تفسير سورة السجدة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة السّجدة
مكية، وقيل: إلا قوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً «١»، نزلت بالمدينة، وهى ثلاثون آية، أو: تسع وعشرون. ومناسبتها لما قبلها: قوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ... إلى آخر الآيات، فإنها كالاستدلال على قيام الساعة، التي خوّف بها فى ختم السورة بعد تقرير الرسالة. وقيل: المناسبة: هى ما بعد هذه من تبيين الرسالة، التي هى مستند ما ذكر قبلها من المعاد ودلائل التوحيد. وعن جابر أنه ﷺ كان لا ينام حتى يقرأ: الم السجدة. وتَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ، ويقول: «هما مفضلتان على كل سورة من القرآن بسبعين حسنة، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة، ومحى عنه سبعون سيئة».
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّآ أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣)
قلت: (تنزيل) : إما خبر عن (الم)، إن جُعِلَ اسماً للسورة، أو: خبر عن محذوف، أي: هذا تنزيل. أو: مبتدأ، خبره: (لا ريب فيه). وعلى الأول (لا ريب) : خبر بعد خبر، و (من رب العالمين) : خبر ثالث. أو: خبر عن «تنزيل»، و (لا ريب فيه) : معترض. والضمير في (فيه) : راجع إلى مضمون الجملة، كأنه قيل: لا ريب في ذلك، أي: كونه منزلاً من رب العالمين، و «أم» : منقطعة بمعنى: «بل».
يقول الحق جلّ جلاله: ألم أيها المصطفى المقرب، هذا الذي تتلوه هو تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ، لأنه معجز للبشر، ومثله أبعد شيء عن الريب، وهو مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ لا محالة. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، أي: اختلقه محمد من عنده، وهو إنكار لقولهم، وتعجيب منه لظهور أمره في عجزهم عن الإتيان بسورة منه. قال تعالى: بَلْ هُوَ الْحَقُّ الثابت مِنْ رَبِّكَ، ولم تفتره، كما زعموا تعنتاً وجهلاً، أنزله عليك لِتُنْذِرَ قَوْماً أي: العرب، ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ، بل طالت عليهم الفترة من زمن إسماعيل وعيسى- عليهما السلام- لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى الصواب من الدين. والترجي مصروفٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ «٢» مصروفاً إلى موسى وهارون.
(١) الآية ١٨.
(٢) من الآية ٤٤ من سورة طه.
الإشارة: (الم) الألف: أَلِفَ المحبون قُربى، فلا يصبرون عني. اللام: لمع نوري لقلوب السائرين، فزاد شوقهم إليّ. الميم: مَلَك الواصلون ملكي وملكوتي، فلا يغيبون عني. تنزيل الكتاب، إذا طال أمد لقاء الأحباب، فأعزّ شيء على المحبين كتاب الأحباب. أنزلت على أحبابي كتابي، وحَمَلتْ إليهم بالرسل خطابي، ولا عليهم إن قرع أسماعَهم عتابي، فإنهم مني في أمان من عذابي. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، إنكار الأعداء على المحبين سُنَّة لازمة. فإن أُلبِسَ الحق على الأعداء فلا يضركم، ولا عليكم، فإنَّ [صحبة] «١» الحبيب للحبيب ألذّ ما تكون عند فقد الرقيب. قاله القشيري.
ثم ذكر المقصود بالذات، وهو الاستدلال على البعث، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٤ الى ٦]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي مقدار سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي: استولى بقهريه ذاته. وسئل مالك عنه، فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والسؤال عن هذا بدعة. هـ. ولم تتكلم الصحابة على الاستواء، بل أمسكوا عنه، ولذلك قال مالك: السؤال عنه بدعة. وسيأتي شيء في الإشارة. ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ من دون الله مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أي: إذا جاوزتم رضاه لم تجدوا لأنفسكم ولياً، أي: ناصراً ينصركم، ولا شفيعاً يشفع لكم، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ تتعظون بمواعظ الله.
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: أمر الدنيا. وما يكون من شؤونه تعالى في ملكه، فهو كقوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «٢»، أي: يُبديه لا يبتديه. وهو إشارة إلى القضاء التفصيلي، الجزئي، لا الكلي، فإنه كان دفعة. يكون ذلك التدبير مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ، فيدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية، نازلة آثارها إلى الأرض. فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ من أيام الدنيا.
(١) فى الأصول: محبة، والمثبت هو الذي فى القشيري، وهو المناسب للسياق.
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الرحمن.
386
قال الأقليشي: جاء في حديث: «إن بُعد ما بين السماء والأرض، وما بين سماء إلى سماء، مسيرة خمسمائة سنة». وفي حديث آخر: «إنَّ بين ذلك نَيِّفاً وسبعين سنة»، وإنما وقع الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى سير الملائكة.
وإن سرعة بعضها أكثر من سرعة بعض. كما يقول القائل: من موضع كذا إلى كذا مسيرة شهر للفارس وشهرين للراجل. وعليه يخرج قوله تعالى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ. وقال في آية أخرى: خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «١». وهكذا الوجود مَنْ علوه إلى سفله، مِنْ الملائكة من يقطعه في مدةٍ ما، ويقطعه غيره في أكثر منها أو أقل. هـ. وقيل: المعنى: أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر، فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة، أو خمسين ألف سنة. فقد قيل: إن مواقف يوم القيامة خمسون موقفاً، كل موقف ألف سنة. وقد حكى هذا ابن عطية، فقال: يُدبر الأمر في مدة الدنيا، ثم يعرج إليه يوم القيامة. وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ: مقداره ألف سنة من عَدِّنا. وهو على الكفار قدر خمسين ألف سنة لِهوله، حسبما في سورة المعارج. هـ.
