تفسير سورة المائدة

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٥- سورة المائدة
سميت بها لأن قصتها أعجب ما ذكر فيها. لاشتمالها على آيات كثيرة ولطف عظيم على من آمن وعنف شديد على من كفر. فهو أعظم دواعي قبول التكاليف، المفيدة عقدة المحبة من الاتصال الإيماني، بين الله وبين عبيده. أفاده المهايمي.
وهذه السورة مدنية. وآياتها مائة وعشرون.
قال الشهاب الخفاجي : السورة مدنية، إلا قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم... ﴾ إلخ، فإنها نزلت بمكة. انتهى.
أقول : في كلامه نظران :
الأول- إن هذا بناء على أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة. وهو اصطلاح لبعض السلف. ولكن الأشهر كما في ( الإتقان ) : أن المكي ما نزل قبل الهجرة. والمدني ما نزل بعدها. سواء نزل بمكة أم بالمدينة، عام الفتح أو عام حجة الوداع، أم بسفر من الأسفار.
والثاني- بقي عليه، لو مشى على ذاك الاصطلاح، آيات أخر.
قال السيوطي في ( الإتقان ) : في ( النوع الثاني معرفة الحضري والسفري ) للسفري أمثلة.
منها : أول المائدة. أخرج البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن أسماء بنت يزيد ؛ أنها نزلت بمنى. وأخرج في ( الدلائل ) عن أم عمرو، عن عمها ؛ أنها نزلت في مسير له. وأخرج أبو عبيد عن محمد بن كعب قال : نزلت سورة المائدة في حجة الوداع، فيما بين مكة والمدينة.
ومنها :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾١ في ( الصحيح ) عن عمر :" أنها نزلت عشية عرفة، يوم الجمعة، عام حجة الوداع ". وله طرق كثيرة. لكن أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها نزلت يوم غدير خم. وأخرج مثله من حديث أبي هريرة. وفيه :" إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، مرجعه من حجة الوداع ". وكلاهما لا يصح.
ومنها : آية التيمم فيها. في ( الصحيح ) ٢ عن عائشة ؛ " أنها نزلت بالبيداء وهم داخلون المدينة ".
ومنها :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم... ﴾ ٣ الآية نزلت ببطن نخل.
ومنها :﴿ والله يعصمك من الناس ﴾٤ نزلت في ذات الرقاع. انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط هذه الروايات، عند هذه الآيات.
قال ابن كثير : روى الإمام أحمد٥ عن أسماء بنت يزيد قالت :" إني لآخذة بزمام العضباء- ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ نزلت عليه المائدة كلها. فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة ". وروى الإمام أحمد٦ أيضا عن عبد الله بن عمرو قال :" أنزلت عل رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته، لم تستطع أن تحمله، فنزل عنها ". تفرد به أحمد. وروى الحاكم عن جبير بن نفير قال :" حججت فدخلت على عائشة فقالت لي : يا جبير ! تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت. فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه. وما وجدتم فيها من حرام فحرموه ". ثم قال : صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
١ - [٥/ المائدة/ ٣] ونصها: ﴿حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمترية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على الصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق اليوم بئس الذين كفروا فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم (٣)﴾..
٢ - أخرجه البخاري في: ٧- كتاب التيمم، ١- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث ٢٣٠ ونصه: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: "خرجنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء، أو بذات الجيش، انقطع عقد لي. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه. وأقام الناس معه. وليسوا على ماء. فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخدي، قد نام. فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
قالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول. وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أصبح، على غير ماء.
فأنزل الله آية التيمم فتيمموا.
فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
قالت: فبعثنا البعير الذي كنا عليه، فأصبنا العقد تحته"..

٣ - [٥/ المائدة١١] ونصها: ﴿يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون(١١)﴾..
٤ - [٥/ المائدة/ ٦٧] ونصها: ﴿يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين (٦٧)﴾..
٥ - أخرجه في المسند بالصفحة ٤٥٥ من الجزء السادس (طبعة الحلبي)..
٦ - أخرجه في المسند بالصفحة ١٧٦ من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) والحديث رقم ٦٦٤٣ (طبعة المعارف)..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ روى ابن أبي حاتم أن رجلا أتى عبد الله ابن مسعود فقال: اعهد إليّ! فقال: إذا سمعت الله يقول يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فأرعها سمعك، فإنه خير يأمر به، أو شر ينهى عنه و (الوفاء) ضد الغدر، كما في (القاموس) وقال غيره: هو ملازمة طريق المواساة ومحافظة عهود الخلطاء. يقال: وفي بالعهد وأوفى به.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : ورد في الكتاب العزيز (وفّى) بالتضعيف في قوله تعالى: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم: ٣٧]، وورد (أوفى) كثيرا. ومنه: أوفوا بالعقود. وأما (وفى) ثلاثيا، فلم يرد إلا في قوله تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة: ١١١]، لأنه بنى أفعل التفضيل من (وفى) إذ لا يبنى إلا من ثلاثيّ.
و (العقود) جمع عقد وهو العهد الموثق. شبه بعقد الحبل ونحوه، وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمها إياهم من مواجب التكليف. قال عليّ بن طلحة:
قال ابن عباس: يعني بالعهود ما أحل الله وما حرم، وما فرض، وما حدّ في القرآن كلّه، ولا تغدروا ولا تنكثوا. وقال زيد بن أسلم: العقود ستة: عهد الله وعقد الحلف وعقد الشركة وعقد البيع وعقد النكاح وعقد اليمين. قال الزمخشريّ: والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينه، من تحليل حلاله وتحريم حرامه. وأنه كلام قديم مجملا. ثم عقب بالتفصيل. وهو قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة ما لا عقل له مطلقا، من ذوات الأرواح أو ذوات الأربع.
قال الراغب: خص في المتعارف بما عدا السباع والطير. وإضافتها للأنعام، للبيان كثوب الخز. وإفرادها لإرادة الجنس. أي: أحلّ لكم أكل البهيمة من الأنعام.
5
جمع (نعم) محرّكة وقد تسكن عينه. وهي الإبل والبقر والشاء والمعز إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني: رخصت لكم الأنعام كلها. إلّا ما حرم عليكم في هذه السورة، وهي الميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك. وذلك أنهم كانوا يحرمون السائبة والبحيرة.
فأخبر الله تعالى أنهما حلالان، إلّا ما بيّن في هذه السورة، ثم قال غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني: أحلت لكم هذه الأشياء. من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون. ف (غير) نصب على الحالية من ضمير (لكم). قال في (العناية) : ولا يرد ما قيل: إنه يلزم تقيد إحلال بهيمة الأنعام بحال انتفاء حل الصيد وهم حرم. وهي قد أحلت لهم مطلقا. ولا يظهر له فائدة، إلّا إذا عنى بالبهيمة الظباء وحمر الوحش وبقره، لأنه- مع عدم اطراد اعتبار المفهوم- يعلم منه غيره بالطريق الأولى. لأنها إذا أحلت في عدم الإحلال لغيرها، وهم محرمون لدفع الحرج عنهم، فكيف في غير هذه الحال؟ فيكون بيانا لإنعام الله عليهم بما رخص لهم من ذلك. وبيانا لأنهم في غنية عن الصيد وانتهاك حرمة الحرم. وفي (الإكليل) : في الآية تحريم الصيد في الإحرام والحرم. لأن «حرما» بمعنى محرمين، ويقال: أحرم أي: بحجّ وعمرة. وأحرم: دخل في الحرم. انتهى.
قال بعض الزيدية: والمراد بالصيد المحرّم على المحرم. هو صيد البر. لقوله في هذه السورة: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة: ٩٦]، هذا إذا جعل (حرم) جمع (محرم) وهو الفاعل للإحرام، وإن جعل للداخل في الحرم، استوى تحريم البحريّ والبرّي. وذلك حيث يكون في الحرم نهر فيه صيد فيحرم، لقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧]. لأنه يقال لمن دخل الحرم، أنه محرم. كما يقال: أعرق وأنجد: إذا دخل العراق ونجدا. ويكون التحريم في مكة وحرم المدينة لما ورد من الأخبار في النهي عن صيد المدينة وأخذ شجرها. نحو: المدينة «١» حرم من عير إلى ثور. انتهى.
(١)
أخرجه البخاري في: فضائل المدينة، ١- باب حرم المدينة، حديث ٩٤٣ ونصه: عن أنس رضي الله عنه، عن النبيّ ﷺ قال «المدينة حرم من كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث. من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
ورواه أيضا في: الاعتصام، ٦- باب إثم من آوى محدثا. ونصه: حدثنا عاصم قال: قلت لأنس:
أحرّم رسول الله ﷺ المدينة؟ قال: نعم. ما بين كذا إلى كذا. لا يقطع شجرها. من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. و (ما بين كذا إلى كذا) معناه: من عير إلى ثور.
6
إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل وتحريم. وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ أي: معالم دينه. وهي المناسك.
وإحلالها أن يتهاون بحرمتها، وأن يحال بينها وبين المتنسكين بها.
وقد روى ابن جرير «١» عن عكرمة والسّديّ قالا: نزلت في الحطم، واسمه شريح بن هند البكريّ.
أتى المدينة وحده. وخلّف خيله خارج المدينة. ودخل على النبيّ ﷺ فقال له: إلام تدعو الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. فقال:
حسن. إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم. ولعلي أسلم وآتي بهم. فخرج من عنده، وقد كان رسول الله ﷺ قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان. فلما خرج شريح قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد دخل بوجه كافر، وخرج بقفا غادر، وما الرجل بمسلم. فمر بسرح من سراح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز ويقول:
قد لفّها الليل بسوّاق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزّار على ظهر الوضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزّلم خدلّج السّاقين ممسوح القدم
فتبعوه فلم يدركوه. فلما كان العام القابل، خرج شريح حاجا مع حجاج بكر ابن وائل، من اليمامة. ومعه تجارة عظيمة. وقد قلّد الهدي. فقال المسلمون: يا رسول الله! هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه قد قلّد الهدي. فقالوا: يا رسول الله! هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية. فأبى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(١) ابن جرير: الأثر ١٠٩٥٨ عن السدّيّ، والأثر: ١٠٩٥٩ عن عكرمة.
7
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
. قال ابن عباس: هي المناسك. كان المشركون يحجون ويهدون. فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم.
فنهاهم الله عن ذلك. وعن ابن عباس أيضا: لا تحلوا شعائر الله: هي أن تصيد وأنت محرم. ويقال: شعائر الله، شرائع دينه التي حدها لعباده. وإحلالها الإخلال بها.
وظاهر أن عموم اللفظ يشمل الجميع.
وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ المراد به الجنس. فيدخل في ذلك جميع الأشهر الحرم.
وهي أربعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب. أي لا تحلوها بالقتال فيها.
وقد كانت العرب تحرم القتال فيها في الجاهلية. فلما جاء الإسلام لم ينقض هذا الحكم. بل أكده. كذا في (لباب التأويل).
قال ابن كثير: يعني بقوله: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ، تحريمه والاعتراف بتعظيمه، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه، من الابتداء بالقتال. كما قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ، قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. وقال تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً [التوبة: ٣٦].
وفي صحيح البخاريّ «١» عن أبي بكرة أن رسول الله ﷺ قال، في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم... » الحديث،
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت. كما هو مذهب طائفة من السلف.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنه، في قوله تعالى وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: يعني لا تستحلوا القتال فيه. وكذا قال مقاتل وعبد الكريم بن مالك الجزريّ. واختاره ابن جرير أيضا. وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ. وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم. واحتجوا بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. والمراد أشهر التسيير الأربعة.
قالوا: فلم يستثن شهرا حراما من غيره. انتهى. وفي كتاب (الناسخ والمنسوخ) لابن حزم: إن الآية نسخت بآية السيف. ونقل بعض الزيدية في (تفسيره) عن الحسن أنه
(١)
أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ٨- باب قوله إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، حديث ٥٩ ونصه: عن أبي بكرة عن النبيّ ﷺ قال: إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض. السنة اثنا عشر شهرا. منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
8
ليس في هذه السورة منسوخ. وعن أبي ميسرة: فيها ثماني عشرة فريضة. وليس فيها منسوخ. (انتهى).
وروى ابن أبي حاتم عن ابن عوف قال: قلت للحسن: نسخ من المائدة شيء؟
قال: لا.
وقال الإمام ابن القيّم في (زاد المعاد) في (فصل سرية الخبط) كان أميرها أبا عبيدة بن الجراح، وكانت في رجب، فيما ذكره الحافظ بن سيد الناس في (عيون الأثر).
ثم قال، في فقه هذه القصة: إن فيها جواز القتال في الشهر الحرام. إن كان ذكر التاريخ فيها برجب، محفوظا. والظاهر، والله أعلم، أنه وهم غير محفوظ. إذ لم يحفظ عن النبيّ ﷺ أنه غزا في الشهر الحرام، ولا أغار فيه، ولا بعث فيه سرية. وقد عيّر المشركون المسلمين لقتالهم فيه في أول رجب، في قصة العلاء بن الحضرميّ، فقالوا: استحل محمد الشهر الحرام. وأنزل الله في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: ٢١٧]. ولم يثبت ما ينسخ هذا بنص يجب المصير إليه، ولا اجتمعت الأمة على نسخه. وقد استدل على تحريم القتال في الأشهر الحرام بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. ولا حجة في هذا. لأن الأشهر الحرم هاهنا هي أشهر التسيير التي سيّر الله فيها المشركون في الأرض يأمنون فيها. وكان أولها يوم الحج الأكبر، عاشر ذي الحجة. وآخرها عاشر ربيع الآخر. هذا هو الصحيح في الآية لوجوه عديدة، ليس هذا موضعها. انتهى. وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ أي: لا تحلوه بأن يتعرض له بالغصب أو بالمنع عن بلوغ محله. والهدي: ما أهدي إلى الكعبة من إبل أو بقر أو شاء. وفي (الإكليل) : هذا أصل في مشروعية الإهداء إلى البيت. وتحريم الإغارة عليه. وذبحه قبل بلوغ محله. واستدل بالآية أيضا على منع الأكل منه.
وَلَا الْقَلائِدَ جمع قلادة. وهي ما يقلد به الهدي. من نعل أو لحاء شجر، ليعلم أنه هدي، فلا يتعرض له. والمراد النهي عن التعرض لذوات القلائد من الهدي.
وهي البدن. وعطفها على (الهدي) مع دخولها فيه، لمزيد التوصية بها، لمزيتها على ما عداها. إذ هي أشرف الهدي. كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة:
٩٨]، عطفا على الملائكة. كأنه قيل: والقلائد منه، خصوصا. أو النهي عن التعرض لنفس القلائد، مبالغة في النهي عن التعرض لأصحابها. على معنى: لا تحلوا قلائدها
9
فضلا عن أن تحلوها. كما نهى عن إبداء الزينة بقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: ٣١]. مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. كذا لأبي السعود.
وقال الحافظ ابن كثير: يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام. فإن فيه تعظيم شعائر الله. ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام.
وليعلم أنه هدي إلى الكعبة. فيجتنبها من يريدها بسوء. وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها. فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. ولهذا لما حج رسول الله ﷺ بات بذي الحليفة. وهو وادي العقيق. فلما أصبح طاف على نسائه، وكن تسعا. ثم اغتسل وتطيّب وصلى ركعتين. ثم أشعر هديه وقلّده. وأهلّ للحج والعمرة، وكان هديه إبلا كثيرة تنيف على الستين، من أحسن الأشكال والألوان كما قال تعالى: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: ٣٢].
قال بعض السلف: إعظامها استحسانها واستسمانها. قال عليّ بن أبي طالب «١» : أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن. وقال مقاتل: ولا القلائد، فلا تستحلوه. وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم. قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر. وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره، فيأمنون به. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عطاء: كانوا يتقلدون من شجر الحرم فيأمنون. فنهى الله عن قطع شجره وكذا قال مطرف بن عبد الله. وأمانهم بذلك منسوخ. كما روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نسخ من هذه السورة آيتان: آية القلائد وقوله: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وبسنده إلى ابن عوف قال: قلت للحسن:
نسخ من المائدة شيء؟ قال: لا. وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أي: لا تحلوا قوما قاصدين زيارة المسجد الحرام بأن تصدوهم أو تقاتلوهم أو تؤذوهم، لأنه من دخله
(١)
أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٦- باب ما يكره من الضحايا، حديث ٢٨٠٤ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه: أمرنا رسول الله ﷺ أن نستشرف العين والأذنين، ولا نضحّي بعوراء، ولا مقابلة، ولا مداراة، ولا خرقاء، ولا شرقاء.
والترمذيّ في: الأضاحيّ، ٦- باب ما يكره من الأضاحي.
والنسائي في: الضحايا، ٩- باب المدابرة وهي ما قطع من مؤخر أذنها.
وابن ماجة في: الأضاحي، ٨- باب ما يكره أن يضحى به، حديث ٣١٤٢.
10
كان آمنا. وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً حال من المستكن في (ءامّين) أي: قاصدين زيارته حال كونهم طالبين التجارة ورضوان الله بحجهم. ونقل ابن كثير عن ثمانية من سلف المفسرين أنه عنى بالفضل طلب الرزق بالتجارة. قال:
كما تقدم في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:
١٩٨]. وقد ذكر عكرمة والسدّيّ وابن جرير أن الآية نزلت في الحطم بن هند البكريّ.
وتقدمت قصته. وقال ابن طلحة عن ابن عباس: كان المؤمنون والمشركون يحجون، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا من مؤمن أو كافر. ثم أنزل الله بعده: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [التوبة: ٢٨] الآية.
