تفسير سورة التغابن

نظم الدرر
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة التغابن١
مقصودها الإبلاغ في التحذير مما حذرت منه٢ المنافقون بإقامة الدليل القاطع على أنه لا بد من العرض على الملك للدينونة على النقير والقطمير يوم القيامة يوم الجمع الأعظم، واسمها التغابن واضح الدلالة على ذلك [ و-٣ ] هو أدل ما فيها عليه فلذلك سميت٤ به ( بسم الله ) مالك الملك فلا كفوء له ولا مثيل ( الرحمن ) الذي وسع الخلائق بره الجليل ( الرحيم ) الذي خص ممن عمه بالبر قوما فوقهم للجميل.
١ - الرابعة والستون من سور القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها ١٨..
٢ - من م، وفي الأصل وظ: به..
٣ - زيد من ظ..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: سمنى..

لما ختمت تلك بإثبات القهر بنفوذ الأمر وإحاطة العلم، افتتح هذه بإحاطة الحمد ودوام التنزه عن كل شائبة نقص، إرشاداً إلى النظر في أفعاله والتفكر في مصنوعاته لأنه الطريق إلى معرفته، وأما معرفته بكنه الحقيقة فمحال فإنه لا يعرف الشيء كذلك إلا مثله ولا مثل له، فقال مؤكداً لما أفهمه أول الجمعة: ﴿يسبح﴾ أي يوقع التنزيه التام مع التجديد والاستمرار ﴿لله﴾ الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿ما في السماوات﴾ الذي من جملته الأراضي وما فيها فلا يريد من شيء منه شيئاً إلا كان على وفق الإرادة، فكان لذلك الكون والكائن
99
شاهداً له بالبراءة عن كل شائبة نقص.
ولما كان الخطاب مع من تقدم في آخر المنافقين ممن هو محتاج إلى التأكيد، قال مؤكداً بإعادة الموصول: ﴿وما في الأرض﴾ أي كذلك بدلالتها على كماله واستغنائه، وقد تقدم أن موافقة العاقل للأمر مثل موافقة غير العاقل للارادة، فعليه أن يهذب نفسه غاية التهذيب فيكون في طاعته بامتثال الأوامر كطاعة غير العاقل في امتثاله لما يراد منه.
ولما ساق سبحانه ذلك الدليل النقلي كمال نزاهته على وجه يفهم الدليل العقلي لمن له لب كما قال علي رضي الله عنه: لا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع، كما لا تنفع الشمس وضوء العين ممنوع، وذلك لكونه سبحانه جعلهم مظروفين كما هو المشاهد، والمظروف محتاج لوجود ظرفه قبله فهو عاجز فهو مسبح دائماً إن لم يكن بلسان قاله كان بلسان حاله، وصانعه الغني عن الظرف فغيره سبوح، علل ذلك بقوله: ﴿له﴾ أي وحده ﴿الملك﴾ أي كله مطلقاً في الدنيا والآخرة، وهو السيادة العامة للخاص والعام والسياسة العامة بركنيها دفع الشرور وجلب الخيور الجالب للسرور
100
والحبور من الإبداع والإعدام، فهو أبلغ مما في الجمعة، فإن الملك قد يكون ملكاً في الصورة، وذلك الملك الذي هو ظاهر فيه لغيره، فداوم التسيبح الذي اقتضته عظمة الملك هنا أعظم من ذلك الدوام.
ولما أتبعه في الجمعة التنزيه عن النقص، أتبعه هنا الوصف بالكمال فقال: ﴿وله﴾ أي وحده ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها فلذلك ينزهه جميع مخلوقاته، فمن فهم تسبيحها فذلك المحسن، ومن كان في طبعه وفطرته الأولى بالفهم ثم ضيعه يوشك أن يرجع فيفهم، ومن لم يهيأ لذلك فذلك الضال الذي لا حيلة فيه ﴿وهو﴾ أي وحده ﴿على كل شيء﴾ أيّ شيء ممكن أن يتعلق به المشيئة ﴿قدير *﴾ لأنه وحده بكل شيء مطلقاً عليم، لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الأشياء كلها على حد سواء وهذا واضح جداً، ولأن من عرف نفسه بالنقص عرف ربه بالكمال وقوة السلطان والجلال.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير رحمه الله تعالى: لما بسط في السورتين قبل من حال من حمل التوراة من بني إسرائيل ثم لم يحملها، وحال المنافقين المتظاهرين بالإسلام، وقلوبهم كفرا وعناداً متكاثفة الإظلام، وبين خروج الطائفتين عن سواء السبيل المستقيم، وتنكبهم عن هدى الدين القويم، وأوهم ذكر اتصافهم بمتحد أوصافهم خصوصهم في الكفر بوسم الانفراد وسماً ينبىء عن عظيم ذلك الإبعاد، سوى ما
101
تناول غيرهم من أحزاب الكفار، فأنبأ تعالى عن أن الخلق بجملتهم وإن تشعبت الفرق وافترقت الطرق راجعون بحكم السوابق إلى طريقين فقال تعالى ﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ [التغابن: ٢] وقد أوضحنا الدلائل أن المؤمنين على درجات، وأهل الكفر ذو طبقات، وأهل النفاق أدونهم حالاً وأسوأهم كفراً وضلالاً «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» وافتتحت السورة بالتنزيه لعظيم مرتكب المنافقين في جهلهم ولو لم تنطو سورة المنافقين من عظيم مرتكبهم إلا على ما حكاه تعالى من قولهم ﴿لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقين: ٨] وقد أشار قوله تعالى ﴿يعلم ما في السماوات وما في الأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور﴾ [التغابن: ٤] إلى ما قبله وبعده من الآيات إلى سوء جهل المنافقين وعظيم حرمانهم في قولهم بألسنتهم مما لم تنطو عليه قلوبهم ﴿والله يشهد أن المنافقين لكاذبون﴾ [المنافقين: ١] واتخاذهم أيمانهم جنة وصدهم عن سبيل الله إلى ما وصفهم سبحانه به، فافتتح سبحانه وتعالى سورة التغابن بتنزيهه عما توهموه من مرتكباتهم التي لا تخفى عليه سبحانه ﴿ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم﴾ [التوبة: ٧٨] ثم قال تعالى: ﴿ويعلم ما تسرون وما تعلنون﴾ [التغابن: ٤] فقرع ووبخ في عدة آيات ثم
102
أشار إلى ما منعهم من تأمل الآيات، وصدهم عن اعتبار المعجزات، وأنه الكبر المهلك غيرهم، فقال تعالى مخبراً عن سلفهم في هذا المرتكب، ممن أعقبه ذلك أليم العذاب وسوء المنقلب ﴿ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا﴾ [التغابن: ٦] ثم تناسج الكلام معرفاً بمآلهم الأخروي ومآل غيرهم إلى قوله ﴿وبئس المصير﴾ [التغابن: ١٠] ومناسبة ما بعد يتبين في التفسير بحول الله - انتهى.
ولما كان أعظم الدلائل عليه سبحانه آيات الآفاق ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق﴾ وآيات الأنفس، وقدم الأول علويه وسفليه لوضوحه، أتبعه الثاني دليلاً على عموم قدرته الدال على تمام ملكه بأنه المختص بالاختراع لأعجب الأشياء خلقاً والحمل على المكاره فقال: ﴿هو﴾ أي وحده ﴿الذي خلقكم﴾ أي أنشأكم على ما أنتم عليه بأن قدركم وأوجدكم بالحق على وفق التقدير خلافاً لمن أنكر ذلك من الدهرية وأهل الطبائع.