قلت: والتحقيق، في الفرق بين الآيتين، أن الحق تعالى، حيث لم يختص بمكان دون مكان، وكانت الأمكنة في حقه تعالى كلها واحدة، وهو موجود معها وفيها بعلمه وأسرار ذاته، كان العروج إنما هو إليه على كل حال، بعدت المسافة أو قربت. لكن لما علقَ العروج بتدبير الأمور وتنفيذها، قرّب المسافة ليعلم العبد أن القضاء نافذ فيه بسرعة. ولمَّا عَلَّقَ عروج الملائكة والروح إلى مطلق الذات المقدسة بَعَّدَ المسافة زيادة في علو شأنه ورفعة قدره.
وكل هذا العروج في دار الدنيا. على قول من عَلَّقَ (في يوم) بتَعْرج في سورة المعارج. فتأمله.
ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ، أي: ذلك الموصوف بتلك الصفات العظام هو عالم ما غاب عن الأبصار من عجائب أسرار عالم الملكوت، وما شوهد في عالم الحس من عجائب عالم الملك. الْعَزِيزُ الغالب أمره وتدبيره، الرَّحِيمُ البالغ لطفُه وتيسيره.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى تجلى بهذه الكائنات، قطعة من نور ذاته، على ترتيب وتمهيل. فتجلى بالعرش، ثم بالماء، فكان عرشه على الماء، ثم بالكرسي، ثم بالأرض، ثم بالسماوات، ولما أكمل أمر مملكته تجلى بنور صمداني رحماني من بحر جبروته، استوى به على عرشه لتدبير ملكه، ثم تجلى بآدم على صورة ذلك التجلي. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله خلق آدم على صورته». وفي رواية: «على صورة الرحمن». وبذلك التجلي يتجلى يوم القيامة لفصل عباده، ولرؤيته- باعتبار العامة-، وهذا التجلي كله، من جهة معناه، متصل بسائر التجليات،
(١) الآية ٤ من سورة المعارج. [.....]
387
جزئي من جهة تشكيله للمعنى الكلي، والفرق بينه وبين التجليات الظاهرة للحس: أن التجلي المستولي غَيْرُ مُرْتَدٍ برداء الحس إذ لا عبودية فيه، ولا قهرية تلحقه. ولأنه لم يظهر للعيان حتى يحتاج إلى رداء، لأن كنزه ما زال مدفوناً، حيث ارتفع فوق تجليات الأكوان. فتأمل، وسَلِّمْ، إن لم تفهم، ولا تبادر بالإنكار حتى تصحب الرجال، فيخوضون بك بحر الأحدية الحقيقة، فتفهم أسرار التوحيد. وبالله التوفيق.
ثم كمل ما بقي من أوصافه، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٧ الى ١٠]
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٩) وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠)
قلت: (الذي) : صفة للعزيز، أو: خبر عن مضمر. ومن قرأ خَلَقَهُ بالفتح «١» فصفة لكل، ومن سَكَّنَهُ فبدل منه، أي: أَحْسَنَ خَلْقَ كل شَيْءٍ.
يقول الحق جلّ جلاله في وصف ذاته: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ أي: أبدع خلق كل شيء، أتقنه على وفق حكمته. أو: أتقن كل شيء من مخلوقاته، فجعلهم في أحسن صورة. ثم بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ آدم مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذريته مِنْ سُلالَةٍ أي: نطفة مسلولة من سائر البدن، مِنْ ماءٍ أي:
مَنِيٍّ، وهو بدل من سلالة، مَهِينٍ ضعيف حقير. ثُمَّ سَوَّاهُ أي: سوّى صورته في أحسن تقويم، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، أضافه إلى نفسه، تشريفاً، إشارة إلى أنه خلق عجيب، وأن له شأناً ومناسبة إلى حضرة الربوبية، ولذلك قيل: مَنْ عَرَفَ نَفْسَه عَرَفَ ربه. وقد تقدّم في سورة الإسراء، في الكلام على الروح، وجه المعرفة منه «٢». وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لتسمعوا كلامه، وتُبصروا آثار قدرته وعجائب حكمته، وتعقلوا، فتعرفوا صانعكم ومُدبرَ أمرِكم. قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: تشكرون شكراً قليلاً على هذه النعم لقلة التدبر فيها.
(١) قرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: «خلقه» بفتح اللام، فعلا ماضيا، وقرأ الباقون: بسكونها بدل من «كل» بدل اشتمال. انظر:
الإتحاف (٢/ ٣٦٦).
(٢) راجع إشارة الآية ٨٥ من سورة الإسراء. (٣/ ٢٢٨- ٢٣٠).
وَقالُوا منكرين للبعث: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ، أي: صِرْنَا تراباً، وذهبنا مختلطين بتراب الأرض، لا نتميز منه، كما يضل الماء في اللبن. أو: غبنا في الأرض بالدفن فيها، يقال: ضَلَلَ كضرب، وضِلل كفرح. وانتصب الظرف في (أإذا) بقوله: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. أي: أُنبعث، ونُجدد، إذا ضللنا في الأرض؟. والقائل لهذه المقالة أُبيّ بن خلف، وأسند إليهم لرضاهم بذلك، بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ جاحدون. لَمّا ذكر كفرهم بالبعث أضرب عنه إلى ما هو أبلغ، وهو أنهم كافرون بجميع ما يكون في العاقبة، لا بالبعث وحده. وقال المحشي: أي: ليس لهم جحود قدرته تعالى على الإعادة لأنهم يعترفون بقدرته، ولكنهم اعتقدوا ألاَّ حساب عليهم، وأنهم لا يَلْقَوْنَ الله تعالى، ولا يصيرون إلى جزائه. هـ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كل ما أظهر الحق تعالى: من تجلياته الكونية فهي في غاية الإبداع والاتفاق في أصل نشأتها، كما قال صاحب العينية:
وَكلُّ قبِيح، إنْ نَسَبْتَ لِحُسْنِهِ أَتَتْكَ مَعَانِي الْحُسْنِ فِيهِ تُسَارعُ
يُكَمِّلُ نُقصَانَ الْقَبِيحِ جَمَالُهُ فَما ثَمَّ نُقْصَانٌ، وَلاَ ثَمَّ بَاشِعُ «١»
وأكملُها وأعظمُها: خلقةُ الإنسان، الذي خُلِقَ على صورة الرحمن، حيث جعل فيه أوصافه من قدرة، وإرادة، وعلم، وحياة، وسمع، وبصر، وكلام، وهيأه لحضرة القدس ومحل الأنس، وسخّر له جميع الكائنات، وهيأه لحمل الأمانة، إلى غير ذلك مما خص به عبده المؤمن. وأما الكافر فهو في أسفل سافلين. قال الورتجبي: ذكر حسن الأشياء، ولم يذكر هنا حسن الإنسان غيرةً، لأنه موضع محبته، واختياره الأزلي، كقول القائل: قال الواسطي: الجسم يستحسن المستحسنات، والروح واحديةٌ فردانيةٌ، لا تستحسن شيئاً. وقال ابن عطاء في قوله: ثُمَّ سَوَّاهُ... : قوّمه بفنون الآداب، ونفخ فيه من روحه الخاص، الذي، به، فَضَّله على سائر الأرواح، لما كان له عنده من محل التمكين، وما كان فيه من تدبير الخلافة، ومشافهة الخطاب- بعد أن قال الورتجبي-: أخص الخصائص هو ما سقط من حُسْنِ تَجلِّي ذاته في صورته، كما ذكر بقوله: وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ. هـ.
