تفسير سورة الفلق

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الفلق من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ
استهلال :
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله إن الحمد لله، نحمده ونشكره، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يضلل الله فلا هادي له، ومن يهد فما له من مضل.
ونشهد أن لا إله إلا الله، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد :
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تمهيد :
الأعمال الكسبية بين الخير والشر :
بني هذا الكون الدنيوي على أن يقترن فيه الخير بالشر، وأن يتصلا، وأن يشتبها، وأن يحيطا بالإنسان من جميع جهاته، فتكون أعماله الكسبية في الحياة مكتنفة بهما، دائرة بينهما، موصوفة بأحدهما. ولابد في ذلك من قدر الله، ومن سننه العامة في هذا العالم الإنساني.
وحكمته المبينة في وحيه هي ابتلاء خلقه، ليجازوا على ما يكون من كسبهم وسلوكهم، بعد أن وهبهم العقل والتمييز، وأكمل عليهم نعمته بهداية الدين عدلا منه تعالى ورحمته.
وحكمة أخرى : وهي تمرين هذا الإنسان في حياته العلمية والعملية، وتدريب فكره على اختيار الأنفع على النافع، والنافع على الضار، ثم سوق الجوارح إلى العمل على ذلك الترتيب، وترويضها عليه.
مسئولية الإنسان :
والإنسان يكتسب القوة والدربة بتمرسه على ما يلقاه من الخير والشر بعمله وبفكره.
وللفكر الإنساني عمل سابق لأعمال الجوارح المجترحة، وسائق لها، ومهيء لما يظهر أنه من بدواتها١.
وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح منها، وهو أهمها : التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين الخيرين، وشر الشرين ؛ فإن الخير درجات وأنواع ؛ والشر كذلك دركات وأنواع.
والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر، وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق، ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر، ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد.
وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طرق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان، وطواف طائفة٢.
ومن هذه المعوذات :
عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك، وهي شر.
وحقائق تقي صاحبها الوهم، وهو شر.
وعبادات تربي مقيمها على الخير، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر.
وأعمال تثبت فاعلها على الحق.
وأقوال يمليها القلب – العامر بتقوى الله، والخوف من مقامه – على الألسنة، لتكون شاهدة لها، أو عنوانا عليها، والألسنة تراجمة القلوب.
فكان مما شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل.
وأنزل الله عليه هاتين السورتين، وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن.
وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.
١ فالإنسان حر مختار، لا مقهور مسير كريشة في مهب الرياح..
٢ فتدخل الإسلام في حياة الإنسان وتنظيمها، لم يكن عبثا، وإنما كان لرعاية الإنسان، والأخذ بيده نحو الرشد والكمال الإنساني..

Icon