ولما كان قد تقدم في سورة المنافقين ما أعلم أنهم فريقان، عرف في هذه أن ذلك مسبب عن إبداعه لأن من معهود الملك أن يكون في مملكته الولي والعدو والمؤالف والمخالف والطائع والعاصي والملك ينتقم ويعفو ويعاقب ويثيب ويقدم ويؤخر ويرفع ويضع، ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» أخرجه مسلم والترمذي عن
103
أبي أيوب رضي الله عنه، فقال تعالى مقدماً للعدو إشارة إلى أنه عالم به وقادر عليه، وما كان منه شيئاً إلا بإرادته، وفيه تلويح إلى أنه الأكثر ومع كثرته هو الأضعف، لأن الله تعالى ليس معه بمعونته وإلا لأعدم الصنف الآخر: ﴿فمنكم﴾ أي فتسبب عن خلقه لكم وتقديره لأشباحكم التي تنشأ عنها الأخلاق إن كان منكم بإبداعه لصفاتكم كما أبدع لذواتكم ﴿كافر﴾ أي عريق في صفة الكفر مهلك نفسه بما هيأه لاكتسابه ويسره له بعد ما خلقه في أحسن تقويم على الفطرة الأولى، وفي الحديث أن الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام طبع كافراً فمعنى أن فطرته الأولى خلقت مهيأة للكفر، فإن الأفعال عامة وخاصة، فالخاصة تضاف إلى العبد يقال: صلى وصام وآمن وكفر، والعامة تضاف إلى الله تعالى فيقال: أوجد القدرة على الحركة والسكون وخلق الحركة والسكون، والأفعال الخاصة متعلق الأمر والنهي ﴿ومنكم مؤمن﴾ أي راسخ في الإيمان في حكم الله تعالى في الأزل منج نفسه بالأعمال الصالحة التي طابق بها العلم الأزلي، فهو سبحانه خلق الكافر وخلق كفره فعلاً له، والمؤمن وإيمانه فعلاً له، لأنه خلق القدرة
104
والاختيار وغيب أمر العاقبة، فكل منهما يكتب باختياره بتقدير الله، ولا يوجد من كل منهما إلا ما قدره عليه وأراده منه لأن وجود غير المقدور عجز، وخلاف المراد المعلوم جهل، وقد علم من هذه القسمة علماً قطعياً أن أحد القسمين مبطل ضال مخالف لأمر الملك الذي ثبت ملكه، ومن المعلوم قطعاً أن كل ملك لا بدّ له أن يحكم بين رعيته في الأمر الذي اختلفوا فيه وينصف المظلوم من ظالمه، ومن المشاهد أن بعضهم يموت على كفرانه من غير نقص يلحقه، وبعضهم على إيمانه كذلك، فعلم أن هذه الدار ليست دار الفصل، وأن الدار المعدة له إنما هي بعد الموت والبعث، وهذا مما هو مركوز في الطبائع لا يجهله أحد، ولكن الخلق أعرضوا عنه بما هم فيه من القواطع، فصار مما لا يخطر بإنكارهم، فصار بحيث لا تستقل به عقولهم، ولكنهم إذا ذكروا به وأوضحت لهم هذه القواطع التي أشار سبحانه إليها وجردوا النفس عن الحظوظ والمرور مع الألف عدوه كلهم من الضروريات، وعلم ن تسبيبه تقسيمهم هذا عن تقديره وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره.
ولما كان التقدير: فالذي أبدعكم وحملكم على ذلك وفاوت بينكم
105
على كل شيء قدير، عطف عليه قوله تعالى: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بفعله ذلك، وقدم الجار لا للتخصيص بل إشارة إلى مزيد الأعتناء كما تقول لمن سألك: هل تعرف كذا، وظهر منه التوقف في علمك له: نعم أعرفه ولا أعرف غيره، فقال: ﴿بما تعملون *﴾ أي توقعون عمله كسباً ﴿بصير *﴾ أي بالغ العلم بذلك، فهو الذي خلق جميع أعمالكم التي نسب كسبها إليكم، وهو خالق جميع الاستعدادات والصفات كما خلق الذوات خلافاً للقدرية لأنه لا يتصور أن يخلق الخالق ما لا يعلمه، ولو سئل الإنسان كم مشى في يومه من خطوة لم يدر، فيكف لو سئل أين موضع مشيه ومتى زمانه فكيف وإنه ليمشي أكثر مشيه وهو غافل عنه، ومن جهل أفعاله كماً وكيفاً وأيناً وغير ذلك لم يكن خالقاً لها بوجه.
ولما ذكر المظروف ذكر ظرفه دالاً على تمام إحاطته بالبواطن، والظواهر بأنه يخلق الشيء العظيم جداً فيأتي على وفق الإرادة ثم لا يحتاج إلى أن يزاد فيه ولا أن ينقص منه فقال: ﴿خلق السماوات﴾ التي هي السقف لبيت عبيد الملك على كبرها وعلوها كطا ترون ﴿والأرض﴾ التي هي قرار بيتهم ومهاده على سعتها وما فيها من المرافق والمعاون ﴿بالحق﴾ أي بالأمر الذي يطابقه الواقع فلا زائداً عنه ولا ناقصاً بل جاء الواقع منها مطابقاً لما أراد سواء لا كما يريد أحدنا الشيء فإذا
106
أوجده لم يكن على وفق مراده سواء، وبسبب إظهار الأمر الثابت وإبطال الباطل فهو خالق المسكنين: الدنيوي والأخروي، خلافاً لمن لا يقول بذلك من صابىء وفلسفي وغيرهم.
ولما كان أهل الطبائع يقولون: إن الأفلاك لها تأثير بحسب الذات والطبع، قال نافياً لذلك مذكراً بنعمته لتشكر: ﴿وصوركم﴾ أي أيها المخاطبون على صور لا توافق شيئاً من صور العلويات ولا السفليات ولا فيها صورة توافق الأخرى من كل وجه ﴿فأحسن صوركم﴾ فجعلها أحسن صور الحيوانات كلها كما هو مشاهد في الدنيا وكذا في الآخرة خلافاً لأهل التناسخ مع أن وضعها في نفسها أحسن الأوضاع، لو غير شيء منها عن مكانه إلى شيء مما نعلمه فحصلت البشاعة به مع تفضيل الآدمي بتزيينه بصفوة أوصاف الكائنات وجعل سبحانه أعضاء متصرفة بكل ما يتصرف به أعضاء سائر الحيوان مع زيادات اختص بها الآدمي إلى حسن الوجه وجمال الجوارح، فهو أحسن بالنسبة إلى النوع من حيث هو هو، وبالنسبة إلى الأفراد في نفس الأمر وإن كان بعضها أحسن من بعض، فقبح القبيح منه إنما هو بالنسبة إلى أحسن منه، ولذا قال الحكماء، شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان، فخلق الانسان في أحسن تقويم لا ينفي أن يكون
107
للنوع الذي جعل أحسن أفراد أنواع لما فوقه من الجنس، لا نهاية لأحسنية بعضها بالنسبة إلى بعض يشاهد ما وجد من أفراد نوعه من الذوات فقدرة الله لا تتناهى، فإياك أن تصغي لما وقع في كتب الإمام الغزالي أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإن كان قد علم أنه اعترض عليه في ذلك وأجاب عنه في الكتاب الذي أجاب فيه عن أشياء اعترض عليه فيها فإنه لا عبرة بذلك الجواب أيضاً، فإن ذلك ينحل إلى أنه سبحانه وتعالى لا يقدر على أن يخلق أحسن من هذا العالم، وهذا لا يقوله أحد، وهو لا ينقص مقدار الغزالي فإن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، وعزاه الغزالي بنفسه إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: صنفت هذه الكتاب وما ألوت فيها جهداً وإني لأعلم أن فيها الخطأ لأن الله تعالى يقول:
﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ [النساء: ٨٢].
ولما كان التقدير: فكان منه سبحانه المبدأ، عطف عليه قوله: ﴿وإليه﴾ أي وحده ﴿المصير *﴾ أي بعد البعث بعين القدرة التي قدر بها على البدأة فمن كان على الفطرة الأولى لم يغيرها أدخله الجنة، ومن كان قد أفسدها فجعل روحه نفساً بما طبعها به من حيث جسده أدخله
108
النار، وفي الدنيا أيضاً بانفراده بالتدبير، فلا يكون من الملك والسوقة إلا ما يريد، لا ما يريد ذلك المريد الفاعل.
