تفسير سورة التغابن

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الآيات: (١- ٤) [سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
التفسير:
قوله تعالى:
«يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
هذا هو دأب الوجود كلّه فى السموات والأرض، إنه فى صلاة دائمة مستغرقة، وعلى وجه واحد، قائم بين يدى الله فى ولاء وخشوع.
وتسبيح هذه العوالم التي يضمها الوجود، هو فى خضوعها السلطان لله سبحانه، وفى جريانها على ما أقامها عليه خالقها، دون أن يكون من أىّ ذرّة منها خروج على الحدود التي ألزمها الله إياها وأجراها فيها: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» :
(٤٠: يس).
وفى قوله تعالى: «لَهُ الْمُلْكُ» إشارة إلى هذا السلطان القائم على الوجود
972
من قدرة الله.. فهو المالك لكلّ شىء، لا شريك له.. وإذ كان هذا شأنه فهو- سبحانه- الذي يصرف مخلوقاته كيف يشاء، ويقيمها حيث أراد..
وفى قوله تعالى: «وَلَهُ الْحَمْدُ» إشارة أخرى، إلى أنه سبحانه وحده، هو المستحق الحمد من كلّ مخلوق، فى أية صورة كان خلقه، وعلى أي حال كان وضعه.. فالخلق إيجاد، ووجود الكائن المخلوق، والوجود نعمة، بالإضافة إلى العدم، الذي هو ضلال فى عالم التيه والضياع.
قوله تعالى:
«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»..
وهذا هو تدبير الله فى خلقه، وحكمه فى عباده.. وهكذا خلقهم.. منهم الكافر ومنهم المؤمن.. كما أن منهم الذكر والأنثى، والذكىّ والغبىّ، والغنىّ، والفقير.. إلى غير ذلك من أنماط الناس، وأشكالهم..
ثم هو سبحانه «بصير» أي عالم علما متمكنا، من كل ما يعمل العاملون، من مؤمنين، وكافرين.
وقدّم الكافرون هنا على المؤمنين، لأن الكافرين كثرة فى العدد، حتى لكأنهم يشبهون الجسد الإنسانىّ، على حين يمثل المؤمنون الرأس فى هذا الجسد..
وقيل إن المعنى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ» كلام تام، ثم كان بعد هذا الخلق أن ظهر فى الناس ما هم عليه من كفر وإيمان، كما يقول سبحانه بعد هذا:
«فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ».. وهذا مثل قوله تعالى: «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ
973
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ»
(٤٥: النور).
وهذا المعنى، لا ينفى أن الله سبحانه خلق المؤمن مهيأ للإيمان مستعدّا له، وخلق الكافر مهيأ للكفر ومتقبّلا له، كما خلق الدواب، فكان لكل نوع، الخلق الذي هو عليه بين المخلوقات، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، «أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى».. أي أعطى كل مخلوق ما قدّر له، ثم هداه إلى هذا الذي قدّره له.
وليس ببعيد عن هذا ما يقول به جمهور علماء السنة من أن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر، وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان..
قوله تعالى:
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ»..
أي أنه سبحانه خلق هذا الوجود- فى أرضه وسمائه- بالحقّ، الذي عدل بين المخلوقات، وأقام كل مخلوق بالمكان المناسب له فى هذا الوجود..
«وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ»..
«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ» (١١٥: المؤمنون)..
«لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ» (١٧: الأنبياء).
وقوله تعالى: «وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» - هو خطاب للناس جميعا، حيث كان وضعهم بين المخلوقات أحسن وضع، وكانت صورتهم أحسن صورة.. «يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
974
فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ»
.. (٦- ٨: الانفطار).. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ» (٤: التين)..
فهذا الخلق السوىّ الذي أقام الله عليه الإنسان، هو نعمة جليلة تستحق من كل إنسان أن يقوم فيها بحمد الله، والشكر له..
والسؤال هنا: أيحسب الكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، ممن هم من أصحاب النار- أيحسبون من هذا الخلق الذي صوره الله فأحسن صوره؟..
والجواب- بلا تردد- نعم!! فكل مخلوق خلقه الله، هو مخلوق فى أحسن صورة وأعدلها، إذا هو أخذ مكانه فى الوجود العام، ولم يخرج على وضعه الذي هو فيه..
فأىّ مخلوق أيّا كان قدره من الضالة، والضمور، هو بعض من الصورة العامة للوجود، وحيث كان من هذه الصورة، هو ذو شأن فيها، لا تكمل إلا به.. إنه أشبه بالنغم فى اللحن الموسيقى الكبير، أو ما يعرف «بالسمفونية»..
والصوت الذي يخرج عن هذا اللحن، ولا يتّسق معه، هو صوت ضائع، لا حساب له، ومن الخير للحن ألا يكون فيه لهذا الصوت وجود أصلا..
والكافرون، والمشركون، وأهل الضلال، هم أصوات ضالة فى هذا اللحن الكبير، الذي يسبّح به الوجود لله، وينشد على أنعامه نشيد الولاء لله رب العالمين..
ومع هذا، فإن هؤلاء الضالين، كانوا قبل أن يفسدوا ويضلوا- كانوا على فطرة سليمة، وخلق سوىّ.. ولكنهم أفسدوا هذه الفطرة، وغيّروا
975
هذا الخلق، إذ أسلموا أمرهم للشيطان، الذي قادهم إلى الضلال فانقادوا، ودعاهم إلى الخروج عن أمر الله فأجابوا.. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» (٤- ٦ التين)..
وفى قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ» إنذار باليوم الآخر، وتحذير منه، حيث يصير الناس جميعا إلى الله يوم القيامة، ويحاسبون على ما قدموا من خير، أو سوء..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»..
