تفسير سورة الجمعة

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

سورة الجمعة
[ ١ ] صلاة الجمعة وأحكامها
التحليل اللفظي
﴿ نُودِيَ ﴾ : النداء : الدعاء بأرفع الصوت تقول : ناديته نداءً ومناداة، وفي الحديث « فإنه أندى صوتاً منك » أي أحسن وأعذب، وقيل : أرفع وأعلى، والمرادُ بالنداء هنا : الأذانُ والإعلام لصلاة الجمعة.
﴿ الجمعة ﴾ : هو اليوم المعروف، وهو يوم عيد المسلمين الأسبوعي قال الفراء : يقال ( الجُمْعة ) بسكون الميم، و ( الجُمُعة ) بضم الميم، و ( الجُمَعة ) بفتح الميم فيكون صفة اليوم، أي تجمع الناس، كما يقال : ضُحَكة للذي يضحك الناس، ففيها ثلاث لغات.
والأفصح الأشهر ( الجمُعة ) بضم الميم، قال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤها جُمُعة.
وقد صار يوم الجمعة عَلَماً على اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وسميت جمعة لاجتماع الناس فيها للصلاة، وكان العرب تسمي يوم الجمعة ( عَروبة ) وأول من سمّاها جمعة ( كعب بن لؤي ).
قال السهيلي : ومعنى العروبة : الرحمة فيما بلغنا عن بعض أهل العلم.
﴿ فاسعوا ﴾ : السعي : العَدْوُ في المشي والإسراع فيه، والمراد منه في الآية : امشوا إلى الصلاة بدون إفراط في السّرعة لقوله عليه السلام :« إذا أُقيمت الصلاةُ فلا تأتوها وأنتم تَسْعَوْن، وأتُوها وأنتم تَمْشُون، وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلّوا، وما فاتكم فأتموا ».
قال الفراء : المضيّ، والسعي، والذهاب، بمعنى واحد واحتج بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله، معناه يمضي بجد واجتهاد، وليس معناه : العدو والركض.
واحتج أبو عبيدة : بقول الشاعر :
أسعى على جُلّ بني مالك كلّ امرئ في شأنه ساعي
وكان ابن مسعود : يقرؤها :( فامضوا إلى ذكر الله ) ويقول :« لو كانت من السعي لسعيتُ حتى يسقط ردائي ».
قال القرطبي : وقراءةُ ابن مسعود تفسير منه، لا قراءة قرآن منزل، وجائزٌ قراءة القرآن بالتفسير، في معرض التفسير.
﴿ ذِكْرِ الله ﴾ : المراد بذكر الله صلاةُ الجمعة، بدليل قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة فانتشروا فِي الأرض ﴾ وقيل : المراد به الخطبة.
والصحيح الراجح : أن المراد به ( الصلاة، والخطبة ) جميعاً لاشتمالهما على ذكر الله.
﴿ وَذَرُواْ البيع ﴾ : أي اتركوا البيع، والمعاملة، وسائر أمور التجارة والأعمال.
قال الألوسي : أي اتركوا المعاملة، فيعمّ البيع، والشراء، والإجارة وغيرها من المعاملات.
وقال القرطبي : وخصّ البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق.
﴿ قُضِيَتِ الصلاوة ﴾ : أي أديتم الصلاة وفرغتم منها، يقال : قضى الرجل عمله أي أدّاه ومنه قوله تعالى :﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] أي أديتموها، وقضى دينه أي وفَّاه، وليس من قضاء الفائتة في الصلاة، وقد استدل الفقهاء بهذه الآية الكريمة على أن لفظ ( القضاء ) يطلق على ( الأداء ) وهو استدلال لطيف.
﴿ فانتشروا ﴾ : أي تفرقوا في الأرض لإقامة مصالحكم، والانتشار معناه التفرق، ومنه قوله تعالى :﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ].
﴿ وابتغوا ﴾ : أي اطلبوا من الابتغاء بمعنى الطلب، قال تعالى :
582
﴿ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا ﴾ [ القصص : ٧٧ ].
﴿ فَضْلِ الله ﴾ : المراد به الرزق والتجارة، والكسبُ الحلال.
وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، وإنما هو عيادة المرضى، وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله.
﴿ انفضوا إِلَيْهَا ﴾ : بمعنى انصرفوا إليها، وتفرقوا عنك، والانفضاض معناه : التفرق والانصراف، قال ذو الرُمّة :
تكاد تنقضّ منهنّ الحيازيم... وأعاد الضمير إلى التجارة، لأنها كانت أهمّ إليهم، وقال الزجّاج : المعنى : وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف الثاني لدلالة الأول عليه مثل قوله تعالى :﴿ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٣ ]، وكما قال الشاعر :
نحنُ بما عندنا وأنت بما عندكَ راضٍ والرأيُ مختلف
﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾ : أي على المنبر تخطب، قال بعض العلماء : وفيه دلالة على مشروعية القيام في الخطبة.
﴿ خَيْرُ الرازقين ﴾ : لأنه يرزق من يؤمن به ويعبده، ومن يكفر به ويجحده، فهو يعطي من سأل سواءً كان مؤمناً أم كافراً.
قال الطبري :﴿ والله خَيْرُ الرازقين ﴾ : يقول : والله خير رازق، فإليه فارغبوا في طلب أرزاقكم، وإيّاه فاسألوا أن يوسّع عليكم من فضله دون غيره.
المعنى الإجمالي
يقول الله تعالى ما معناه :« يا أيها المؤمنون يا من صدّقتم بالله ورسوله، إذا سمتعتم المؤذّن، ينادي لصلاة الجمعة ويؤذّن لها، فاتركوا أعمالكم وأشغالكم، ودَعُوا البيع والشراء وامضوا سراعاً إلى ذكر الله وعبادته، وإلى أداء صلاة الجمعة مع إخوانكم المسلمين، فإنّ ذلك خير لكم وأفضل، وأرجى لكم عند الله، وأعود عليكم بالخيرات والبركات، إن كنتم من أهل العلم والفهم السليم، فإذا أدّيتم الصلاة وفرغتم منها، فانبثّوا في الأرض لقضاء مصالحكم، واطلبوا من فضل الله، فإن الرزق بيده، وهو المنعم المتفضّل، الذي لا يخيّب أمل السائل، ولا يضيع عمل العامل، ولا يمنع أحداً من فضله وإحسانه، واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون.
ثم أخبر تعالى أنّ هناك فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية، على الآخرة الباقية، فإذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقة قادمة، أو شيء من لهو الدنيا، وزينتها وبهرجها، تفرّقوا عن رسول الله عليه السلام، وانصرفوا إلى متاع الحياة، وتركوا الرسول قائماً يخطب، ولو عقلوا لعلموا أنّ ما عند الله خير وأبقى، وأن ثوابه خير من اللهو والتجارة، وأن الله - جلّ وعلا - هو خير الرازقين، يرزق من يشاء بغير حساب، وما عند الله خير للأبرار.
وصدق الله حيث يقول :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٩٦ ]. سبب النزول
أ- أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال : بينما النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة قائماً، إذ قدمت عير إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله ﷺ حتى لم يبق منهم إلاّ اثنا عشر رجلاً أنا فيهم، وأبو بكر وعمر، فأنزل الله تعالى :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا ﴾ إلى آخر السورة.
583
ب- وروى ابن كثير عن أبي يعلى بسنده إلى جابر بن عبد الله أنه قال :« بينما النبي ﷺ يخطب يوم الجمعة، فقدمت عيرٌ إلى المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله ﷺ حتى لم يبق مع رسول الله ﷺ إلا اثنا عشر رجلاً، فقال رسول الله ﷺ :» والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبق منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً « ونزلت هذه الآية :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة... ﴾.
ج - وروى أبو حيان في تفسيره »
البحر المحيط « في سبب هذا الانصراف أنَّ أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فقدم ( دحية ) بعيرٍ تحمل ميرةً وكان من عُرْفهم أن يدخل بالطبل والمعازف من درى بها. فدخلت بها فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه، وتركوه ﷺ قائماً على المنبر في اثني عشر رجلاً، قال جابر : أنا أحدهم، فنزلت ﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة... ﴾.