109
ولما تقرر بما مضى إحاطة قدرته بما دل على ذلك من إبداعه للخلق على هذا الوجه المحكم وشهد البرهان القاطع بأن ذلك صنعه وحده، لا فعل فيه لطبيعة ولا غيرها، دل على أن ذلك بسبب شمول علمه إشارة إلى أن من لم يكن تام العلم فهو ناقص القدرة فقال: ﴿يعلم﴾ أي علمه حاصل في الماضي والحال والمآل يتعلق بالمعلومات على حسب تعليق قدرته على وفق إرادته بوجدانها ﴿ما﴾ أي الذي أو كل شيء ﴿في السماوات﴾ كلها.
ولما كان الكلام بعد قيام الدليل القطعي البديهي على جميع أصول الدين مع الخلص لأن بداهة الأدلة قادتهم إلى الاعتقاد أو إلى حال صاروا فيه أهلاً للاعتقاد، والتحلي بحلية أهل السداد، ولم يؤكد بإعادة الموصول بل قال: ﴿والأرض﴾ ولما ذكر حال الظرف على وجه يشمل المظروف، وكان الاطلاع على أحوال العقلاء أصعب، قال مؤكداً بإعادة العامل: ﴿ويعلم﴾ أي على سبيل الاستمرار ﴿ما تسرون﴾
109
أي حال الانفراد وحال الخصوصية مع بعض الإفراد. ولما كانت لدقتها وانتشارها بحيث ينكر بعض الضعفاء الإحاطة بها، وكان الإعلان ربما خفي لكثرة لغط واختلاط أصوات ونحو ذلك أكد فقال: ﴿وما تعلنون﴾ من الكليات والجزيئات خلافاً لمن يقول: يعلم الكليات الكليات فقط ولا يعلم الجزئيات إلا بعد وجودها، من فلسفي وغيره، ولمن يقول: يعلم الكليات خاصة. ولما ذكر حال المظروف على وجه يشمل ظروفه وهي الصدور، وكان أمرها أعجب من أمر غيرها، قال مصرحاً بها إشارة إلى دقة أمرها مظهراً موضع الإضمار تعظيماً: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة لكل كمال ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم ﴿بذات﴾ أي صاحبة ﴿الصدور *﴾ من الأسرار والخواطر التي لم تبرز إلى الخارج سواء كان صاحب الصدر قد علمها أو لا، وعلمه لكل ذلك على حد سواء لا تفاوت فيه بين علم الخفي وعلم الجلي، لأن نسبة المقتضي لعلمه وهو وجود ذاته على ما هي عليه من صفات الكمال إلى الكل على حد سواء، فراقبوه في الإخلاص وغيره مراقبة من يعلم أنه بعينه لا يغيب عنه واحذروا أن يخالف السر العلانية، فإن حقه أن يتقي ويحذر، وتكرير العلم في معنى
110
تكرير الوعيد وتقديم تقرير القدرة على تقريره لأن دلالة المخلوقات على قدرته أولاً وبالذات، وكمال قدرته يستلزم كمال علمه لأن من لا يكمل علمه لا تتم قدرته، فلا يأتي مصنوعه محكماً.
ولما تقرر الإيمان به من أنه الملك الذي له وحده الملك، وأشار بما يشاهد من انقسام عبيده إلى مؤمن وكافر إلى أنه لا من الأخذ على يد الظالم منهما كما هي عادة الملوك، لا يسوغ في الحكمة ولا في العادة غير ذلك، وأخبر أن علمه محيط لنسبته إلى العلويات والسفليات والظواهر والبواطن على حد سواء، أتبع ذلك وجوب الإيمان برسله لجمع الكلمة عليه سبحانه لنكمل الحياة بإصلاح ذات البين لئلا يقع الخلاف فتفسد الحياة ووجوب الاعتبار لمن مضى من أممهم، فمن لم يعتبر عثر على مهواه من الأمل، ودل عليه بإهلاكه من خالفهم إهلاكاً منسقاً في خرقه للعادة وخصوصه لهم على وجه مقرر ما مضى من انفراده بالملك معلم أن الكفرة هم المبطلون فقال: ﴿ألم يأتكم﴾ أي أيها الناس ولا سيما الكفار لتعلموا أنه شامل العلم محيط القدرة ينتقم من المسيء ﴿نبؤا الذين﴾ وعبر بما يشمل شديد الكفر وضعيفه فقال: ﴿كفروا﴾ أي خبرهم العظيم.
ولما كان المهلكون على ذلك الوجه بعض الكفار وهم الذين أرسل إليهم الرسل، فلم يستغرقوا ما مضى من الزمان قال: ﴿من قبل﴾
111
كالقرون المذكورين في الأعراف، ثم سبب عن كفرهم وعقب قوله: ﴿فذاقوا﴾ أي باشروا مباشرة الذائق بالعدل الثاني كما كان حكم عليهم بالعدل الأول بالتقسيم إلى كافر ومؤمن ﴿وبال أمرهم﴾ أي شدة ما كانوا فيه مما يستحق أن يشاور فيه ويؤمر وينهى وثقله ووخامة مرعاه في الدنيا، وأصله الثقل كيفما قلب ﴿ولهم﴾ أي مع ما ذاقوه بسببه في الدنيا ﴿عذاب أليم *﴾ في البرزخ ثم القيامة التي هي موضع الفصل الأعظم.
112
ولما ذكر ما أحله بهم سبحانه وأشار إلى القطع بأنه من عنده باتساقه في خرقه العوائد بالاستئصال والخصوص لمن كذب الرسل والتنجية لمن صدقهم، علله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر الشنيع العظيم من الوبال الدال قطعاً على أن الكفر أبطل الباطل وأنه مما يغضب الخالق. ولما لم يكن مقصودها كمقصود غافر من تصنيف الناس صنفين، وإنما حصل تصنيفهم هنا بالعرض للدلالة على الساعة اكتفى بضمير الشأن فقال: ﴿بأنه﴾ أي بسبب أن الشأن العظيم البالغ في الفظاعة ﴿كانت تأتيهم﴾ على عادة مستمرة ﴿رسلهم﴾ أي رسل الله الذين أرسلهم إليهم وخصهم بهم ليكونوا موضع سرورهم بهم ﴿بالبينات﴾ أي الأمور التي توضح غاية الإيضاح أنهم رسل الله من الكتب وغيرها، فشهدوا الأمر من معدنه، فلذلك كان عذابهم أشد.
112
ولما كان سبحانه وتعالى قد أودع الإنسان من جملة ما منحه به خاصة لطيفة وهي العزة وحب الكبر والعلو، فمن وضعها موضعها بالتكبر على من أمر الله بالتكبر عليه وهم شياطين الإنس والجن ممن عصاه سبحانه نجا، ومن وضعها في غير موضعها بالتكبر على أولياء الله رب العزة هلك، بين تعالى أن الكفار وضعوها في غير موضعها: ﴿فقالوا﴾ أي الكل لرسلهم منكرين غاية الإنكار تكبراً: ﴿أبشر﴾ أي هذا الجنس وهو مرفوع على الفاعلية لأن الاستفهام يطلب الفعل، ولما كان تكذيب الجمع أعظم، وكان لو أفرد الضمير لم يكن له روعة الجمع قال: ﴿يهدوننا﴾ فأنكروا على الملك الأعظم إرساله لهم ﴿فكفروا﴾ بذلك عقب مجيء الرسل وبسببه من غير نظر وتفكر وأدنى تأمل وتبصر حسداً للرسل لكونهم مساوين لهم في البشرية فاستبعدوا أن يخصوا من بينهم بأمر ولا سيما إن كان عظيماً جداً، فلزمهم ارتكاب أقبح الأمور وهو استبعاد أن يكون النبي بشراً مع الإقرار بأن يكون الإله حجراً ﴿وتولوا﴾ أي كلفوا أنفسهم خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن الرسل بعد إنكار رسالتهم لشبهة قامت عندهم، وذلك أنهم قالوا: إن الله عظيم لا يشبه البشر فينبغي أن يكون رسله من غير البشر، ولو تأملوا حق التأمل لعلموا أن هذا
113
هكذا، وأن الرسل إنما هي ملائكة، لكن لما كان لا يقوى جميع البشر على رؤية الملائكة كما هو مقتضى العظمة التي توهموها ولم يثبتوها على وجهها، خص سبحانه من البشر ناساً وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوى زائدة طوقهم بها على معالجتهم، فأتوا إليهم ليكونوا واسطة بين الله وبين خلقه لأن بعض الجنس أميل إلى بعض وأقبل.