وكم أبصرتُ مِن حُسْنٍ، ولكن عليك، من الورى، وقع اختياري
ثم ذكر أمر اللقاء الذي أنكروه، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١١ الى ١٥]
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥)
(١) انظر النادرات العينية (٧٦- ٧٧).
389
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم فتموتون، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ بالبعث للحساب والعقاب. وهذا معنى لقاء الله الذي أنكروه. والتوفي: استيفاء الروح، أي: أخذها، من قولك: توفيت حقي من فلان، إذا أَخَذْتُه وافياً من غير نقصان. وعن مجاهد: زُويت الأرض لملك الموت، وجُعلت مثل الطست، يتناول منها حيث يشاء «١». وعن مقاتل والكلبي: بلغنا أن اسم ملك الموت «عزرائيل»، وله أربعة أجنحة: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، والخلق بين رجليه، ورأسه وجسده كَمَا بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ، وله الدنيا مثل راحة اليد، فهو يقبض أنفس الخلائق بمشارق الأرض ومغاربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وعن معاذ بن جبل: أن لملك الموت حربة، تبلغ ما بين المشرق والمغرب، وهو يتصفح وجوه الموتى، فما من أهل بيت إلا وهو يتصفحهم كل يوم مرتين- وفي حديث آخر، خمس مرات- فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضربه بتلك الحربة. وقال: الآن يُزار بك عسكر الأموات «٢».
فإن قيل: ما الجمع بين قوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا «٣» وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «٤» وقُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ «٥» ؟ فالجواب: أن توفي الملائكة: القبضُ والنزعُ، وتوفي ملك الموت الدعاء والأمر، يدعو الأرواح فتجيبه، ثم يأمر أعوانه بقبضها، ثم يذهبون بها إلى عليين. وقبض الحق تعالى: خَلْقُ الموتِ فيه. والحاصل: أنَّ قبض الملك: المباشرة، وقبض الحق: الإخراجُ حقيقةً.
قال الورتجبي: قال الحسن: ملك الموت هو الموكل بأرواح بني آدم، وملك الفناء موكل بأرواح البهائم. فانظر فيه. وأما حديث ملكي الموت والحياة، فقال العراقي: لم أجد له أصلاً. ويعني بملك الحياة: كون الأرواح، أنفاسَ ملك الحياة كما في الإِحْيَاء. ومذهب أهل السُنَّة قاطبة: أن ملك الموت هو الّذي يقبض جميع الأرواح، من بني آدم
(١) أخرجه الطبري (٢١/ ٩٨).
(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٦/ ٣٠٢).
(٣) من الآية ٦١ من سورة الأنعام.
(٤) من الآية ٩٧ من سورة النساء.
(٥) من الآية ٤٢ من سورة الزمر.
390
والبهائِم وسائر الحيوانات. وبه قال مالك وأشهب. وذهب قوم إلى أن أرواح البهائم وسائر الحيوانات إنما تَقبض أرواحَهَا أعوانُ ملك الموت. وذهب قوم إلى أن الموت في حق غير بني آدم، إنما هو عَدَمٌ مَحْضٌ، كيبس الشجر وجفاف الثياب، فلا قبض لأرواحها، وهو أعلم من كونها تُبعث، أو: لا بأن تعاد عن عدم، بخلاف المكلف، فإن روحه لا تعدم، خلافاً للملاحدة، فإنهم جعلوا الموت كله عدماً محضاً، كجفاف العود الأخضر، وهو كفر.
هذا وقد اختلف في كون الموت ضد الحياة، فيكون معنىً وجودياً، أو هو عدم الحياة، فيكون عدماً، وعلى كلا القولين فألأرواح باقية بعد مفارقة الأبدان، منعّمة أو معذبة.
وَلَوْ تَرى يا محمد إِذِ الْمُجْرِمُونَ وهم الذين قالوا: أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ... إلخ، و «لو» و «إذ» للماضي، وإنما جاز هنا لأن المُتَرَقَّبَ محقق الوقوع. و (ترى)، هنا، تامة، لا مفعول لها، أي: لو وقعت منك رؤيةٌ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ أي: وقت كون المجرمين ناكسي رؤوسهم من الذل والحياء والندم، عِنْدَ رَبِّهِمْ عند حساب ربهم، قائلين: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: صدَّقنا الآن وعدك ووعيدك، وأبصرنا ما حدثَتْنَأ به الرسلُ، وسمعنا منك تصديق رسلك، فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً من الإيمان والطاعة، إِنَّا مُوقِنُونَ بالبعث والحساب الآن. وجواب «لو» : محذوف، أي: لرأيت أمراً فظيعاً.
وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها أي: ما تهتدي به إلى الإيمان والطاعة، أي: لو شئنا لأعطيناء في الدنيا، كل نفس ما عندنا من اللُطف الذي، لو كان منهم اختيارُ ذلك، لاهتدوا. لكن لم نعطهم ذلك اللطف لِمَا علمنا منهم اختيار الكفر وإيثاره. وهو حجة على المعتزلة فإن عندهم: قد شاء الله أن يعطي كل نفس ما به اهتدت، وقد أعطاها، لكنها لم تهتد، وأَوّلوا الآية بمشيئة الجبر، وهو فاسد. قال تعالى: وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، أي: ولكن وجب القول مني لأعمرنّ جهنم من الجِنَّة والناس، الذين علمت منهم أنهم يختارون الكفر والتكذيب. وفي تخصيص الجن والإنس: إشارة إلى أنه عصم الملائكة من عمل يستوجبون به جهنم. وفي الآية ما يقتضي تخصيص أهل النار بالجن والإنس، فيرد ما يُذكر أنه كان قبل آدم أُمم كفروا، ولا يصح ذلك، إلا أن يكونوا من الجن.
فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: باشروا وبال ترككم العمل للقاء يومكم هذا، وهو الإيمان به. إِنَّا نَسِيناكُمْ: تركناكم في العذاب، وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي: العذاب الدائم الذي لا انقطاع له بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الكفر والمعاصي.
391
ثم ذكر ضدهم بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا القرأن الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً سجدوا لله تواضعاً وخشوعاً، وشكروا على ما رزقهم من الإسلام، وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: نزَّهوا الله عما لا يليق به، وأثنوا عليه حامدين له، وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان والسجود له. جعلنا الله منهم بمنِّه، آمين.
الإشارة: أهل الفَرْقِ من أهل الحجاب، يتوفاهم ملك الموت، وأهل الجمع مع الله من أهل العيان يتولى قبض أرواحهم ذو الجلال الإكرام كما قيل في الأخفياء من الأولياء الذين اختص الله تعالى بعلمهم- أنه يتولى قبض أرواحهم بيده، فتطيب أجسادهم به، فلا يعدوا عليها الثرى، حتى يُبعثوا بها، مُشْرِقَةً بنور البقاء المجعول فيهم، بالرجوع إليه من الفناء، فيكون بقلوبهم بَقَاءُ الأبد مع الباقي الأحد عز وجل. وقد ورد في الخبر: «من واظب على قراءة آيَةَ الكُرْسيّ، دبُر كُلِّ صلاة، كانَ الذي يَتوَلَّى قَبْضَ روحه ذو الجلال الإكرام». يعني: من تدبر معناها.
والمراد بذلك خطفتها بالتجلي، واستغراقها في الشهود، وغيبتها عن الغير في ذلك الوقت الهائل، فيغيب عن الواسطة في شهود الموسوط، مع وجود الواسطة لعموم الآية. والله تعالى أعلم.
قال القشيري: لولا غفلةُ القلوب لما أحال قبض أرواحهم على مَلَكِ الموت لأنَّ مَلَكَ الموتِ لا أَثَرَ منه في أحد، وما يحصل في التوفِّي فمن خصائص قدرة الحق، ولكنهم غفلوا عن شهود حقائق الربِّ، فخاطبهم على قدر أفهامهم، وعلَّقَ بالأغيار قلوبهم. وكلَّ يُخاطبه بما يحتمل على قدر قوته وضعفه. هـ. وقال في قوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ.. الآية: مَلَكَتْهُم الدهشةُ وَغَلبتهم الحجة، فاعترفوا، حينَ لا عُذْرَ، واعترفوا، حينَ لا اعتراف. هـ.
قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها... قال القشيري: لو شاء سَهَّل سبيلَ الاستدلال، وأدَام التوفيق لكلِّ أحدٍ، ولكن تَعلَّقَتْ المشيئةُ بإغواء قوم، وأردنا أن يكون للنار قُطان، كما يكون للجنة سُكان، لما علمنا يوم خلقناهما أنه ينزلهما قومٌ وقومٌ. فَمن المحال أن نريد ارتفاعَ معلومنا، إذ لو لم يقع، ولم يحصل لم يكن عِلْماً. فإذا لا أكون إلها. ومن المحال أن أُريد ذلك. ويقال: من يتسلَّطْ عليه من يحبه لم يجد في مُلْكِه ما يكرهه. يا مسكين أفنيت عُمْرَك في النكد والعناء، وأمضيت أيامك في الجهد والرجاء، غيَّرت صفتك، وأكثرتَ مجاهدتك، فما تفعل فيما مضى، كيف تبدله؟ وما تصنع في مشيئتي، وبأي وسع ترُدُّها؟ وأنشدوا:
شكا إليك ما وَجَدْ... من خَانَهُ فيك الجَلَدْ
حيرانُ، لو شئتَ، اهتدى... ظمآنُ، لو شئتَ، وَرَدْ. «١». هـ.
(١) البيتان لأبى هبة الله بن المنجم، كما فى يتيمة الدهر (٣/ ٣٨٩).
392
قوله تعالى: إِنَّما يُؤْمِنُ.... الآية، خروا سُجداً بظواهرهم في التراب، وبسرائرهم بالخضوع لهيبة الكريم الوهاب، فسجود الجبهة وسيلة لسجود القلب، فإذا سجدت الجبهة وتكبر القلب على عباد الله، كانت وسيلة بلا غاية. وبالله التوفيق.