هو تعقيب على قوله تعالى: «وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ».. أي أن مصيركم أيها الناس، إلى من يعلم ما فى السموات والأرض، ويعلم سركم وجهركم، بل إنه يعلم ما يدور فى الصدر من خلجات ومشاعر، قبل أن تتخلق هذه الخلجات وتلك المشاعر فى صورة كلمات لها مدلول ومفهوم عندكم.. فعلم الله علم شامل، قديم، يعلم ما كان قبل أن يكون، ويعلم ما سيكون على ما يكون..
الآيات: (٥- ١٠) [سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ الى ١٠]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
976
التفسير:
قوله تعالى:
«أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ»..
الخطاب هنا للناس جميعا، مؤمنين، وكافرين.. فهو للمؤمنين عبرة، وعظة، وتثبيت على الإيمان.. وهو للكافرين، وعيد، وزجر، وتهديد..
وقوله تعالى: «فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ».. الفاء للسببية، أي أن كفر الذين كفروا، كان سببا فى هذا البلاء الذي حلّ بهم فى الدنيا، بما أخذهم الله به من نكال، وما أرسل عليهم من مهلكات، كما أنه سيسكون سببا فى العذاب الأليم الذي سيلقونه يوم القيامة..
والوبال: أصله من الوبل، والوابل، وهو المطر الشديد الثقيل، ولهذا قيل للأمر الثقيل الذي يخاف ضرره: وبال، ووبيل.
977
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»..
الإشارة هنا إلى كفر الكافرين، وإلى المنزلق الذي دفع بهم إلى الكفر..
فلقد جاءتهم رسلهم بالبينات، أي بالآيات البينة الواضحة، والمعجزات الناطقة التي تشهد بأنهم رسل الله.. ومع هذا فقد أبى القوم إلا ركوب رءوسهم، ثم نظروا إلى تلك الآيات فرأوها وهم فى هذا الوضع المنكوس..
رأوا حقها باطلا، ونورها ظلاما، وهداها ضلالا.. ثم عجبوا أن يكون بشر مثلهم، ورجل منهم، هو الذي يدلّهم على الخير، ويقودهم إلى الحق!! فكفروا به، وبالآيات التي معه، وبالله الذي أرسله..
وقوله تعالى: «فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا» أي أنهم لم يكفروا ويكذبوا بالرسول وحسب، بل تولوا معرضين عن الحق، الذي كان من شأنه- لو تمهلوا قليلا، ولم يستبد بهم العناد- أن يهتدوا إليه بأنفسهم، ولرأوا أن ما يدعوهم الرسول إليه، هو دعوة موجهة إليهم من عقولهم، قبل أن يوجهها الرسول إليهم..
وقوله تعالى: «وَاسْتَغْنَى اللَّهُ» أي أنهم بكفرهم وتولّيهم هذا كأنهم قد استغنوا عن الله، وقطعوا كل صلة تصلهم به، سواء أكان ذلك عن دعوة رسول من عند الله، أو عن دعوة من عقولهم، ولهذا فإن الله قد استغنى عنهم، وطردهم من مواقع الإيمان به..
وفى التعبير عن إعراض الله عنهم، وطرده إياهم- بالاستغناء، إنما هو من باب الردّ عليهم بمثل منطفهم وأنهم إذ قد استغنوا عن الله، فالله قد استغنى عنهم..
978
وهذا يعنى أن الله سبحانه لا يخذل من عباده، إلا من يخذل نفسه ولا يطرد من رحمته إلا من يعمل على طرد نفسه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ» (١٩: الحشر).. وكما يكون هذا فى حال الردع والعقاب، يكون فى مقام الفضل والإحسان، كما يقول سبحانه: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ» (١٥٢: البقرة).. ومنه قوله تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» (٦٠: غافر)..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ» أي أنه سبحانه غنىّ غنى مطلقا، لا حاجة به إلى شىء من خلقه: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (٥٧: الذاريات).. وهو سبحانه «حميد» أي المستحق الحمد وحده، المحمود من جميع خلقه، لأنه هو الخالق الرازق المنعم، المتفضل، من غير سابقة إحسان من مخلوق، أو ابتغاء نفع يرجى منه.
قوله تعالى:
«زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»..
الزعم هنا، بمعنى الادعاء الكاذب، الذي يقع من صاحبه موقع اليقين..
أي ادعى الذين كفروا- افتراء وكذبا- أنهم لن يبعثوا.. وعلى هذا الزعم الباطل، والادعاء الكاذب، قطعوا كل ما يصلهم بالحياة الآخرة، وما يذكّرهم بها..
وقد كذّب الله سبحانه هذا الزعم، وردّه على زاعميه بقوله سبحانه: «قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ».. والأمر «قل» هنا متوجه إلى النبي صلوات الله وسلامه
979
عليه، لينذر به الكافرين، وليوقظهم به من غفلتهم، وليزعج به اطمئنانهم إلى هذا الزعم الذي زعموه!! وقوله تعالى: «ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» أي ليس الأمر مجرد بعث ونشور، وإنما وراء هذا البعث والنشور، حساب وجزاء، حيث تعرض عليه- جلّ شأنه- أعمالكم، وتلقون الجزاء عليها.. «وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» لا يحتاج إلى معاناة ومراجعة.. كما أن بعثكم لا يحتاج إلى جهد ونصب..
قوله تعالى:
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»..
هو تعقيب على قوله تعالى: «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا.. الآية»..
أي أنه إذا كان البعث أمرا لا مفرّ منه، والحساب والجزاء لا معدى عنه- فبادروا إلى الإيمان بالله، وأسرعوا بالخروج مما أنتم فيه أيها الكافرون، من أوهام وضلالات.. والإيمان بالله لا يتم، إلا بالإيمان برسوله.. والإيمان برسوله، لا يقع إلا مع الإيمان بالنور الذي أنزله الله إليه..
والنور الذي أنزله الله إلى النبي، هو القرآن الكريم، لأنه من نور الله، الذي يجلو عمى البصائر، ويبدد ظلام العقول..
وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - هو تعقيب على الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله، والقرآن الذي بين يديه، وأن حصيلة هذا الإيمان واقعة فى علم الله.. ذلك العلم المحيط بكل شىء، الخبير بالحسن والسيء من الأعمال
980
وسيجزى المؤمنين على حسب إيمانهم، وعلى حسب ما عملوا بمقتضى هذا الإيمان.
قوله تعالى:
«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».
هو جواب لسؤال يتردد على الخاطر ممن سمع قوله تعالى: «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» - وهو: ما وراء هذا العلم الذي يعلمه الله من أعمالنا؟
فكان الجواب: ستعلمون ماوراء هذا العلم يوم تردّون إلى الله، يوم يجمعكم ليوم الجمع، وهو يوم القيامة، حيث يجزى المحسنون الجزاء الحسن، ويلقى المسيئون ما يسوءهم وما يخزيهم من عذاب وهوان..
وسمّى يوم القيامة يوم الجمع، لأن الناس جميعا يحضرونه، ويحشرون إليه من قبورهم، لا يغيب عنه أحد منهم.
وسمّى يوم القيامة كذلك يوم التغابن، لأنه اليوم الذي يرى الناس فيه أنهم غبنوا من جهة أنفسهم، وأن غبنا أصابهم فى حياتهم الدنيا، فلم يأخذوا حقهم كاملا فيها، ولم يستوفوا المطلوب منهم للحياة الآخرة..
فالغبن، هو الظلم الذي يجىء من وراء عدوان على حق.. ومنه الغبن الذي يقع فى البيع، بين البائع والمشترى، حيث يخرج الشيء المبيع عن الحدود المثلية له، زيادة أو نقصا، فإذا زاد الثمن زيادة فاحشة، كان الغبن واقعا على المشترى، وإذا نقص الثمن نقصانا فاحشا، كان الغبن واقعا على البائع.. ومنه الغبن فى الرأى، حيث يجىء الرأى فى الأمر بعيدا عن مرمى الإصابة لموقع الحق فيه، فيقال: فلان غبين الرأى، أي فاسده..
981
وكل إنسان يبدو له يوم القيامة أنه قد غبن فى حياته الدنيا، سواء أكان فى المحسنين أم فى المسيئين.. أما المحسن، فلأنه لم يزدد فى إحسانه، وهو يرى فى هذا الموقف- موقف الحساب والجزاء- أن كل ما عمله من أعمال حسنة هو قليل- وإن كثر- بالنسبة لما يطلبه، ويتمناه فى هذا الموقف، الذي يحتاج فيه الإنسان إلى رصيد عظيم من الأعمال الصالحة، حتى يلحق بالسابقين الذين سبقوا إلى الجنة، ولم يقفوا موقف الحساب، بل طاروا إليها طيرانا.
وأما المسيء فإنه يرى أنّه ظلم نفسه ظلما مبينا، إذ أطلق العنان لشهواته وأهوائه، وأنه باع نجاته وسلامته بثمن بخس، لا يعدو أن يكون ساعات من اللهو واللعب.
وهكذا يرى كل إنسان يومئذ، أنه على حال غير محمودة عنده، وأن أمورا كثيرة كان يمكن أن يأخذ فيها وضعا آخر غير الوضع الذي أخذه فى الدنيا..
إنه يوم تكثر فيه الحسرات، وزفرات الندم، وصرير الأسنان! قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ويدخله جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم».
هو تعقيب على هذا الوصف الذي وصف به يوم القيامة، بأنه يوم التغابن، ويراد بهذا التعقيب دفع ما يقع من وهم يجعل من هذا اليوم يوم سوء للناس جميعا، وأنهم جميعا واقعون تحت مشاعر الغبن، التي من شأنها أن تملأ النفس حسرة وألما.. فجاء قوله تعالى: «ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» - جاء هذا، ليقيم نفوس المؤمنين الذين عملوا الصالحات على الرضا، والحمد، لما هداهم الله إليه من الإيمان، ولما وفّقهم إليه من أعمال صالحة، وأنه لا بأس عليهم من هذه الأعمال السيئة الّتى عملوها إلى جانب الأعمال الصالحة، الّتى يسوؤهم أن يروها فى يومهم هذا،
982
فقد كفّرها الله عنهم، ومحاها من صحفهم، حتى يبدو لهم كتابهم أبيض ناصعا، وحتى لا يدخل معهم من أعمالهم إلا ما كان صالحا، يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، نورا يضىء لهم الطريق إلى الجنة. «وذلك هو الفوز العظيم».
فلتقرّ أعينهم به، وليهنئوا بما آتاهم الله، ولا عليهم مما كان لهم من أعمال سيئة فى الدنيا.. وإذن فلا غبن، ولا آثار غبن، إلا لأهل الكفر والضلال.
قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
هو بيان للغبن الملازم للكافرين، وللآثار المترتبة عليه.. إنهم هم المغبونون حقّا، وهم المتجرّعون لغصص هذا الغبن، بما فاتهم فى الدنيا من إيمان بالله، ومن أعمال صالحة فى ظل هذا الإيمان.. إنهم- مع هذا العذاب الأليم الّذي يلقونه فى الجحيم- هم فى حسرة دائمة على أن لم يكونوا من المؤمنين..
فما أكثر ما تجيش به صدورهم من حسرات، وما تنطق به ألسنتهم من عبارات الندم واللوم!! ومن ذلك ما جاء به القرآن على ألسنتهم، مثل قولهم: «يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»
(٢٧: الأنعام) وقول قائلهم: «يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» (٢٧- ٢٨: الفرقان). وقولهم: «فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (١٠٢: الشعراء)..
الآيات: (١١- ١٨) [سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١١ الى ١٨]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
983
التفسير:
قوله تعالى:
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».