ولما كان هذا كله إنما هو لمصالح الخلق لا يعود على الله سبحانه وتعالى وعز شأنه نفع من وجوده ولا يلحقه ضرر من عدمه ولا بالعكس، نبه على ذلك بقوله ﴿واستغنى الله﴾ أي فعل الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه فعل من يطلب الغنى عنهم وأوجده إيجاداً عظيماً ممن هداه لاتباع الرسل فأعرض عنهم حين أعرضوا عن رسله فضرهم إعراضه عنهم ولم يضره إعراضهم وما ضروا إلا أنفسهم وأطلق الاستغناء ليعم كل شيء.
ولما كان التعبير بذلك قد يوهم حدوث ما لم يكن له، نفى ذلك بقوله مظهراً زيادة في العظمة: ﴿والله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال من غير تقيد بحيثية ﴿غني﴾ عن الخلق جميعاً ﴿حميد *﴾ له صفة الغنى المطلق والحمد الأبلغ الذي هو الإحاطة بجميع أوصاف الكمال
114
على الدوام أزلاً وأبداً، لم يتجدد له شيء لم يكن.
ولما قرر وجوب الإيمان به وبرسله وكتبه وبالقدر خيره وشره، وقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وأخبر أن الكافر تكبر عن الرسل، عين الموجب الأعظم لكفرهم بقوله دالاً على وجوب الإيمان بالعبث وترك القياس والرأي فإن عقل الإنسان لا يستقل ببعض أمور الإلهية، معبراً بما أكثر إطلاقه على ما يشك فيه ويطلق على الباطل إشارة إلى أنهم شاكون وإن كانوا جازمين، لكونهم لا دليل لهم، وإلى أنهم في نفس الأمر مبطلون: ﴿زعم﴾ قال ابن عمر رضي الله عنهما: هي كنية الكذب، وفي حديث أبي مسعود رضي الله عنه عند أبي داود: «بئس مطية الرجل زعموا» ﴿الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الستر لما دلت عليه العقول من وحدانية الله تعالى ولو على أدنى الوجوه.
ولما كان الزعم ادعاء العلم وكان مما يتعدى إلى مفعولين، أقام سبحانه مقامهما قوله: ﴿أن لن يبعثوا﴾ أي من باعث ما بوجه من الوجوه. ولما كان قد أشار سبحانه بنوعي المؤمن والكافر إلى الدليل القطعي الضروري على وجود المبطل اللازم منه ودعه اللازم منه وجب البعث، اكتفى في الأمر بإجابتهم بقوله: ﴿قل﴾ أي لهم: ﴿بلى﴾ أي لتبعثن، ثم أكده بصريح القسم فقال: ﴿وربى﴾ أي المحسن إليّ
115
بالانتقام ممن كذب بي، وبإحقاق كل حق أميت، وإبطال كل باطل أقيم ﴿لتبعثن﴾ مشيراً ببنائه للمفعول إلى أنه ويكون على وجه القهر لهم بأهون شيء وأيسر أمر وكذلك قوله: ﴿ثم لتنبؤن﴾ أي لتخبرن حتماً إخباراً عظيماً ممن يقيمه الله لإخباركم ﴿بما عملتم﴾ للدينونة عليه. وشرح بعض ما أفاده بناء الفعلين للمجهول بقوله: ﴿وذلك﴾ أي الأمر العظيم عندكم من البعث والحساب ﴿على الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال وحده ﴿يسير *﴾ لقبول المادة وحصول القدرة، وكون قدرته سبحانه كذلك شأنها، نسبة الأشياء الممكنة كلها جليلها وحقيرها إليها على حد سواء.
116
ولما كان في رد قولهم على هذا الوجه مع الإقسام من غير استدلال إشارة إلى تأمل الكلام السابق بما اشتمل عليه من الأدلة التي منها ذلك البرهان البديهي، سبب عنه قوله فذلكة لما مضى من الأدلة وجمعاً لحديث جبريل عليه الصلاة والسلام في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره والإسلام والإحسان: ﴿فآمنوا بالله﴾ أي الذي لا أظهر من أن له الإحاطة الكاملة بكل شيء وأنه لا كفؤ له ولا راد لأمره. ولما دعاه هذا إلى الإيمان به سبحانه عقلاً ونقلاً ذكراً وفكراً، ثنى بالإيمان بالرسل من الملائكة والبشر فقال: ﴿ورسوله﴾ أي كل من أرسله ولا سيما محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
116
بما ثبت من تصديقه بالمعجزات من أنه رسوله، ويلزم من الإيمان به الإيمان بمن أبلغه من الملائكة. ولما كانت تلك المعجزات موجبات للعلم كانت أحق الأشياء باسم التور فإن النور هو المظهر للأشياء بعد انحجابها برداء الظلام وكان أعظم تلك المعجزات وأحقها بذلك كتب الله المنزلة على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، وأعظمها القرآن الذي هو مع إعجازه بيان لكل شيء، قال: ﴿والنور﴾ وعينه بقوله: ﴿الذي أنزلنا﴾ أي بما لنا من العظمة فكان معجزاً فكان بإعجازه ظاهراً بنفسه مظهراً لغيره، وهذا وإن كان هو الواقع لكن ذكر هذا الوصف صالح لشمول كل ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن المعلوم أن أعظمه القرآن المنزل على أشرف رسله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين، فهو أحق ذلك باسم النور لما مضى من إعجازه، فمن آمن به أدخل الله قلبه من أنوار الفهوم والألطاف والسكينة ما يضيء الأقطار.
ولما كان التقدير: والله محاسبكم على ما قابلتم به إنعامه عليكم بذلك من إيمان وكفران، عطف عليه مرغباً مرهباً قوله: ﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة، وقدم الجار لما تقدم غير مرة من مزيد التأكيد فقال: ﴿بما تعملون﴾ أي توقعون عمله في وقت من الأوقات
117
﴿خبير *﴾ أي بالغ العلم بباطنه وظاهره.
ولما أخبر بالبعث وأقسم عليه، وأشار إلى دليلة السابق، وسبب عنه ما ينجي في يومه، ذكر يومه وما يكون فيه ليحذر فقال متبعاً ما مضى من دعائم الإيمان دعامة اليوم الآخر واعظاً لمن يقول: يا ليت شعري ما حالي بعد ترحالي؟ وقامعاً لمن يقول: لا حال بعد الترحال، بالإعلام بأنها أحوال أي أحوال، تشيب الأطفال، وتقصم ظهور الرجال، بل تهد شم الجبال: ﴿يوم﴾ أي تبعثون في يوم ﴿يجمعكم﴾ أي أيها الثقلان. ولما كان الوقت المؤرخ به فعل من الأفعال إنما يذكر لأجل ما وقع فيه، صار كأنه علة لذلك الفعل فقال تعالى: ﴿ليوم الجمع﴾ لأجل ما يقع في ذلك اليوم الذي يجمع فيه أهل السماوات وأهل الأرض من الحساب والجزاء الذي يكون فوزاً لناس فيكونون غابنين، ويكون خيبة لناس فيكونون مغبونين، وكل منهم يطلب أن يكون غابناً.