وجوه القراءات
١- قرأ الجمهور ﴿ من يوم الجُمُعة ﴾ بضم الجيم والميم، وقرأ الزهري والأعمش بضم الجيم وسكون الميم ﴿ الجُمْعة ﴾ وهي لغة تميم، وقرأ أبو العالية والنخعي ﴿ الجُمَعة ﴾ بضم الجيم مع فتح الميم، وهي ثلاث لغات.
قال الزجاج : من قرأ بتسكين الميم فهو تخفيف الجمعة لثقل الضمتين، وأمّا فتح الميم فمعناها : الذي يجمع الناس، كما تقول : رجلٌ لُعَنَة : يُكثر لعنة الناس، وضُحَكَة : يكثر الضحك.
٢- قرأ الجمهور ﴿ انفضّوا إليها ﴾ بضمير المؤنث عائداً إلى التجارة، وقرأ ابن أبي عَبْلة بضمير المذكّر ﴿ انفضّوا إليه ﴾ عائداً إلى اللهو.
قال الأخفش : وكلاهما جائز عند العرب، وقرئ ﴿ انفضُّوا إليهما ﴾ بضمير التثنية عائداً إلى التجارة واللهو.
٣- قرأ الجمهور ﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ وروي عن ابن مسعود وعمر أنهما كانا يقرآنها ﴿ فامضوا إلى ذكر الله ﴾ وقراءتهما محمولة على أنها وجه من وجوه التفسير، لا أنها قراءة من القراءات وقد مرّ معك كلام القرطبي فتدبره.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة ﴾ ( إذا ) شرطية و ( نودي ) مبني للمجهول، و ( مِنْ ) بمعنى ( في ) أي في يوم الجمعة كقوله تعالى :﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض ﴾ [ فاطر : ٤٠ ] أي في الأرض.
وجوّز أبو البقاء كون ( مِنْ ) للتبعيض.
وفي »
الكشاف « : هي بيان ل ( إذا ) وتفسير له، وقد اعترض عليه في هذا، والصحيح أنها بمعنى ( في ).
٢- قوله تعالى :﴿ واذكروا الله كَثِيراً... ﴾. ( اذكروا ) فعل أمر مبني على حذف النون لأنّ مضارعه من الأفعال الخمسة، والواو فاعل، ولفظ الجلالة منصوب على التعظيم تأدباً، و ( كثيراً ) صفة لمفعول مطلق محذوف تقديره :( ذكراً كثيراً )، وقد صرح به في سورة الأحزاب في قوله تعالى :
584
﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٤١ - ٤٢ ].
٣- قوله تعالى :﴿ وَتَرَكُوكَ قَآئِماً ﴾، قائماً منصوب على الحال، وصاحب الحال هو النبي ﷺ المشار إليه ب ( تركوك ) أيها النبيّ حال كونك قائماً.
٤- قوله تعالى :﴿ قُلْ مَا عِندَ الله خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة... ﴾ ( ما ) اسم موصول مبتدأ، و ( خير ) خبره، والجملة ( ما عند الله خير ) مقول القول.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : يوم الجمعة كان يسمى في الجاهلية يوم ( العَروبة ). وأوّل من سمّاه جمعة ( كعب بن لؤي ) وروي في سبب تسميته أن أهل المدينة اجتمعوا قبل قدوم النبي ﷺ، لنا يوماً نجتمع فيه فنذكر الله تعالى، ونشكره، فقالوا : يومُ السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العَروبة، فاجتمعوا إلى ( أسعد بن زُرارة ) فصلَّى بهم يومئذٍ ركعتين، وذكّرهم، فسميت الجمعة حين اجتمعوا إليه، فذبح لهم شاة فتغدّوا وتعشّوا منها، فهي أول جمعة كانت في الإسلام.
اللطيفة الثانية : في التعبير بقوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ لطيفة وهي أنه ينبغي للمؤمن أن يقوم إلى صلاة الجمعة بجدٍّ ونشاط، وعزيمة وهمَّة، لأن لفظ ( السعي ) يفيد القصد والجدّ والعزة، وليس المراد منه العَدْو في المشي فإنّ ذلك منهي عنه.