وقال تعالى: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: ١٧]. وقال:
إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة: ١٨]. فنفى المشركين من المسجد الحرام. وقال عبد الرزاق: حدثنا معمر عن قتادة في قوله وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
قال: منسوخ. كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلد من الشجر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلد قلادة من شعر، فلم يعرض له أحد، وكان المشرك يومئذ لا يصدّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت. فنسخها قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله: وَلَا الْقَلائِدَ يعني أن من تقلد قلادة من الحرم، فأمنوه. قال: ولم تزل العرب تعيّر من أخفر ذلك. قال الشاعر:
ألم تقتلا الحرجين إذ أعورا كما يمرّان بالأيدي اللّحاء المضفّرا
أفاده ابن كثير. وهذه الروايات توضح أنه عنى: (الآمين) : المشركين خاصة. إذ هم المحتاجون إلى نهي المؤمنين عن إحلالهم وما يفيده التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم. وكذا الرضوان من تشريفهم، والإشعار بحصول مبتغاهم. فالسرّ فيه تأكيد النهي والمبالغة في استنكار المنهيّ عنه. قال الزمخشريّ وأبو السعود: قد كانوا يزعمون أنهم على سداد من دينهم، وأن الحج يقربهم إلى الله تعالى. فوصفهم الله تعالى بظنهم. وذلك الظن الفاسد، وإن كان بمعزل من استتباع رضوانه تعالى، لكن لا بعد في كونه مدارا لحصول بعض مقاصدهم الدنيوية، وخلاصهم عن المكاره العاجلة. لا سيما في ضمن مراعاة حقوق الله تعالى وتعظيم شعائره. ونقل الرازيّ عن أبي مسلم الأصفهاني، أن المراد بالآية، الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فلما زال العهد بسورة براءة، زال ذلك الخطر، ولزم المراد بقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا. انتهى.
11
وَإِذا حَلَلْتُمْ أي خرجتم من الإحرام، أو خرجتم من الحرم إلى الحل فَاصْطادُوا أي: فلا جناح عليكم في الاصطياد وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أي: لا يحملنكم على الجريمة، شدة بغض قوم أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. أي لأن صدوكم عن زيارته والطواف به للعمرة. وقرئ بكسر الهمزة من (إن) على أنها شرطية أَنْ تَعْتَدُوا أي: عليهم. قال أبو السعود: وإنما حذف، تعويلا على ظهوره، وإيماء إلى أن المقصد الأصلي من النهي، منع صدور الاعتداء عن المخاطبين، محافظة على تعظيم الشعائر. لا منع وقوعه على القوم، مراعاة لجانبهم، وهو ثاني مفعولي يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يكسبنكم شدة بغضكم لهم، لصدهم إياكم عن المسجد الحرام، اعتداءكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفّي.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: أي: لا يحملنكم بغض قوم، قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام، وذلك عام الحديبية، على أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتقتصوا منهم ظلما وعدوانا، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨]. أي: لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل. فإن العدل واجب على كل أحد، في كل أحد، في كل حال. وقال بعض السلف: ما عاملت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه. والعدل، به قامت السموات والأرض. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا سهل بن عفان، حدثنا عبد الله بن جعفر عن زيد بن أسلم، قال: كان رسول الله ﷺ بالحديبية وأصحابه، حين صدهم المشركون عن البيت. وقد اشتد ذلك عليهم. فمر بهم ناس من المشركين من أهل المشرق، يريدون العمرة. فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل إليه هذه الآية.
الثاني: قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ نهي عن إحلال قوم من الآمين، خصوا به مع اندراجهم في النهي عن إحلال الكل كافة، لاستقلالهم بأمور ربما يتوهم كونها مصححة لإحلالهم، داعية إليه.
الثالث- لعل تأخير هذا النهي عن قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا، مع ظهور تعلقه بما قبله، للإيذان بأن حرمة الاعتداد لا تنتهي بالخروج عن الإحرام، كانتهاء حرمة الاصطياد به، بل هي باقية ما لم تنقطع علامتهم عن الشعائر بالكلية.
12
وبذلك يعلم بقاء حرمة التعرض بسائر الآمين، بالطريق الأولى. أفاده أبو السعود.
الرابع- دلت الآية على أن المضارّة ممنوعة. ومثله
قوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». «١».
وقوله عليه الصلاة والسلام: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» «٢»
. ذكره بعض الزيدية. وفي (الإكليل) : في الآية النهي عن الاعتداء وأنه لا يؤخذ أحد بذنب أحد.
الخامس- (جرم) جار مجرى (كسب) في المعنى وفي التعدي إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو كسبه. وجرمته ذنبا، نحو كسبته إياه، خلا أن (جرم) يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه. وهو السبب في إيثاره هاهنا على الثاني. وقد ينقل الأول من كل منهما بالهمزة إلى معنى الثاني. فيقال: أجرمته ذنبا وأكسبته إياه. وعليه قراءة من قرأ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء. أفاده أبو السعود.
وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ لما كان الاعتداء غالبا بطريق التظاهر والتعاون، أمروا، إثر ما نهوا عنه، بأن يتعاونوا على كل ما هو من باب البر والتقوى. ومتابعة الأمر ومجانبة الهوى. فدخل فيه ما نحن بصدده من التعاون على العفو والإغضاء عما وقع منهم، دخولا أوليا. ثم نهوا عن التعاون في كل ما هو من مقولة الظلم والمعاصي. فاندرج فيه النهي عن التعاون على الاعتداء والانتقام بالطريق البرهاني: أفاده أبو السعود.
قال ابن جرير: الإثم: ترك ما أمر الله بفعله. والعدوان: جواز ما حدّ الله في الدين، ومجاوزة ما فرض الله في النفس والغير. وفي معنى الآية أحاديث كثيرة.
منها،
عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدال على الخير كفاعله». رواه البزار.
وعن أبي مسعود البدريّ قال: قال رسول الله ﷺ «٣» :«من دل على خير فله مثل أجر فاعله». رواه مسلم.
وعن أبي هريرة: قال: قال رسول الله ﷺ «٤» :«من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه. لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى
(١) أخرجه ابن ماجة في: الأحكام، ١٧- باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، حديث ٢٣٤٠ و ٢٣٤١.
(٢) أخرجه أبو داود في: البيوع، ٧٩- باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، حديث ٣٥٣٥ عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه مسلم في: الإمارة، ٣٨- باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، حديث ١٣٣.
(٤) أخرجه مسلم في: العلم، حديث ١٦.
13
ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه. لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». رواه مسلم.
وعن سهل بن سعد «١» أن رسول الله ﷺ قال لعليّ عليه السلام، يوم خيبر: «فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا، خير لك من حمر النعم»
، متفق عليه.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قيل: يا رسول الله هذا! نصرته مظلوما، فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ قال: تحجزه وتمنعه من الظلم. فذاك نصرك إياه» «٢». رواه الإمام أحمد والشيخان.
وعن يحيى بن وثاب عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم»، رواه الإمام أحمد «٣».
وروى الطبرانيّ والضياء المقدسيّ عن أوس بن شرحبيل أن رسول الله ﷺ قال: «من مشى مع ظالم ليعينه، وهو يعلم أنه ظالم، فقد خرج من الإسلام»
وعن النوّاس «٤» ابن سمعان قال: «سألت رسول الله ﷺ عن البر والإثم؟ فقال: البر حسن الخلق.
والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس»
. رواه مسلم.
تنبيه: في فروع مهمة.
قال بعض الزيدية: من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأنه لا يجوز إعانة متعدّ ولا عاص، فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه، من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة. وفي (الإكليل) : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه، لحمل خمر ونحوه، وبيع العنب لعاصره خمرا والسلاح لمن يعصي به، وأشباه ذلك. انتهى. وهو متّجه.
(١)
أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٠٢- باب دعاء النبيّ ﷺ إلى الإسلام والنبوة، حديث ١٤٠٥ ونصه: عن سهل بن سعد رضي الله عنه، سمع النبي ﷺ يقول يوم خيبر «لأعطين الراية رجلا يفتح الله على يديه». فقاموا يرجون لذلك أيّهم يعطى. فغدوا وكلهم يرجو أن يعطى. فقال «أين عليّ» ؟ فقيل: يشتكي عينيه. فأمر فدعي له. فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأنه لم يكن به شيء. فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال «على رسلك، حتى تنزل بساحتهم. ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم. فو الله! لأن يهدى بك رجل واحد خير لك من حمر النعم»
. (٢)
أخرجه البخاري في: المظالم، ٤- باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما. حديث ١٢٠٣ ونصه: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما».
وفي الباب نفسه عنه قال: قال رسول الله ﷺ «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قالوا: يا رسول الله! هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال «تأخذ فوق يديه»
. (٣) أخرجه في المسند ٢/ ٤٣ والحديث رقم ٥٠٢٢.
(٤) أخرجه مسلم في صحيحه، في: البر والصلة والآداب، حديث ١٥. [.....]
14
وقال شيخ الإسلام تقيّ الدين بن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) : ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم. فإن التعاون نوعان: نوع على البر والتقوى، من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا ما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة، فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية، متوهما أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كان كل منهما كف وإمساك.
والثاني- تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، وضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك. فهذا الذي حرمه الله ورسوله.
نعم، إذا كانت الأموال قد أخذت بغير حق، وتعذر ردها إلى أصحابها، ككثير من الأموال السلطانية، فالإعانة على صرف هذه الأموال في مصالح المسلمين، كسداد الثغور ونفقة المقاتلة، ونحو ذلك، من الإعانة على البر والتقوى، إذ الواجب على السلطان في هذه الأموال، إذا لم يمكن معرفة أصحابها وردها عليهم ولا على ورثتهم- أن يصرفها مع التوبة، إن كان هو الظالم، إلى مصالح المسلمين. وإن كان غيره قد أخذها فعليه أن يفعل بها ذلك. وكذلك لو امتنع السلطان من ردها، كان الإعانة على إنفاقها في مصالح أصحابها، أولى من تركها بيد من يضيعها على أصحابها وعلى المسلمين. فإن مدار الشريعة على قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦]. المفسر لقوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]. وعلى
قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». أخرجاه في الصحيحين «١».
وعلى أن الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتبطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت، كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما- هو المشروع، والمعين على الإثم والعدوان من أعان ظالما على ظلمه. أما من أعان المظلوم على تخفيف الظلم عنه، أو على أداء المظلمة، فهو وكيل المظلوم لا وكيل الظالم. بمنزلة الذي يقرضه أو الذي يتوكل في حمل المال له إلى الظالم. مثال ذلك: وليّ اليتيم والوقف، إذا طلب ظالم منه مالا، فاجتهد في دفع
(١)
أخرجه البخاري في: الاعتصام، ٢- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً، حديث ٢٥٨٥ ونصه: عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال «دعوني ما تركتكم. إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
وأخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٣٠
.
15
ذلك، بدفع ما هو أقل منه إليه أو إلى غيره بعد الاجتهاد التام في الدفع- فهو محسن، وما على المحسنين من سبيل. وكذلك، وكيل المالك من المتأديين والكتّاب وغيرهم، الذي يتوكل لهم في العقد والقبض ودفع ما يطلب منهم، لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لو وضعت مظلمة على أهل قرية أو درب أو سوق أو مدينة، فتوسط رجل محسن في الدفع عنهم بغاية الإمكان، وقسّطها بينهم على قدر طاقتهم، من غير محاباة لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل توكل لهم في الدفع عنهم والإعطاء- كان محسنا. لكن الغالب أن من يدخل في ذلك يكون وكيل الظالمين محابيا مرتشيا مخفرا لمن يريد، وآخذا ممن يريد وهذا من أكبر الظلمة الذين يحشرون في توابيت من نار هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار، انتهى.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: اخشوه فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. يعني لمن خالف أمره. ففيه وعيد وتهديد عظيم. ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجيّ. لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا، كإسلام الذابح. كذا في (التبصير). وقد خص من (الميتة) السمك بالسّنة: فإنه حلال.
مات بتذكية أو غيرها. لما
رواه مالك في موطئه، والشافعي وأحمد في مسنديهما، وأبو داود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجة في سننهم، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، عن أبي هريرة «١»
أن رسول الله ﷺ سئل عن ماء البحر؟ فقال: هو
(١) أخرجه مالك في الموطأ في الطهارة: حديث ١٢.
وأبو داود في: الطهارة، ٤١- باب الوضوء بماء البحر، حديث ٨٣.
16
الطهور ماؤه، الحل ميتته»
. وهكذا الجراد. لما سيأتي. قال الرازيّ: تحريم الميتة موافق لما في العقول. لأن الدم جوهر لطيف جدّا. فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد، وحصل من أكله مضار عظيمة. انتهى.
أخرج ابن مندة في كتاب (الصحابة) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة. فأنزل تحريم الميتة فاكفأت القدر وَالدَّمُ أي: المسفوح منه. لقوله تعالى في الأنعام: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام: ١٤٥]. وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيي بن سعيد بن القاسم عن عائشة قالت: إنما نهى عن الدم السافح.
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ: حدثنا عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم عن أبيه عن بن عمر مرفوعا قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«أحل لنا ميتتان ودمان. فأما الميتتان فالسمك والجراد. وأما الدمان فالكبد والطحال». وكذا رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد ابن أسلم
. وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقيّ: ورواه إسماعيل بن أبي إدريس، عن أسامة، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن ابن عمر، مرفوعا. قال الحافظ ابن كثير: وثلاثتهم كلهم ضعفاء. ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان ابن بلال، أحد الأثبات، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر، فوقفه بعضهم عليه، قال الحافظ أبو زرعة الرازيّ: وهو أصح. نقله ابن كثير.
أقول: أقوى مما ذكر في الحجة، ما
في الصحيحين «٢» وغيرهما من حديث ابن أبي أوفي قال: غزونا مع رسول الله ﷺ سبع غزوات نأكل الجراد.
وفيهما أيضا من حديث «٣» جابر، إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش. فلما قدموا قالوا للنبيّ
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٩٧.
وابن ماجة في: الصيد، ٩- باب صيد الحيتان والجراد، حديث ٣٢١٨.
(٢) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ١٣- باب أكل الجراد، حديث ٢٢٠٠.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ٥٢.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ٦٥- باب غزوة سيف البحر، حديث ١٢٢٦.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ١٧.
17
صلى الله عليه وسلم. فقال: كلوا رزقا أخرج الله لكم. أطعمونا منه إن كان معكم. فأتاه بعضهم بشيء
. وفي البخاري «١» عن عمر في قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ [المائدة: ٩٦]. قال: صيده ما اصطيد. وطعامه ما رمي به. وفيه عن ابن عباس قال:
طعامه ميتته.
قال ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صديّ بن عجلان قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله، وأعرض عليهم شرائع الإسلام، فأتيتهم. فبينما نحن كذلك، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها. فقالوا: هلم، يا صديّ! فكل. قال، قلت: ويحكم، إنما أتيتكم من عند من يحرّم هذا عليكم، فأقبلوا عليه، قالوا: وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الآية. ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه
. وزاد بعد هذا السياق قال: فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي. فقلت: ويحكم! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش. قال، وعليّ عباءتي. فقالوا: لا. ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال: فاغتممت وضربت برأسي في العباء. ونمت على الرمضاء في حرّ شديد. قال، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج. لم ير الناس أحسن منه. وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه. فأمكنني منه فشربته. فلما فرغت من شرابي استيقظت، فلا، والله! ما عطشت ولا عربت (عرب كفرح فسدت معدته. قاموس) بعد تيك الشربة.
ورواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن حماد، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة. وزاد بعد قوله (بعد تيك الشربة) : فسمعتهم يقولون: أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه بمذقة؟ فأتوني بمذقة فقلت: لا حاجة لي فيها. إن الله أطعمني وسقاني. وأريتهم بطني، فأسلموا عن آخرهم. انتهى.
قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها. والفصيد، وهو الدم في المباعر، يشوونها ويقولون: لم يحرم من فزد له. وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ.. [البقرة: ١٧٣] الآية.
قال المهايميّ: حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة. فأشبه النجس بالذات،
(١) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ١٢- باب قول الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ.
18
لا يؤثر فيه المطهر. وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي، وإن زالت بالموت، فهو منجّس ولم يقبل التطهير. لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت، أشبه النجس بالذات، فكأنه زيد تنجيسه بالموت. وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه، وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه، كان متنجسا بنجاسة روحه، ثم بزوال الروح. انتهى.
قال ابن كثير: وقوله تعالى: وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ يعني إنسيّه ووحشيه، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطّرد.
وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال «١» :«قال رسول الله ﷺ من لعب بالنردشير، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه»
، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين «٢» : أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام: فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال: لا هو حرام»
وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي:
نودي عليه بغير اسم الله، كما في (الصحاح) وأصل الإهلال رفع الصوت، وكان العرب في الجاهلية، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح، فحرم الله ذلك بهذه الآية.
وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١].
قال ابن كثير في الآية: أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله، فهو حرام. لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم. فمن عدل بها عن ذلك، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية، إما عمدا أو نسيانا، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام، إن شاء الله تعالى.
(١) أخرجه مسلم في: الشعر، حديث ١٠.
(٢)
أخرجه البخاري في: البيوع، ١١٢- باب بيع الميتة والأصنام، حديث ١١٢١ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله ﷺ يقول، عام الفتح، وهو بمكة «إن الله ورسوله حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» فقيل: يا رسول الله! أرأيت شحوم الميتة، فإنها يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس. فقال «لا. هو حرام» ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك «قاتل الله اليهود. إن الله لما حرّم شحومها، جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه»
.
19
وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال: كان رجل من بني رياح يقال له: ابن نائل. وكان شاعرا. نافر غالبا، جدّ الفرزدق بماء بظهر الكوفة. على أن يعقر هذا مائة من إبله، إذا وردت الماء. فلما وردت الماء. قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها. قال: فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم. وعليّ بالكوفة.