ولما كان هذا المقصد أمراً عظيماً مقطعاً ذكره الأكباد، قال تعالى مشيراً إلى هوله بأداة البعد مستأنفاً: ﴿ذلك﴾ أي اليوم العظيم المكانة الجليل الأوصاف ﴿يوم التغابن﴾ الذي لا تغابن في الحقيقة غيره لعظمه ودوامه، والغبن: ظهور النقصان للحظ الناشىء عن خفاء لأنه يجمع
118
فيه الأولون والآخرون وسائر الخلق أجمعون، ويكون فيه السمع والإبصار على غاية لا توصف بحيث إن جميع ما يقع فيه يمكن أن يطلع عليه كل أحد من أهل ذلك الجمع، فإذا فضح أحد افتضح عند الكل، وما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده نم النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة فيغبن كل كافر بتركه الإيمان وكل مؤمن بتقصيره في الإحسان، ومادة «غبن» تدور على الخفاء من مغابن الجسد وهي ما يخفى عن العين، وسمي الغبن في البيع - لخفائه عن صاحبه، فالكافر والظالم يظن أنه غبن المؤمن بنعيم الدنيا الذي استأثر به الكافر، وبالنقص الذي أدخله الظالم على المظلوم، وقد غبنهما المؤمن والمظلوم على الحقيقة بنعيم الآخرة وكمال جزائها العظيم الدائم، فالغبن فيه لا يشبهه غبن، فقد بعث ذكر هذا اليوم على هذا الوجه على التقوى أتم بعث، وهي الحاملة على اتباع الأوامر واجتناب النواهي لئلا يحصل الغبن بفوات النعيم أو نقصانه، ويحصل بعده للكافر العذاب الأليم.
ولما كان كل أحد يحسب أن يكون في النور، ويكره أن يكون في الظلام، ويحب أن يكون غابناً، ويكره أن يكون مغبوناً، أرشدت
119
سوابق الكلام ولواحقه إلى أن التقدير، فمن آمن كان في النور، وكان في ذلك اليوم برجحان ميزانه من الغابنين، ومن كفر كان في الظلام، وكان في ذلك اليوم بنقصان ميزانه من المغبونين، فعطف عليه قوله بياناً لآثار ذلك الغبن، وتفضيلاً له بإصلاح الحامل على التقوى وهو أمور منها القوة العلمية: ﴿ومن يؤمن﴾ أي يوقع الإيمان ويجدده على سبيل الاستمرار ﴿بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفؤ له. ولما ذكر الرأس وهو إصلاح القوة العلمية، أتبعه البدن وهو إصلاح القوة العملية فقال: ﴿ويعمل﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿صالحاً﴾ أي عملاً هو مما ينبغي الاهتمام بتحصيله لأنه لا مثل له في جلب المنافع ودفع المضار.
ولما كان الدين مع سهولته متيناً لن يشاده أحد إلا غلبه، قال حاملاً على التقوى بالوعد بدفع المضار، ولعله أفرد الضمير إشارة إلى أن زمان التكفير والدخول متفاوت بحسب طول الحساب وقصره، كلما فرغ واحد من الحساب دخل الجنة إن كان من أهلها: ﴿يكفر﴾ أي الله - على قراءة الجماعة بأن يستر ستراً عظيماً ﴿عنه سيئاته﴾ التي غلبه عليها نقصان الطبع، وأتبع ذلك الحامل الآخر وهو الترجئة يجلب المسار لأن الإنسان يطير إلى ربه سبحانه بجناحي الخوف والرجاء
120
والرهبة والرغبة والنذارة والبشارة فقال: ﴿ويدخله﴾ أي رحمة له وإكراماً وفضلاً ﴿جنّات﴾ أي بساتين ذات أشجار عظيمة وأغصان ظليلة تستر داخلها، ورياض مديدة منوعة الأزاهير عطرة النشر تبهج رائيها، وأشار إلى دوام ريها بقوله: ﴿تجري﴾ ولما كان عموم الماء لجميع الأرض غير ممدوح، بين أنه في خلالها على أحسن الأحوال فقال: ﴿من تحتها﴾ وبين عظمه بقوله: ﴿الأنهار﴾ ولما كان النزوح أو توقعه عن مثل هذا محزناً، أزال توقع ذلك بقوله جامعاً لئلا يظن الخلود لواحد بعينه تصريحاً بأن من معناها الجمع وأن كل من تناولته مستوون في الخلود: ﴿خالدين فيها﴾ وأكد بقوله: ﴿أبداً﴾ والتقدير على قراءة نافع وابن عامر بالنون: نفعل التكفير والإدخال إلى هذا النعيم بما لنا من العظمة فإنه لا يقدر على إسعاد من شاء وإشقاء من شاء إلا الله سبحانه، ولا تكون هذه القدرة تامة إلا لمن كان عظيماً لا راد لأمره أصلاً.
ولما كان هذا أمراً باهراً جالباً بنعيمه سرور القلب، أشار إلى عظمته بما يجلب سرور القلب بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي جداً من الغفران والإكرام، لا غيره ﴿الفوز العظيم *﴾ لأنه جامع لجميع
121
المصالح مع دفع المضار وجلب المسار.
ولما ذكر الفائز بلزومه التقوى ترغيباً، أتبعه الخائب بسبب إفساد القوتين الحاملتين على التقوى: العلمية والعملية ترهيباً، فقال بادئاً بالعلمية: ﴿والذين كفروا﴾ أي غطوا أدلة ذلك اليوم فكانوا في الظلام. ولما ذكر إفسادهم القوة العلمية، أتبعه العملية فقال: ﴿وكذبوا﴾ أي أوقعوا جميع التغطية وجميع التكذيب ﴿بآياتنا﴾ بسببها مع ما لها من العظمة بإضافتها إلينا، فلم يعملوا شيئاً.
ولما بين إفسادهم للقوتين، توعدهم بالمضار فقال معرياً من الفاء في جانبي الأشقياء والسعداء طرحاً للأسباب، لأن نظر هذه السورة إلى الجبلات التي لا مدخل فيها لغيره أكثر بقوله: ﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ [التغابن: ٢] فإن ذلك أجدر بالخوف منه ليكون أجدر بالبعد عما يدل على الجبلة الفاسدة من الأعمال السيئة: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿أصحاب النار﴾ ولما كان السجن إذا رجي الخلاص منه قلل من خوف داخله، وكان التعبير بالصحبة مشعراً بالدوام المقطع للقلوب لأنه مؤيس من الخلاص، أكده بقوله: ﴿خالدين فيها﴾ وزاد في
122
الإرهاب منها بقوله مشيراً إلى مضار القلب بعد ذكر مضار القالب: ﴿وبئس المصير *﴾ أي جمعت المذام كلها الصيرورة إليها وبقعتها التي للصيرورة إليها، فكيف بكونها على وجه الإقامة زمناً طويلاً فكيف إذا كان على وجه الخلود.
123
ولما كان من تعرفه من المرغبين والمرهبين لا يفعل ذلك إلا فيما ليس قادراً على حفظه وضبطه حتى لا يحتاج العامل في عمل ذلك إلى رقيب يحفظه ووكيل يلزمه ذلك العمل ويضبطه، وكان قول المنافقين المتقدم في الإنفاق والإخراج من المصائب، وكانت المصائب تطيب إذا كانت من الحبيب، قال جواباً لمن يتوهم عدم القدرة متمماً ما مضى من خلال الأعمال بالإيمان بالقدر خيره وشره، مرغباً في التسليم مرهباً من الجزع قاصراً الفعل ليعم كل مفعول: ﴿ما أصاب﴾ أي أحداً يمكن المصائب أن تتوجه إليه، وذكر الفعل إشارة إلى القوة، وأعرق في النفي بقوله: ﴿من مصيبة﴾ أيّ مصيبة كانت دينية أو دنيوية من كفر أو غيره ﴿إلا بإذن الله﴾ أي بتقدير الملك الأعظم وتمكينه، فلا ينبغي لمؤمن أن يعوقه شيء من ذلك عن التقوى النافعة في يوم التغابن.