المصيبة: الحدث الذي ينجم عن فعل.. ويغلب استعمال المصيبة فيما يقع من سوء.. وفاعل أصاب، هو: «مصيبة» وحرف الجر «من» زائد.. أي ما أصابكم من مصيبة إلا بإذن الله، وعن تقدير الله وإرادته، وإن كفر الّذين كفروا، وما حاربوا الله به منكرات، هو بإذن الله، وتقديره، وأنهم إذ فعلوا ما فعلوا، لم يكونوا خارجين عن سلطان الله، بل إنهم مقهورون لله أبدا، وإنهم على ما يبدو لهم من أنهم آلهة فى الأرض، مقتدرون على أن يفعلوا ما يشاءون- هم فى واقع الأمر أدوات مسخرة لقدرة الله، وأنهم أدوات شرّ وأذى، شأنهم فى هذا شأن ما خلق الله من حيوانات مؤذية، كالعقارب والأفاعى، وغيرها..
984
أما لماذا وضعهم الله بهذا الموضع، وسلك بهم هذا المسلك، وأرادهم للشر، وعاقبهم عليه، فهذا شأن آخر، وتلك قضية أخرى، ومقطع القول فيها، هو قوله تعالى: «لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ.. وَهُمْ يُسْئَلُونَ» (٢٣: للانبياء)..
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» هو دعوة إلى الإيمان، يستجيب لها كل من يسّره الله للإيمان، وهداه إليه، وشرح صدره له، بإرادة من الله سابقة، وقضاء قضاه..
فالمطلوب من الإنسان، هو أن يستجيب للهدى، وأن يتجه نحو الخير، غير ناظر إلى قضاء الله فى شأنه.. فإن كان ممن أرادهم الله للإيمان، أخذ بيده إلى طريق الإيمان، بعد أن يتجه هو إليه، ويضع قدمه على أول الطريق إليه..
وأما إن كان من أهل الكفر، فلن تنطلق من نفسه تلك الشرارة الّتي تنقدح من زناد الرغبة والإرادة.. فى الاتجاه نحو الإيمان.
إن على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، وأن يعمل جاهدا بما اجتمع بين يديه منها، فإذا أخذ بالأسباب المتصلة بأمر من الأمور، فقد أعذر لنفسه.. كالزارع، يمهد الأرض، ويبذر الحب، ويسوق الماء إلى ما زرع، ثم لا يخرج زرع، أو يخرج، ثم تغتاله آفة! إنه معذور عند نفسه، لا يكثر ندمه عند ما يرى غيره يحصد ما زرع.. أما الذي لم يزرع أصلا، فإن الحسرة تملأ قلبه، حين يرى الّذين زرعوا يحصدون! وقوله تعالى: «وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» - هو دعوة إلى إخلاص النيات، فى الاتجاه إلى الله، والإيمان به.. فإن لهذه النيات السليمة المخلصة وزنها، وقدرها، وإن لم تبلغ بصاحبها ما يريد.. أما من يتجه إلى الله اتجاها فاترا ملتويا، يقدّم رجلا، ويؤخر أخرى، فإن النية القائمة وراء
985
هذا الاتجاه، لا تحسب له إذا هو أخفق، ولم يبلغ موقع الإيمان، ولم يملأ به قلبه، ولم تتشربه مشاعره!..
قوله تعالى:
«وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ»..
هو تعقيب على الخبر الوارد فى قوله تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»..
أي مع أنه من المقرر أن ما قدّره الله هو كائن، وأن أحدا لا يفعل خيرا أو يصيب شرّا، إلا ما كان فى صفحة القدر المكتوب له- مع هذا فإن الدعوة قائمة على الناس جميعا، بأن يطيعوا الله ورسوله، وأن يستجيبوا لما يدعون إليه، من الإيمان بالله ورسوله، ومن العمل الصالح الّذى يدعو إليه الله ورسوله..
وإنه لمطلوب من الإنسان أن يعمل ما يأمر الله به، وإن ينتهى عما نهاه الله عنه، غير ملتفت إلى قدر الله فيه، فإن الالتفات إلى هذا مضلّة، لأنه لا يدرى ماذا قدر الله له.. إنه يعمل فى قدر الله، ويجرى على حدود هذا القدر، دون أن يعلم شيئا مما قدّر له.. فإذا وقع العمل منه، كان ذلك العمل هو قدره المقدور له.. فإن كان حسنا حمد الله وشكر له، وإن كان سيئا، كان حريّا به أن يجدّ فى الاتجاه إلى الله، وأن يسأله الهداية والتوفيق..
وقوله تعالى: «فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ» - هو
986
قطع لحجة من يحتجّ بالقدر، حين يعرض عن الله، ويأبى أن يستجيب لله ورسوله، ولسان حاله يقول ما قال المشركون: «لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ» (١٤٨: الأنعام) فهذا ضلال مبين، وسفاهة حمقاء، لا تقوم على منطق، ولا تستند إلى حق.. وإنه ليس من شأن الرسول أن يقهر الناس على الإيمان، وأن يكرههم على الاستجابة لدعوته..
فالرسول مهمته البلاغ المبين، وأداء رسالة الله كاملة واضحة إلى الناس..
«وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ» (٢٩: الكهف)..
قوله تعالى.
«اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» - هو بيان للإله الّذى يدعى الناس إلى طاعته، وإلى طاعة رسله، وهو أنه إله واحد، لا إله سواه، وأنه إلى هذا الإله المتفرد بالألوهة، يولّى المؤمنون وجوههم، ويفوّضون إليه أمورهم، راضين بما يقع لهم من خير أو شر..
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
هو دعوة للذين استجابوا لله ولرسوله، فآمنوا، أن يعطوا هذا الإيمان حقّه..
فإنه لا يكفى أن يؤمنوا دون أن يحرسوا هذا الإيمان من الآفات الكثيرة الّتى تعرض له، وتفسده، أو تذهب به جملة..