قال: فخرج عليّ. على بغلة رسول الله ﷺ البيضاء، وهو ينادي: يا أيها الناس! لا تأكلوا من لحومها. فإنما أهل بها لغير الله. هذا أثر غريب. يشهد له بالصحة ما
رواه أبو داود عن ابن عباس «١» قال: «نهى رسول الله ﷺ عن معاقرة الأعراب»
. ثم
أسند عن عكرمة «٢»
أن رسول الله ﷺ نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل.
أفاده ابن كثير.
وفي (القاموس وشرحه) : وعاقره: فاخره وكارمه في عقر الإبل. ويقال: تعاقرا إذا عقرا إبلهما، يتباريان بذلك، ليرى أيهما أعقر لها. ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة. أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحيّ لما تعاقرا بصوأر. فعقر سحيم خمسا ثم بدا له. وعقر غالب مائة.
وفي حديث ابن عباس: لا تأكلوا من تعاقر الأعراب. فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله.
قال ابن الأثير: هو عقرهم الإبل، كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء.
فيعقر هذا وهذا. حتى يعجز أحدهما الآخر. وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا.
ولا يقصدون به وجه الله تعالى. فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى. انتهى.
وروى الإمام مسلم عن عليّ «٣» رضي الله عنه قال: «حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات: لعن الله من ذبح لغير الله. لعن الله من لعن والديه. لعن الله من آوى محدثا. لعن الله من غير منار الأرض».
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب أن رسول الله ﷺ قال: «دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك؟ يا رسول الله! قال:
مر رّجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا. فقالوا لأحدهما:
قرب قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا
(١) أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ١٤- باب ما جاء في أكل معاقرة الأعراب، حديث ٢٨٢٠.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٧- باب في طعام المتباريين، حديث ٣٧٥٤.
(٣) أخرجه مسلم في: الأضاحي، حديث ٤٣.
20
سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل. فضربوا عنقه. فدخل الجنة».
وفي هذه القصة ترهيب من وجوه: منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم. مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر. ومنها أن في هذا شاهدا
للحديث الصحيح: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك» «١».
كذا في كتاب (التوحيد).
وَالْمُنْخَنِقَةُ وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا. بأن تتخبل في وثاقها فتموت به. قال الحسن وغيره: هي التي تختنق بحبل الصائد أو غيره. وبأي وجه اختنقت فهي حرام. وقال ابن عباس: كانت الجاهلية يخنقون الشاة. حتى إذا ماتت أكلوها. والمنخنقة من جنس الميتة، لأنها لما ماتت، وما سال دمها، كانت كالميت حتف أنفه. إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب.
قال المهايمي: المنخنقة، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها، مع تنجسها بالموت وَالْمَوْقُوذَةُ يعني المقتولة بالخشب. وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصيّ. حتى إذا ماتت أكلوها. وفي (القاموس وشرحه) الوقذ شدة الضرب. وقذه يقذه وقذا: ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب. وقال أبو سعيد: الوقذ الضرب على فأس القفا.
فيصير هدتها إلى الدماغ، فيذهب العقل. فيقال: رجل موقوذ.
وفي الصحيح أن عديّ ابن حاتم قال: «قلت: يا رسول الله! إني أرى بالمعراض الصيد، فأصيب. قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله. وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ. فلا تأكله» «٢».
وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي الساقطة من جبل أو في بئر، فتموت. والتردي السقوط فهي مهواة.
وهذه الثلاثة في معنى الميتة. فإنها ماتت ولم يسل دمها. وَالنَّطِيحَةُ هي التي نطحتها أخرى فماتت. فهي حرام. وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من
(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٢٩- باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك، حديث ٢٤٣٣، عن عبد الله بن مسعود.
(٢) أخرجه البخاري في: البيوع، ٣- باب تفسير المشبّهات، حديث ١٤١.
وأخرجه أيضا في: الذبائح والصيد، ٣- باب ما أصاب المعراض بعرضه.
21
مذبحها. وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله. لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع، ولم تخل من خباثة.
فائدة:
قال التبريزيّ في (تهذيبه) وابن قتيبة في (أدب الكاتب) : ما كان على فعيل، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول، كان بغير هاء. نحو كف خضيب وملحفة غسيل. وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع... وقالوا: ملحفة جديد. لأنها في تأويل مجدودة أي مقطوعة. وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء. نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة.
وجاءت أشياء شاذة. فقالوا: ريح خريق وناقة سديس وكتيبة خصيف.
وقال ابن السكيت: قد تأتي فعيله بالهاء وهي في تأويل مفعول بها. تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت. نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع، ومررت بقتيلة بني فلان.
وقال الجوهريّ: إنما جاءت النطيحة بالهاء، لغلبة الاسم عليها. وكذلك الفريسة والأكيلة والرميّة. لأنه ليس هو (نطحتها، فهي منطوحة) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل.
وَما أَكَلَ السَّبُعُ أي ما عدا عليها فأكل بعضها. قال قتادة: كان أهل الجاهلية، إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه، أكلوا ما بقي منه. فحرمه الله تعالى.
قال المهايميّ: هو، وإن أشبه الصيد، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه، فسرت خباثته فيها. انتهى. و (السبع) بضم الباء وفتحها وسكونها: المفترس من الحيوان.
مثل الأسد والذئب والنمر والفهد. وما أشبهها مما له ناب، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها. وسمي ذلك لتمام قوته. وذلك أن (السبع) من الأعداد التامة، وفي الآية محذوف تقديره: وما أكل السبع بعضه. كما ذكرنا. لأن ما أكله فقد فقد.
فلا حكم له، إنما الحكم للباقي منه. وقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها. بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره، فإنه يتحقق فيه المطهر، ولا يؤثر فيه السابق. لأن اللاحق ينسخه. بل هو واقع قبل تأثير السابق. إذ لا يتم التأثير إلا بالموت. أفاده المهايميّ.
22
قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: أي: إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح، فكلوه فهو ذكيّ. وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدّي.
وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ، في الآية قال: إن مصعت بذنبها، أو ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، فكل.
وروى ابن جرير «١» عن الحارث عن عليّ أيضا قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدا أو رجلا، فكلها
. وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء. أفاده ابن كثير.
وفي الموطأ «٢» : سئل مالك عن شاة تردت فتكسّرت، فأدركها صاحبها فذبحها، فسال الدم منها ولم تتحرك؟ فقال مالك: إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف، فليأكلها.
والتذكية الذبح، كالذكا والذكاة. قال الراغب: حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية. لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه. أي وهو قطع الحلقوم والمريء. بمنهر للدم: من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب، له حد يقطع كما السلاح المحدد. ما لم يكن سنا أو ظفرا.
لحديث رافع بن خديج في الصحيحين «٣» وغيرهما قال: «قلت يا رسول الله! إنا لاقو العدوّ غدا. وليس معنا مدى. أفنذبح بالقصب؟ فقال: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: «يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا
(١) الأثر رقم ١١٠٣٦. [.....]
(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الذبائح، حديث ٧.
(٣)
أخرجه البخاري في: الشركة، ٣- باب قسمة الغنم، حديث ١٢٣٠ ونصه: عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده قال: كنا مع النبيّ ﷺ بذي الحليفة. فأصاب الناس جوع. فأصابوا إبلا وغنما. قال: وكان النبيّ ﷺ في أخريات القوم. فعجلوا وذبحوا ونصبوا القدور. فأمر النبي ﷺ بالقدور فأكفئت. ثم قسم فعدل عشرة من الغنم ببعير. فندّ منها بعير. فطلبوه فأعياهم. وكان في القوم خيل يسيرة. فأهوى رجل منهم بسهم فحبسه الله. ثم قال «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا»
.
فقال جدي: إنا نرجو أو نخاف العدوّ غدا، وليست مدى. أفنذبح بالقصب؟ قال «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوه. ليس السنّ والظفر. وسأحدثكم عن ذلك أما السنّ فعظم. وأما الظفر فمدى الحبشة».
23
في الحلق واللبّة؟ قال: لو طعنت في فخذها لأجزاك»، أخرجه أحمد وأهل السنن-
ففي إسناده مجهولون. وأبو العشراء لا يعرف من أبوه. ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. فهو مجهول. كذا في (الروضة).
وقال الحافظ ابن حجر في (التلخيص) : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه. وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح. ولا يعرف حاله.
وقال في (التقريب) : أعرابيّ مجهول.
قال الترمذيّ في جامعه، بعد سوقه لهذا الحديث: قال أحمد بن منيع: قال يزيد بن هارون: هذا في الضرورة. وفي الباب عن رافع بن خديج. انتهى.
وقال ابن كثير: وهذا الحديث صحيح. ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة. انتهى.
وتصحيحه له، مع جهالة راوية المذكور، فيه نظر. فإن حد الصحيح كما في (التقريب) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة. قال (شارحه السيوطيّ) : فخرج بقيد (العدول) ما نقله مجهول عينا أو حالا. أي: فليس بصحيح بل ضعيف.
وفي (النخبة) أن خبر الآحاد مقبول ومردود، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو. والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك. إلى أن قال: أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معيّن. فتبصّر.
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ قال الزمخشريّ: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت. يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها. يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها.
تسمى الأنصاب.
قال ابن كثير: فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرّم عليهم أكل هذه الذبائح، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله. لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله. انتهى.
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى.
فروى أبو داود «١»
(١)
أخرجه أبو داود في: الايمان والنذور، ٢٢- باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، حديث ٣٣١٣ ونصه: عن ثابت بن الضحاك قال: نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلا ببوانة.
24
بإسناد على شرط الشيخين، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: «نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة. فسأل النبي ﷺ فقال: هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟
قالوا: لا. قال: فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوف بنذرك. فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله. ولا فيما لا يملك ابن آدم»
.
ففيه، أن المعصية قد تؤثر في الأرض. وكذلك الطاعة. وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله. أو عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله أيضا. وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم، ولو لم يقصده. كذا في (كتاب التوحيد).
لطيفة:
(النّصب) بضمتين، وضم فسكون، إما جمع، واحده نصاب. ككتاب وكتب. أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق. وقفل وأقفال. وفي (القاموس وشرحه) : النّصب: كل ما نصب وجعل علما. وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى. والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهلّ عليها ويذبح لغير الله تعالى. وقال القتيبيّ: النصب صنم أو حجر. وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده، فيحمرّ بالدم. ومنه حديث «١» أبي ذر في إسلامه قال: فخرجت مغشيّا عليّ ثم ارتفعت كأني نصب أحمر. يريد أنهم ضربوه حتى أدموه. فصار كالنصب المحمّر بدم الذبائح. انتهى.
قال ابن جريح: كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا. وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت، بدماء تلك الذبائح. ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: وحرم عليكم، أيها المؤمنون، الاستقسام بالأزلام، أي: طلب القسم والحكم بها. والأزلام جمع زلم (محركة). و (كصرد) وهي: قداح ثلاثة كانوا يستقسمون به في الجاهلية. مكتوب على أحدها: (افعل) وعلى الآخر (لا تفعل) والثالث غفل، ليس عليه شيء. وقد زلّمت وسوّيت ووضعت
فأتى النبيّ ﷺ فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة. فقال النبيّ ﷺ «هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد» ؟ قال: لا. قال «هل كان فيها عيد من أعيادهم» ؟ قال: لا. قال رسول الله ﷺ «أوف بنذرك. فإنه لا وفاء للنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم».
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ١٣٢ وهو حديث طويل.
25
في الكعبة. يقوم بها سدنة البيت، فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا. أتى السادن وقال:
أخرج لي زلما. فيجيلها ثم يخرج زلما منها. فإذا خرج قدح الأمر، مضى على ما عزم عليه. أو النهي قعد عما أراده. أو الفارغ أعاد.
قال الأزهريّ (في معنى الآية) : أي: تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين. فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح. وذكر محمد بن إسحاق وغيره أن أعظم أصنام قريش، صنم كان يقال له هبل. منصوب على بئر داخل الكعبة، فيها توضع الهدايا، وأموال الكعبة فيه. وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم. فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه. وفي (اللباب) : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها: (أمرني ربي) وعلى واحد:
(نهاني) وعلى واحد (منكم) وعلى واحد (من غيركم) وعلى واحد: (ملصق) وعلي واحد (العقل) وعلى واحد غفل. أي ليس عليه شيء. وكانت العرب، في الجاهلية، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل، أو تحمل عقل، أو غير ذلك من الأمور العظام- جاءوا إلى هبل. وكانت أعظم صنم لقريش بمكة. وجاءوا بمائة درهم. وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم. فإن فرج (أمرني ربي) فعلوا ذلك الأمر. وإن خرج (نهاني ربي) لم يفعلوه. وإن أجالوا على نسب، فإن خرج (منكم) كان وسطا منهم. وإن خرج (من غيركم) كان حلفا فيهم. وإن خرج (ملصق) كان على حاله. وإن اختلفوا في العقل. وهو الدين، فمن خرج عليه قدح العقل تحمّله. وإن خرج غفل أجالوا ثانيا. حتى يخرج المكتوب عليه. فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا. كما يأتي:
وثبت في الصحيحين «١»
أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها. وفي أيديهما الأزلام. فقال: «قاتلهم الله، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا»
. وفي الصحيح «٢» أن سراقة بن مالك بن جعشم، لما خرج في طلب النبي ﷺ وأبي بكر، وهما ذاهبان إلى المدينة. مهاجرين، قال: فاستقسمت بالأزلام: هل أضرّهم أم لا؟
فخرج الذي أكره: لا تضرهم. قال فعصيت الأزلام واتبعتهم. ثم استقسم بها ثانية
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٨- باب قوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، عن ابن عباس.
حديث ٢٦٤.
(٢) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، ٤٥- باب هجرة النبيّ ﷺ وأصحابه إلى المدينة، حديث ١٨٢٢.
26
وثالثة. كل ذلك يخرج الذي يكره: لا تضرهم. وكان كذلك. وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك. ثم أسلم بعد ذلك.
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا»
ذلِكُمْ فِسْقٌ أي خروج عن الأخذ بالطريق المشروع. والإشارة إلى الاستقسام. أو إلى تناول ما حرم عليهم. لأن المعنى:
حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا. فإن قلت: لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام، لتعرف الحال- فسقا؟ قلت: لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب. وقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: ٦٥]. واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه. وقوله: أمرني ربي ونهاني ربي- افتراء على الله. وما يدريه أنه أمره أو نهاه؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة. وإن كان أراد بالرب الصنم، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر.
كذا في الكشاف.
تنبيه:
في (الإكليل) استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك. وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام، وهو مردود. انتهى. أي لتباين القصد فيهما. فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها، لتطيب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض. ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة. كما (في العناية).
قال الحاكم: وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم. فأما التفاؤل بالخير فمباح. قال الأصمّ: ومن هذا قول المنجم: إذا طلع نجم كذا فاخرج، وإن لم يطلع فلا تخرج.
قال الراضي بالله: ومن عمل بالأيام في السعد والنحس، معتقدا أن لها تأثيرا، كفر. وإن لم يعتقد أثم.
وقد روى أبو داود «١» والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة، عن أبيه، أنه سمع النبي ﷺ يقول: «إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت».
قال عوف أحد رواته: العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض. وفي
(١) أخرجه أبو داود في: الطب، ٢٣- باب في الخط وزجر الطير، حديث ٣٩٠٧.
27
(القاموس) عفت الطير عيافة: زجرتها. وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها، فتتسعّد أو تتشأم، وهو من عادة العرب كثيرا.
وقال أبو زيد: الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع.
وقال ابن الأثير: الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء. وقيل: هو الخط بالرمل. والجبت: كل ما عبد من دون الله تعالى.
وقد روى مسلم في صحيحه «١»، عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوما».
وروى الإمام أحمد «٢» وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم».
وعن عمران بن حصين مرفوعا: «ليس منا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهن أو تكهّن له، أو سحر أو سحر له. ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ الله». رواه البزار بإسناد جيد. ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس. دون قوله: ومن أتى إلخ.
قال البغوي: العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك. وقيل: هو الكاهن. والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل. وقيل: الذي يخبر عما في الضمير. وقال أبو العباس بن تيمية: العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق. وقال ابن عباس (في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم) : ما أرى من فعل ذلك، له عند الله من خلاق. وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فهيا من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن، والتصريح بأنه كفر.
وعن ابن مسعود مرفوعا «٣». الطيرة شرك. الطيرة شرك. وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل. رواه أبو داود والترمذيّ
وصححه. وجعل آخره من قول ابن مسعود.
ولأحمد «٤» من حديث ابن عمرو: من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك.
قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أن تقول: اللهم! لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك.
(١) أخرجه مسلم في: السلام، حديث ١٢٥.
(٢)
أخرجه في المسند ٢/ ٤٠٨ وهذا نصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «من أتى حائضا، أو امرأة في دبرها، أو كاهنا فصدقه، فقد برئ مما أنزل على محمد»
. (٣) أخرجه أبو داود: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٠.
(٤) أخرجه في المسند ٢/ ٢٢٠ حديث ٧٠٤٥.
28
وعن أنس قال «١» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل.
قالوا: وما الفأل؟ قال: الكلمة الطيبة. رواه الشيخان.
ولأبي داود «٢» بسند صحيح عن عروة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال: «أحسنها الفأل ولا تردّ مسلما. فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل:
اللهم! لا يأتي بالحسنات إلا أنت. ولا يدفع السيئات إلا أنت. ولا حول ولا قوة إلا بك»
.
فائدة:
قال الحافظ ابن كثير: قد أمر الله المؤمنين، إذا ترددوا في أمورهم، أن يستخيروه، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه. كما
رواه الإمام أحمد والبخاري «٣» وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال: «كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور، كما يعلمنا السورة من القرآن: ويقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم. فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم! إن كنت تعلم أن هذا الأمر (ويسميه باسمه) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري (أو قال عاجل أمري) وآجله فأقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه. وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري، فاصرفني عنه واصرفه عني، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به». هذا لفظ الإمام أحمد.