ولما تسبب عن ذلك ما تقديره: فمن يكفر بالله بتقديره عليه
123
الكفر يغو قلبه ويزده ضلالاً فيفعل ما يتوغل به في المصيبة حتى تصير مصائب عدة فتهلكه، عطف عليه قوله باعثاً على أول ركني الإسلام وهو إصلاح القوة العلمية: ﴿ومن يؤمن بالله﴾ أي يوجد الإيمان في وقت من الأوقات ويجدده بشهادة إن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بسبب الملك الأعظم وتقديره وإذنه ﴿يهد قلبه﴾ أي يزده هداية بما يجدده له من التوفيق في كل وقت حتى يرسخ إيمانه فتنزاح عنه كل مصيبة، فإنه يتذكر أنها من الله وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه فيسلم بقضائه فيصبر له ويفعل ويقول ما أمر الله به ورسوله فيخف عليه، ولا يعوقه عن شيء من المنجيات في يوم التغابن، بل يحصل له بسببها عدة أرباح وفوائد، فتكون حياته طيبة بالعافية الشاملة في الدينيات والكونيات لأن بالعافية في الكونيات تطيب الحياة في الدنيا، وبالعافية في الدينيات تطيب الحياة في الآخرة فتكون العيشة راضية، وذلك بأن يصير عمله صواباً في سرائه وضرائه فيترك كل فاحشة دينية بدنية وباطنة قلبية ويترك الهلع في المصائب الكونية كالخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات
124
وذلك لأنه بصلاح القلب ينصلح البدن كله.
ولما كان التقدير تعليلاً لذلك: فالله على كل شيء قدير فهو لا يدع شيئاً يكون إلا بإذنه، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الذي لا نظير له ﴿بكل شيء﴾ مطلقاً من غير مثنوية ﴿عليم *﴾ فإذا تحقق من هدى قلبه ذلك زاح كل اعتقاد باطل من كفر أو بدعة أو صفة خبيثة. ولما كان التقدير: فاصبروا عن هجوم المصائب، عطف عليه قوله تحذيراً من أن يشتغل بها فتوقع في الهلاك وتقطع عن أسباب النجاة دالاً على تعلم أمور الدين من معاداتها مشيراً إلى أن العبادة لا تقبل إلا بالاتباع لا بالابتداع: ﴿وأطيعوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله فافعلوا في كل مصيبة ونائبة تنوبكم وقضية تعروكم ما شرعه لكم، وأكد بإعادة العامل إشارة إلى أن الوقوف عند الحدود ولا سيما عند المصائب في غاية الصعوبة فقال: ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه المعصوم بما خلق فيه من الاعتدال وما زكى به من شق البطن وغسل القلب مراراً، وما أيد به من الوحي، فما كانت الأفعال بإشارة العقل مع الطاعة لله والمتابعة لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل إقدام وإحجام كانت معتدلة، سواء كانت شهوانية أو غضبية، ومتى لم تكن كذلك
125
كانت منحرفة إلى أعلى وإلى أسفل فكانت مذمومة، فإن الله تعالى بلطف تدبيره ركب في الإنسان قوة غضبية دافعة لما يهلكه ويؤذيه، وقوة شهوانية جالبة لما ينميه ويقويه، فاعتدال الغضبية شجاعة ونقصها جبن وزيادتها تهور، فالناس باعتبارها جبان وشجاع ومتهور، واعتدال الشهوانية عفة ونقصانها زهادة وزيادتها شره، والناس باعتبارها زهيد وعفيف وشره، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، وميزان العدل متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما شرعه، فبذلك تنزاح الفتن الظاهرة والباطنة، ولا طريق إلى الله إلا بما شرعه، وكل طريق لم يشرعه ضلال من الكفر إلى ما دونه، ثم سبب عن أمره ذلك قوله معبراً بإداة الشك إشارة إلى البشارة بحفظ هذه الأمة من الردة ومشعراً بأن بعضهم يقع منه ذلك ثم يقرب رجوعه أو هلاكه: ﴿فإن توليتم﴾ أي كلفتم أنفسكم عندما تدعو إليه الفطرة الأولى من الإعراض عن هذا النور الأعظم والميل إلى طرف من الأطراف المفهومة من طرفي القصد فما على رسولنا شيء من توليكم ﴿فإنما على رسولنا﴾ أضافه إليه على وجه العظمة تعظيماً له وتهديداً لمن يتولى عنه ﴿البلاغ المبين *﴾
126
أي الظاهر في نفسه المظهر لكل أحد أنه أوضح له غاية الإيضاع ولم يدع لبساً، ليس إليه خلق الهداية في القلوب.
ولما كان هذا موجعاً لإشعاره بإعراضهم مع عدم الحيلة في ردهم، عرف بأن ذلك إنما هو إليه وأنه القادر عليه فقال جواباً لمن كأنه قال: فما الحيلة في أمرهم - مكملاً لقسمي الدين بالاستعانة بعد بيان قسمه الآخر وهو العبادة: ﴿الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال ﴿لا إله إلا هو﴾ فهو القادر على الإقبال بهم ولا يقدر على ذلك غيره، فإليه اللجاء في كل دفع ونفع وهو المستعان في كل شأن فإياه فليرج في هدايتهم المهتدون ﴿وعلى الله﴾ أي الذي له الأمر كله لا على غيره. ولما كان مطلق الإيمان هو التصديق بالله باعتقاد أنه القادر على كل شيء فلا أمر لأحد معه ولا كفوء له فكيف بالرسوخ فيه، نبه على هذا المقتضي للربط بالفاء والتأكيد بلام الأمر في قوله: ﴿فليتوكل المؤمنون *﴾ أي يوجد التوكيل إيجاداً هو في غاية الظهور والثبات العريقون في هذا الوصف في رد المتولي منهم إن حصل منهم تول وكذا في كل مفقود فالعفة ليست مختصة بالموجود فكما أن قانون العدل في الموجود الطاعة فقانون العدل في المفقود التوكل وكذا فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فكان لهم الحظ الأوفر في كل
127
توكل لا سيما حين ارتدت العرب بعد موت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أحقهم بهذا الوصف الصديق رضي الله تعالى عنه كما يعرف ذلك من ينظر الكتب المصنفة في السير وأخبار الردة لا سيما كتابي المسمى في أخبار الردة.