ثم وصف أهل الخضوع، وما أكرمهم به، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٦ الى ١٧]
تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
يقول الحق جلّ جلاله: تَتَجافى أي: ترتفع وتتنحى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ عن الفُرش ومواضع النوم للصلاة والذكر. قال سهل: وَهَب لقوم هِبَةً، وهو ان أَذِن لهم في مناجاته، وجعلهم من أهل وسيلته، ثم مدحهم عليه فقال: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، يَدْعُونَ أي: داعين رَبَّهُمْ خَوْفاً، أي: لأجل خوفهم من سخطه، وَطَمَعاً في رحمته، وهم المجتهدون أو المتفكرون في الليل. وسيأتي في الإشارة. وعن النبي ﷺ في تفسيرها: «هو قيامُ العبد من الليل» «١». وعن ابن عطاء: أبت جنوبهم أن تسكن على بساط الغفلة، وطلبت بساط القربة، وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله ﷺ يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الأخيرة، فنزلت فيهم «٢». وقال ابن عمر رضي الله عنه: قال صلى الله عليه وسلم: «من عَقَب- أي: أحيا- ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنة قصران مسيرة عام، وفيهما من الشجر ما لو نزلهما أهل المشرق والمغرب لأوسعهم فاكهة. وهي صلاة الأوابين، وغفلة الغافلين. وإن من الدعاء المستجاب الذي لا يرد: الدعاء ما بين المغرب والعشاء» «٣». هـ.
وقيل: هم الذين يَصلُّونَ العَتَمَةَ، ولا ينامون عنها.
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في طاعة الله، يعني: أنهم جمعوا بين قيام الليل وسخاوة النفس. فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ أي: لا يعلم أحد ما أعد الله لهم من الكرامة، مما تَقَرُّ بِهِ العينُ من نعيم الأشباح ونعيم الأرواح. وقرأ حمزة ويعقوب: «أَخْفَى» على المضارع. جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، وعن الحسن: أخفى القوم أعمالهم في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وفيه دليل على أنَّ المراد الصلاةُ في جوف الليل ليكون الجزاء وفاقاً. قاله النسفي.
(١) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ٣٤٨)، والحاكم فى المستدرك (٢/ ٤١٢)، والطبري فى تفسيره (٢١/ ١٠٣)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(٢) أخرجه الطبري (٢١/ ١٠٠).
(٣) عزاه فى كنز العمال (ح ١٩٤٥٠) لابن مردويه، عن ابن عمر.
393
وفي حديث أسماء، عنه ﷺ أنه قال: «إذَا جَمَعَ الله الأَوَّلِينَ والآخِرِين، يوم القيامة، جاء مُنَادٍ يُنادِي بصوت يسمعه الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع، اليوم، مَنْ أَوْلَى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل. ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء، فيقومون، وهم قليل، يسرحون جميعاً إلى الجنة. ثم يحاسب سائر الناس» «١». وفي البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «يقول الله- عزّ وجل-: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»، قال أبو هريرة: واقرأوا، إن شئتم: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ» «٢».
وقال في «البدور السافرة» : أخرج الترمذي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة مَائَةَ دَرَجَةٍ، لَوْ أَنَّ العَالَمِينَ اجتَمَعُوا في إحدَاهُنَّ لو سعتهم». «٣». هـ. وقال ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن زياد أنه سمع عُتبة بن عُبيد، الضبي، يذكر عمن حدَّثه عن النبي ﷺ قال: «إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين ما بين السماء والأرض، أول درجة منها دورها وبيوتها وأبوابها وسررها ومغاليقها، من فضة، والدرجة الثانية:
دورها وبيوتها وسُرُرها ومغاليقها من ذهب، والدرجة الثالثة: دورها وبيوتها وأبوابها وسُرُرها ومغاليقها من ياقوت ولؤلؤ وزبرجد. وسَبْع وتسعون درجة، لا يعلم ما هي إلا الله تعالى»
«٤». هـ.
وقيل: المراد بقرة الأعين: النظر إلى وجه الله العظيم. قلت: قرة عين كل واحد: ما كان بغيتَه وهِمَّته في الدنيا، فمن كانت همته القصور والحور، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، ومن كانت بغيته وهمته النظرة، أعطاه ما تقر به عينه من ذلك، على الدوام. قال أبو سليمان: شتان بين مَنْ هَمُّهُ القصور والحور، ومن همه الحضور ورفع الستور. جعلنا الله من خواصهم. آمين.
الإشارة: قوم تتجافى جنوبهم عن المضاجع الحسية إلى العبادة الحسية، وهم العُبّاد والزهاد من الصالحين، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أخفي لهم من نعيم القصور، والحور، والولدان، وغير ذلك. وقوم تتجافى قلوبهم عن مضاجع نوم الغفلة إلى حال الانتباه واليقظة، وعن مضاجع الرغبة إلى حال العفة والحرية، ثم عن مضاجع الفَرْقِ، إلى حال
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٣/ ١٦٩ ح ٣٢٤٤).
(٢) أخرجه البخاري فى (بدء الخلق، باب ما جاء فى صفة الجنة ح ٣٢٤٤)، ومسلم فى (الجنة وصفة نعيمها، ٤/ ٢١٧٤، ح ٢٨٢٤). [.....]
(٣) أخرجه الترمذي فى (صفة الجنة، باب فى صفة درجات الجنة، ٤/ ٥٨٣، ح ٢٥٣٢).
(٤) أخرج الطبري نحوه فى التفسير (٢١/ ١٠٥) عن أبى اليمان الهذلي، والجزء الأول من الحديث أخرجه البخاري فى (الجهاد، باب درجات المجاهدين في سبيل الله ح ٢٧٩٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه بلفظ: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهد في سبيلِ الله، ما بينَ الدَرجتين كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض... » الحديث.