الْيَوْمَ يَئِسَ أي: قنط الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ روي عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، يعني: يئسوا أن يراجعوا دينهم.
وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدّيّ ومقاتل بن حيان. وعلى هذا المعنى يرد
الحديث الثابت في الصحيح «٤» أن رسول الله ﷺ قال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم». نقله ابن كثير
. وعليه ف (من) تعليلية. أي: يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها. ودخلوا فيه أفواجا.
(١) أخرجه البخاري في: الطب، ٤٤- باب الفأل، حديث ٢٢٦٨.
ومسلم في: السلام، حديث ١١٢.
(٢) أخرجه أبو داود في: الطب، ٢٤- باب في الطيرة، حديث ٣٩١٩. [.....]
(٣) أخرجه البخاري في: التهجد، ٢٥- باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، حديث ٦٣٧.
(٤) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٦٥.
29
وللزمخشريّ تأويل بديع، تابعه عليه من بعده، ونحن نسوقه أيضا. قال رحمه الله: لم يرد بقوله تعالى: الْيَوْمَ يوم بعينه. وإنما أريد به الزمان الحاضر، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية. كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب. فلا تريد (بالأمس) اليوم الذي قبل يومك ولا (باليوم) يومك. وقيل: أريد يوم نزولها. وقد نزلت يوم الجمعة، وكان يوم عرفة، بعد العصر في حجة الوداع.
وقوله تعالى: يَئِسَ. إلخ. أي يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث، بعد ما حرمت عليكم. وقيل: يئسوا من دينكم أن يغلبوه. لأن الله عز وجل وفّى بوعده من إظهاره على الدين كله.
فَلا تَخْشَوْهُمْ بعد إظهار الدين، وزوال الخوف من الكفار، وانقلابهم مغلوبين مقهورين، بعد ما كانوا غالبين وَاخْشَوْنِ وأخلصوا لي الخشية. انتهى كلامه.
وأوضح الوجه الأول، الرازيّ فقال: ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه، حتى يقال: إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان معناه: لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم.
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو: إكماله لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبيّ غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه. ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحلّه، ولا حرام إلا ما حرّمه، ولا دين إلا ما شرعه. فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة. ولهذا قال الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني أحكامه وفرائضه، فلا زيادة بعده، ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام. هذا ما روي عن ابن عباس. وقال سعيد بن جبير وقتادة:
معنى (الإكمال) أنه لم يحج معهم مشرك. وخلا الموسم لرسول الله ﷺ وللمسلمين. وقيل: معناه كفايتهم أمر العدوّ، وجعل اليد العليا لهم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد، إذا كفوا من ينازعهم. وبما ذكرنا أولا- من أنّ المراد بالإكمال عدم الزيادة- يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا. ولذا قال ابن الأنباريّ (في الآية) : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت. وذلك أنّ الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر. فيكون الوقت الأول تامّا في وقته. وكذلك الوقت الثاني تامّا في وقته. فهو كما يقول القائل: عندي عشرة كاملة، ومعلوم أنّ العشرين أكمل منها.
30
والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده، في الأوقات المختلفة، مختلفة.
وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبّد بها. فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره- وهو يوم عرفة- ولم يوجب ذلك، أنّ الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات.
وللإمام القفّال نحو ذلك، نقله عنه الرازيّ واختاره. قال: إنّ الدين ما كان ناقصا البتة، بل كان أبدا كاملا. يعني: كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت، إلّا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه. فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت. وكان يزيد بعد العدم. وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة. فالشرع أبدا كان كاملا. إلّا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص. والثاني كمال إلى يوم القيامة. فلأجل هذا قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني بإكمال الدين والشريعة. لأنه لا نعمة أتمّ من نعمة الإسلام. أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين. وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، وأن لم يحج معكم مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. أو بإنجاز ما وعدهم بقوله: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ. فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا.
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني: اخترته لكم من بين الأديان، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضيّ وحده. وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:
٨٥]، أو معناه: الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم. ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيّا للحق تعالى منذ القدم، إلّا أن المعنيّ به، في الآية، الصفة التي هو اليوم بها. وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته. أي: فالزموه ولا تفارقوه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.
[آل عمران: ١٩]..!
روى البغويّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال جبريل: قال الله عز وجلّ: هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلّا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.
فوائد:
الأولى: روى الإمام أحمد والشيخان «١» وغيرهم عن طارق بن شهاب قال: جاء
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢- باب قوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، حديث ٤١.
31
رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم، لو علينا، معشر اليهود، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال: وأيّ آية؟ قال:
قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي. فقال عمر: والله! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله ﷺ عشية عرفة في يوم جمعة.
قال ابن كثير: وقد روي هذا من غير وجه عن عمر. وروى ابن جرير «١» عن قبيصة بن أبي ذئب قال: قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر: أي آية يا كعب؟ فقال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت، والمكان الذي أنزلت فيه. نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة. وكلاهما بحمد الله لنا عيد. وروى ابن جرير «٢» القصة أيضا عن ابن عباس، وأنه قال: نزلت يوم عيدين إثنين. يوم عيد ويوم جمعة.. وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن عليّ قال: نزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ وهو قائم عشية عرفة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ. ورواه أيضا عن سمرة. وروى ابن جرير نحوه عن معاوية. «٣». وروي عن السدّي «٤» قال: نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله ﷺ فمات. فقالت «٥» أسماء بنت عميس: حججت مع رسول الله ﷺ تلك الحجة. فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل، فمال رسول الله ﷺ على الراحلة. فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن. فنزلت. فأتيته فسجيت عليه بردا كان عليّ.
وقال ابن جرير «٦» وغيره: توفي رسول الله ﷺ بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
وقال ابن جرير «٧» : حدثنا سفيان بن وكيع: حدثنا ابن فضيل عن هارون بن
(١) الأثر رقم ١١١٠٠.
(٢) الأثر رقم ١١٠٩٨.
(٣) الأثر رقم ١١١٠٨.
(٤) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٥) الأثر رقم ١١٠٨١.
(٦) ابن جرير، ٩/ ٥١٨.
(٧) الأثر رقم ١١٠٨٣.
32
عنترة عن أبيه قال: لما نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ- وذلك يوم الحج الأكبر- بكى عمر. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا.
فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال صدقت.
قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء. انتهى.
قلت: والحديث المذكور رواه مسلم «١» عن أبي هريرة. والترمذيّ عن ابن مسعود. وابن ماجة عنهما أيضا وعن أنس، والطبرانيّ عن سلمان وسهل وابن عباس.
هذا، وروى ابن جرير «٢» من طريق العوفيّ عن ابن عباس في الآية قال: ليس، ذلك بيوم معلوم عند الناس. ومن طريق أبي جعفر الرازيّ عن الربيع بن أنس قال:
نزلت على رسول الله ﷺ في مسيره إلى حجة الوداع.
وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدري أنها نزلت على رسول الله ﷺ يوم غدير خمّ.
حين قال لعليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه
. ثم رواه عن أبي هريرة وفيه: إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة- يعني مرجعه ﷺ من حجة الوداع.
قال ابن كثير: ولا يصح لا هذا ولا هذا. بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة، كما قدمنا عن عمر وعليّ ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم، وعن ثلّة من التابعين، الثانية: استدلّ نفاة القياس بهذه الآية، على أنّ القياس باطل. وذلك لأنّ الآية دلت على أنه تعالى قد نصّ على الحكم في جميع الوقائع، إذ لو بقي بعضها غير مبيّن الحكم لم يكن الدين كاملا، وإذا حصل النص في جميع الوقائع، فالقياس- إن كان على وفق ذلك النص- كان عبثا وإن كان على خلافه كان باطلا.
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازيّ. فانظره.
الثالثة: قال صاحب (فتح البيان) : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع. إمّا بالنص على كل فرد فرد، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة. ومما يؤيد ذلك قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ
(١)
أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٣٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ غريبا. فطوبى للغرباء»
. (٢) الأثر رقم ١١١١٣.
33
[الأنعام: ٣٨]. وقوله: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٥٩].
وقد صح عنه ﷺ أنه قال «١» :«تركتكم على الواضحة، ليلها كنهارها»
. وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين. وبما يفيد هذا المعنى، ويصحح دلالته، ويؤيد برهانه، ويكفي في دفع الرأي، وأنه ليس من الدين- قول الله تعالى هذا. فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيّه صلى الله عليه وسلم، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه لأنه إن كان من الدين- في اعتقادهم- فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم، وهذا فيه ردّ للقرآن. وإن لم يكن من الدين، فأيّ فائدة في الاشتغال بما ليس منه؟ وما ليس منه فهو ردّ بنص السنة المطهرة. كما ثبت في (الصحيح) - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا. فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصكّ به وجوه أهل الرأي، وترغم به آنافهم، وتدحض به حجتهم. فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه. ولم يمت رسول الله ﷺ إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل. فمن جاء بشيء من عند نفسه وزعم أنه من ديننا قلنا له: إنّ الله أصدق منك: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: ١٢٢]. اذهب لا حاجة لنا في رأيك. وليت المقلدة فهموا هذه الآية حقّ الفهم حتى يستريحوا ويريحوا. وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنّ القرآن أحاط بكل شيء فقال: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٣٨]. وقال: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً [النحل: ٨٩]. ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [المائدة: ٤٩]. وقال: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ [النساء: ١٠٥]. وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ [الأنعام: ٥٧]. وقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤]. وفي آية... هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: ٤٥]. وفي أخرى.. هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: ٤٧]. وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله ﷺ فقال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:
٧]. وهذه أعمّ آية في القرآن، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة، وقال: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: ٥٩]. وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز.
(١)
أخرجه ابن ماجة في المقدمة، ١- باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حديث ٥ ونصه: عن أبي الدرداء قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نذكر الفقر ونتخوفه. فقال «الفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده! لتصبّنّ عليكم الدنيا صبّا، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إلّاهيه. وأيم الله! لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها سواء».
34
وقال: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا [النور: ٥١]. وقال: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: ٢١]. والاستكثار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة. ولا فائدة زائدة، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك. ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين. وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة، والبينات العظيمة تليينا لقلب المقلّد الذي قد جمد، وصار كالجلمد. فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، طاعة لأوامره. فإنّ هذه الطاعة، وإن كانت معلومة لكل مسلم، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية، فإذا ذكر بها ذكر. ولا سيما من نشأ على التقليد وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه. فإنه يقع في قلبه، أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه. وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء. فإذا راجع نفسه رجع.
ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب، ثم سمع- قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس- خلاف ذلك المألوف، استنكره وأباه قلبه، ونفر عنه طبعه. وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر. ولكن إذا وازن العاقل بعقله، بين من اتبع أحد ائمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلّد- ولا مستند لذلك العالم فيها، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل- وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة أفاده العقل بأن بينهما مسافات تنقطع فيها أعناق الإبل، لا جامع بينهما، لأنّ من تمسك بالدليل أخذ بما أوجب الله عليه الأخذ به، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة: أولها وآخرها، وحيّها وميتها... ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره. والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة، واسترواء النص، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة. فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها. فهم رواة وهو مسترو، وهذا عامل بالرواية لا بالرأي والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية. لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة. وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه. وهما من هذه الحيثية متقابلان، فانظر كم الفرق بين المنزلتين؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة. وهو مبسوط في مواطنه، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ، وبالله التوفيق. انتهى كلامه.
35
الرابعة: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملّة الإسلام.
وقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات. وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه. وهو أنّ تناولها فسوق، وحرمتها من جملة الدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضيّ. ومعناه: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات: الميتة وما بعدها، أي: أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها فِي مَخْمَصَةٍ أي: مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه- و (المخمصة) : مصدر مثل المغضبة والمعتبة. يقال: خمصه الجوع خمصا ومخمصة، وخمص البطن (مثلثة الميم) خلا. غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي: غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة، أو العصيان بالسفر. كقوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة:
١٧٣]. فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لتناوله الحرام- فلا يؤاخذه به رَحِيمٌ أي: بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر، وافتقاره إلى ذلك، فيتجاوز عنه ويغفر له.
وفي (المسند) «١» و (صحيح) ابن حبان عن ابن عمر- مرفوعا- قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته». لفظ ابن حيان.
وفي لفظ لأحمد «٢» :«من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة»
. ولهذا قال الفقهاء: قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها. وقد يكون مندوبا، وقد يكون مباحا، بحسب الأحوال. واختلفوا: هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق، أو له أن يشبع ويتزود؟
على أقوال. وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما- كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم- بل متى اضطر إلى ذلك جاز له.
وقد روى الإمام أحمد «٣» عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا: «يا رسول الله! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة. فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا، فشأنكم بها.
إسناده صحيح على شرط الشيخين، والاصطباح: شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة، وما كان منه بالعشيّ فهو الاغتباق، ومعنى لم تحتفئوا:
أي تقتلعوا. وفي اللفظة عدة روايات
وروى أبو داود عن الفجيع العامريّ: «٤»

أنه أتى
(١) أخرجه في المسند ٢/ ١٠٨ والحديث رقم ٥٨٧٣. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ٧١ والحديث رقم ٥٣٩٢.
(٣) أخرجه في المسند ٥/ ٢١٨.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٣٦- باب في المضطر إلى الميتة، حديث ٣٨١٧.
36
رسول الله ﷺ فقال: «ما يحل لنا من الميتة؟ قال: «ما طعامكم؟» قلنا: نصطبح ونغتبق! قال أبو نعيم: فسره لي عقبة: قدح غدوة وقدح عشية، قال: ذاك، وأبي! الجوع. فأحل لهم الميتة على هذه الحال». تفرد به أبو داود.
وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم. فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم. وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حدّ الشبع، ولا يتقيد ذلك بسدّ الرمق. والله أعلم.
وروى أبو داود «١» عن جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة ومعه أهله وولده.
«فقال رجل: إنّ ناقة لي ضلت. فإن وجدتها فأمسكها، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت. فقالت له امرأته: أنحرها! فأبى، فنفقت، فقالت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأتاه، فسأله، فقال له:
هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا! قال: فكلوها! قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك!»
تفرد به.
وقد يحتج به من يجوّز الأكل والشبع والتزود منها مدة، يغلب على ظنه الاحتياج إليها. والله أعلم. أفاده ابن كثير. وقوله: (فنفقت). أي ماتت. (من باب نصر وفرح) قال ابن برّي: أنشد ثعلب:
فما أشياء نشريها بمال فإن نفقت فأكسد ما تكون؟
تنبيه:
قال بعض المفسرين: ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها. والفقهاء يقولون: يقدم الأخف تحريما، فميته المأكول على ميتة غيره. انتهى.
وفي (رحمة الأمة) أنّ المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير، ومالكه غائب، أنّ له أكله بشرط الضمان، دون الميتة. عند مالك وأكثر أصحاب الشافعيّ وجماعة من الحنفية. وعند أحمد وآخرين: يأكل الميتة.
قال ابن كثير: قد استدل بقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ من يقول بأنّ العاصي بسفره لا بترخص بشيء من رخص السفر، لأنّ الرخص لا تنال بالمعاصي.
والله أعلم.
(١) أخرجه أبو داود في: الأطعمة، ٣٦- باب في المضطر إلى الميتة، حديث ٣٨١٦.
37
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أي: من المطاعم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي:
ما ليس بخبيث منها. وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة. و (الطيّب) في اللغة هو المستلذ. و (الحلال) المأذون فيه، يسمى طيبا تشبيها بما هو مستلذ.
لأنهما اجتمعا في انتفاء المضرة وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على (الطيبات) بتقدير مضاف. أي: وصيد ما علمتموه. أو مبتدأ، على أنّ (ما) شرطية وجوابها (فكلوا). و (الجوارح) : الكواسب من سباع البهائم والطير- كالكلب والفهد والعقاب والصقر والبازي والشاهين- لأنها تجرح لأهلها أي تكسب لهم. الواحدة جارحة. تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا، أي: كسبهم خيرا. وفلان لا جارح له.
أي: لا كاسب. ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠]. أي:
كسبتم. وقيل: سميت (جوارح) لأنها تجرح الصيد عند إمساكه. وقوله تعالى:
مُكَلِّبِينَ أي: معلمين لها أن تستشلي إذا أشليت، وتنزجر إذا زجرت، وتجتنب عند الدعوة، ولا تنفر عند الإرادة، فتصير كأنها وكلاؤكم لتعلمهن. إلا إذا قتلت بأنفسها من غير تعليم، فلا يحل صيدها.
قال الزمخشري: (المكلّب) مؤدب الجوارح ومضريها بالصيد لصاحبها ورائضها لذلك، بما علم من الحيل وطرق التأديب والتثقيف. واشتقاقه من (الكلب) لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب. فاشتق من لفظه لكثرته في جنسه. أو لأن السبع يسمى كلبا. ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهمّ سلط عليه كلبا من كلابك. فأكله الأسد». (الحديث حسن، أخرجه الحاكم
)، أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة، يقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. وانتصاب (مكلّبين) على الحال من (علمتم). فإن قلت: ما فائدة هذه الحال وقد استغنى عنها ب (علمتم) ؟
قلت: فائدتها أن يكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه، مدرّيا فيه، موصوفا بالتكليب. وقوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف، وفيه فائدة جليلة.
