والتماثيل والجفان، ولكنّ تخصيص هذه الأشياء بالذكر في معرض الامتنان دليل على أنّ سليمان كان يبغي صنع هذه الأشياء، وهو قد لا يجد من يصنعها، أو يحذق صنعها، فسخّر له الجن لعملها، وأنّه يمتن عليه بذلك، وعلى هذا ففي تسخير الله الجن لعمل ما يشاء سليمان من التماثيل إذن من الله لسليمان باتخاذها، وهذا دليل على أنّ اتخاذها مشروع عند سليمان، فهل الأمر كذلك في شريعتنا، ذلك هو الذي يجمل بنا أن نتكلم فيه فنقول:
إنّ القرآن نعى على التماثيل يعكف لها ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ [الأنبياء: ٥٢] وندّد بمن يتخذون الأصنام والأوثان آلهة، وفي القرآن من قصص إبراهيم في تحطيم الأصنام ما هو معروف، وقد ورد أنّ رسولنا الأعظم حطّم الأصنام التي كانت حول الكعبة «١»، والتي كانت على الصفا والمروة، والدين الإسلامي دين التوحيد، وعدوّ الشرك، وليس في الإسلام ذنب أعظم من الشرك إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: ٤٨ و ١١٦].
والسنة قد جاءت بالنعي على التصوير والمصورين، وبالنهي عن اتخاذ الصور، وبالتنفير منها: وجاءت الأحاديث النبوية الشريفة في الموضوع على وجوه كثيرة من الاختلاف. ولكنّها ترجع إلى خمس أمهات ننقلها لك عن القاضي أبي بكر بن العربي، وقد كنا أحببنا أن ننقلها عن البخاري، لكنّا وجدنا إرجاعها إلى الأمهات الخمس ويرجع الفضل فيه للقاضي أبي بكر، فآثرنا الأخذ عنه، فإنّ البخاريّ ذكرها في أبواب على عادته. قال القاضي رضي الله عنه «٢» : إنّ أمهات الأحاديث خمس أمهات:
الأم الأولى: ما روي عن ابن مسعود وابن عباس «أنّ أصحاب الصور يعذّبون، أو هم أشدّ الناس عذابا» «٣». وهذا عامّ في كل صورة.
الأم الثانية:
روي عن أبي طلحة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب
(١) رواه البخاري في الصحيح (٥/ ١٠٩)، ٦٤- كتاب المغازي، ٤٩- باب أين ركز النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث رقم (٤٢٨٧). [.....]
(٢) انظر أحكام القرآن لابن العربي، بيروت دار الفكر. (٤/ ١٥٨٩).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٧٠)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (٩٨/ ٢١٠٩)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٨٥)، ٧١- كتاب اللباس، ٨٩- باب عذاب المصورين حديث رقم (٥٩٥٠).
672
ولا صورة» «١» زاد زيد بن خالد الجهني: «إلا ما كان رقما في ثوب» «٢».
وفي رواية عن أبي طلحة نحوه، فقلت لعائشة: هل سمعت هذا؟ فقالت: لا، وسأحدثكم، خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزاة، فأخذت نمطا فسترته على الباب، فلما قدم ورأى النّمط عرفت الكراهة في وجهه، فجذبه حتى هتكه، وقال: «إنّ الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين» قالت: فقطّعت منه وسادتين، وحشوتهما ليفا، فلم يعب ذلك عليّ «٣».
الأم الثالثة:
قالت عائشة: كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حوّلي هذا، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا» «٤».
الأم الرابعة:
روي عن عائشة قالت: دخل عليّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلوّن وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إنّ من أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبّهون خلق الله» «٥» قالت عائشة: فقطّعته، فجعلت منه وسادتين.
الأم الخامسة: قالت عائشة: كان لنا ثوب ممدود على سهوة فيها تصاوير، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلي إليه، ثم قال: أخّريه عني، فجعلت منه وسادتين فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرتفق بهما «٦».
وفي رواية في حديث النمرقة. قالت: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسّدها، فقال: «إنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون يوم القيامة، وإنّ الملائكة لا يدخلون بيتا فيه صورة» «٧».