ولما كانت أوامر الدين تارة تكون باعتبار الأمر الديني من سائر الطاعات المحضة، وتارة باعتبار الأمر التكويني وهو ما كان بواسطة مال أو أهل أو ولد، أتم سبحانه القسم الأول في الآيتين الماضيتين، شرع في الأمر الثاني لأنه قد ينشأ عنه فتنة في الدين وقد ينشأ عنه فتة في الدنيا، ولما كانت الفتنة بالإقبال عليه والإعراض عنه أعظم الفتن، لأنها تفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وابنه وتذهل الخليل عن خليله - كما شوهد ذلك في بدء الإسلام، وكان أعظم ذلك في الردة، وكان قد تقدم النهي عن إلهاء الأموال والأولاد، وكان النهي عن ذلك في الأولاد نهياً عنه في الأزواج بطريق الأولى، فلذلك اقتصر عليهم دون الأزواج، وكان المأمور بالتوكل ربما رأى أن تسليم قياده لكل أحد لا يقدح في التوكل، أشار إلى أن بناء هذه الدار على الأسباب مانع من ذلك فأمر بنحو «اعقلها وتوكل» «واحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز» الحديث، فقال جواباً عن ذلك لمن يحتاج إلى السؤال عن مثله مبيناً للأوامر بالاعتبار للامتحان التكويني وإن كان أولى الناس ببذل الجهد في تأديبه وتقويمه وتهذيبه أقرب الأقارب وألصق الناس بالإنسان
128
وهو كالعلة لآخر «المنافقون» :﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ ولما كان الأزواج أقرب عداوة من الأولاد قدمهن، فقال مؤكداً لمن يستبعد ذلك: ﴿إن من أزواجكم﴾ وإن أظهرن غاية المودة ﴿وأولادكم﴾ وإن أظهروا أيضاً غاية الشفقة والحنان ﴿عدواً لكم﴾ أي لشغلهم لكم عن الدين أو لغير ذلك من جمع المال وتحصيل الجاه لأجلهم والتهاون بالنهي عن المنكر فإن الولد مجبنة وغير ذلك، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبإذهاب ماله - كما هو معروف - وعرضه، وأما في الآخرة فيما يسعى في اكتسابه من الحرام لأجلهم وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
فالرجل من رأى ذلك نعمة من الله فجعله معيناً له على طاعته لا قاطعاً ومعوقاً عما يرضيه بأن يلتهي بمحبته وعداوته وبغضته. ولما أخبر عن العداوة، عبر بما قد يفهم الواحد فقط تخفيفاً، ولما أمر بالحذر جمع إشارة إلى زيادة التحذير والخوف في كل أحد ولو كان أقرب الأقرباء لأن الحزم سوء الظن كما رواه الطبراني في الأوسط، فسبب عن الإخبار بالعداوة الأمر بالحذر في قوله: ﴿فاحذروهم﴾ أي بأن تتقوا الله في كل أمرهم فتطلبوا في
129
السعي عليهم الكفاف من حله وتقتصروا عليه، ولا يحملنكم حبهم على غير ذلك، وليشتد حذركم منهم بالعمل بما أمر الله حتى في العدل بينهم لئلا يتمكنوا من أذاكم فيعظم بهم الخطب ويكون فاتناً لكم في الدين إما بالردة - والعياذ بالله تعالى - أو بالشغل عن الطاعة أو بالإقحام في المعصية ومخالفة السنة والجماعة.
ولما كان قد يقع ما يؤذي مع الحذر لأنه لا يغني من قدر أو مع الاستسلام، وكان وكل المؤذي إلى الله أولى وأعظم في الاستنصار، قال مرشداً إلى ذلك: ﴿وإن تعفوا﴾ أي توقعوا المجاوزة عن ذنوبهم بعدم العقاب عليها فإنه لا فائدة في ذلك لأن من طبع على شيء لا يرجع، وإنما النافع الحذر الذي أرشد إليه سبحانه لئلا يكون سبباً للو المنهي عنه.
ولما كان الرجوع عن الحظوظ صعباً جداً، أكد سبحانه فقال: ﴿وتصفحوا﴾ أي بالإعراض عن المقابلة بالتثريب باللسان ﴿وتغفروا﴾ أي بأن تستروا ذنوبهم ستراً تاماً شاملاً للعين والأثر بالتجاوز بعد ترك العقاب عن العتاب، فلا يكون منكم اشتغال بعداوتهم ولا ما قد يجرها عما ينفع من الطاعة، ولما كان التقدير: يغفر الله لكم، سبب عنه قوله: ﴿فإن الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿غفور﴾ أي بالغ
130
المحو الأعيان الذنوب وآثرها جزاء لكم على غفرانكم لهم وهو جدير بأن يصلحهم لكم بسبب غفرانكم لهم فإنه ﴿رحيم *﴾ يزيدكم بعد ذلك الستر الإكرام بالإنعام إن أكرمتموهم، فتخلقوا بأخلاقه سبحانه يزدكم من فضله.
131
ولما حكم على البعض، كان كأنه قيل: فما حكم سائره؟ فكأن الحكم بذلك يلزم منه الحذر من الكل لكن للتصريح سر كبير في ركون النفس إليه، فقال حاصراً الجميع ضاماً إليهم المال الذي به قيام ذلك كله وقدمه لأنه أعظم فتنة: ﴿إنما﴾ وأسقط الجار لأن شيئاً من ذلك لا يخلو عن شغل القلب فقال: ﴿أموالكم﴾ أي عامة ﴿وأولادكم﴾ كذلك ﴿فتنة﴾ أي اختبار مميل عن الله لكم وهو أعلم بما في نفوسكم منكم لكن ليظهر في عالم الشهادة من يميله ذلك فيكون عليه نقمة ممن لا يميله فيكون له نعمة، فربما رام الإنسان صلاح ماله وولده فبالغ فأفسد نفسه ثم لا يصلح ذلك ماله ولا ولده، وذلك أنه من شأنه أن يحمل على كسب الحرام ومنع الحق والإيقاع في الإثم، روي عن أبي نعيم في الحلية في ترجمة سفيان الثوري عنه أنه قال: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال له: أكل عياله حسناته» «ويكفي فتنة المال قصة
131
ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه قوله فتنة تعالى: ﴿ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن﴾ [التوبة: ٧٥] » وكأنه سبحانه ترك ذكر الأزواج في الفتنة لأن منهم من يكون صلاحاً وعوناً على الآخرة.
ولما كان التقدير: ففي الاحتراز من فتنهم تعب كبير، لا يفوت به منهم إلى حظ يسير، وكانت النفس عند ترك مشتبهاتها ومحبوباتها قد تنفر، عطف عليه مهوناً له بالإشارة إلى كونه فانياً وقد وعد عليه بما لا نسبة له منه مع بقائه قوله: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال ﴿عنده﴾ وناهيك بما يكون منه بسبيل جلاله وعظمه ﴿أجر﴾ ولم يكتف سبحانه بدلالة السياق على أن التنوين للتعظيم حتى وصفه بقوله: ﴿عظيم *﴾ أي لمن ائتمر بأوامره التي إنما نفعها لصاحبها، فلم يقدم على رضاه مالاً ولا ولداً، وذلك الأجر أعظم من منفعتكم بأموالكم وأولادكم على وجه ينقص من الطاعة.
ولما كان التقدير: وعنده عذاب أليم لمن خالف، سبب عنه قوله فذلكة أخرى لما تقدم من السورة كلها: ﴿فاتقوا الله﴾ مظهراً غير مضمر تعظيماً للمقام واحترازاً من أن يتوهم نوع تقيد فأفهم الإظهار أن المعنى: اجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعلى وقاية من غير نظر إلى حيثية ولا خصوصية بشيء ما، باجتناب نواهيه بعد امتثال أوامره، فإن التقوى إذا انفردت كان المراد بها فعل الأوامر وترك المناهي،
132
وإذا جمعت مع غيرها أريد بها اجتناب النواهي فقط.
ولما كان الأمر إذا نسب إليه سبحانه أعظم من مقالة قائل، فلا يستطيع أحد أن يقدره سبحانه حق قدره، خفف ويسر بقوله: ﴿ما استطعتم﴾ أي ما دمتم في الجملة قادرين مستطيعين، ويتوجه عليكم التكليف في العلميات والعمليات، وابذلوا جهدكم في ذلك في الإيمانيات لما علمتم من ذاته ومرتبته وصفاته تعالى وأفعاله، وغير ذلك من جميع أعمالكم الظاهرة والباطنة، وأعظمه الهجرة والجهاد، فلا يمنعكم الإخلاد إليها ذلك والتقوى فيما وقع من المكروهات بالندم والإقلاع مع العزم على ترك العود، وفيما لم يقع بالاحتراس عن أسبابه، وبذل الإنسان جميع جهده هو الاتقاء حق التقاة فلا نسخ - والله أعلم.
ولما كان إظهار الإسلام فيه مشقة كالأعمال قال: ﴿واسمعوا﴾ أي سماع إذعان وتسليم لما توعظون به ولجميع أوامره ﴿وأطيعوا﴾ أي وصدقوا ذلك الإذعان بمباشرة الأفعال الظاهرة في الإسلاميات من القيام بأمر الله والشفقة على خلق الله في كل أمر ونهي على حسب الطاقة، وحذف المتعلق ليصدق الأمر بكل طاعة من الكل والبعض وكذا في الإنفاق. ولما كان الإنفاق شديداً أكد أمره بتخصيصه بالذكر فقال: ﴿وأنفقوا﴾ أي أوقعوا الإنفاق كما حد لكم فيما
133
أوجبه أو ندب إليه وإن كان في حق من اطلعتم منها على عداوة، والإنفاق لا يخص نوعاً بل يكون ما رزق الله من الذاتي والخارجي.