وهي أنّ على كل آخذ علما أن لا يأخذه إلّا من أقتل أهله علما، وأنحرهم دراية، وأغوصهم على لطائفه وحقائقه. وإن احتاج إلى أن يضرب إليه أكباد الإبل. فكم من
38
آخذ، عن غير متقن، قد ضيع أيامه، وعض عند لقاء النحارير أنامله مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ أي: من علم التكليب، لأنه إلهام من الله ومكتسب بالعقل. أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه. وانزجاره بزجره. وانصرافه بدعائه. وإمساك الصيد عليه وأن لا يأكل منه. انتهى.
وقال الناصر في (الانتصاف) : وفي الآية دليل على أن البهائم لها علم. لأن تعليمها، معناه لغة تحصيل العلم له بطرقه. خلافا لمنكري ذلك.
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي: صدن لكم وإن قتلنه بأن لم يأكلن منه وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير يرجع إلى (ما علمتم من الجوارح) أي: سموا عليه عند إرساله، كما بيّنه حديث أبي ثعلبة وعدّي الآتي. وجوز رجوعه إلى (ما أمسكن) على معنى: وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته وَاتَّقُوا اللَّهَ أي بالأكل مما فقد فيه شرط من هذه الشرائط استعجالا إليها إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ أي: المجازاة على كل ما جلّ ودقّ.
تنبيهات:
الأول:
روى ابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير، عن عدّي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيّين. سألا رسول الله ﷺ فقالا: «يا رسول الله! قد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها» ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال سعيد:
يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم وقال مقاتل: ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه، وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهريّ عن شرب البول للتداوي؟ فقال: ليس هو من الطيبات، رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس؟ فقال: ليس هو من الطيبات. وروى ابن أبي حاتم في سبب نزولها أثرا آخر،
عن أبي رافع مولى رسول الله ﷺ أنّ رسول الله ﷺ أمر بقتل الكلاب فقتلت، فجاء الناس فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها، فسكت. فأنزل الله: يَسْئَلُونَكَ الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه، فليأكل مما لم يأكل.
وعند ابن جرير «١» عن أبي رافع قال: «جاء جبريل إلى النبيّ ﷺ ليستأذن
(١) الأثر رقم ١١١٣٤.
39
عليه، فأذن له. فقال: قد أذنّا لك يا رسول الله! قال: أجل. ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة. حتى انتّهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها فتركته رحمة لها. ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فأخبرته.
فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاءوا فقالوا: يا رسول الله! ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأنزل الله عز وجل:
يَسْئَلُونَكَ». ورواه الحاكم في (مستدركه)
وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وروى ابن جرير «١» أيضا عن عكرمة: «أن رسول الله ﷺ بعث أبا رافع في قتل الكلاب حتى بلغ العوالي. فجاء عاصم بن عديّ وسعيد بن خيثمة وعويمر بن ساعدة فقالوا: ماذا أحل لنا يا رسول الله» ؟ فنزلت الآية: ورواه الحاكم أيضا عن عكرمة.
وكذا قال محمد بن كعب القرظيّ في سبب نزولها: أنه في قتل الكلاب- أفاده ابن كثير.
قال بعض المفسرين: لما نزلت الآية، أذن ﷺ في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها. وأمر بقتل العقور وما يضر. انتهى.
أقول:
روى الإمام أحمد ومسلم «٢» عن جابر قال: «أمرنا رسول الله ﷺ بقتل الكلاب. حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فتقتله، ثم نهى رسول الله ﷺ عن قتلها وقال: عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان».
وروى الشيخان «٣» عن ابن عمر: «أن النبي ﷺ أمر بقتل الكلاب، إلا كلب صيد أو كلب غنم أو ماشية».
وعن عبد الله بن المغفل عن النبي ﷺ قال: «لولا أنّ الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها كلها. فاقتلوا منها كل أسود بهيم». رواه أبو داود «٤» والدارمي
وزاد الترمذيّ «٥» والنسائي «٦» :«وما من أهل بيت يرتبطون كلبا إلّا نقص من عملهم كل يوم قيراط. إلّا كلب صيد أو كلب حرث أو كلب غنم».
(١) الأثر رقم ١١١٣٥.
(٢) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٧.
(٣) أخرجه مسلم في: المساقاة، حديث ٤٦.
(٤) أخرجه أبو داود في: الأضاحي، ٢١- باب في اتخاذ الكلب للصيد وغيره، حديث ٢٨٤٥.
(٥) أخرجه الترمذي في: الصيد، ١٦- باب ما جاء في قتل الكلاب.
(٦) أخرجه النسائي في: الصيد، ١٠- باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها.
40
وظاهر هذه الأحاديث، أنه ﷺ كان أمر بقتلها كلها. ثم رخص في استبقائها.
إلّا الأسود فإنه مستحق القتل.
وقول إمام الحرمين: ثم استقر الشرع على النهي عن قتل جميع الكلاب حيث لا ضرر فيها حتى الأسود البهيم- يحتاج إلى برهان.
قال ابن عبد البر: في هذه الأحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية.
وكذلك للزرع. لأنها زيادة حافظ. وكراهة اتخاذها لغير ذلك. إلّا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر، اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضارّ قياسا، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة، لما فيه من ترويع الناس، وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه.
ثم قال: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب. من غسل الإناء سبعا، لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك.
وروي أن المنصور بالله سأل عمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث؟ فلم يعرفه. فقال المنصور: لأنه ينبح الضيف ويروّع السائل. انتهى.
وقال الخطابي: معنى (
قوله صلى الله عليه وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الأمم...
إلخ). أنه ﷺ كره إفناء أمة من الأمم وإعدام جيل من الخلق، لأنه ما من خلق لله تعالى إلّا وفيه نوع من الحكمة وضرب من المصلحة. يقول: إذا كان الأمر على هذا، ولا سبيل إلى قتلهن، فاقتلوا أشرارهن وهي السود البهم. وأبقوا ما سواها لتنتفعوا بهنّ في الحراسة».
وقال الطيبي:
قوله «أمّة من الأمم»
إشارة إلى قوله تعالى. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [الأنعام: ٣٨]. أي: أمثالكم في كونها دالة على الصانع ومسبحة له. قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: ٤٤]. أي: يسبح بلسان القال أو الحال. حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته وتنزيهه عمّا لا يجوز عليه، فبالنظر إلى هذا المعنى، لا يجوز التعرض لها بالقتل والإفناء. ولكن إذا كان لدفع مضرة- كقتل الفواسق الخمس- أو جلب منفعة- كذبح الحيوانات المأكولة- جاز ذلك.
الثاني: ذهب جمهور الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنّ الجوارح التي يحل
41
صيدها، ما قبل التعليم من ذي ناب (كالكلب والفهد والنمر) أو ذي مخلب (كالطيور المذكورة قبل). قال في (النهاية) : حتى الهرّ إن تعلّم، واحتجوا بعموم الآية.
وروى أحمد «١» وأبو داود عن مجالد عن الشعبيّ عن عديّ بن حاتم أن رسول الله ﷺ قال: «ما علّمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك».
قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه
، وخالف الحفاظ.
أقول:
روى ابن جرير بالمسند المذكور إلى عدي قال: «سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي؟ فقال: ما أمسك عليك فكل».
وعن ابن عمر ومجاهد: «لا يحل إلّا صيد الكلب فقط».
وروى ابن جرير «٢» بسنده، أن ابن عمر قال: أما ما صاد من الطير (والبراة من الطير) فما أدركت فهو لك. وإلّا فلا تطعمه وقال ابن أبي حاتم: كره مجاهد صيد الطير كلّه، وقرأ قوله: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. أي: فإن قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ يشير إلى قصر ذلك على الكلب. وقال الحسن البصري والنخعيّ وأحمد وإسحاق: يحل من كل شيء إلا الكلب الأسود البهيم. لأنه قد أمر بقتله.
الثالث: قدمنا أنّ انتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من (علمتم). قال ابن
(١)
أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٢٥٧ ونصه: عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله ﷺ فعلمني الإسلام. ونعت لي الصلاة وكيف أصلي كل صلاة لوقتها. ثم قال لي «كيف أنت يا ابن حاتم! إذا ركبت من قصور اليمن لا تخاف إلا الله حتى تنزل قصور الحيرة؟» قال قلت: يا رسول! فأين مقانب طيء ورجالها؟ قال «يكفيك الله طيئا ومن سواها» قال قلت: يا رسول الله! إنا قوم نتصيد بهذه الكلاب والبزاة. فما يحل لنا منها؟ قال «ويحل لكم ما علمتم من الجوارح تعلمونهن مما علمكم الله. فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه. فما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلت وذكرت اسم الله عليه، فكل مما أمسك عليك. قلت: وإن قتل؟ قال «وإن قتل، ولم يأكل منه شيئا. فإنما أمسكه عليك». قلت: أفرأيت إن خالط كلابنا كلاب أخرى حين نرسلها؟
قال «لا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك عليك» قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي بالمعراض، فما يحلّ لنا؟ قال «لا تأكل ما أصبت بالمعراض، إلا ما ذكيت».
وأبو داود في: الأضاحي، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥١
. (٢) الأثر رقم ١١١٥٥.
42
كثير: ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو (الجوارح) أي: وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد. وذلك أن تصيد بمخالبها وأظفارها.
فيستدل بذلك، والحالة هذه، على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخالبه وظفره، أنه لا يحل. كما هو أحد قول الشافعيّ وطائفة من العلماء. ولهذا قال تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ وهو أنه إذا أرسله استرسل، وإذا استشلاه استشلي، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه، ولا يمسكه لنفسه. ولهذا قال تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ. فمتى كان الجارح معلّما وأمسك على صاحبه- وكان قد ذكر اسم الله عليه وقت إرساله- حلّ الصيد وإن قتله، بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة. كما
ثبت في (الصحيحين) «١» عن عديّ بن حاتم قال: قلت: «يا رسول الله! إني أرسل الكلاب المعلّمة وأذكر اسم الله؟ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك. قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها. فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسمّ على غيره. قلت له: فإني أرمي بالمعراض الصيد؟
فقال: إذا رميت بالمعراض الصيد فخرق فكله فإن أصابه بعرض، فإنه وقيذ، فلا تأكله»
.
وفي لفظ لهما: إذا أرسلت كلبك فاذكر الله. فإن أمسك عليك فأدركته حيّا.
فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه، فكله، وإنّ أخذ الكلب ذكاته.
وفي رواية لها: فإن أكل فلا تأكله. فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه
. فهذا دليل للجمهور أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا. ولم يستفصلوا. كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يحرم مطلقا. أكل أو لم يأكل.
روى ابن جرير «٢» عن سلمان الفارسي وأبي هريرة قالا: كل وإن أكل ثلثيه.
(١)
أخرجه البخاري في: الوضوء، ٣٣- باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان. عن عديّ بن حاتم قال: سألت النبيّ ﷺ فقال «إذا أرسلت كلبك المعلّم فقتل فكل وإذا أكل فلا تأكل. فإنما أمسكه على نفسه» قلت: أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال «فلا تأكل. فإنما سميت على كلبك ولم تسمّ على كلب آخر»
. [.....] (٢) الأثر رقم ١١١٨٧- ١١٩٣ عن سلمان الفارسيّ.
43
وعن سعد بن أبي وقاص:... وإن أكل ثلثيه. وعنه:... وإن لم يبق إلا بضعة. وعن ابن عمر: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك. أكل أو لم يأكل. وحكاه عن عليّ وابن عباس وغير واحد من التابعين.
وروي ذلك مرفوعا أيضا. أخرج أبو داود «١» عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ أعرابيّا، يقال له أبو ثعلبة، «قال: يا رسول الله! إنّ لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن كان لك كلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. فقال:
ذكيّ وغير ذكي، وإن أكل منه؟ قال: نعم وإن أكل منه. فقال: يا رسول الله! أفتني في قوسي! فقال: كل ما ردت عليك قوسك. قال: ذكي وغير ذكي؟ قال: وإن تغيب عنك ما لم يضلّ أو تجد فيه أثرا غير سهمك. قال: أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال: اغسلها وكل فيها»
. هكذا رواه أبو داود وقد أخرجه النسائيّ.
وكذا رواه أبو داود «٢» عن أبي إدريس الخولانيّ عن أبي ثعلبة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله، فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك».
وقد احتج بما ذكرنا من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه، وقد توسط آخرون فقالوا: إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم. لحديث عديّ، وللعلة التي أشار إليها النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما إن أمسكه، ثم انتظر صاحبه، فطال عليه، وجاع فأكل منه لجوعه، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة. وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين، صحيح.
وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجويني في كتابه (النهاية) : أن لو فصل مفصل هذا التفصيل. وقد حقق الله أمنيته، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب.
أفاده ابن كثير.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وسلك الناس في الجمع بين حديث عدي وأبي ثعلبة طرقا منها للقائلين بالتحريم (الأولى) حمل حديث أبي ثعلبة الأعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه، و (الثانية) الترجيح، فرواية عدي في الصحيحين ورواية الأعرابي في غيرهما. ومختلف في تضعيفها. وأيضا، فرواية عدي
(١) أخرجه أبو داود في: الأضاحيّ، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥٧.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأضاحيّ، ٢٢- باب في الصيد، حديث ٢٨٥٢.
44
صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم. وهو خوف الإمساك على نفسه، متأيد بأن الأصل في الميتة التحريم. فإذا شككنا في السبب المبيح، رجعنا إلى الأصل ولظاهر الآية المذكورة. فإن مقتضاها أنّ الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد «١» : إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد، فلا تأكل. فإنما أمسك على نفسه. فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل، فكلّ.
فإنما أمسك على صاحبه. وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس. وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع، نحوه بمعناه. ولو كان مجرّد الإمساك كافيا لما احتيج إلى زيادة (عليكم) في الآية. وأما القائلون بالإباحة، فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه، وحديث الأعرابيّ على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عدّيا كان موسرا.
فاختير له الحمل على الأولى. بخلاف أبي ثعلبة، فإنه كان بعكسه. ولا يخفى ضعف هذا التمسك، مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الإمساك على نفسه. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلّم ما علّمته. وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله، دلّ على أنه ليس يعلم التعليم المشترط.
الرابع: في الآية مشروعية التسمية. قال ابن كثير: قوله تعالى: اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي عند إرساله له، كما
قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلّم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك».
وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في (الصحيحين) «٢» أيضا: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله. وإذا رميت بسهمك».
ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة، كالإمام أحمد رحمه الله، في المشهور عنه، التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث. وهذا القول هو المشهور عند الجمهور أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال. كما قال
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٣١، وحديث ٢٠٤٩.
(٢)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٤- باب صيد القوس، حديث ٢١٩٨ ونصه: عن أبي ثعلبة الخشنيّ قال: قلت: يا نبيّ الله! إنا بأرض قوم أهل الكتاب. أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلّم وبكلبي المعلّم، فما يصلح لي؟ قال «أما ما ذكرت من أهل الكتاب، فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها. وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها. وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله، فكل. وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله فكل. وما صدت بكلبك غير معلّم، فأدركت ذكاته، فكل».
وأخرجه أيضا في: باب ما جاء في التصيد. وفي: باب آنية المجوس والميتة.
وأخرجه مسلم في: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان، حديث ٨.
45
السدّيّ وغيره. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس، في هذه الآية: «إذا أرسلت جارحك فقل: بسم الله. وإن نسيت فلا حرج». انتهى.
قال بعض الزيدية: والتسمية هنا كالتسمية على الذبيحة. فمن قائل بوجوبها على الذاكر لا الناسي.
لحديث «١» :«رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»
. ومن قائل بأنها مستحبة. ومن قائل بأنها شرط مطلقا. المشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة. فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. ثم قال: لقائل أن يقول:
يحتمل أن يرجع قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إلى الأكل. أي: فسموا عند الأكل. فدلالة الآية محتملة في وجوب التسمية. انتهى. وهذا الاحتمال حكاه ابن كثير ونصّه:
وقال بعض الناس: المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل. كما
ثبت في (الصحيحين) «٢»
«أن رسول الله ﷺ علّم ربيبه، عمر بن أبي سلمة، فقال: سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
وفي (صحيح البخاري) «٣» عن عائشة أنهم قالوا:
«يا رسول الله! إن قوما يأتوننا، حديث عهد بكفر، بلحمان، لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال: سموا الله أنتم وكلوا أنتم»
. وقال الترمذي: حسن صحيح.
الخامس: في الآية جواز تعليم الحيوان وضربه للمصلحة. لأن التعليم قد يحتاج إلى ذلك. كذا في (الإكليل). وتقدم عن الزمخشريّ والناصر ما في الآية أيضا من الأخذ عن النحرير، وأن البهائم لها علم. واستدلّ بالآية على إباحة اتخاذ الكلب للصيد وللحراسة، بالسنة: كما تقدم.
(١)
أخرجه ابن ماجة في: الطلاق، ١٦- باب طلاق المكره والناسي، حديث ٢٠٤٣ ونصه: عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الأطعمة، باب التسمية على الطعام والأكل باليمين، حديث ٢١٧٣ ونصه:
عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله ﷺ «يا غلام! سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك». فما زالت تلك طعمتي بعد.
(٣)
أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٢١- باب ذبيحة الأعراب ونحوهم. حديث ١٠٣٨ ونصه:
عن عائشة رضي الله عنها، أن قوما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قوما يأتونا باللحم، لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال «سموا عليه أنتم وكلوه».
قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر.
46
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي: من الذبائح والصيد. تكريره تأكيد للمنة. قال أبو السعود: قيل المراد بالأيام الثلاثة وقت واحد. وإنما كرر للتأكيد. ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حسن تكريره. والمراد بالطيبات ما مرّ.