ومن هذه الآفات، الفتنة بالزوج والولد.. حيث هما اللذان يملآن
987
عواطف الإنسان، ويستوليان على مشاعره، وبهذا يكون لهما تأثير بالغ عليه، فى مجال الصلاح والفساد جميعا.. إن الزوج والولد، أشبه بالأعضاء العاملة فى الجسد، فإن كانا صالحين، سلم الجسد، واقتدر على أداء وظيفته كاملة، وإن كانا فاسدين، عجز الجسد عن أن يقوم بما هو مطلوب منه، بقدر ما فيهما من فساد..
وفى القرآن الكريم، أمثله وشواهد كثيرة لهذا..
فامرأة نوح وابنه، كانا على خلاف معتقده فى الله.. هو رسول الله، مؤمن به، داع إليه، وامرأته وولده كافران بالله، يقفان من نوح موقف عداوة ومنابذة..
وإنه ليس أشقّ على الإنسان من أن يكون أعداؤه بعضا من كيانه..
إن عداوة الغرباء تخفّ وتهون، إزاء عداوة ذوى القربى.. وإن أقسى العداوات وأمرّها لهى عداوة أقرب الأقربين، وألصقهم بالإنسان جسدا، وروحا، ومشاعر..
وفى هذا يقول الشاعر الجاهلى (طرفة بن العبد) :
وظلم ذوى القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
فقوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ» - هو إلفات إلى ما قد يكون من خلاف بين المؤمن وبين زوجه وولده فى مجال العقيدة.. ذلك الخلاف الذي كثيرا ما تغطى عليه مشاعر الحب، والعطف، فلا يكاد يشعر المؤمن بما يدخل على إيمانه من ضيم وجور،
988
إذا هو استسلم لزوجه أو ولده، وأصغى إلى ما يلقيان إليه من زور وبهتان..
ولهذا جاء قوله تعالى: «فَاحْذَرُوهُمْ» حتى يكون المؤمن دائما، على حذر، وانتباه من هذه الرياح المسمومة الّتى تهب عليه من أقرب الناس إليه..
والعداوة الّتى ترد على الإنسان من جهة الزوجة أو الولد، ليست عداوة ذاتية له، وإنما هى عداوة متولدة عن فعل يجىء من قبل الزوجة أو الولد.. فإذا فعلت الزوجة فعل العدو فهى عدوّ، وإذا فعل الولد فعل العدو، فهو عدو..
وإنه لا عدوّ أبلغ فى عداوته، وأشد فى كيده، وأعظم فى ضرره- ممن يحول بين المرء وبين طاعة ربه..
روى البخاري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إن الشيطان قعد لابن آدم فى طريق الإيمان، فقال له: أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك؟ فخالفه، فآمن.. ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له: أتهاجر، وتترك مالك وأهلك؟ فخالفه فهاجر.. ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له: أتجاهد، فتقتل نفسك، فتنكح نساؤك ويقسم مالك؟.. فخالفه، فجاهد، فحقّ على الله أن يدخله الجنة»..
وقوله تعالى: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»..
هو دعوة إلى الرّفق فى الحذر، والتلطف فى لقاء المكروه الذي يجىء إلى المؤمن من زوجه أو ولده.. فإذا كان من واجب المؤمن أن يحذر هذا العدوّ الكامن
989
فى أقرب الناس إليه وآثرهم عنده، فإن هذا العدوّ يجب أن ينظر إليه من جانب آخر على أنه صديق، وأن هذه العداوة طارئة، وأنه يمكن أن تعالج هذه العداوة بالحكمة، والحسنى، على ألا يكون ذلك على حساب الدين..
وبهذا يمكن أن يبقى المؤمن على هذين العضوين الفاسدين فى جسده، وأن يطبّ لهما، وأن يعمل على إصلاحهما ما استطاع، وألا يعجّل بقطعهما إلا بعد أن يستنفد جميع وسائل العلاج، شأنهما فى هذا شأن أعزّ الأعضاء والجوارح فى الجسد..
فالعفو، والصفح، والمغفرة.. من المؤمن، لزوجه وولده، الواقعين فى موقع الفتنة له فى دينه- إنّما هو صبر على الأذى، واحتمال الضرّ، فى سبيل الإبقاء على علائق الودّ، ووشائج القربى التي هى من أمر الدين، ومن طبيعة الحياة.. شريطة ألا يكون ذلك- كما قلنا- على حساب الدين.. كما يقول سبحانه فيما بين الولد، والوالدين: «أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (١٤، ١٥ لقمان).
قوله تعالى:
ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ».
ومن الفتن الّتى تعرض للمؤمن، فتنة المال، والأولاد، حيث يطغى حبهما على قلبه، ويأخذ على سمعه وبصره، فلا يرى شيئا غيرهما، ولا يستمع لنداء غير نداء المال والولد، فيصرفه ذلك عن ذكر الله، ويلهيه عن العمل الصالح، ابتغاء مرضاة الله.. وبهذا يضمر إيمانه، وقد يذهب إلى غير عودة! يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه. «تعس عبد الدّينار، تعس
990
عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة. تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش».
[تعس: أي هلك: والخميصة: كساء أسود له أعلام وخطوط..
والقطيفة، ثوب مزركش ذو أهداب.. وانتكس: أي عاوده المرض..
وشيك: أصابته شوكة.. فلا انتقش، أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش وهو الملقط].
إن الفتنة الّتى تهب على المؤمن هنا، هى فتنة مهبّها ذاته هو، وما يفيض به قلبه من مشاعر الحبّ للمال، والولد..
وأما الفتنة الواردة على المؤمن فى قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ» فهى فتنة متسلطة على الإنسان من خارج ذاته، فيما تسوقه إليه زوجه أو ولده من صور الشحناء معه، والخلاف عليه، فى الدين الّذى يدين به، والذي يباعد الشقة بينه وبينهما.