ولما كان الحامل على الشح ما يخطر في البال من الضرورات التي أعزها ضرورة النفس، رغب فيه بما ينصرف إليه بادىء بدء ويعم جميع ما تقدم فقال: ﴿خيراً﴾ أي يكن ذلك أعظم خير واقع ﴿لأنفسكم﴾ فإن الله يعطي خيراً منه في الدنيا ما يزكي به النفس، ويدخر عليه من الجزاء في الآخرة ما لا يدري كنهه، فلا يغرنكم عاجل شيء من ذلك فإنما هو زخرف وغرور لا طائل تحته. ولما ذكر ما في الإنفاق من الخير عم في جميع الأوامر فقال: ﴿ومن يوق﴾ بناه للمفعول تعظيماً للترغيب فيه نفسه مع قطع الناصر عن الفاعل أي يقيه واق أيّ واق كان - وأضافه إلى ما الشؤم كله منه فقال: ﴿شح نفسه﴾ فيفعل في ماله وجميع ما أمر به ما يطيقه مما أمر به موقناً به مطمئناً إليه حتى يرتفع عن قلبه الأخطار، ويتحرز عن رق المكونات، والشح: خلق باطن هو الداء العضال رأس الحية وكل فتنة ضلالة، والبخل فعل ظاهر ينشأ عن الشح، والنفس تارة تشح بترك الشهوة من المعاصي فتفعلها، وتارة بإعطاء الأعضاء في الطاعات فتتركها، وتارة بإنفاق
134
المال، ومن فعل ما فرض عليه خرج عن الشح. ولما كان الواقي إنما هو الله تعالى سبب عن وقايته قوله: ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿المفلحون *﴾ أي الذين حازوا جميع المرادات بما اتقوا الله فيه من الكونيات من المال والولد والأهل والمشوشات من جميع القواطع. ولما أمر ورهب من ضده على وجه أعم، رغب فيه تأكيداً لأمره لما فيه نم الصعوبة لا سيما في زمان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن المال فيه كان في غاية العزة ولا سيما إن كان في لوازم النساء اللاتي افتتح الأمر بأن منهن أعداء ولا سيما إن كان في حال ظهور العداوة، فقال بياناً للإفلاح متلطفاً في الاستدعاء بالتعبير بالقرض مشيراً إلى أنه على خلاف الطبع بأدة الشك: ﴿إن تقرضوا الله﴾ أي الملك الأعلى ذا الغنى المطلق المستجمع لجميع صفات الكمال بصرف المال وجميع قواكم التي جعلها فتنة لكم في طاعاته، ورغب في الإحسان فيه بالإخلاص وغيره فقال: ﴿قرضاً حسناً﴾ أي على صفة الإخلاص والمبادرة ووضعه في أحسن مواضعه على أيسر الوجوه وأجملها وأهنأها وأعدلها، وأعظم الترغيب فيه بأن رتب عليه الربح في الدنيا والغفران في الآخرة فقال: ﴿يضاعفه لكم﴾ أي لأجلكم خاصة أقل ما يكون للواحد عشراً
135
إلى ما لا يتناهى على حسب النيات، قال القشيري: يتوجه الخطاب بهذا على الأغنياء في بذل أموالهم وعلى الفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم عن مراداتهم وإيثار مراد الحق على مراد أنفسهم، فالغني يقال له: آثر على مرادك في مالك وغيره، والفقير يقال له: آثر حكمي في نفسك وقلبك ووقتك.
ولما كان الإنسان لما له النقصان وإن اجتهد لا يبلغ جميع ما أمر به لأن الدين وإن كان يسيراً فهو متين «لن يشاده أحد إلا غلبه» قال: ﴿ويغفر لكم﴾ أي يوقع الغفران وهو محو ما فرط عينه وأثره لأجلكم ببركة الإنفاق، وقد تضمنت هاتان الجملتان جلب السرور ودفع الشرور، وذلك هو السعادة كلها.
ولما كان التقدير: فالله غفور رحيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي لا يقاس عظمته بشيء ﴿شكور﴾ أي بليغ الشكر لمن يعطي لأجله ولو كان قليلاً فيثيبه ثواباً جزيلاً خارجاً عن الحصر وهو ناظر إلى المضاعفة ﴿حليم *﴾ لا يعاجل بالعقوبة على ذنب من الذنوب وإن عظم بل يمهل كثيراً طويلاً ليتذكر العبد الإحسان مع العصيان فيتوب، ولا يهمل ولا يغتر بحلمه، فإن غضب الحليم لا يطاق،
136
وهو راجع إلى الغفران.
ولما كان الحليم قد يتهم في حلمه بأن ينسب إلى الجهل بالذنب أو بمقداره قال: ﴿عالم الغيب﴾ وهو ما غاب عن الخلق كلهم فيشمل ما هو داخل القلب مما تؤثره الجبلة ولا علم لصاحب القلب به فضلاً عن غيره. ولما كان قد يظن أنه لا يلزم من علم ما غاب علم ما شهد، أو يظن أن العلم إنما يتعلق بالكليات، قال موضحاً أن علمه بالعالمين بكل من الكليات والجزئيات قبل الكون وبعده على حد سواء: ﴿والشهادة﴾ وهو كل ما ظهر فكان بحيث يعلمه الخلق، وهذا الوصف داع إلى الإحسان من حيث إنه يوجب للمؤمن ترك ظاهر الاسم وباطنه وكل قصور وفتور وغفلة وتهاون فيعبد الله كأنه يراه.
ولما شمل ذلك كل ما غاب عن الخلق وما لم يغب عنهم فلم يبق إلا أن يتوهم أن تأخير العقوبة للعجز قال: ﴿العزيز﴾ أي الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ولما كان ذلك قد يكون لأمر آخر لا يمدح عليه قال: ﴿الحكيم *﴾ أي أنه ما أخره إلا لحكمة بالغة يعجز عن إدراكها الخلائق، وقد أقام الخلائق في طاعته بالجري تحت إرادته، وتارة يوافق ذلك أمره فيسمى طاعة. وتارة يخالف فيسمى معصية، فمن أراد أتم نعمته عليه بالتوفيق للطاعة بموافقته أمره بإحاطة
137
علمه والإتقان في التدبير ببالغ حكمته وإدامة ذلك وحفظه عن كل آفة بباهر عزته، ومن أراد منعه ذلك بذلك أيضاً والكل تسبيح له سبحانه بإفادة أنه الواحد القهار، وقد أحاط أول الجمعة بهذه السورة أولها وآخرها، فجاءت هذه شارحة له وكاشفة عنه على وجه أفخم لأن مقصود هذه نتيجة مقصد تلك، وقد رجع - بالتنزه عن شوائب النقص والاختصاص بجميع صفات الكمال وشمول القدرة للخق وإحاطة العلم بأحوال الكافر والمؤمن - على افتتاحها حسن ختامها، وعلم علماً ظاهراً جلالة انتظامها، وبداعة اتساق جميع آيها وبراعة التئامها - والله الموفق للصواب.
138
سورة الطلاق
لمقصودها تقدير حسن التدبير في المفارقة والمهاجرة بتهذيب الأخلاق، بالتقوى لا سيما في الإنفاق، لا سيما إن كان ذلك عند الشقاق، لا سيما إن كان في أمر النساء لا سيما عند الطلاق، ليكونالفراق على نحو التواصل والتلاق، واسمها الطلاق أجمع ما يكون لذلك، فلذا سميت به وكذا سورة النساء القصرى لأن العدل في الفراق بعض مطلق العدل الذي هو محط مقصود سورة النساء) بسم الله (الذي له جميع صفات الكمال) الرحمن (الذي عم برحمته النوال) الرحيم (الذي خص بالرحمة ذوي الهمم العوال.
139
Icon