قال الحسن :« والله ما هو سعي على الأقدام، ولكنّه سعي بالقلوب وسعي بالنيّة، وسعي بالرغبة، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إلاّ وعليهم السكينة والوقار ».
اللطيفة الثالثة : أُطلق لفظ البيع ( وذروا البيع ) وقصد به جميع أنواع المعاملة من بيع، وشراء، وإجارة، وغيرها من المعاملات فهو على سبيل المجاز المرسل.
قال أبو حيان :« وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرَّمات، لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، إذ يكثر الوافدون من القرى إلى الأمصار ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار، فأُمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة، ونُهوا عن تجارة الدنيا حتى الفراغ من الصلاة ».
اللطيف الرابعة : كان السلف الصالح يقتدون برسول الله ﷺ في جميع أفعاله وحركاته وسكناته، حتى ولوْ لم يدركوا السرّ فيه، وذلك من فرط حبِّهم لرسول الله ﷺ، فقد روي عن بعضهم أنه كان إذا صلَّى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد فصلَّى ما شاء الله تعالى أن يصلي، فقيل له : لأيّ شيء تصنع هذا؟ قال : إني رأيت سيّد المرسلين ﷺ هكذا يصنع، وتلا هذه الآية :﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاوة ﴾.
اللطيفة الخامسة : كان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال :« اللهمّ إني أجبتُ دعوتك، وصلَّيتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ».
585
اللطيفة السادسة : في قوله تعالى :﴿ واذكروا الله كَثِيراً ﴾ لطيفة وهي أن الله تعالى أمر بالسعي في طلب الرزق، والاشتغال بالتجارة، ولمّا كان هذا قد يسوق الإنسان إلى الغفلة، وربما دفعته الرغبة في جمع المال، إلى الكذب، والغش، والاحتيال، أُمِر المسلمُ أن يذكر الله تعالى، ليعلم أن الدنيا ومتاعها فانية وأن الآخرة وما فيها باقية، وأنّ ما عند الله خير وأبقى، فلا تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة كما قال تعالى في وصف المؤمنين :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ [ النور : ٣٧ ] وهذا هو السرّ في الأمر بذكر الله كثيراً فتدبره.
اللطيفة السابعة : الأصل في ( إذا ) أنها للاستقبال، والآية الكريمة نزلت بعد تلك الحادثة وبعد انفضاض الناس عن رسول الله ﷺ لهذا فقد خرجت عن الاستقبال واستعملت في الماضي، على حدِّ قول القائل :
ونَدْمانٍ يزيدُ الكأس طيباً سَقَيْتُ ( إذا ) تَغَوّرتِ النَجومُ
ما ورد في فضائل يوم الجمعة
أ- يومُ الجمعة أفضل الأيام وأشرفها على الاطلاق فقد روى مسلم في « صحيحة » عن النبي ﷺ أنه قال :« خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ».
ب- وروى مالك في « الموطأ » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يومُ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أهبط من الجنة، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة، من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة، إلاَّ الإنس والجن، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي، يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه ».
ج - وروى أبو داود في « سننه » أن رسول الله ﷺ قال :« إنّ من أفضل أيامكم يومَ الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ، قالوا يا رسول الله : كيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أرمتَ؟ يعني ( بليتَ ) فقال ﷺ : إنّ الله تعالىّ حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ».
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هو الأذان الذي يجب السعي عنده؟
دلَّ قوله تعالى :﴿ إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ﴾ على وجوب السعي إلى المسجد، وترك البيع والشراء، وقد اختلف العلماء في الأذان الذي يجب السعي عنده.
١- قال بعض العلماء : المراد به الأذان الأول الذي هو على ( المنارة ).
586
٢- وقال آخرون : المراد به الأذان الذي بين يدي الخطيب إذا صعد الإمام المنبر.