وقوله تعالى: َ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ»
هو تعويض عن التخفف من من هذا الحبّ الّذى يحمله الإنسان فى قلبه للمال وللولد، وإيثارهما على حبّ الله والعمل فى طاعته.. فالذى عند الله من ثواب، هو خير من الدنيا كلّها..
وفى قوله تعالى: «إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ».. إشارة إلى أن هذا الحكم ليس على إطلاقه.. لأنه ليس كل الأزواج ولا كل الأولاد تجىء منهم العداوة، وإنما يقع ذلك من بعضهم، ولهذا جىء بمن الّتى تفيد التبعيض، على حين جاء قوله تعالى: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
بدون «من» التبعيضية، لأن الأموال والأولاد فتنة مطلقة، فحيث يكون المال، وحيث يكون الأولاد، فالفتنة بهم قائمة..
يقول الإمام علىّ- كرم الله وجهه-: «لا يقولنّ أحدكم: «اللهم إنى أعوذ بك من الفتنة، لأنه ليس أحد، إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن
991
من استعاذ فليستعذ بمضلّات الفتن.. فالله سبحانه وتعالى يقول: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ».
قوله تعالى:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
قوله تعالى:
[ «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ».. ما تأويله؟] هو رحمة من رحمة الله بعباده، وهم فى متلاطم هذه الفتن الّتى تطلع عليهم من أنفسهم، ومن أهليهم وأقرب الناس إليهم، إنها حرب مشبوبة الأوار دائما، لا يستطيع الإنسان أن يدفعها عن نفسه، أو أن يدفع هو نفسه عنها، إلا إذا اعتصم بمعتصم يعصمه منها.. إذ كيف له بالتخلص من ذاته، ومن نزعات نفسه، ودفعات أهوائه؟ ونفرض أنه استطاع ذلك بعد مشقة وعناء، فكيف له بأن ينخلع عن زوجه وولده؟ إن ذلك لا يكون إلا بالانخلاع عن الحياة الدنيا جملة!! والإسلام دين واقع، ودين رحمة وعدل وإحسان.. لا يرى للناس إلا أنهم بشر تتحكم فيه نوازع، وعواطف، وتعرض لهم عوارض الضعف..
ويلحقهم ما يلحق الكائن الحىّ من جهد وضعف.. ولهذا قامت هذه الشريعة على اليسر، وعلى رفع الحرج، كما يقول سبحانه: «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٧٨: الحج).. ويقول الرسول الكريم:
«إن هذا الدين يسر فأوغل فيه برفق، وإنه لن يشادّ الدين أحد إلا غلبة»..
ويقول الرسول الكريم أيضا.. «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
فقوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ».. هو الميزان الذي يقيم عليه المؤمن أمر دينه كله.. وأن يتقى هذه الفتن الّتى تهب عليه من كل جهة- أن يتقيها
992
بقدر ما يملك من قوة، وما يحتمل من جهد.. والله سبحانه وتعالى يقول:
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ».
فكل نفس لها طاقة من الاحتمال، ولها قدر من القوة، وإنه على قدر طاقتها وقوتها، تحاسب، فتجزى بما كسبت، وعلى ما اكتسبت..
ومن أجل هذا كانت شريعة الإسلام- مع عمومها- تنظر إلى ما فى الناس- كأفراد- وإلى ما فيهم من قوة وضعف، فتكلف القوىّ بما لا تكلف به الضعيف..
ونجد مثلا لهذا فى نساء النبي، وما لهن من خصوصية، وما عندهن من استعداد لقبول الخير، بما كان لحياتهن مع رسول الله ﷺ من أثر فى مدّهنّ بأمداد عظيمة من الإيمان والتقوى.. ولهذا قام حسابهن عند الله على غير حساب عموم النساء.. ففى مقام الإحسان يضاعف الله لهن الإحسان، فيؤجرن بالحسنة ضعف أجر الحسنة من غيرهن.. فيقول سبحانه: «وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً» (٣١: الأحزاب).. وكذلك الشأن فى مقام الإساءة- لو فرض أن تقع منهن سيئة- فيقول جل شأنه:
«يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ، وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً» (٣٠: الأحزاب)..
وليس هذا فى نساء النّبى وحدهن، بل إنه فى المؤمنين عامة، فقد كلف الله المؤمنين فى أول الإسلام، بأن يلقى المسلم منهم فى ميدان القتال عشرة من العدوّ، وأن يغلبهم، دون أن ينكل عن لقائهم، أو يفر منهم إذا التقى بهم.. وذلك لما كان فى قلوب هؤلاء السابقين إلى الإيمان، من قوة إيمان، ووثاقة دين، بما لم يكن لأحد أن يبلغ هذا المستوي العظيم بعد.. فلما دخل الناس فى دين الله أفواجا، وكان كثير من الذين آمنوا دون هذا المستوي، وعلى بعد بعيد منه-
993
لمّا كان هذا، كان أمر الله للمسلمين فى القتال، أن يكون المقاتل منهم فى مقابل اثنين من أعدائهم..
ومن هذا ندرك السرّ فى تلك التوجيهات الّتى كان يوجه بها النبي أصحابه حين يسألونه مثلا: أي الأعمال أفضل؟ فيقول لهذا قولا، ولذاك قولا، ولثالث قولا آخر.. وهكذا، حسب ما يرى الرسول الكريم فيهم من قدرة واستعداد، فيوجه كلّ واحد منهم الوجهة الّتى يصلح لها، ويقدر على السير فيها..
