تفسير سورة القدر

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة القدر من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ ؛ معناهُ : إنَّا أنزلنا القرآنَ في ليلة القدر، والهاءُ في قوله ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ كنايةٌ عن المضمَرِ المذكور في السُّورة التي قبلَ هذه السُّورة، وهو القرآنُ، فإنه تقدَّمَ في أوَّلها ﴿ اقْرَأْ ﴾ ؛ أي اقرأ القرآنَ. ويجوزُ أن يكون معناهُ : إنَّا أنزلنا جبريلَ بهذا القرآنِ في ليلةِ القدر في شهرِ رمَضان.
وذلك أنَّ القرآنَ أُنزِلَ جُملةً واحدةً إلى السَّماء الدُّنيا إلى الكَتَبَةِ، ثم أُنزل بعدَ ذلك نُجوماً في عشرين سَنة - وَقِيْلَ : ثلاثٍ وعشرين -. وسُميت هذه الليلةُ ليلةَ القدر ؛ لأنَّها ليلة الحكمِ والقضاء، يقدِّرُ الله فيها كلَّ شيءٍ يكون في السَّنة إلى السَّنة، ومعنى تقديرهِ : أنْ يأمُرَ الملائكةَ أنْ يكتبوهُ ويقرأوه.
وقولهُ تعالى :﴿ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ ؛ تعجُّبٌ وتعظيمٌ لحرمَتها ؛ أي ما أعلمكَ يا مُحَمَّدُ ما شرفُ هذه الليلةِ لولا أنَّ اللهَ أعلمَكَ بذلك، ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ ؛ أي العملُ فيها خيرٌ من العملِ في ألفِ شهر، وعلى هذا قالُوا : إنَّ مَنْ صلَّى فيها رَكعتين كان له ثوابُ من صلَّى ليالي ألفَ شهرٍ ركعَتين، بل ثوابُ هاتَين الركعتين أكثرُ من ثواب تلك الصلاةِ كلِّها.
وسببُ نزول هذه السورة :" أنَّ رسولَ الله ﷺ ذكرَ يوماً لأصحابهِ :" أنَّ أرْبَعَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَهُمْ : أيُّوبُ وَزَكَرِيَّا وحِزْقِيلُ ويُوشُعُ بْنُ نُونٍ عَبَدُوا اللهَ ثَمَانِينَ سَنَةً لَمْ يَعْصُوهُ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ "، فتعجَّبَ أصحابُ النبيِّ ﷺ من ذلك، فأتَى جبريلُ فقالَ له : عجِبَتْ أُمَّتُكَ من عبادةِ هؤلاء النَّفر ثمانين سَنة لم يعصُوا اللهَ فيها طرفةَ عينٍ، فقد أنزلَ الله عليكَ خيراً منه، ثم قرأ ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ... ﴾ إلى آخرِها، وقالَ : هذا أفضلُ مما عجِبتَ منه أنتَ وأُمَّتك، فسُرَّتِ الصحابةُ بذلك ".
ورُوي :" أنَّ النبيَّ ﷺ ذكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ حَمَلَ السِّلاَحَ عَلَى عَاتقهِ في سبيلِ الله ألفَ شهرٍ، فعجبَ المسلمون من ذلك عَجباً شَديداً، وتَمنَّى النبيُّ ﷺ أنَّ يكون مثلُهُ في أُمَّته، فأعطاهُ الله ليلةَ القدر.
واختلَفُوا في وقتِها ؛ فقال بعضُهم : كانتْ على عهدِ رسول الله ﷺ ثم رُفعت، والصحيحُ : أنَّها لم تُرفع وأنَّها إلى يومِ القيامة، لِمَا رُوي عنِ النبيَّ ﷺ قِيْلَ : لَهُ : هَلْ رُفِعَتْ لَيْلَةُ الْقَدْر ؟ فَقَالَ :" بَلْ هِيَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ " عن عبدِالله بن حسن قالَ : قلتُ لأبي هريرةَ رضي الله عنه : زعَمُوا أنَّ ليلةَ القدر قد رُفعت، قال :((كَذبَ مَنْ قَالَ)) قُلْتُ : أهيَ كلَّ شهرِ رمضان ؟ قال :((نَعَمْ)).
وقال بعضُهم : هي في ليالِي السَّنة كلِّها، وأنَّ مَن علَّقَ طلاقَ امرأتهِ أو عتقَ عبدهِ بليلة القدر لم يقع شيءٌ من ذلك إلى مُضي سَنة من يومِ حلفهِ. والجمهورُ من العلماءِ : أنَّها في شهرِ رمضان في كلِّ عامٍ. وسُئل الحسنُ عن ليلةِ القدر فقالَ :((وَاللهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ ؛ إنَّهَا فِي كُلِّ رَمَََضَانَ)).