هذه هي الأمهات الخمس التي جمعها ابن العربي، ومن الحقّ أن نذكر لك ما
(١) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٩)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب تحريم تصوير صورة حيوان حديث رقم (٨٤/ ٢١٠٦)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٨٤)، ٧١- كتاب اللباس، ٨٨- باب التصاوير حديث رقم (٥٩٤٩).
(٢) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٥)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب تحريم تصوير الحيوان حديث رقم (٨٣/ ٢١٠٦)، والبخاري في الصحيح (٧١/ ٨٧)، ٧٧- كتاب اللباس، ٩٢، باب من كره القعود، حديث رقم (٥٩٥٨).
(٣) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٦)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب تصوير الحيوان حديث رقم (٢١٠٧).
(٤) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٦)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب حديث رقم (٢١٠٧) و (٨٨/ ٠٠٠).
(٥) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٦)، ٣٧- كتاب اللباس حديث رقم (٩٢/ ٠٠٠)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٨٧)، ٧٧- كتاب اللباس، ٩٥- باب من لم يدخل بيتا حديث رقم (٥٩٦١).
(٦) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١١٦٦)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب حديث رقم (٩٢/ ٠٠٠)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٨٦)، ٧٧- كتاب اللباس، ٩٣- باب كراهية الصور حديث رقم (٥٩٥٤).
(٧) رواه مسلم في الصحيح (٣/ ١٦٦٦)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب حديث رقم (٩٦/ ٠٠٠)، والبخاري في الصحيح (٧/ ٨٧)، ٧٧- كتاب اللباس، ٩٥- باب من لم يدخل حديث رقم (٥٩٦١).
673
جمع به بين هذه الأحاديث قال: تبين بهذه الأحاديث أنّ الصور ممنوعة على العموم، ثم جاء إلى ما كان رقما في ثوب، فخصّ من جملة الصور، ثم
يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم لعائشة في الثوب المصور: «أخّريه عني، فإني كلّما رأيته ذكرت الدنيا»
فثبتت الكراهة فيه.
ثم بهتك النبي صلّى الله عليه وسلّم الثوب المصوّر على عائشة منع منه، ثم بقطعها لها وسادتين، حتى تغيرت الصورة، وخرجت عن هيئاتها، بأنّ جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النمرقة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها. فمنع منه، وتوعّد عليها.
وتبين بحديث الصلاة إلى الصورة أنّ ذلك كان جائزا في الرقم في الثوب، ثم نسخة المنع، فهكذا استقرّ فيه الأمر والله أعلم.
هكذا يرى ابن العربي أنّ المنع في الأول كان عاما، ثم استثنيت منه أشياء رخّص فيها، ثم زال ذلك بالرجوع إلى المنع في الكل، ونحن نرى أنّ هذه الطريقة في الجمع بعيدة. إذ فيها إثبات النسخ لجواز اتخاذ بعض الصور، والرجوع إلى الحظر الذي ادعى أنه عام.
ومعلوم أنّ النسخ يشترط فيه العلم بالتاريخ، وإلا إذا كان يكفي الإمكان فلقائل أن يقول: إن أحاديث المنع يحتمل أن تكون متقدمة، ثم جاءت أحاديث الترخيص.
ومن أجل ذلك نرى أنّ الذي يذهب إليه ابن العربي بعيد، وأنّ الأولى في الجمع أن يقال: تحمل النصوص التي فيها الحظر بإطلاق على ما كان منها مجسّدا لذي روح، ويستأنس له
بقوله صلّى الله عليه وسلّم في بعضها: «أشدّ الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون خلق الله»
وروي من طريق آخر: «يقال لهم: أحيوا ما خلقتم»
بل في بعضها ما هو تحد قوي بنفخ الروح
«يعذّب حتّى ينفع فيه الروح، وما هو بنافخ» «١».
