تفسير سورة النّمل

التفسير القيم
تفسير سورة سورة النمل من كتاب التفسير القيم من كلام ابن القيم المعروف بـالتفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

سورة النمل

بسم الله الرحمن الرحيم

[سورة النمل (٢٧) : آية ٥٩]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
هؤلاء هم أعلى الطبقات وأكرمها على الإطلاق. وهم المرسلون.
فأكرم الخلق على الله، وأخصهم بالزلفى لديه: هم رسله. وهم المصطفون من عباده، الذين سلم عليهم في العالمين، كما قال تعالى: ٢٧: ١٨١ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وقال تعالى: ٣٧: ٧٩ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وقال ٣٧: ١٠٨، ١٠٩ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وقال ٣٧: ١٣٠ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
وقال في بدائع الفوائد:
هل السلام من الله؟ فيكون المأمور به: الحمد والوقف التام عليه، أو هو داخل في القول والأمر بهما جميعا؟.
فالجواب عنه: أن الكلام يحتمل الأمرين. ويشهد لكل منهما ضرب من الترجيح.
419
فيرجح كونه داخلا في جملة القول لأمور:
منها: اتصاله به، وعطفه عليه من غير فاصل. وهذا يقتضى أن يكون فعل القول واقعا على كل واحد منهما. هذا هو الأصل، ما لم يمنع منه مانع. ولهذا إذا قلت: قل: الحمد لله، وسبحان الله. فإن التسبيح هنا داخل في القول.
ومنها: أنه إذا كان معطوفا على القول. كان عطف خبر على خبر، وهو الأصل. ولو كان منقطعا عنه. كان عطف جملة خبرية على جملة الطلب، وليس بالحسن عطف الخبر على الطلب.
ومنها: أن قوله: «قل الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى» ظاهر في أن المسلم هو القائل: الحمد لله. ولهذا أتى بالضمير بلفظ الغيبة، ولم يقل: سلام على عبادي.
ويشهد لكون السلام من الله تعالى أمور:
أحدها: مطابقته لنظائره في القرآن، من سلامه تعالى بنفسه على عباده الذين اصطفى، كقوله: ٣٧: ٧٩ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ وقوله:
٣٧: ١٠٨ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ وقوله: ٣٧: ١٢٠ سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ وقوله: ٣٧: ١٣٠ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
والثاني: أن عباده الذين اصطفى: هم المرسلون. والله سبحانه يقرن بين تسبيحه لنفسه وسلامه عليهم. وبين حمده لنفسه وسلامه عليهم.
أما الأول: فقال تعالى: ٣٧: ١٨٠، ١٨١ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وقد ذكر تنزيهه لنفسه عما لا يليق بجلاله، ثم سلام على رسله. وفي اقتران السلام عليهم بتسبيحه لنفسه سر عظيم من أسرار القرآن يتضمن الرد على كل مبطل ومبتدع، فإنه نزه نفسه تنزيها مطلقا، كما نزه نفسه عما يقول ضلال خلقه فيه، ثم سلم على
420
المرسلين. وهذا يقتضى سلامتهم من كل ما يقول المكذبون لهم، المخالفون لهم. وإذا سلموا من كل ما رماهم أعداؤهم لزم سلامة كل ما جاءوا به من الكذب والفساد.
وأعظم ما جاءوا به: التوحيد ومعرفة الله، ووصفه بما يليق بجلاله مما وصف به نفسه على ألسنتهم. وإذا سلم ذلك من الكذب والمحال والفساد:
فهو الحق المحض. وما خالفه: فهو الباطل، والكذب المحال.
وهذا المعنى بعينه في قوله: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى. فإنه يتضمن حمده بما هو من نعوت الكمال وأوصاف الجلال، والأفعال الحميدة، والأسماء الحسنى وسلامة رسله من كل عيب ونقص وكذب. وذلك يتضمن سلامة ما جاءوا به من كل باطل.
فقابل هذا السر في اقتران السلام على رسله بحمده وتسبيحه. فهذا يشهد بكون السلام هنا من الله تعالى، كما هو في آخر الصافات.
وأما عطف الخبر على الطلب فما أكثره. فمنه قوله تعالى: ٢١:
١١٢ قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ وقوله: ٢٣:
١١٨ وَقُلْ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ وقوله: ٧: ٨٩ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ونظائره كثيرة جدا.
وفصل الخطاب في ذلك: أن يقال الآية تتضمن الأمرين جميعا، وتنتظمها انتظاما واحدا. فإن الرسول هو المبلغ عن الله كلامه، وليس له فيه إلا البلاغ، والكلام كلام الرب تبارك وتعالى، فهو الذي حمد نفسه، وسلم على صفوة عباده، وأمر رسوله بتبليغ ذلك. فإذا قال الرسول: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى كان قد حمد الله وسلم على عباده بما حمد الرب به نفسه وسلم به هو على عباده. فهو سلام من الله ابتداء، ومن المبلغ بلاغا، ومن العباد: اقتداء وطاعة. فنحن نقول كما أمرنا ربنا تعالى:
«الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى».
421
وكلمة «السلام» هاهنا يحتمل أن تكون داخلة في حيّز القول. فتكون معطوفة على الجملة الخبرية، وهي «الحمد لله» ويكون الأمر بالقول متناولا للجملتين معا.
وعلى هذا فيكون الوقف على الجملة الأخيرة ويكون محلها النصب، محكية بالقول.
ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة مستقلة، معطوفة على جملة. الطلب وعلى هذا: فلا محل لها من الإعراب. وهذا التقدير أرجح.
وعليه يكون السلام من الله عليهم، وهو المطابق لما تقدم من سلامه سبحانه على رسله صلّى الله عليهم وسلّم.
وعلى التقدير الأول: يكون أمرنا بالسلام عليهم، ولكن يقال على هذا: كيف يعطف الخبر على الطلب، مع تنافر ما بينهما؟ فلا يحسن أن يقال: قم وذهب زيد، ولا أخرج وقعد عمرو.
ويجاب عن هذا: بأن جملة الطلب قد حكيت بجملة خبرية، ومع هذا يمتنع العطف فيه بالخبر على الجملة الطلبية. لعدم تنافر الكلام فيه وتباينه. وهذا نظير قوله تعالى: ١٠: ١٠١ قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ؟.
فقوله تعالى: «وما تغنى الآيات» ليس معطوفا على القول وهو «انظروا» بل معطوف على الجملة الكبرى، على أن عطف الخبر على الطلب كثير، كقوله تعالى: ٢١: ١١٢ قالَ: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ. وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ وقوله: ٢٣: ١١٨ وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ، وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ.
والمقصود: أنه على هذا القول: يكون الله سبحانه قد سلم على المصطفين من عباده، والرسل أفضلهم. وقد أخبر تعالى: أنه أخلصهم كما
422
قال: ٣٨: ٤٦، ٤٧ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ.
ويكفي في شرفهم وفضلهم: أن الله اختصهم بوحيه. وجعلهم أمناءه على رسالته، وواسطته بينه وبين عباده، وخصهم بأنواع كراماته، فمنهم من اتخذه خليلا. ومنهم من كلمه تكليما، ومنهم من رفعه مكانا عليا على سائرهم درجات. ولم يجعل لعباده طريقا للوصول إليه إلا من طريقهم، ولا دخولا إلى جنته إلا خلفهم.
423
Icon