حجة الفريق الأول :
أ- أن المراد من النداء هو الإعلام، والسعيُ إنما يجب عند الإعلام، وهو ( الأذان الأول ) على المنارة، الذي زاده عثمان رضي الله عنه، وذلك حين رأى كثرة الناس، وتَباعُدَ مساكنهم عن المسجد، فأمر بالتأذين الأول على دارٍ له بالسوق، يقال لها ( الزّوراء ) وقد ثبت الأمر على ذلك من عهده إلى عصرنا هذا.
ب- واستدلوا بما رواه البخاري في « صحيحه » عن ( السائب بن يزيد ) رضي الله عنه أنه قال :( كان النداء يوم الجمعة أوَّلُه إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي ﷺ وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان زمن عثمان رضي الله عنه وكثر الناس، زاد النداء الثالث على الزّوراء فثبت الأمر على ذلك ).
ج - وقالوا : السعيُ عند الأذان الثاني، وقت صعود الخطيب المنبر، يفوّت على الناس سماع الخطبة التي م أجلها خفّف الله تعالى الصلاة فجعلها ركعتين، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى هذا في زمن النبي ﷺ لقرب مساكنهم من المسجد، ولحرصهم الشديد على أن بجيئوا من أول الوقت محافظة على أخذ الأحكام عن الرسول ﷺ فكان النداء الذي بين يدي الخطيب يُسْمعهم فيحضرون سراعاً، ويدركون الخطبة من أولها لقرب المساكن من المسجد.
وهذا القول هو الظاهر المعتمد في مذهب الحنفية، وقد نصّ عليه صاحب « الكنز » من أئمة فقهاء الحنفية فقال :« ويجب السعي وترك البيع بالأذان الأول لقوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاوة ﴾ الآية وإنما اعتبر لحصول الإعلام به، وهذا القول هو الصحيح في المذهب.
وقيل : العبرة للأذان الثاني، الذي يكون بين يدي الخطيب على المنبر، لأنه لم يكن في زمنه ﷺ إلاّ هو - وهو ضعيف - لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من السُنّة القبلية، ومن الاستمتاع، بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة انتهى.
حجة الفريق الثاني :
أ- الأذان الذي يجب فيه السعيُ وتركُ البيع، هو ( الأذان الثاني ) الذي يكون بين يدي الخطيب، لأنه هو الأذان الذي كان في زمنه ﷺ، وهو عليه السلام أحرص الناس على أن يؤدي المؤمنون الواجب عليهم في وقته، فلو كان السعي واجباً قبل ذلك لبيّنه لهم، ولجعل بين الأذان والخطبة زمناً يتسع لحضور الناس.
ب- ما روي عن ابن عمر والحسن في قوله تعالى :﴿ إِذَا نُودِيَ للصلاوة مِن يَوْمِ الجمعة ﴾ قالا :»
إذا خرج الإمام وأذّن المؤذن فقد نودي للصلاة «.
قالوا : وهو التفسير المأثور فلا عبرة بغيره.
ج - وقالوا أيضاً : إن المصلي يندب له أن يجيء مبكّراً لفوائد جمّة كما دلت على ذلك الأحاديث الكثيرة، ولكنّ تحريم البيع والشراء والحكمَ بالإثم شيءٌ، وإدراكَ الأمر المندوب شيءٌ آخر.
587
ثم إن السنة القبلية - على فرض أنها بقيت مطلوبة في الجمعة - فإنه لا يمكننا أن نوجب السعي قبل وقته لتحصيل سنّة لم تثبت، فيبقى النداء الذي يحرم عنده البيع هو ( النداء الثاني ) الذي يكون عند صعود المنبر، وهو الذي كان في زمنه عليه السلام.
وهذا المذهب هو رأي جمهور العلماء، وقولٌ عند فقهاء الحنفية، ولعله يكون الأرجح والله تعالى أعلم.
الحكم الثاني : هل يفسخ البيع عند الآذان؟
دلَّ قوله تعالى :﴿ وَذَرُواْ البيع ﴾ على حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان، وقد اختلف العلماء في عقد البيع هل هو صحيح أم فاسد؟
فقال بعضهم إنه فاسد لورود النهي ﴿ وَذَرُواْ البيع ﴾.
وقال الأكثرون إنه حرام ولكنه غير فاسد وهو يشبه الصلاة في الأرض المغصوبة تصحُّ مع الكراهة.