تنبيه:
قال بعض مفسري الزيدية: دلت الآية على جواز أكل العالي من الأطعمة والأصباغ. قال في (الروضة والغدير) : وإن كان التقنع بالأدون هو الأولى، كما فعله عليّ عليه السلام وغيره من الفضلاء. فقد روي أن عليّا عليه السلام كان يطعم الناس أطيب الطعام. فرأى بعض أصحابه طعامه. وهو خبر شعير غير منخول، وملح جريش، وهو مختوم عليه لئلا يبدل. ومن كلامه عليه السلام: والله! لأروضنّ نفسي رياضة تهش إلى القرص إن وجدته مطعوما، وإلى الملح إن وجدته مأدوما. ولما روي عن النبيّ ﷺ في كراهة الإدامين مجتمعين. انتهى.
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال ابن عباس وأبو أمامة ومجاهد وسعيد ابن جبير وغيرهم: يعني ذبائحهم.
قال ابن كثير: وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن ذبائحهم حلال للمسلمين. لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ولا يذكرون على ذبائحهم إلّا اسم الله، وإن اعتقدوا فيه ما هو منزه عنه، تعالى وتقدس. انتهى.
قال المهايميّ: وإن لم يعتد بذكرهم اسم الله، لكنهم لما ذكروه، أشبه ما يعتد بذكره، فأشبه طعامهم الطيبات.
مباحث:
الأول: ما ذكرناه من أن المعنيّ بالطعام الذبائح، هو الذي قاله أئمة السلف:
صحابة كابن عباس وأبي أمامة، وأتباعا كمجاهد وثمانية غيره، كما في ابن جرير «١» وابن كثير.
(١) الآثار من رقم ١١٢٣٦- ١١٢٥١.
47
وفي (اللباب) : أجمعوا على أن المراد طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ذبائحهم خاصة. لأن ما سوى الذبائح فهي محللة قبل أن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم. فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. ولأنّ ما قبل هذه الآية في بيان حكم الصيد والذبائح. فحمل هذه الآية عليه أولى. لأن سائر الطعام لا يختلف، من تولّاه من كتابيّ أو غيره. وإنما تختلف الذكاة. فلما خص أهل الكتاب بالذكر، دلّ على أن المراد بطعامهم ذبائحهم. انتهى.
الثاني: استدل بالآية على جميع أجزاء ذبائحهم. وهو قول الجمهور.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وعن مالك وأحمد، تحريم ما حرم الله على أهل الكتاب كالشحوم. قال ابن القاسم: لأن الذي أباحه الله طعامهم. وليس الشحوم من طعامهم. ولا يقصدونها عند الذكاة. وتعقب بأن ابن عباس فسّر (طعامهم) بذبائحهم، وإذا أبيحت ذبائحهم لم يحتج إلى قصدهم أجزاء المذبوح. والتذكية لا تقع على بعض أجزاء المذبوح دون بعض. وإن كانت التذكية شائعة في جميعها دخل الشحم لا محالة. وأيضا فإن الله تعالى نص بأنه حرم عليهم كل ذي ظفر. فكان يلزم، على قول هذا القائل، إن اليهوديّ، إذا ذبح ماله ظفر، لا يحل للمسلم أكله. ثم قال ابن حجر: وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يستدل به على الحلّ، لأنه لم يخص لحما من شحم، وكون الشحوم محرمة على أهل الكتاب لا يضر، لأنها محرمة عليهم لا علينا. وغايته بعد أن يتقرر أن ذبائحهم لنا حلال، أنّ الذي حرم عليهم منها مسكوت في شرعنا عن تحريمه علينا. فيكون على أصل الإباحة. انتهى.
وفي (الصحيح) «١» عن عبد الله بن مغفّل رضي الله عنه قال: «كنا محاصرين قصر خيبر. فرمى إنسان بجراب فيه شحم. فنزوت لآخذه. فالتفّت فإذا النبيّ ﷺ فاستحييت منه».
وفي رواية: «أدلي بجراب من شحم يوم خيبر. فحضنته وقلت: لا أعطي اليوم من هذا أحدا. والتفتّ فإذا النبيّ ﷺ يتبسّم».
قال الحافظ ابن حجر: فيه حجة على من منع ما حرّم عليهم كالشحوم. لأن النبيّ ﷺ أقرّ ابن مغفل على الانتفاع بالجراب المذكور. وفيه جواز أكل الشحم، مما ذبحه أهل الكتاب، ولو كانوا أهل حرب. انتهى.
(١) أخرجه البخاري في: الذبائح والصيد، ٢٢- باب ذبائح أهل الكتاب وشحومها من أهل الحرب وغيرهم، حديث ١٤٨٨.
48
وقال الحافظ ابن كثير: استدل على المالكية الجمهور بهذا الحديث. وفي ذلك نظر. لأنه قضية عين. ويحتمل أن يكون شحما يعتقدون حله، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما. والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في (الصحيح) «١» أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله ﷺ شاة مصلية. وقد سموّا ذراعها- وكان يعجبه الذراع- فتناوله فنهش منه نهشة. فأخبره الذراع أنه مسموم، فلفظه وأثّر ذلك في ثنايا رسول الله ﷺ وفي أبهره. وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور، فمات. فقتل اليهودية التي سمّتها، وكان اسمها زينب. ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا؟
وفي الحديث الآخر: «إن رسول الله ﷺ أضافه يهوديّ على خبز شعير وإهالة سنخة. يعني ودكا زنخا».
الثالث: تمسك ابن العربيّ- من أئمة المالكية- بهذه الآية على حلّ ما يقتله الفرنج، وإن رأينا ذلك، لأنه من طعامهم. نقله عنه الشيخ خليل في (توضيحه) واستبعده. وقال الإمام ابن زكري: صنف ابن العربيّ في إباحة مذكّى النصرانيّ بغير وجه ذكاتنا. والمحققون على تحريمه. وقد أوضح ذلك الفقيه محمد الدليميّ السوسيّ المالكيّ في (فتاويه)، وقد سئل عن ذبيحه الكتابيّ: هل تحل المذكّى كيف كانت. سواء وافقت ذكاتنا أم لا؟ بقوله مجيبا: قال الإمام ابن العربيّ: إذا سلّ النصرانيّ عنق دجاجة حلّ للمسلم أكلها. لأن الله تعالى أحلّ لنا أكل طعامهم الذي يستحلونه في دينهم. وكل ما ذكوه على مقتضى دينهم، حل لنا أكله. ولا يشترط
(١)
أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة مع أهل الحرب، ٧- باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم؟ حديث ٢٤٩٨ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما فتحت خيبر، أهديت للنبيّ ﷺ شاة فيها سمّ. فقال النبيّ ﷺ «أجمعوا إليّ من كان هاهنا من يهود» فجمعوا له. فقال: «إني سائلكم عن شيء. فهل أنتم صادقيّ عنه» ؟ فقالوا: نعم. قال لهم النبيّ ﷺ «من أبوكم» ؟ قالوا: فلان. فقال «كذبتم، بل أبوكم فلان» قالوا: صدقت. قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء، إن سألت عنه» ؟ فقالوا: نعم. يا أبا القاسم! وإن كذبنا عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا.
فقال لهم «من أهل النار» ؟ قالوا: نكون فيها يسيرا ثم تخلفونا فيها. فقال النبيّ ﷺ «اخسئوا فيها. والله! لا نخلفكم فيها أبدا» ثم قال «فهل أنتم صادقيّ عن شيء إن سألتكم عنه» ؟ فقالوا:
نعم. يا أبا القاسم! قال «هل جعلتم في هذه الشاة سمّا» ؟ قالوا: نعم. قال «ما حملكم على ذلك» ؟ قالوا: أردنا إن كنت كاذبا نستريح. وإن كنت نبيّا لم يضرك.
وأخرجه أبو داود، بمعناه، في: الديات، ٦- باب فيمن سقى رجلا سمّا أو أطعمه، فمات، هل يقاد منه؟ حديث ٤٥٠٨ عن أنس و ٤٥٠٩ وعن أبي هريرة، حديث ٤٥١٠ و ٤٥١١ و ٤٥١٢
.
49
أن تكون ذكاتهم موافقة لذكاتنا. وذلك رخصة من الله تعالى وتيسير منه علينا. ولا يستثنى من ذلك إلّا ما حرّم الله تعالى على الخصوص. فإنه، وإن كان طعامهم الذي يستحلونه، فلا يحل لنا أكله. انتهى.
الرابع: قال الرازيّ: نقل عن بعض أئمة الزيدية أن المراد ب (الطعام) في الآية الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. انتهى.
وقد اطلعت على قطعة من تفسير بديع لبعض الزيدية قال فيه: اختلف العلماء من الأئمة والفقهاء: ما أريد ب (الطعام) ؟ فقال القاسم والهادي ومحمد بن عبد الله، ورواية عن زيد: إن ذبائح أهل الكتاب وجميع الكفار لا تجوز. لقوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وهذا خطاب للمسلمين، والرواية الثانية عن زيد وعامة الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية والجعفرية والإمامية. واختاره الأمير ح والأمير يحيى: جواز ذبائح أهل الكتاب. ويفسرون (الطعام) بالذبائح وغيرها. وهذا مرويّ عن الحسن والزهريّ والشعبيّ وعطاء وقتادة وأكثر المفسرين. وأخذوا بالعموم في إطلاق (الطعام). فأجاب الأولون بأن (الطعام) يطلق على الحبوب يقال: سوق الطعام. قال القاضي: الأقرب الحلّ. لأن ذلك بفعلهم يصير طعاما. ولأنه خص أهل الكتاب.
أجيب: بأنه خصّهم لئلا يظن أنّ طعامهم الذي لم يذكّوه محرم. ثم عند الهادي والقاسم، عليهما السلام، تنجس رطوباتهم. لقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: ٢٨]. فيحرم ما حصل فيه رطوبتهم، إلّا ما أخذناه قهرا. وعند المؤيد بالله ومن معه: إن رطوبتهم طاهرة. والخلاف في الرطوبة عامة في الكفار. انتهى.
وفي (الروضة الندية) ما نصه: وأما ذبيحة أهل الذمة، فقد دلّ على حلّها القرآن الكريم بهذه الآية. ومن قال: إن اللحم لا يتناوله (الطعام) فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي ﷺ أكل ذبائح أهل الكتاب. كما في أكله ﷺ للشاة التي طبختها يهودية وجعلت فيها سمّا، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها. ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم إلّا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع. فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح. قلت: إن صح شيء من هذا، فالكلام في ذبيحته، كالكلام في ذبيحة المسلم إذا وقعت على أحد هذه الوجوه. وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابيّ مانعا، لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
50
الخامس: أريد ب (أهل الكتاب) اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما من دخل في دينهم بعد مبعث النبيّ صلى الله عليه وسلم- وهم متنصّرو العرب من بني تغلب- فلا تحلّ ذبيحته. روي عن عليّ بن أبي طالب قال: لا تأكل من ذبائح نصارى بني تغلب. فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلّا بشرب الخمر. وبه قال ابن مسعود. وسئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟
فقال لا بأس به. ثم قرأ: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١]. وهذا قول الحسن وعطاء والشعبيّ وعكرمة وقتادة والزهريّ والحكم وحماد- كذا في (اللباب).
قال ابن كثير: وأما المجوس فإنهم- وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب- فإنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. خلافا لأبي ثور، إبراهيم بن خالد الكلبيّ (أحد الفقهاء من أصحاب الشافعيّ، وأحمد بن حنبل) ولما قال ذلك، واشتهر عنه، أنكر عليه الفقهاء ذلك. حتى قال عنه الإمام أحمد: أبو ثور كاسمه- يعني في هذه المسألة- وكأنه تمسك بعموم
حديث روي مرسلا عن النبيّ ﷺ أنه قال «١» : سنوا بهم سنة أهل الكتاب.
ولكن لم يثبت بهذا اللفظ. وإنما الذي في (صحيح) البخاريّ «٢» عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذ الجزية من مجوس هجر. ولو سلم صحة هذا الحديث، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فدلّ بمفهومه مفهوم المخالفة، على أن طعام من عداهم من أهل الأديان لا يحل... !
السادس: قيل: هذه الآية تقتضي إباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقا، وإن ذكروا غير اسم الله تعالى. وعن ابن عمر: لو ذبح يهوديّ أو نصراني على غير اسم الله تعالى، لا يحل ذلك. وهو قول ربيعة. وسئل الشعبيّ وعطاء، عن النصرانيّ يذبح باسم المسيح؟ فقال: يحلّ. فإن الله تعالى قد أحلّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون.
وقال الحسن: إذا ذبح اليهوديّ أو النصراني وذكر غير اسم الله، وأنت تسمع، فلا
(١) أخرجه مالك في الموطأ في: الزكاة، حديث ٤٢.
(٢) أخرجه البخاري في: الجزية، ١- باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، حديث ١٤٩٢ ونصه:
عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف. فأتانا كتاب عمر بن الخطاب، قبل موته بسنة: فرّقوا بين كل ذي محرم من المجوس.
ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر.
51
تأكل. وإذا غاب عنك فكلّ. فقد أحلّه الله لك. كذا في (اللباب). وقول الحسن- في هذا البحث- هو الحسن.
وفي (النهاية) من كتب الزيدية: أما إذا ذبح أهل الذمة لأعيادهم وكنائسهم.
فكرهه مالك، وأباحه أشهب، وحرمه الشافعيّ. وذلك لتعارض عموم قوله تعالى:
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وعموم قوله تعالى: وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ [البقرة:
١٧٣]، فتخصيص كل واحد للآخر محتمل. ثم قال: والجمهور على تحريم ذبيحة المرتدّ. وأجازها إسحاق، وكرهها الثوريّ. وسبت الخلاف: هل المرتد يتناول اسم (الكتاب) أم لا؟ قال: وهكذا منشأ الخلاف في ذبائح بني تغلب، هل اسم (الكتاب) يتناول المتنصّر والمتهوّد من العرب، كما روي عن ابن عباس؟ أو لا يتناول، كما روي عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. انتهى.
وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني: ذبائحكم حلال لهم. فتأكل اليهود والنصارى ذبيحة المسلمين. كذا في (التفسير) المنسوب لابن عباس.
ونقل بعض مفسّري الزيدية عن ابن عباس وأبي الدرداء، وبقية التابعين السالف ذكرهم، وأكثر المفسرين والفقهاء، أن المراد ذبائح المسلمين.
وقال الزجاج: تأويله: حلّ لكم أن تطعموهم. لأن الحلال والحرام والفرائض إنما تعقد على أهل الشريعة.
وقال ابن كثير: أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم. وليس إخبارا عن الحكم عندهم. اللهم! إلّا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه. سواء كان من أهل ملّتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى. أي:
ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمجازاة. كما ألبس «١» النبيّ ﷺ ثوبه لعبد الله بن أبيّ، ابن سلول حين مات ودفنه
(١)
أخرجه البخاري في: الجنائز، ٧٨- باب هل يخرج الميت من القبر واللحد لعلة؟ حديث ٦٧٦ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أتى رسول الله ﷺ عبد الله بن أبيّ، بعد ما أدخل حفرته. فأمر به فأخرج. فوضعه على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه. فالله أعلم. وكان كسا عباسا قميصا.
وقال أبو هريرة: وكان على رسول الله ﷺ قميصان. فقال له ابن عبد الله: يا رسول الله! ألبس أبي قميصك الذي يلي جلدك.
قال سفيان: فيرون أن النبيّ ﷺ ألبس عبد الله قميصه مكافأة لما صنع
. [.....]
52
فيه. قالوا: لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه. فجازاه النبيّ صلى الله عليه وسلم. ذلك بذلك». فأمّا
الحديث «١» الذي فيه (لا تصحب إلّا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلّا تقيّ)
فمحمول على الندب والاستحباب، والله أعلم. انتهى.
وقال الرازيّ: أي: ويحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. لأنه لا يمتنع أن يحرم الله أن نطعمهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكر ذلك أن إباحة المناكحة غير حاصلة في الجانبين، وإباحة الذبائح كانت حاصلة في الجانبين، لا جرم ذكر الله تعالى ذلك تنبيها على التمييز بين النوعين. انتهى.
وقال البرهان البقاعيّ في (تفسيره) : وقوله تعالى وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ أي: تناوله لحاجتكم إلى مخالطتهم، للإذن في إقرارهم على دينهم بالجزية.
ولما كان هذا مشعرا بإبقائهم على ما اختاروا لأنفسهم. زاده تأكيدا بقوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: فلا عليكم في بذله لهم، ولا عليهم في تناوله. انتهى.
وفي (أمالي) الإمام السهيليّ رحمه الله تعالى: قيل: ما الحكمة في هذه الجملة وهم كفار لا يحتاجون إلى بياننا؟ فعنه جوابان: أحدهما أن المعنى: انظروا إلى ما أحل لكم في شريعتكم، فإن أطعموكموه فكلوه، ولا تنظروا إلى ما كان محرما عليهم، فإن لحوم الإبل ونحوها كانت محرمة عليهم. ثم نسخ ذلك في شرعنا.
والآية بيان لنا لا لهم، أي: اعلموا أن ما كان محرما عليهم، مما هو حلال لكم قد أحل لهم أيضا. ولذلك لو أطعمونا خنزيرا أو نحوه وقالوا: هو حلال في شريعتنا، وقد أباح الله لكم طعامنا- كذبناهم وقلنا: إن الطعام الذي يحلّ لكم هو الذي يحل لنا، لا غيره. فالمعنى- طعامهم حل لكم، إذا كان الطعام الذي أحللته لكم. وهذا التفسير معنى قول السدّي وغيره.
الثاني: للنحاس والزجاج والنقاش وكثير من المتأخرين، أن المعنى: جائز لكم أن تطعموهم من طعامكم. لا أن يبين لهم ما يحل لهم في دينهم. لأن دينهم باطل. إلّا أنه لم يقل: وإطعامكم، بل (طعامكم) - والطعام المأكول- وأما الفعل فهو الإطعام. فإن زعموا أن (الطعام) يقوم مقام (الإطعام) توسعا، قلنا: بقي اعتراض آخر. وهو الفصل بين المصدر وصلته بخبر المبتدأ. وهو ممتنع بالإجماع. لا
(١) أخرجه الدارمي في: الأطعمة، ٢٣- باب من كره أن يطعم طعامه إلا الأتقياء.
وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٨ عن أبي سعيد الخدريّ.
53
يجيزون (إطعام زيد حسن للمساكين) ولا (ضربك شديد زيدا) فكيف جاز (وطعامكم حلّ لهم) ؟ انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وقد يستدل بهذه الآية من يرى الكفار مخاطبين بفروع الشريعة. لأن التحليل حكم وقد علقه بهم في قوله وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ كما علق الحكم بالمؤمنين. وهذه الآية أبين في الاستدلال بها من قوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: ١٠]، فإنّ لقائل أن يقول: في تلك الآية نفي الحكم ليس بحكم. ولا يستطيع ذلك في آية (المائدة) هذه. لأن الحكم فيها مثبت، والله أعلم.
ثم قال: ولما استشعر الزمخشري دلالتها على ذلك، وهو من القائلين بأن الكفار يستحيل خطابهم بفروع الشريعة- أسلف تأويلها بصرف الخطاب إلى المؤمنين، أي: لا جناح عليكم- أيها المسلمون! - أن تطعموا أهل الكتاب. انتهى.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ عطف على (الطيبات) أو مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه. أي: حلّ لكم. والمراد ب (المحصنات) العفيفات عن الزنى.
كما قال تعالى في الآية الأخرى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ [النساء: ٢٥]. وهو المرويّ عن الحسن والشعبي وسفيان وإبراهيم ومجاهد. وحكى ابن جرير رواية أخرى عن مجاهد أنه قال: المحصنات الحرائر. فقيل: عني بهن غير الإماء. وقيل: أراد بهن العفيفات، كقول الجمهور. وذلك لأن الحرّ يطلق على خلاف العبد، وعلى خيار كل شيء، كما في (القاموس).
قال الزمخشريّ: وتخصيصهن بعث على تخير المؤمنين لنطفهم. والإماء من المسلمات يصح نكاحهن بالاتفاق. وكذلك نكاح غير العفائف منهن. انتهى.
أقول: جواز نكاح الأمة موقوف على خوف العنت وعدم طول الحرة، لآية:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا.. [النساء: ٢٥] إلخ. وأما نكاح غير العفيفة فأجازه الأكثرون. وذهب الإمام أحمد إلى تحريم نكاح الزانية على زان وغيره، حتى تتوب وتنقضي عدتها. لقوله تعالى: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النور: ٣]. ولما
أخرجه أحمد «١» بإسناد رجاله ثقات، والطبرانيّ في (الكبير) و (الأوسط) من حديث عبد الله بن عمرو: أن رجلا من المسلمين
(١) أخرجه أحمد في مسنده ٢/ ٢٢٥ والحديث رقم ٧٠٩٩.
54
استأذن رسول الله ﷺ في امرأة يقال لها أم مهزول، كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه. فقرأ عليه صلى الله عليه وسلم: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ.
وأخرج أبو داود «١» والنسائيّ والترمذي وحسّنه، من حديث ابن عمر: أن مرثد بن أبي مرثد الغنويّ كان يحمل الأسارى بمكة. وكان بمكة بغيّ يقال لها عناق. وكانت صديقته. قال:
فجئت النبيّ ﷺ فقلت: يا رسول الله! أنكح عناقا؟ قال، فسكت عني. فنزلت الآية: وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [النور: ٣]. فدعاني فقرأها عليّ وقال: لا تنكحها.
وأخرج أحمد وأبو داود «٢» بإسناد رجاله ثقات، من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله»
. قال ابن القيّم:
أخذ بهذه الفتاوى- التي لا معارض لها- الإمام أحمد ومن وافقه- وهي من محاسن مذهبه- فإنه لم يجوّز أن ينكح الرجل زوجا تحبه. ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلا قد ذكرناها في موضع آخر.
وأخرج ابن ماجة «٣» والترمذيّ وصحة، من حديث عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال:
«استوصوا في النساء خيرا. فإنما هنّ عندكم عوان. ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك. إلّا أن يأتين بفاحشة مبيّنة. فإن فعلن، فاهجروهنّ في المضاجع، واضربوهنّ ضربا غير مبرّح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا».
وأخرج أبو داود «٤» والنسائيّ، من حديث ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبيّ ﷺ فقال: إن امرأتي لا تمنع يد لامس، قال: غرّبها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي. قال: فاستمتع بها»
. قال المنذريّ: ورجال إسناده محتج بهم في الصحيحين.
قال ابن القيّم: عورض بهذا الحديث المتشابه، الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تجويز البغايا. واختلفت مسالك المحرّمين لذلك فيه، فقالت طائفة:
(١) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤- باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً حديث ٢٠٥١.
(٢) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٤- باب في قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً، حديث ٢٠٥٢.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: النكاح، ٣- باب حق المرأة على الزوج، حديث ١٨٥١.
والترمذي في: الرضاع، ١١- باب ما جاء في حق المرأة على زوجها.
(٤) أخرجه أبو داود في: النكاح، ٣- باب في تزويج الأبكار، حديث ٢٠٤٩.
وأخرجه النسائي في: الطلاق، ٣٤- باب ما جاء في الخلع.
55
المراد ب (اللامس) ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة. وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير موثر. وإنما المانع ورود العقد على الزانية فهذا هو الحرام، وقالت طائفة:
بل هذا من التزام أخف المفسدتين لدفع أعلاهما. فإنه لما أمر بمفارقتها خاف من أن لا يصبر عنها فيواقعها حراما، فأمره حينئذ بإمساكها. إذ مواقعتها بعقد النكاح أقل فسادا من مواقعتها بالسفاح. وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت. وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية. وإنما فيه أنها لا تمنع ممن يمسّها أو يضع يده عليها أو نحو ذلك، فهي تعطي الليان لذلك. ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى. ولكن هذا لا يؤمن معه إجابتها الداعي إلى الفاحشة. فأمره بفراقها، تركا لما يريبه إلى ما لا يريبه. فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها، رأى مصلحة إمساكها أرجح المسالك. والله تعالى أعلم. وتتمة البحث في ذلك يأتي إن شاء الله تعالى في سورة النور.
فائدة:
أفتى جابر بن عبد الله وعامر الشعبيّ وإبراهيم النخعيّ والحسن البصريّ بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها، أنه يفرق بينهما وتردّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: هنّ أيضا حلّ لكم.
والجمهور: على أن المراد ب (المحصنات) العفائف عن الزنى، كما قدمنا.
قال ابن كثير: وهو الأشبه. لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمّية وهي مع ذلك غير عفيفة، فيفسد حالها بالكلية، ويتحصل زوجها على ما قيل، حشفا وسوء كيلة.
وحكى ابن جرير عن طائفة من السلف- ممن فسّر (المحصنات) بالعفيفات أن الآية تعم كل كتابية عفيفة. سواء كانت حرة أو أمة. ومن فسرها ب (الحرائر) قال:
لا يصح نكاح الأمة الكتابية بحال، إذ لا يحتمل عار الكفر مع عار الرق، على أنه يؤدي إلى استرقاق الكافر ولد المسلم.
تنبيهات
الأول: ظاهر الآية جواز نكاح الكتابية. وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمفسرين.
ورواية عن زيد والصادق والباقر، واختاره الإمام يحيى وقال: إنه إجماع الصدر الأول من الصحابة، وأنّ عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة على نسائه، وهي نصرانية. وأنّ طلحة بن عبيد الله تزوج يهودية. كذا نقله المفسرون.
56
وروى البيهقيّ وعبد الرزاق وابن جرير عن عمر أنّه قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصراني المسلمة. وروى عبد الرزاق أيضا عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب كتب إلى حذيفة بن اليمان وهو بالكوفة، ونكح امرأة من أهل الكتاب، فكتب: أن فارقها فإنك بأرض المجوس، فإني أخشى أن يقول الجاهل: قد تزوج صاحب رسول الله ﷺ كافرة! ويحلل الرخصة التي كانت من الله عز وجل فيتزوجوا نساء المجوس... ففارقها.
وروى عبد الرزاق والبيهقيّ عن قتادة: أن حذيفة نكح يهودية. فقال عمر:
طلّقها فإنها جمرة. فقال: أحرام هي؟ قال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن...
وروى عبد الرزاق عن زيد بن وهب قال: كتب عمر بن الخطاب: إن المسلم ينكح النصرانية، والنصرانيّ لا ينكح المسلمة. وروي أيضا عن جابر قال: نساء أهل الكتاب لنا حلّ، ونساؤنا عليهم حرام. وروي أيضا عن معمر عن الزهريّ قال: نكح رجل من قومي في عهد النبي ﷺ امرأة من أهل الكتاب. وروي عن ابن عمر كراهية ذلك. ويحتج بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١] وكان يقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها: إن ربها عيسى. وأجاب الجمهور بأنه عامّ خص بهذه الآية، إن قيل بدخول الكتابيات في عموم المشركات، وإلّا، فلا معارضة بين الآيتين. لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع.
كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ [البينة: ١]. وكقوله: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ [آل عمران: ٢٠].
الثاني: استدل بعموم الآية من جوّز نكاح الحربيات الكتابيات. وروي عن ابن عباس: أن الإذن في الذميات خاصة، ويقرأ: قاتِلُوا الَّذِينَ- إلى قوله- حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ. قال: فمن أعطى، حل. ومن لا، فلا. وهذا الاستدلال دقيق جدا. فليتأمل!.
الثالث: قال المهايميّ: لما اعتبر في طعام أهل الكتاب شبهة بالطيب- كما قدمنا- اعتبر في باب النكاح، فأحلّ المحصنات منهم، واحتمل كفرهنّ لأنه إنما لم يحتمل كفر غيرهم لأنهم يدعون إلى النار. وهؤلاء لما اعترفوا بأصل النبوّة، ولا شبهة لهم في نفي أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حجة، ضعفت دعوتهم إليها، فلم يعتد بها. على أن الرجل مستول على المرأة. فلا تؤثر فيه تأثير الرجل، فلذلك لم يصح
57
تزويج المسلمة بالكتابيّ. على أن فيه إذلالا للمسلمة فلا تحتمل.
الرابع: ذهب ثلة من العترة الطاهرة إلى أن المراد من (المحصنات) المؤمنات منهن. ذهابا إلى تحريم نكاح الكافرة. قال بعض مفسري الزيدية، بعد أن ساق مذهب الأكثرين المتقدم: وقال القاسم والهادي والنفس الزكية ومحمد بن عبد الله وعامة القاسمية- وهو مرويّ عن ابن عمر: إنه لا يجوز لمسلم نكاح كافرة، كتابية كانت أو غيرها. واحتجوا بقوله في سورة البقرة: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: ٢٢١]. قالوا- يعني الأكثرين-: هذا في المشركات لا في الكتابيات، قلنا: اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ. إلى قوله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة: ٣١]. وعن ابن عمر: لا أعلم شركا أعظم من قول النصرانية: إن ربها عيسى. وعن عطاء: قد كثر الله المسلمات. وإنما رخص لهم يومئذ. قالوا: إنه تعالى عطف أحدهما على الآخر فدلّ على أنهما غيرين، حيث قال تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ
[البينة: ١]. قلنا: هذا كقوله تعالى: الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [البقرة: ١٨٠]. قالوا: الآية مصرحة بالجواز في قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قلنا: في سورة النور: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: ٢٦]. وقوله في سورة النساء: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النساء: ٢٥]. فشرط الإيمان في هذا يقضي بالتحريم. فتتأوّل هذه الآية: أنه أراد المحصنات من أهل الكتاب اللاتي قد أسلمن، لأنهم كانوا يتكرهون ذلك، فسماهنّ باسم ما كنّ عليه. وقد ورد مثل هذا في كتاب الله تعالى. قال الله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة: ١٢١]. وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [البقرة: ١٤٦]. وقوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [آل عمران: ١٩٩]. قالوا: سبب النزول وفعل الصحابة يدل على الجواز. وإنا نجمع بين الآيات الكريمة فنقول: قوله وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ [البقرة: ٢٢١]. عامّ نخصّه بقوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أو نقول: أراد ب الْمُشْرِكاتِ الوثنيات وب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، ما أفاده الظاهر. أو يكون قوله وَالْمُحْصَناتُ ناسخا لتحريم الكتابيات بقوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ. قلنا: نقابل ما ذكرتم بما
روي، أن كعب بن مالك أراد أن
58
يتزوج بيهودية أو نصرانية. فسأل النبيّ ﷺ عن ذلك فقال: إنها لا تحصن ماءك
وروي أنه نهاه عن ذلك. وبأنا نتأوّل قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فنجمع ونقول: تخصيص المشركات ب الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ متراخ، والبيان لا يجوز أن يتراخى! قالوا:
روى جابر بن عبد الله عن النبيّ ﷺ قال: «أحلّ لنا ذبائح أهل الكتاب وأحل لنا نساؤهم وحرم عليهم أن يتزوجوا نساءنا».
قال في (الشفا) : قال علماؤنا: هذا حديث ضعيف النقل. قالوا:
قوله ﷺ في المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
الخبر أفاد جواز ذبائحهم ونكاح نسائهم.
قلنا: الجواز منسوخ بأدلة التحريم. ثم إنا نقوي أدلتنا بالقياس فنقول: كافرة فأشبهت الحربية، أو لما حرمت الموارثة حرمت المناكحة. أو لما حرم نكاح الكافر للمسلمة حرم العكس. قالوا: لا حكم للاعتبار مع الأدلة. انتهى بحروفه. وهو فقه غريب.
وقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: أعطيتموهنّ مهورهنّ. وتقييد الحلّ بإيتائها، لتأكيد وجوبها والحث على ما هو الأولى، مبادرة لفراغ الذمة. فإن شغل الذمة بحق الآدميّ أشدّ من شغلها بحق الله تعالى: مُحْصِنِينَ متعفّفين غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: غير مجاهرين بالزنى: وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرين به، و (الخدن) الصديق، يقع على الذكر والأنثى. وحمل المسافحة على إظهار الزنى لظهور مقابله في الإسرار، لتبادره من الخدن وهو الصديق. وقيل: الأول نهي عن الزنى، والثاني نهي عن مخالطتهن. كذا في (العناية).
قال ابن كثير: كما شرط الإحصان في النساء- وهي العفّة عن الزنى- كذلك شرطها في الرجال. وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا. ولهذا قال: غَيْرَ مُسافِحِينَ وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمّن جاءهم وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي: ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلّا معهنّ، كما تقدم في سورة النساء، سواء، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- إلى أنه لا يصحّ نكاح المرأة البغي حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف. وكذلك لا يصحّ عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنى، لهذه الآية
وللحديث: «لا ينكح الزاني المجلود إلّا مثله»
. وروى ابن جرير «١» : أن عمر بن الخطاب قال: لقد هممت أن لا أدع أحدا
(١) الأثر رقم ١١٢٦٧.
59
أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين! الشرك أعظم من ذلك. وقد يقبل منه إذا تاب.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يريد ب (الإيمان) شرائع الإسلام. على أنه مصدر أريد به المؤمن به، ك (درهم ضرب الأمير). (الكفر) الإباء عنه وجحوده. والآية تذييل لقوله:
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ تعظيما لشأن ما أحله الله وما حرّمه، وتغليظا على من خالف ذلك.
كذلك في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لما كان من جملة الإيفاء بالعقود التي افتتحت به هذه السورة إقامة الصلاة، وكانت مشروطة بالطهارة، بيّن سبحانه في هذه الآية كيفيّتها.
قال بعض المفسرين: نزلت في عبد الرحمن وكان جريحا: وقيل: لما احتبس ﷺ في سفر ليلا- بسبب عقد ضاع لعائشة، وأصبحوا على غير ماء. انتهى.
والثاني رواه البخاريّ- كما في- (أسباب النزول) للسيوطيّ- وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة النساء في (آية التيمم) ثمة. فانظره.
ولهذه الآية ثمرات هي أحكام شرعية.
الأولى: وجوب الوضوء وقت القيام إلى الصلاة أي إرادته. فقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨].
وكقولك: إذا ضربت غلامك فهوّن عليه: في أن المراد إرادة الفعل. قال الزمخشريّ:
60
فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه وإرادته له، وهو قصده إليه وميله وخلوص داعيه. فكما عبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطيران والإبصار. ومنه قوله تعالى: نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ يعني إنا كنا قادرين على الإعادة- كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأن الفعل مسبب عن القدرة والإرادة. فأقيم المسبب مقام السبب للملابسة بينهما. ولإيجاز الكلام ونحوه، من إقامة المسبب مقام السبب، قولهم: كما تدين تدان. عبّر عن الفعل المتبدأ- الذي هو سبب الجزاء- بلفظ الجزاء الذي هو مسبب عنه.
الثانية: ظاهر الآية وجوب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة وإن لم يكن محدثا. نظرا إلى عموم الَّذِينَ آمَنُوا من غير اختصاص بالمحدثين. والجمهور على خلافه لما
روى الإمام أحمد «١» ومسلم وأهل السنن عن بريدة قال: «كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال: له عمر: يا رسول الله! إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. قال: إني عمدا فعلته يا عمر».
وروى البخاري «٢» عن سويد بن النعمان قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، عام خيبر. حتى إذا كنا بالصهباء صلى لنا رسول الله ﷺ العصر. فلما صلى دعا بالأطعمة. فلم يؤت إلّا بالسويق. فأكلنا وشربنا. ثم قام النبي ﷺ إلى المغرب. فمضمض ثم صلى لنا المغرب ولم يتوضأ.
وروى الإمام أحمد «٣» وأبو داود عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وقد سئل عن وضوء أبيه عبد الله، لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، عمن هو؟ قال: حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب؟ إنّ عبد الله بن حنظلة بن الغسيل حدثها أن رسول الله ﷺ كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا أو غير طاهر. فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسواك عند كل صلاة، ووضع عنه الوضوء إلّا من حدث.