394
الجمع، ثم من الجمع إلى جمع الجمع. فهولاء على صلاتهم دائمون، وفي حال نومهم عابدون، وعلى كل حال إلى ربهم سائرون، وفي معاريج بحر عرفانهم سائحون، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخفي لهؤلاء من دوام النظرة، والعكوف في الحضرة، واتصال الحبرة. فعبادة هؤلاء قلبية، سرية خفية عن الكرام الكاتبين، بين فكرة وشهود وعبرة واستبصار، الذرة منها تعدل أمثال الجبال من أعمال الجوارح، وقد ورد: (تفكر ساعة أفضل من عبادة سَبْعينَ سَنَة). هذا تفكر الاعتبار، وأما تفكر الشهود والاستبصار، فكل ساعة، أفضل من أَلْفِ سنة، كما قال الشاعر:
كُلُّ وَقتٍ مِنْ حَبيبيِ قَدْرُهُ كَأَلْفِ حَجَّه
أي: سنة، ومع هذا لا يُخلون أوقاتهم من العبادة الحسية، شكراً، وقياماً بآداب العبودية، وهي في حقهم كمال، كما قال الجنيد: عبادة العارفين تاج على الرؤوس. هـ. وفى مثل هولاء ورد الخبر: «إن أهل الجنة بينما هم في نعيمهم، إذ سطع عليهم نور من فَوق، أضاءت منه منازلهم، كما تضيء الشمس لأهل الدنيا، فنظروا إلى رجالٍ مِنْ فوقهم، أهل عليين يرونهم كما يُرى الكوكب الدري في أفق السماء، وقد فُضِّلُوا عليهم في الأنوار والنعم، كما فضل القمر على سائر النجم، فينظرون إليهم، يطيرون على نجب، تسرح بهم في الهواء، يزورون ذا الجلال الإكرام، فينادون هؤلاء: يا أخواننا، ما أنصفتمونا، كنا نُصلي كما تُصلون، ونصوم كما تصومون، فما هذا الذي فضلتمونا به؟ فإذا النداء مِنْ قِبَل الله تعالى: كانوا يجوعون حين تشبعون، ويعطشون حين تروون، ويعرون حين تكسون، ويذكرون حين تسكتون، ويبكون حين تضحكون، ويقومون حين تنامون، ويخافون حين تأمنون، فلذلك فُضِّلوا عليكم اليوم.
فذلك قوله تعالى: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أعين جزاء بما كانوا يعملون»
. هـ.
قال القشيري: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع)، في الظاهر، عن الفراش، قياماً بحقِّ العبادة والجهد والتِهجد، وفي الباطن: بِتَبَاعُدِ قلوبِهم عن مضاجعات الأحوال، ورؤية قَدرِ النفس، وتوهم المقام لأن ذلك بجملته، حجابٌ عن الحقيقة، وهو للعبد سُمٍّ قاتل، فلا يساكنون أعمالهم، ولا يلاحظون أحوالهم، ويفارقون مآلِفَهم، ويَهجُرون معارفهم. والليل زمان الأحباب، قال الله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «١» يعني: عن كلّ شُغل وحديث سوى حديث معبودكم ومحبوبكم، والنهارُ زمان أهل الدنيا. قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً «٢».. انظر بقية كلامه.
(١) من الآية (٧٣) من سورة القصص.
(٢) من الآية (١١) من سورة النبأ.
395
ثم بيّن أن من كان فى نور الطاعة والإحسان، ليس كمن كان فى ظلمة الكفر والعصيان، فقال.
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً بالله ورسله كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجاً عن الإيمان، لا يَسْتَوُونَ أبداً عند الله تعالى. وأفرد، أولاً مراعاة للفظ «من»، وجمع ثانياً مراعاة لمعناها. ثم فصّل حالهم بقوله: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى أي: المسكن الحقيقي، وأما الدنيا، فإنها منزل انتقال وارتحال، لا محالة، وقيل: المأوى: جنة من الجنان. قال ابن عطية: سميت جنة المأوى لأن أرواح المؤمنين تأوي إليها. هـ. أي: في الدنيا لأنها في حواصل طير خضر، كما ورد في الشهداء، وأما الصدِّيقون فإنها تشكل على صور أجسادها، تسرح حيث شاءت. نُزُلًا بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: عطاء معجلاً بأعمالهم. والنُزُل:
ما يقدم للنازل، ثم صار عاماً.
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: هي ملجأهم ومنزلُهم، كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها، فلا خروج منها، ولا موت، وَقِيلَ لهم: ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، هذا دليل على أن المراد بالفاسق: الكافر إذ التكذيب يقابل الإيمان. قال ابن جزي: فإن قيل: لِمَ وصف، هنا، العذاب، وأعاد عليه الضمير، ووصف، في سبأ، النار وأعاد عليها الضمير، فقال: عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «١» ؟
فالجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لَمَّا تكرر ذكره في قوله:
لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ.. ، الثاني: أنه تقدم في السجدة ذكر النار، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ المضمر، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر، فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه، وهو النار، فوصف العذاب، ولم يصف النار، الثالث- وهو الأقوى: أنه امتنع في السجدة وصف النار، فوصف
(١) من الآية ٤٢ من سورة سبأ.
العذاب، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه، كقولك: رأيت رجلاً فأكرمت الرجل. فلا يجوز وصفه لما يوهم أنه غيره. هـ.
الإشارة: أفمن كان مصدقاً بطريق الخصوص، داخلاً فيها، شارباً من خمرتها، كمن كان فاسقاً خارجاً عنها، مشتغلاً بنفسه، غريقاً في هواه، لا يستوون أبداً. أما الذين آمنوا بها، وصدقوا أهلها، ودخلوا في تربيتهم، فلهم جنات المعارف، هي مأواهم ومعشش قلوبهم، إليها يأوون، وفيها يسكنون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن تربيتهم، فمأواهم نار القطيعة، وعذاب الحرص، وغم الحجاب، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها إذ لا خروج منها إلا بصحبة أهلها. وقيل لهم: ذوقوا وبال الإنكار، وحرمان الخصوصية، التي كنتم بها تكذبون.
قال القشيري: هذا ما يلقون يوم القيامة، ثم ذكر ما يُعجل لهم في الدنيا، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (٢٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى أي: عذاب الدنيا من القتل، والأسر في بدر، أو ما مُحنوا به من السَّنَةِ، سَبْعَ سنين. دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ أي: قبل عذاب الآخرة، الذي هو أكبر، وهو الخلود في النار. وعن الداراني: العذاب الأدنى: الخذلان، والعذاب الأكبر: الخلود في النيران. وقيل: الأدنى: عذاب القبر، والأكبر: النار. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر.