قال القرطبي في تفسيره « الجامع لأحكام القرآن » :« وفي وقت التحريم قولان :
الأول : أنه من بعد الزوال إلى الفراغ من الصلاة. قاله الضحّاك، والحسن، وعطاء.
الثاني : من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة، قاله الشافعي.
قال : ومذهب مالك : أن يترك البيع إذا نودي للصلاة، ويفسخ عنده ما وقع من البيع في ذلك الوقت، ولا يفسخ العتق، والنكاح، والطلاق وغيره، إذا ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع، قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ.
قال ابن العربي : والصحيحُ فسخ الجميع، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به، فكلُّ أمرٍ يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً. مفسوخ رَدْعاً.
ورأى بعضُ العلماء البيع في الوقت المذكور جائزاً، وتأّوَّل النّهيَ عنه ندباً، واستدل بقوله تعالى :﴿ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾، وهذا مذهب الشافعي فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ.
وقال الزمخشري في تفسيره : إن عامة العلماء على أنّ ذلك لا يؤدي إلى فساد البيع، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب، فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة، والثوب المغصوب، والوضوء بماء مغصوب، وعن بعض الناس أنه فاسد.
قال القرطبي : والصحيح فسادُه، وفسخُه، لقوله ﷺ :»
كلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو ردّ « أي مردود، والله أعلم.
الحكم الثالث : هل الخُطْبة شرط لصحة الجمعة؟
دلّ قوله تعالى :﴿ فاسعوا إلى ذِكْرِ الله ﴾ على أن الخطبة شرط لصحة صلاة الجمعة، لأن ذكر الله سواء قلنا إنه :( الموعظة ) أو إنه ( الموعظة والصلاة معاً ) يدخل فيه خطبة الجمعة، فلا بدّ أن تكون شرطاً لصحة الصلاة. ولأن صلاة الجمعة إنما خفّفت من أجل الخطبة وسماع الموعظة، وعليه تكون الخطبة واجبة، وهذا مذهب جمهور الفقهاء.
588
غير أن فقهاء الحنفية قالوا : لا يشترط في الخطبة أن تكون مشتملة على ما يسمّى ( خطبة ) عرفاً، لأن الله تعالى ذكر الذّكر من غير تفصيل بين كونه طويلاً، أو قصيراً، يسمّى خطبة أو لا يسمى خطبة، فكان الشرط هو الذكر مطلقاً، ويكفي فيه أقل ما يطلق عليه اسم الذكر، غير أن المأثور عنه ﷺ هو الذكر المسمّى ب ( الخطبة ) والمواظبة عليه فكان ذلك واجباً أو سنّة، لا أنه الشرطُ الذي لا يجزئ غيره.
وفقهاء الشافعية والحنابلة : يشترطون أن يأتي الخطيب بخطبتين مستوفيتين لشروط خاصة منها : حمدُ الله، والصلاة على النبي ﷺ، وقراءة آية من كتاب الله تعالى، والوصيةُ بتقوى الله تعالى.
وزاد الشافعية الدعاء للمؤمنين والمؤمنات.
وفقهاء المالكية : شرطوا في الخطبة شرطاً واحداً وهي أن تكون مشتملة على تحذير أو تبشير ممّا يسمّى في العرف موعظة وخطبة.
قال في « الروضة الندية » :« ثمّ اعلم أنَّ الخطبة المشروعة هي ما كان يعتاده ﷺ من ترغيب الناس وترهيبهم، فهذا في الحقيقة روحُ الخطبة الذي لأجله شرعت، وأمّا اشتراط الحمد لله، أو الصلاة على رسوله، أو قراءة شيء من القرآن، فجميعُه خارج عن معظم المقصود من شرعية الخطبة، واتفاقُ مثل ذلك في خطبته ﷺ لا يدل على أنه مقصود متحتم، وشرط لازم.