واختلَفُوا في أيِّ ليلةٍ هي، فقال أبو رَزين العُقَيلي :((هِيَ أوَّلُ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ))، وقالَ الحسنُ :((هِيَ ليْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ صَبيحَةَ وَقْعَةِ بَدْرٍ)).
والصحيحُ : أنَّها في العشرِ الأواخر من رَمضان، وقال أبو سعيدٍ الخدري :((هِيَ لَيْلَةُ إحْدَى وَعِشْرِينَ))، وعن أُبَيِّ بن كعبٍ قالَ عن رسولِ الله ﷺ أنَّهُ قالَ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا ﴾ ؛ أي تنَزلُ ملائكةُ السَّموات السبعِ إلى السَّماء الدُّنيا وجبريلُ معهم، ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ ؛ أمَرَهم اللهُ به في تلك الليلةِ.
وقد يقامُ حرفٌ من مقامِ الباء، كما في قولهِ تعالى :﴿ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾[الرعد : ١١] معناهُ : أي بأمرِ الله، فكذلكَ معنى ﴿ مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾ أي بكُلِّ أمرٍ قدَّرَهُ اللهُ تعالى في تلك الليلةِ إلى مثلِها من السَّنة القابلة. ويقالُ : إنَّ الملائكةَ ينْزِلون إلى الدُّنيا في تلك الليلة، ويسَلِّمون على المؤمنينِ على كلِّ قائمٍ وراكع وساجد إلى طُلوع الفجرِ.
قرأ طلحةُ بن مُصَرِّف (تُنْزَلُ الْمَلاَئِكةُ) مخفَّفاً. والمرادُ بالرُّوح جبريلُ في قولِ أكثر المفسِّرين، وقال مقاتلُ :((الرُّوحُ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ، لاَ تَرَاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ إلاَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، يَنْزِلُونَ مِنْ غُرُوب الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ)). وَقِيْلَ : هو ملَكٌ عظيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَلاَمٌ هِيَ ﴾ ؛ تَمامُ الكلامِ عند قولهِ تعالى ﴿ مِّن كُلِّ أَمْرٍ ﴾، ثم ابتدأ فقالَ :﴿ سَلاَمٌ هِيَ ﴾ أي ليلةُ القدر، سلامةٌ هيَ ؛ أي خيرٌ كلُّها ليس فيها شرٌّ، قال الضحَّاك :((لاَ يُقَدِّرُ اللهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ إلاَّ السَّلاَمَةَ، فَأَمّا اللَّيَالِي غَيْرَهَا فَيَقْضِي فِيهِنَّ الْبَلاَءَ وَالسَّلاَمَةَ)). قال مجاهدُ :((هِيَ سَالِمَةٌ لاَ يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أنْ يَعْمَلَ فِيهَا شَرّاً ولاَ أذَى)). وقال الشعبيُّ :((هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلاَئِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْر عَلَى أهْلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ حِينَ تَغِيبُ الشَّمْسُ إلَى أنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ)).
وفي قراءةِ ابنِ عبَّاس (مِنْ كُلِّ أمْرٍ سَلاَمٌ) معناهُ : مِن كلِّ ملَك سلامٌ على المؤمنِين في هذه الليلة، وَقِيْلَ : على هذه القراءة أيضاً أن (مِنْ) بمعنى (على) ؛ تقديرهُ : على كلِّ امرئ من المسلمين سلامٌ من الملائكةِ، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ ﴾[الأنبياء : ٧٧] أي على القومِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ ؛ أي إلى مطلعِ الفجر، و(حتَّى) حرفُ غايةٍ، قرأ الأعمشُ والكسائي وخلف (مَطْلِعِ) بكسرِ اللام، وقرأ الباقون بفتحها وهو الاختيارُ ؛ لأن المطلَع بفتحِ اللام بمعنى الطُّلوع، يقالُ : طلَعت الشمسُ طُلوعاً ومَطْلَعاً، وأما المطلِعُ بكسر اللام، فإنه موضعُ الطُّلوع، ولاَ معنى للاسمِ ها هنا.
والحكمةُ في إخفاءِ ليلة القدر على العبادِ : أنَّهم لو عَرفوها لقصدُوها بالعبادةِ، وأهملوا في سائرِ الليالِي، وإذا لم يعرِفوها بعينها عبَدُوا اللهَ في جميع ليالِي شهرِ رمضانَ رجاءَ أن يُدركوها.
Icon