على أن هذا ينبغى ألّا يفهم على غير وجهه السليم، وألّا يتأول تأويلا فاسدا، فيجعل المرء هذه الاستطاعة تكأة يتحلل بها من تكاليف الشريعة، ويتخفف من أوامرها ونواهيها، محتكما فى ذلك إلى هواه فى تقدير الحدّ الّذى تبلغه استطاعته، فيترك الصوم مثلا، لأن الجوع يؤذيه، والعطش يشقّ عليه، أو لأن ترك بعض العادات المتمكنة منه، يفسد تفكيره، ويعلّ جسده.. وقل مثل هذا فى كثير من أوامر الدين ونواهيه، حيث يبحث المرء عن مخرج يخرج به منها، وعن علة يتعلل بها، للتحلل من هذا القيد، والفكاك من هذا الالتزام.. إن هذا من شأنه أن يفسد على المرء دينه، ويغتال كل صالحة فيه.
وإن فى الشرّ خيارا.. وإنه لخير المرء فى هذا المقام أن يترك فريضة من فرائض الله، أو يقصر فى أدائها، عن فتور، أو عدم مبالاة- إن ذلك لخير له من أن يكون تركه الفريضة، أو تقصيره فى أدائها، ناجما عن فتوى كاذبة خادعة، يفتى بها نفسه، ليتحلل من عقد لله الّذى لزمه، من فرائض الشريعة وأحكامها..
إن التكاليف الشرعية لها أعباؤها، ولها مشقاتها، وإنها بغير هذا لا يكون لها ميزان فى فعل الطاعات، واجتناب المنبهات، فمن أطاع أمرا، فإنما تكون طاعته عن مغالبة أهواء، ودفع شهوات، ومن انتهى عن منهىّ عنه، كان
994
انتهاؤه عن استعلاء على نزعات، وكبت لرغبات.. وعن هذا الجهد يكون الجزاء.. ولهذا قيل «على قدر المشقة يكون الثواب»..
ثم إن الدين أمانة بين العبد وربه، وإن الوفاء بهذه الأمانة إنما يكون حيث يبذل المرء غاية جهده، ويعطى كل ما عنده، دون إفراط، أو تفريط..
والاحتكام فى هذا، إنما هو إلى ضمير المؤمن، وإلى ما يفتيه به قلبه، كما يشير إلى هذا الرسول الكريم فى قوله: «استفت قلبك.. وإن أفتاك الناس وأفتوك» !! فإذا أعفى الدين- مثلا- أصحاب الأعذار من الجهاد فى سبيل الله، كما يقول سبحانه.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» (٩١: التوبة) - إذا بيّن الإسلام هذه الأعذار التي تعفى المسلم من الجهاد، فإن بيان حدود هذه الأعذار من الضعف، والمرض، وضيق ذات اليد فى النفقة- إن بيان هذه الحدود، إنما يرجع إلى ضمير المسلم ذاته، إن كان مرضه أو ضعفه يعفيانه من الجهاد أو لا، أو إن كان بين يديه مال خفى أو ظاهر، أو لا.. فتلك أمور لا يعلمها إلّا الله سبحانه، وإلا أصحابها المتصفون بهذه الصفات..
وقوله تعالى:
«وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ»..
هو من تمام التقوى التي أمر الله سبحانه وتعالى بها فى قوله جلّ شأنه:
«فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» فإن التقوى فى حدود الاستطاعة، مرجعها إلى القلب، وما انعقد عليه من إيمان بالله، ومراقبة لأوامره ونواهيه..
فهذا جانب يمثّل الضلة بين العبد وربه.. وحسابه فى هذا على الله.
995
وهناك جانب آخر من الإنسان فيما يتصل بأوامر الله ونواهيه، وهو الجانب الذي يمسّ المجتمع الذي يعيش فيه، والذي تحكمه أوامر هذا الدين الذي يدين به، وهو الجانب الظاهر، الذي يتمثل فى الاستماع لأولى الأمر والطاعة لهم، وتقديم المال المطلوب منه فيما يبدو من ظاهر حاله لولىّ الأمر..
وهذا يعنى ألا يقف المسلم عند قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» وأن يجعل تقديره لاستطاعته، حكما ملزما لولىّ الأمر.
فإذا دعى من ولى الأمر إلى الجهاد مثلا، فلا يتعلل بأنه مريض، أو ضعيف، وإن كان فى الواقع مريضا أو ضعيفا، بل يجب أن يسمع ويطيع، على ما به من مرض أو ضعف.. فإن سمعه وطاعته فى تلك الحال شاهدان يظاهران ما هو عليه من مرض أو ضعف، وهذا من شأنه أن يجعل ولىّ الأمر هو الذي يعفيه من الجهاد، ويعزله عن ركب المجاهدين.. أما إذا أبى أن يسمع أو يجيب، كان ذلك مثار فتنة لغيره، ثم كان موضع تهمة له بأنه يتصنع المرض أو الضعف، حتى يتحلل من الاستجابة للجهاد الذي يدعوه إليه ولى الأمر..
وكذلك الشأن فى الإنفاق فى سبيل الله، وهو أنه من الواجب أن ينفق المرء فى سبيل الله من غير دعوة، فإذا دعى من ولىّ الأمر كان عليه أن يجيب، وأن يقدم المطلوب منه، من زكاة أو نحوها..
وقوله تعالى: «خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ».. يجوز أن يكون مفعولا به للفعل «أنفقوا» أي أنفقوا مالا، أو نحوه، مما هو خير، ونافع، ويكون الجار والمجرور «لأنفسكم» متعلقا بقوله تعالى «خيرا» أي أنفقوا خيرا لأجل أنفسكم.. وعبّر عما ينفق بلفظ الخير، لأنه خير فى ذاته، وهو خير لمن ينفق من أجله، وهو خير لمن ينفقه..
996
ويجوز أن يكون «خيرا» منصوبا بفعل مضمر، تقديره أنفقوا وقدموا خيرا لأنفسكم من أموالكم.
وقوله تعالى: «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ».