ولا يشك منصف أن معظم المقصود هو الوعظ دون ما يقع قبله من الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ، وقد كان عُرْف العرب المستمر أن أحدهم إذا أراد أن يقوم مقاماً، ويقول مقالاً، شرع بالثناء على الله وعلى رسوله ﷺ - وما أحسن هذا وأولاه - ولكن ليس هو المقصود، بل المقصود ما بعده، ولو قال : إنّ من قام في محفل من المحافل خطيباً، ليس له باعث على ذلك إلا أن يصدر منه الحمد، والصلاة، لما كان هذا مقبولاً بل كل طبع سليم يمجّه ويردّه، إذا تقرّر هذا عرفت أن الوعظ في خطبة الجمعة هو الذي يساق إليه الحديث، فإذا فعله الخطيب فقد فعل الأمر المشروع إلاّ أنه قدّم الثناء على الله وعلى رسوله، أو استطرد في وعظه القوارع القرآنية كان أتمّ وأحسن »
.
الحكم الرابع : ما هو العدد الذي تنعقد به الجمعة؟
لا خلاف بين الفقهاء أن الجماعة شرط من شروط صحة الجمعة، لقوله عليه السلام :« الجمعة حقٌّ واجبٌ على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة : مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض ».
ولأن التسمية تقتضي ذلك، فلا يقال لمن صلَّى وحده إنه صلى الجمعة. فلا بدّ من الجماعة، وقد اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة إلى خمسة عشر قولاً ذكرها الحافظ في « الفتح ».
589
والآية الكريمة لم تنصّ على عددٍ معيّن، وكذلك السُنَّةُ المطهّرة لم يرد فيها نص صريح صحيح على العدد الذي تنعقد به، ولهذا اختلف الفقهاء على أقوال عديدة :
أ- الحنفية قالوا : يكفي أربعة أحدهم الإمام، وقيل : ثلاثة.
ب- الشافعية والحنابلة قالوا : لا بدّ من جمع غفير أقله أربعون.
ج - المالكية قالوا : لا يشترط عدد معيّن بل تشترط جماعة تُسْكن بهم قرية، ويقع بينهم البيع، ولا تنعقد بالثلاثة والأربعة ونحوهم.
قال الحافظ ابن حجر : ولعلّ هذا المذهب أرجح المذاهب من حيث الدليل.
وهناك أحكام أخرى تطلب من كتب الفروع ضربنا صفحاً عنها لأنّ الآية الكريمة لا تدل عليها والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : الجمعة فريضة على المسلمين المكلفين بالشروط المعروفة.
ثانياً : وجوب السعي للاستماع إلى الخطبة وأداء فريضة الجمعة.
ثالثاً : حرمة البيع والشراء وسائر المعاملات عند الأذان.
رابعاً : جواز الاشتغال بأمور التجارة والمعاش قبل الصلاة وبعدها.
خامساً : الرزق بيد الله ومع ذلك ينبغي أن يأخذ الإنسان بأسباب الكسب.
سادساً : لا ينبغي للمؤمن أن تشغله تجارة الدنيا عن تجارة الآخرة.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
الصلاة صلة العبد بربه، وعبادة تشدُّ القلب، وتقوِّي الإيمان فيه، وهي إلى جانب هذا تزيد المجتمع ترابطاً وتآلفاً، يلتقي فيها أفراده على الخير، ويتعاونون على البر والتقوى، وإذا كانت الصلوات الخمس في كل يوم وليلة مفروضة فقد يُشْغل المرء عن بعضها في شغله الدنيوي الذي يُبعده عن المسجد، أو يتساهل في عدم المجيء إليها، لذلك فقد فرض الله صلاة الجمعة في كل أسبوع مرة واحدة ليسرع إلى الصلاة يستمع إلى كلام الله وحديث المصطفى ﷺ وموعظة الخطيب، فيكون له زاداً إيمانياً، ويجتمع بإخوانه المؤمنين جميعاً، فيتفقد الغائب، ويعين المحتاج، ويعود المريض، ويصالح المتخاصمين، ويبذل نصحه للمقصِّرين... كما يتعلم الآداب الإسلامية في الاجتماع من السلام، والاحترام، والبشاشة التي تجعل المجتمع في سلام وأمان، لهذا كله فرض الله سبحانه صلاة الجمعة على كل مسلم، وأمره أن يسعى إليها، وحثه على أدائها.
590
Icon