وبهذا يكون
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون»
مرادا منه الذين يصوّرون صور الأجسام ذوات الروح إذا كانت على حالة بحيث يمكن أن يقال:
إن صاحبها يضاهي بها خلق الله، وهذا أيضا إنما يكون إذا كانت كاملة الخلق بحيث لا ينقصها إلا نفخ الروح، وإذا يكون تصوير الجمادات كالجبال والأنهار والكائنات النامية التي ليست بذات روح خارجة من الحظر، لأنّها ليست مما تناولها النصّ بإشارة
«يشبهون خلق الله»
، وبإشارة
«يقال لهم أحيوا ما خلقتم»
وحتى
«ينفخ فيها الروح وما هو بنافخ»
إذ كل هذه الجمادات والنباتات لا تجتمع فيها كلّ هذه الصفات، فتكون
(١) رواه مسلم في الصحيح (١٦٧١)، ٣٧- كتاب اللباس، ٢٦- باب حديث رقم (١٠٠/ ٢١١٠)، والبخاري في الصحيح (٣/ ٥٤)، ٣٤- كتاب البيوع، ١٠٤- باب بيع التصاوير حديث رقم (٢٢٢٥).
674
خارجة من الحظر، وتبقى التماثيل المجسّمة للحيوان على هيئته الكاملة محظورات، وهي التي تكون مرادة من النص.
وهذا تأويل قريب بالنسبة للتأويلات الأخرى، كتأويل من يحمل
«لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة»
على بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وكتأويل من يقول: إنّ معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المصورون يعذّبون»
وما ماثله في المعنى: أن المراد من يجعلون لله صورة، فإن هذه تأويلات بعيدة، فلا دليل على التخصيص بالنسبة للأول، ولا يتفق مع بقية الأحاديث والأخبار بالنسبة للثاني.
بقيت الأحاديث المتعارضة فيما كان رقما في ثوب، وما ماثله من الرسوم التي لا ظلّ لها، فقد روي في بعض الروايات عدم دخول الملائكة بيتا يحوي الكلب أو الصورة بإطلاق، وفي بعضها استثناء الرقم في الثوب، وفي بعضها أنه رأى صورة الطائر في ثوب اتّخذ ساترا، فهتكه، أو فغضب، وقال: إنا لم نؤمر بكسوة الحجر والطين، وفي بعضها أنّ أصحاب هذه الصور يعذّبون، وكل هذه الروايات تعارض الرواية التي فيها استثناء الرقم في الثوب، وتوافق الروايات التي جائت بالإطلاق، ولكنّا نقول: إنّ الجمع بينها ممكن، إذ من الممكن أن يقال: إنّه غضب لمّا رأى الصورة معلقة أمام المارّة يستقبلونها، فربما أشعر وضعها هذا بتعظيمها، ولو كانت على غير هذا الوضع، ووضعت للاستعمال فلا بأس. وقد ارتفق بها وسادة.
وأما تأويل ابن العربي التوسد بأن الصورة خرجت عن هيئتها، فلم يوجد في الأحاديث ما يدلّ عليه.
ويؤيّد هذا المعنى حديث الصورة التي كانت أمامه في الصلاة، فأمر بإزاحتها قائلا: «كلّما رأيتها تذكّرت الدنيا» يعني أنّ هذا نوع من الزينة التي تشغل البال.
وكذلك يدلّ استعماله للوسادة التي اتّخذت من الساتر الذي كان فيه الصورة، وأمر بإزاحته، على أنّ المدار في النهي عن الصور والتنفير منها: ألا تتّخذ فتعظّم، فإنّ ذاك قد يجرّ إلى عبادتها، فالنهي عنها من باب سد الذرائع، فإن انتفى أن تكون الصورة في وضع يشعر بالتعظيم، وانتفى قصد التعظيم، فقد زال النهي، كما دلّ على ذلك فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم وارتفاقه بالوسائد التي فيها الصور.
ولعلّك تقول: ما دام الأمر كذلك فلنطرد الباب على وتيرة واحدة، فنجري الكلام في التماثيل المجسمة لذي الروح على هذا الوجه، فنقول: فرق بين هذه وهذه، فإنّ الصورة المجسّمة تبقى عصورا طويلة، وقد يفضي التقادم إلى نسيان المعنى الأصلي من اتخاذها، وينقلب الناس يعبدونها، ويعكفون عليها.
قال ابن العربي: والذي أوجب النهي في شريعتنا- والله أعلم- ما كانت عليه
675
العرب من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصوّرون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب.