وَمَنْ أَظْلَمُ أي: لا أحد أظلم مِمَّنْ ذُكِّرَ أي: وُعظ بِآياتِ رَبِّهِ القرآن، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها اي: تولى عنها، ولم يتدبر في معناها. و «ثم» للاستبعاد فإن الإعراض عن مثل هذه في ظهورها، وإنارتها، وإرشادها إلى سواء السبيل، والفوز بالسعادة العظمى، بعد التذكر بها، مُسْتَبْعَدٌ في العقل، كما تقول لصاحبك: وجدت تلك الفرصة ثم لم تنتهِزْها- استبعاداً لتركه الانتهاز. إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ، ولم يقل:
«منه»، تسجيلاً عليه بإعراضه بالإجرام، ولأنه إذا جعله أظلم من كل ظالم، ثم توعد المجرمين، عامة، بالانتقام، دلّ على إصابة الأظلم أوفر نصيب من الانتقام، ولو قال بالضمير لم يفد هذه الفائدة.
الإشارة: ولنذيقن أهل الغفلة والحجاب، من العذاب الأدنى، وهو الحرص والطمع والجزع والهلع، قبل العذاب الأكبر، وهو غم الحجاب وسوء الحساب. قال القشيري: قومٌ: الأدنى لهم: مِحَنُ الدُنيا، والأكبر: عقوبة العُقبى.
وقومٌ: الأدنى لهم: فترةٌ تُداخلهم في عبادتهم، والأكبر: قسوةٌ تُصيبهم في قلوبهم. وقومٌ: الأدنى لهم: وقفة مع سلوكهم تمسهم، والأكبرُ: حَجْبَةٌ عن مشاهدتهم بسرهم- قلت: الأول في حق العوام، والثاني: في حق الخواص، وهم العباد والزهاد. والثالث: في حق أهل التربية من الواصلين- ثم قال: ويقال: الأدنى: الخذلان في الزلة، والأكبر: الهجران في الوصلة. ويقال: الأدنى: تكدّرُ مَشَارِبِهم، بعد صفوها، والأكبر: تَطَاوُلُ أيامِ الحَجْب، من غير تبيين آخرها. وأنشدوا:
تَطَاوَلَ بُعْدُنَا، يا قومُ، حتى لقد نَسَجَتْ عليه العنكبوتُ «١»
هـ. ببعض المعنى.
أذقناهم ذلك لعلهم يرجعون إلى الله، في الدنيا بالتوبة واليقظة. فإن جاء من يُذكِّرهم بالله من الداعين إلى الله، ثم أعرضوا عنه، فلا أحد أظلم منهم، ولا أعظم جُرماً. إنا من المجرمين منتقمون.
ولمّا قرر الأصول الثلاثة الرسالة، وبدء الخلق، والمعاد، عاد إلى الأصل الذي بدأ به، وهو الرسالة، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ شك مِنْ لِقائِهِ من لقاء موسى الكتاب، أو: من لقائك موسى ليلة المعراج، أو: يوم القيامة، أو: من لقاء موسى ربَّه في الآخرة، كذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وجعلنا الكتاب المنزَّل على موسى عليه السلام هُدىً لقومه، وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس، ويدعون إلى الله وإلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه، بِأَمْرِنا إياهم بذلك، أو بتوفيقنا وهدايتنا لمن أردنا هدايته على أيديهم، لَمَّا صَبَرُوا على مشاق تعليم العلم والعمل به. أو: على طاعة الله وترك معصيته. وقرأ الأَخَوَان: بكسر اللام، أي: لصبرهم عن الدنيا والزهد فيها.
وفيه دليل على أنَّ الصبر ثمرته إمامة الناس والتقدم في الخير. وَكانُوا بِآياتِنا التوراة يُوقِنُونَ
(١) فى القشيري:
يعلمون علماً لا يخالجه شك ولا وَهْم لإمْعانِهم النظر فيها، أو: هِبَةٌ من الله تعالى. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ يقضي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: بين الأنبياء وأممهم، أو: بين المؤمنين والمشركين، فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، فيظه المُحِقُّ من المبطل.
الإشارة: أئمة الهدى على قسمين: أئمة يهدون إلى شرائع الدين، وأئمة يهدون إلى التعرف بذات رب العالمين، أئمة يهدون إلى معرفة البرهان، وأئمة يهدون إلى معرفة العيان. الأولون: من عامة أهل اليمين، والآخرون: من خاصة المقربين. الأولون صبروا على حبس النفس على ذل التعلم، والآخرون صبروا على حبس النفس على الحضور مع الحق على الدوام. صبروا على مجاهدة النفوس، حتى وردوا حضرة القُدُّوس. قال القشيري، في شأن القسم الثاني: لمّا صبروا على طلبنا سَعِدوا بوجودنا، وتعدّى ما نالوا من أفضالنا إلى متَّبِعِيهم، وانبسط شعاعُ شموسهم على جميع أهلِيهم، فهم للخلق هُداةً، وفي الدين عيون، وللمسترشدين نجوم. هـ.
وفي الإحياء: للإيمان ركنان: أحدهما: اليقين، والآخر: الصبر. والمراد باليقين: المعارف القطيعة، الحاصلة بهداية اللهِ عَبْدَهُ إلى أصول الدين، والمراد بالصبر، العمل بمقتضى اليقين إذ النفس تعرف أن المعصية ضارة والطاعة نافعة. ولا يمكن ترك المعصية والمواظبة على الطاعة إلا بالصبر. فيكون الصبر نصف الإيمان لهذا الاعتبار. هـ. وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ.. ، قال القشيري: يحكم بينهم، فيُبين المقبول من المردود، والمهجور من الموصول، والرّضي من الغَويّ، والعدو من الوليّ. فكم من بَهجةٍ دامت هناك! وكم من مهجةٍ ذابت كذلك. هـ.
ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : آية ٢٦]
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦)
قلت: فاعل «يهد» : هو الله، بدليل قراءة زيد عن يعقوب «نهد» بالنون، ولا يجوز أن يكون الفاعل «كم» لأن الاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي: يُبين لهم الله تعالى ما يعتبرون به، فينظروا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ كعاد، وثمود، وقوم لوط، يَمْشُونَ يعني: قريشاً، فِي مَساكِنِهِمْ حين
يمرون على ديارهم، ومنازُلُهمْ، خاوية، في متاجرهم إلى الشام، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دالة على قدرتنا، وقهريتنا أَفَلا يَسْمَعُونَ المواعظ، فيتعظون بها؟.
الإشارة: قال القشيري: لم يعتبروا بمنازل أقوام كانوا في حَبْرَةٍ، فصاروا في عَبرةً، كانوا في سرورِ، فآلوا إلى ثبور، فجميع ديارهم وتراثِهم صارت لأغيارهم، وصُنوفُ أموالهم عادت إلى أشكالهم، سكنوا في ظِلالهم، ولم يعتبروا بمن مضى من أمثالهم، وفي مثلهم قيل:
نِعَمٌ، كانت على قو... مٍ زمانا، ثم فاتت،
هكذا النعمةُ والإح... سانُ قد كانت وكانت. هـ. «١»
ثم ذكّرهم بآثار قدرته، فقال:
[سورة السجده (٣٢) : الآيات ٢٧ الى ٣٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (٣٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ: المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ أي: التي جُرِزَ نباتها، أي: قُطِعَ، ولم يَبْقَ منه شيء إما لعدم الماء، أو لأنه رُعِيَ. يقال: جرزت الجراد الزرع إذا استأصلته، وفي القاموس: وأرض جرز: لا تنبت، أو أكل نباتها، أو لم يصبها مطر. ثم قال: وأرض جارزة: يابسة غليظة، وفيه أربع لغات: جُرْز وجُرُز وجَرَز وجُرَز. ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ: جرز، بدليل قوله: فَنُخْرِجُ بِهِ أي: بالماء، زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أي: الزرع، أَنْعامُهُمْ كالتبن والورق، وَأَنْفُسُهُمْ كالحب والتمر، والمراد بالزرع:
كل ما يُزرع ويستنبت، أَفَلا يُبْصِرُونَ، فيستدلون به على قدرته على إحياء الموتى؟.
(١) ورد البيتان:
نِعَمٌ، كانت على قو... م زمانا، ثم بانت،
هكذا النعمة والإنسان... مذ كان وكانت.
وانظر: محاضرات الأدباء ص ٢٥٩.
400
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي: النصر، أو الفصل بالحكومة من قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا «١». وكان المسلمون يقولون: إن الله سيفتح لنا على المشركين، أو يفتح بيننا وبينهم، فإذا سمع المشركون، قالوا: متى هذا الفتح؟ أي: في أي وقت يكون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنه كائن؟.
قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ أي: يوم القيامة هو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم. أو: يوم نصرهم عليهم. أو: يوم بدر، أو يوم فتح مكة، لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ لفوات محله، الذي هو الإيمان بالغيب، وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ يُمهلون، وهذا الكلام لم ينطبق جواباً عن سؤالهم ظاهراً، ولكن لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح استعجالاً منهم، على وجه التكذيب والاستهزاء، أُجيبوا على حسب ما عُرف من غرضهم من سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به ولا تستهزئوا، فكأني بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم، فلم ينفعكم الإيمان، واستنظرتم عند درك العذاب فلم تُمهلوا. ومن فسره بيوم بدر أو بيوم الفتح، فهو يريد المقتولين منهم فإنهم لا ينفعهم إيمانهم في حال الفعل، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند دَرَك الغرق. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ النصر وهلاكهم، إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليكم وهلاككم.
قال عليه الصلاة والسلام: «من قرأ الم تَنْزِيلُ في بيته، لم يدخل الشيطان به ثلاثة أيام» «٢».
الإشارة: أوَ لم يروا أنا نسوق الماء الذي تحيا به القلوب على يد المشايخ، إلى القلوب الميتة بالجهل والغفلة، فنخرج به ثمار الهداية إلى الجوارح، تأكل منه، من لذة حلاوته، جوارحُهم وقلوبُهم، أفلا يبصرون؟. ويقول أهل الإنكار لوجود هذا الماء: متى هذا الفتح، إن كنتم صادقين في أنه موجود؟ قال: يوم الفتح الكبير- وهو يَوْمَ يَرْفَعُ اللهُ أولياءه في أعلى عليين- لا ينفع الذين كفروا بالخصوصية، في دار الدنيا، إيمانُهم في الالتحاق بهم، ولا هم يمهلون حتى يعملوا مثل عملهم، فأعرض عنهم اليوم، واشتغل بالله، وانتظر هذا اليوم، إنهم منتظرون لذلك.
قال القشيري: «أولم يروا..» الآية. الإشارة فيه: نَسْقي حَدَائِقَ [وصلهم] «٣»، بعد جفاف عُودِها، فيعود عُودُها مورِقاً بعد ذبوله، حاكياً حالُه حالَ حصوله، (ويقولون متى هذا الفتح..) استبعدوا يومَ التلاق، وجحدوه، فأخبرهم
(١) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.
(٢) قال ابن حجر فى الكافي الشاف (ح ١٩٦) :«لم أجده». وانظر: الفتح السماوي (٢/ ٩٢٦).
(٣) فى الأصول المخطوطة (وصفهم) والمثبت هو الذي فى لطائف الإشارات.
401
أنه ليس لهم إلا الحسرة والمحنة إذا شهدوه. قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ.. أي: باشتغالك بنا، وإقبالك علينا، وانقطاعك إلينا، وانتظر زوائد وَصْلِنا وعوائدَ لطفنا، إنهم منتظرون هواجِمَ مقتنا وخفايا مكرنا. وعن قريب وجد كلّ منتظره محتضرا هـ. وبالله التوفيق، وصلّى الله على سيدنا محمد، عين الوصول إلى التحقيق، وعلى آله المبينين سواء الطريق، وسلم.
402
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
تطاول نأينا يا نور حتى كأن نسجت عليه العنكبوت