هو تحريض على البذل والإنفاق فى سبيل الله، وتحذير من الشحّ، والضنّ بالبذل والسخاء فى وجوه الخير.. فإن من وقى نفسه شرّ هذا الداء، داء الشحّ، كان من المفلحين، حيث إن البخل، لا يكون إلّا من نفس استهلكها حبّ المال، فضنت به عن الإنفاق فى قضاء الحقوق، وفى أداء الواجبات لذوى القربى، والفقراء والمساكين.. ثم ذهب بها هذا الحرص، إلى اكتساب المال من كلّ وجه، فى غير تحرّج أو تأثّم، فإن حبّ المال يعمى ويصم! فأقرب الناس إلى السلامة، وأدناهم إلى الفلاح من خلص بنفسه من ربقة العبوديّة للمال، ومن حبائل فتنته.. كما يقول سبحانه: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
.. فإذا تحرر الإنسان من هذا الداء، واستعلى على هذه الفتنة، استقام له طريقه فى الحياة، فكان من المفلحين فى الدنيا والآخرة جميعا.
قوله تعالى:
«إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ».
هو إغراء بالإنفاق فى سبيل الله، وإعلاء لشأن المنفق، ورفع لقدره، حتى إنه ليقف بين يدى خالقه والمنعم عليه موقف المقرض، الدائن.. فما أعظم فضل الله، وما أوسع إحسانه.. إنه يعطى، ثم يستقرض مما أعطى!! والله سبحانه غنىّ غنى مطلقا عن هذا القرض الذي يقترضه، لأن هذا الذي يقترضه، هو ملك له، وفضل من فضله، ولو كان فى حاجة إلى أن يقترض، لأمسك
997
هذا الذي يقترضه.. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.. ولكن هذا العطاء، ثم الاقتراض منه، هو تكريم للإنسان، وإحسان إليه، حتى ينال بما ينفق من مال الله ثواب الله فى الآخرة وحسن الجزاء فى الدنيا، بما يضاعف للمنفق ما أنفق، كما يقول سبحانه: «يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ» (٢٧٦: البقرة) وكما يقول جل شأنه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ» (٢٤٥: البقرة).
والقرض الحسن: هو الذي ينفق فى سبيل، الله عن رضا نفس، وانشراح صدر، والذي لا يتبعه منّ ولا أذى.
قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ».. أي أنه سبحانه عظيم الشكر لمن يقرضه، وينفق فى سبيله، فيجزيه الجزاء الحسن على ما أنفق، وهو سبحانه «حليم» لا يعجل بعقاب الذين يضنون ويبخلون بما آتاهم الله من فضله، فلا يقطع عنهم أمداد نعمه وإحسانه، فى هذه الدنيا، بل يمدّ لهم فى العطاء، ولا يعجّل لهم الموت حتى يستوفوا آجالهم، وحتى تكون بين أيديهم فرصة للمراجعة، والمصالحة مع الله.. فإن هم لم يصلحوا أمرهم، وماتوا على ما هم عليه من الشحّ والبخل، والضنّ بحقوق الله- كان إلى الله حسابهم، فإن شاء عفا ورحم، وإن شاء عاقب وانتقم.
قوله تعالى:
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».
هو معطوف عطف بيان على قوله تعالى: «وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ».. أي هو سبحانه شكور حليم، وهو عالم الغيب والشهادة، وهو العزيز الحكيم..
فهذه صفات الله سبحانه التي يتعامل بها مع عباده الذين يقرضونه.. إنه سبحانه
998
يشكر للمنفقين ما أنفقوا ويضاعف للمقرضين ما أقرضوا، ولا يعاجل المقصرين منهم فى الإنفاق، العذاب، بل يمهلهم، ويدع لهم فسحة من الوقت حتى تنتهى أعمارهم فى هذه الدنيا، ليكون لهم فى هذه الفسحة مجال لتصحيح موقفهم، واللّحاق بالمنفقين الذين سبقوهم إلى رضوان الله.. وهو سبحانه مطلع على سرهم وجهرهم، عالم بما أنفقوه، وما يخلوا به.. وهو سبحانه «العزيز» الذي هو مستغن بعزته عن إنفاق المنفقين، وعون المعينين، وهو «الحكيم» الذي يقيم موازين الناس بالحكمة والعدل، ويضع كل إنسان بمكانه الذي هو أهل له..
999
٦٥- سورة الطلاق
نزولها: مدنية.
عدد آياتها: اثنتا عشرة آية.
عدد كلماتها: مائتان وأربعون كلمة.
عدد حروفها: ألف وستون حرفا.
مناسبتها لما قبلها كان مما تضمنته السورة السابقة: «التغابن» - قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».. وفى هذا- كما قلنا- تحذير من فتنة الأزواج، والأولاد، وأن هذه الفتنة قد تعظم ويشتد خطرها، فلا يمكن مدافعتها والنجاة منها إلا بالفرقة، وقطع علائق الصلة..
ولما كانت الفرقة بين الرجل وزوجه لا تكون إلا بالطلاق، فقد كان من المناسب فى هذا المقام أن تبيّن بعد ذلك أحكام الطلاق، والصورة التي يكون عليها، حتى لا يؤدّى ذلك إلى جور وعدوان، بل ينبغى أن يكون الرفق، والحكمة، من الأدوات العاملة فى حلّ عرا الزوجية بين الزوجين، إذا لم يكن بدّ من حلّها، امتثالا لقوله تعالى: «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (٢٢٩: البقرة).
هذا، وفى مجىء سورة الطلاق عقب الحديث عن فتنة الأزواج والأولاد- فى هذا ما يشير، فى إعجاز مبين، إلى أن الطلاق لا يكون إلا فى حال يتحكم فيها الخلاف بين الرجل والمرأة، حتى يكاد يكون فتنة، لا يمكن الخلاص منها إلا بهذا الدواء المرّ، وإلا بهذا الداء الذي يذهب به داء أشد منه.. وإن فى الشر خيارا..
وبعض السمّ ترياق لبعض وقد يشفى العضال من العضال
1000
Icon