وقد ورد في كتب التفسير في شأن يغوث، ويعوق، ونسر، وود، وسواع: أنّهم كانوا قوما صالحين، ثم صوّروا بعد موتهم تذكيرا بهم وبأعمالهم، ثم انتهى الحال آخر الأمر إلى عبادتهم.
قال ابن العربي: وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات ميت صوّروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزّته إن كان رجلا، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب واحدا منهم كرب، أو تجدّد له مكروه فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي، ويناجيه بكان وكان، حتى يكسر سورة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه، وينصرف عنه، وإن تمادى بهم الزمان تعبّدوها من جملة الأصنام والأوثان «١».
بعد هذا نقول: إنه ليس لأحد أن يحتجّ بقصة سليمان في التماثيل، فإنّها وإن كانت في شريعة من قبلنا، فقد وجد المغيّر في شريعتنا، وشريعة من قبلنا إنما تكون شريعة لنا إذا لم يوجد الناسخ، وقد وجد، على أنّ من الممكن أن يقال: إن التماثيل التي كانت في ذلك العهد يحتمل أن تكون مما أباحت شريعتنا اتخاذه، فإن لم يصلنا من طريق قاطع أنّ التماثيل التي كانت، إن كانت هناك تماثيل اتخذت، كانت تماثيل لذي روح، وحينئذ يزول الإشكال.
وإننا لننقل لك عن العلامة ابن حجر في شرحه للبخاري آراء العلماء في اتخاذ الصور تتميما للفائدة قال رحمه الله: نقلا عن ابن العربي: حاصل ما في اتخاذ الصور أنّها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال:
الأول: يجوز مطلقا، عملا
بحديث: «إلا رقما في ثوب».
الثاني: المنع مطلقا.
الثالث: إن كانت الصورة باقية بالهيئة، قائمة الشكل حرم، وإن كانت مقطوعة الرأس، أو تفرّقت الأجزاء جاز، قال: وهذا هو الأصح.
الرابع: إن كانت مما يمتهن جاز، وإن كان معلقا لم يجز.
ونقل عن النووي أنّ جواز اتخاذ الصور إنما هو إذا كانت لا ظلّ لها، وهي مع ذلك مما يوطأ ويداس، أو يمتهن بالاستعمال، كالمخاد والوسائد. والقول بجواز ذلك مروي عن جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو قول الثوري ومالك وأبي حنيفة والشافعي.
(١) انظر أحكام القرآن للإمام ابن العربي (٤/ ١٥٨٨).
676
ونقل عن ابن العربي أيضا أنّ ذات الظل حرّمت بالإجماع، سواء كانت مما يمتهن أم لا. قال ابن حجر: واستثني من ذلك لعب البنات.
ولعلك تريد بعد ذلك أن تعرف حكم ما يسمى بالتصوير الشمسي أو الفتوغرافي فنقول: يمكنك أن تقول: إنّ حكمها حكم الرقم في الثوب، وقد علمت استثناءه نصا. ولك أن تقول: إن هذا ليس تصويرا، بل حبس للصورة، وما مثله إلا كمثل الصورة في المرآة، لا يمكنك أن تقول: إن ما في المرآة صورة، وأن أحدا صوّرها، والذي تصنعه آلة التصوير هو صورة لما في المرآة، غاية الأمر أنّ مرآة الفتوغرافية تثبت الظلّ الذي يقع عليها، والمرآة ليست كذلك. ثم توضع الصورة أو الخيال الثابت في العفريتة في حمض خاص، فيخرج منه عدة صور. وليس هذا بالحقيقة تصويرا فإنّه إظهار واستدامة لصور موجودة، وحبس لها عن الزوال، فإنّهم يقولون: إنّ صور جميع الأشياء موجودة، غير أنها قابلة للانتقال بفعل الشمس والضوء ما لم يمنع من انتقالها مانع، والحمض هو ذلك المانع.
وما دام في الشريعة فسحة بإباحة هذه الصور كاستثناء الرقم في الثوب فلا معنى لتحريمها، خصوصا وقد ظهر أنّ الناس قد يكونون في أشد الحاجة إليها.
ولعلنا بعد هذا نكون قد وفّينا الموضوع ما يستحقّ، والله الهادي إلى سواء السبيل.
677
Icon