فكان عبد الله يرى أنه به قوة على ذلك. كان يفعله حتى مات. قال ابن كثير: وفي فعل ابن عمر هذا، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة، دلالة على استحباب ذلك. كما هو مذهب الجمهور.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٥/ ٣٥٠.
(٢) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٥١- باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ، حديث ١٥٨.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٢٢٥.
وأبو داود في: الطهارة، ٢٥- باب السواك، حديث ٤٨.
61
وقد روى ابن جرير «١» عن ابن سيرين، أن الخلفاء كانوا يتوضؤون لكل صلاة.
وعن عكرمة: أن عليّا- رضي الله عنه- كان يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية
وعن النزال بن سبرة قال: رأيت عليّا صلى الظهر. ثم قعد للناس في الرحبة. ثم أتى بماء فغسل وجهه ويديه. ثم مسح برأسه ورجليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث
وفي رواية: إنه توضأ وضوءا فيه تجوّز فقال: هذا وضوء من لم يحدث
وكذا حكى أنس عن عمر انه فعله، والطرق كلها جيدة. وأما ما رواه أبو داود الطيالسي عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء- فهو غريب عنه. ثم هو محمول على من اعتقد وجوبه، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك. روى الإمام أحمد عن أنس قال: كان النبيّ ﷺ يتوضأ عند كلّ صلاة. قيل له: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث! ورواه البخاري «٢» وأهل السنن أيضا.
وروى أبو داود «٣» والترمذي وابن ماجة وابن جرير عن ابن عمر مرفوعا: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات
. وضعفه الترمذي.
وإذا دلت هذه الأحاديث على أن الوضوء لا يجب إلّا على المحدث، فالوجه في الخروج من ظاهر الآية، أن الخطاب فيه خاص بالمحدثين.
وفي (العناية) : الإجماع صرفها عن ظاهرها. فأما أن تكون مقيدة- أي وأنتم محدثون- بقرينة دلالة الحال، ولأنه اشترط الحدث في البدل وهو التيمم- فلو لم يكن له مدخل في الوضوء، مع المدخلية في التيمم، لم يكن البدل بدلا. وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً صريح في البدلية. وقيل: في الكلام شرط مقدر. أي: إذا قمتم إلى الصّلاة. إن كنتم محدثين. وإن كنتم جنبا فاطهروا. وهو قريب جدّا. انتهى.
وزعم بعضهم أن الوجوب على كل قائم للصلاة كان في أول الأمر ثم نسخ.
واستدلّ على ذلك بحديث عبد الله بن حنظلة المتقدم. ونظر فيه بحديث: (المائدة من آخر القرآن نزولا) وأجيب بأن الحافظ العراقي قال: لم أجده مرفوعا. هذا، وقال
(١) الأثر رقم ١١٣٢٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٥٤- باب الوضوء من غير حدث، حديث ١٦٣.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٣٢- باب الرجل يجدد الوضوء من غير حدث، حديث ٦٢.
والترمذي في: الطهارة، ٤٤- باب الوضوء لكل صلاة.
وابن ماجة في: الطهارة، ٧٣- باب الوضوء على الطهارة، حديث ٥١٢.
62
الزمخشريّ: لا يجوز أن يكون الأمر في الآية شاملا للمحدثين وغيرهم- لهؤلاء على وجه الإيجاب، ولهؤلاء على وجه الندب- لأن تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية. وفي (الانتصاف) : من جوز أن يراد بالمشترك كلّ واحد من معانيه على الجمع، أجاز ذلك في الآية. ومن المجوزين لذلك الشافعي- رحمه الله تعالى- وناهيك بإمام الفنّ وقدوته. وإذا وقع البناء على أن صيغة (أفعل) مشتركة بين الوجوب والندب، صحّ تناولها في الآية للفريقين المحدثين والمتطهرين.
وتناولها للمتطهرين من حيث الندب، والله أعلم.
الثالثة: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : تمسك بهذه الآية من قال: إنّ الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأمّا ما قبل ذلك، فنقل ابن عبد البرّ اتفاق أهل السير على أن غسل غسل الجنابة إنما فرض على النبي ﷺ وهو بمكة. كما فرضت الصلاة. وأنه لم يصلّ قط إلّا بوضوء قال: وهذا مما لا يجهله عالم.
وقال الحاكم في (المستدرك) : وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الردّ على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق
حديث ابن عباس: دخلت فاطمة على النبيّ ﷺ وهي تبكي، فقالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك! فقال: ائتوني بوضوء فتوضأ... الحديث.
قال ابن حجر: وهذا يصلح ردا على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الحكم المالكيّ بأنه كان قبل الهجرة مندوبا، وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلّا بالمدينة، وردّ عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في (المغازي) التي يرويها عن أبي الأسود- يتيم عروة- عنه أن جبريل علّم النبيّ ﷺ الوضوء عند نزوله عليه بالوحي. وهو مرسل ووصله أحمد «١» من طريق ابن لهيعة أيضا. لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة «٢» من رواية رشدين بن سعد، عن عقيل، عن الزهريّ، نحوه. لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند، وأخرجه الطبرانيّ في (الأوسط) من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انتهى.
أي: وابن لهيعة يضعف في الحديث.
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ١٦١. [.....]
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة، ٥٨- باب ما جاء في النضح بعد الوضوء، حديث ٤٦٢.
63
الرابعة: قيل: في الآية دلالة على أن الوضوء لا يجب لغير الصلاة. وأيد بما
رواه أبو داود والنسائي «١» والترمذيّ عن عبد الله بن عباس أن رسول الله ﷺ خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ فقال: إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة.
قال الترمذي: حديث حسن.
وروى مسلم «٢» عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم. فأتى الخلاء. ثم إنه رجع فأتي بطعام، فقيل: يا رسول الله! ألا تتوضأ؟ فقال: لم أصلّ فأتوضأ.
وأما اشتراط الوضوء لطواف وسجدة التلاوة وصلاة الجنازة ومسّ المصحف- عند من أوجبه- فمن أدلة أخر مقررة في فقه الحديث.
الخامسة: (وجوب غسل الوجه) والغسل إمرار الماء على المحل حتى يسيل عنه، هذا هو المحكيّ عن أكثر الأئمة. زاد بعضهم: مع الدلك. وعن النفس الزكية:
أن مجرد الإمساس يكفي وإن لم يجر. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا. ومن الأذن إلى الأذن عرضا. وقد ساق بعض المفسرين هنا مذاهب، فيما يشمله الوجه وما لا يشمله، ومحلها كتب الخلاف.
السادسة: (وجوب غسل اليدين) : وهذا مجمع عليه وأما المرفقان، تثنية مرفق (كمنبر ومجلس) موصل الذراع في العضد، فالجمهور على دخولهما في المغسول وحكي عن زفر وبعض المالكية وأهل الظاهر عدم دخولهما. وسبب الخلاف أن المغيّا ب (إلى) تارة يتضح دخوله في الغاية، وطورا لا، وآونة يحتمل.
قال الزمخشري: (إلى) تفيد معنى الغاية مطلقا، فأما دخولها في الحكم وخروجها فأمر يدور مع الدليل فمما فيه دليل على الخروج قوله: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ [البقرة: ٢٨٠]، لأن الإعسار علة الإنظار، وبوجود الميسرة تزول العلة، ولو دخلت الميسرة فيه لكان منظرا في كلتا الحالتين، معسرا وموسرا، وكذلك: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧]. لو دخل الليل لوجب الوصال ومما فيه دليل على الدخول قولك: حفظت القرآن من أوله إلى آخره، لأن الكلام مسوق لحفظ القرآن كله. ومنه قوله تعالى: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [الإسراء: ١]. لوقوع العلم بأنه لا يسرى به إلى بيت المقدس من غير أن يدخله
(١) أخرجه النسائيّ في: الطهارة، ١٠٠- باب الوضوء لكل صلاة.
(٢) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ١١٨- ١٢١.
64
وقوله إِلَى الْمَرافِقِ وإِلَى الْكَعْبَيْنِ لا دليل فيه على أحد الأمرين، فأخذ كافة العلماء بالاحتياط. فحكموا بدخولها في الغسل، وأخذ زفر وداود بالمتيقن، فلم يدخلاها. انتهى.
قال الرضيّ: الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود. فإذا قلت: اشتريت من هذا الموضع إلى ذلك الموضع، فالموضعان لا يدخلان ظاهرا في الشراء. ويجوز دخولهما فيه مع القرينة وقال بعضهم: ما بعد (إلى) ظاهر الدخول فيما قبلها. فلا تستعمل في غيره إلّا مجازا. وقيل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها نحو: أكلت السمكة إلى رأسها، فالظاهر الدخول وإلّا فلا، نحو: أتموا الصيام إلى الليل. والمذهب هو الأول. ثم قيل: بأنها في الآية بمعنى (مع) كقوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [النساء: ٢]. قال الرضي: والتحقيق أنها بمعنى الانتهاء. أي تضيفوها إلى أموالكم، ومضافة إلى المرافق. انتهى.
قال صاحب (النهاية) : وقول من لم يدخل المرافق من جهة الدلالة اللفظية أرجح، وقول من أدخلها من جهة الأثر أبين، لأن
في حديث مسلم «١» مما رواه أبو هريرة: أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد. ثم اليسرى، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق. ثم اليسرى كذلك
. واحتج أهل المذهب
بحديث جابر: أنه ﷺ كان يدير الماء على مرفقيه
. قالوا: ودلالة الآية مجملة. وهذا بيان للمجمل. وبيان المجمل الواجب يكون واجبا. انتهى.
وقال المجد ابن تيمية في (المنتقى) : يتوجه من حديث أبي هريرة وجوب غسل المرفقين لأن نص الكتاب يحتمله، وهو مجمل فيه، وفعله ﷺ بيان لمجمل الكتاب، ومجاوزته للمرفق ليس في محل الإجمال، ليجب بذلك. انتهى.
وأجابوا بأن حديث جابر رواه الدارقطني والبيهقي. وفي إسناده متروك. وقد صرح بضعفه غير واحد من الحفاظ. وحديث أبي هريرة فعل لا ينتهض بمجرده على الوجوب. وقولهم (هو بيان للمجمل) فيه نظر. لأن (إلى) حقيقة في انتهاء الغاية- كما قدمنا- فلا إجمال. والله أعلم.
السابعة: قال الرازي: يقتضي قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ تحديد الأمر، لا تحديد المأمور به. يعني أن قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أمر
(١) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٣٤.
65
بغسل اليدين إلى المرفقين فإيجاب الغسل محدود بهذا الحدّ فبقي الواجب هو هذا القدر فقط، أما نفس الغسل فغير محدود بهذا الحدّ، لأنه ثبت بالأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة. انتهى.
الثامنة: أشعر أيضا قوله تعالى: إِلَى الْمَرافِقِ أن ينتهي في غسل اليدين بها، ويبتدأ بالأصابع. قال الحاكم: وقد وردت السنة بذلك، وهو الذي عليه الفقهاء، ولدلالة لفظ (إلى) لأنها للغاية، وغاية الشيء آخره. وقالت الإمامية: السنة أن يبتدئ بالمرفق. وقالوا: إن (إلى) هنا بمعنى (من) قال الحاكم: هذا تقدير فاسد.
التاسعة: ذهب الجمهور إلى أن تقديم اليمين على الشمال سنّة، من خالفها فاته الفضل وتمّ وضوؤه. وذهب العترة والإمامية- كما في (البحر) للمهدي- إلى وجوبه. واحتج عليهم بأن الآية لا تفيد ذلك، فمتى غسلهما مرتبا أو غير مرتب- قدم اليمنى أو اليسرى- فقد امتثل الأمر. وأجابوا بأن الدلالة على الوجوب من السنة،
فقد روى أحمد وأبو داود «١» عن أبي هريرة أن النبيّ ﷺ قال: «إذا لبستم وإذا توضأتم فابدأوا بأيامنكم» !
وأجيب: بأن الأمر للندب
لقوله: إذا لبستم وإذا توضأتم
، فقرن بينه وبين اللبس. فإذن يدل على وجوب التيامن في اللبس كما يدلّ عليه في الوضوء، وهم لا يقولون به. وأيضا
فقد روي عن عليّ عليه السلام أنه قال: ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء. رواه الدّارقطنيّ
. وروى نحوه البيهقيّ وابن أبي شيبة.
وروى أبو عبيد في الطهور: أن أبا هريرة كان يبدأ بميامنه، فبلغ ذلك عليّا فبدأ بمياسره. ورواه أحمد بن حنبل عن عليّ
قال الحافظ ابن حجر:
وفيه انقطاع. وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا. وكذلك الحديث المقترن بالتيامن في اللبس، المجمع على عدم وجوبه، صالح لجعله قرينة تصرف الأمر إلى الندب. ودلالة الاقتران- وإن كانت ضعيفة- لكنها لا تقصر عن الصلاحية للصرف لا سيما مع اعتضادها بقول عليّ عليه السلام وفعله.
العاشرة: ذهب بعض العترة إلى أنه لا مسح على الجبائر. ففي (الأحكام) من كتبهم: إذا جبر على جرح أو كسر وخشي نزع الجبائر ضررا، لا يشرع المسح. قال:
لأنّ الآية تقتضي غسل اليد دون ما عليها. والجمهور منهم ومن غيرهم: أنه يمسح،
لحديث جابر: إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه ثم يمسح عليه
(١) أخرجه أبو داود في: اللباس، ٤١- باب في الانتعال، حديث ٤١٤١.
وابن ماجة في: الطهارة، ٤٢- باب التيمن في الوضوء، حديث ٤٠٢.
66
ويغسل سائر جسده. رواه أبو داود «١» والدّارقطنيّ
. وصححه ابن السكن.
الحادية عشرة: (وجوب مسح الرأس) :
والمسح إمساس المحل الماء بحيث لا يسيل، والباء في قوله تعالى:
بِرُؤُسِكُمْ تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم قال الزمخشري: وماسح بعض الرأس ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق للمسح برأسه. أي: فيكون الواجب مطلق المسح كلا أو بعضا- وأيّا ما كان- وقع به الامتثال. والسنة الصحيحة وردت بالبيان، وفيها ما يفيد جواز الاقتصار على مسح البعض في بعض الحالات كما في صحيح مسلم «٢» وغيره من حديث المغيرة، أنه ﷺ أدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة «٣»، أنه مسح رأسه فأقبل وأدبر. وهذه هي الهيئة التي استمرّ عليها صلى الله عليه وسلم. فاقتضى هذا أفضلية الهيئة التي كان ﷺ يداوم عليها. وهي: مسح الرأس مقبلا ومدبرا. وإجزاء غيرها في بعض الأحوال. ولا يخفى أن الآية لا تفيد إيقاع المسح على جميع الرأس. كما في نظائره من الأفعال. نحو: ضربت رأس زيد،
(١)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦ ونصه: عن جابر قال: خرجنا في سفر. فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه. ثم احتلم فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات.
فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال «قتلوه، قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (أو يعصب) على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده».
(٢)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٨١، ونصه: عن المغيرة قال: تخلف رسول الله ﷺ وتخلفت معه. فلما قضى حاجته قال «أمعك ماء» ؟ فأتيته بمطهرة. فغسل كفيه ووجهه. ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كمّ الجبة. فأخرج يده من تحت الجبة. وألقى الجبة على منكبيه. وغسل ذراعيه. ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه. ثم ركب وركبت. فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة. يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع بهم ركعة. فلما أحسّ بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، ذهب يتأخر. فأومأ إليه. فصلّى بهم. فلما سلّم قام النبيّ ﷺ وقمت. فركعنا الركعة التي سبقتنا
. (٣)
أخرجه في البخاري في: الوضوء، ٣٨- باب مسح الرأس كله لقول الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، حديث ١٤٦ ونصه: أن رجلا قال لعبد الله بن زيد (وهو جدّ عمرو بن يحيى) :
أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله ﷺ يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد: نعم.
فدعا بماء فأفرغ على يديه فغسل مرتين. ثم مضمض واستنثر ثلاثا. ثم غسل وجهه ثلاثا. ثم غسل يديه مرتين مرتين إلى المرفقين. ثم مسح رأسه بيديه. فأقبل بهما وأدبر. بدأ بمقدم رأسه حتى ذهب بهما إلى قفاه. ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه. ثم غسل رجليه.
67
وبرأسه. وضربت زيدا وضربت يد زيد. فإنه يوجد المعنى اللغويّ في جميع ذلك، بوجود الضرب على جزء من الأجزاء المذكورة. وهكذا ما في الآية. وليس النزاع في مسمى الرأس لغة، حتى يقال: إنه حقيقة في جميعه. بل النزاع في إيقاع المسح عليه. وعلى فرض الإجمال، فقد بينه الشارع تارة بمسح الجميع، وتارة بمسح البعض، بخلاف الوجه. فإنه لم يقتصر على غسل بعضه في حال من الأحوال، بل غسله جميعا. وأما اليدان والرجلان فقد صرح فيهما بالغاية. فإن قلت: إن المسح ليس كالضرب الذي مثلت به. قلت: لا ينكر أحد من أهل اللغة أنه يصدق قول من قال (مسحت الثوب أو بالثوب. أو مسحت الحائط أو بالحائط) على مسح جزء من أجزاء الثوب أو الحائط. وإنكار مثل هذا مكابرة. كذا في (الروضة).
قال شمس الدين بن القيّم في (الهدى) : ولم يصحّ عنه ﷺ في حديث واحد، أنه اقتصر على مسح بعض رأسه البتة. ولكن كان إذا مسح بناصيته كمل على العمامة. فأما
حديث أنس الذي رواه أبو داود «١» : رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة-
فهذا مقصود أنس به أن النبي ﷺ لم ينقض عمامته حتى يستوعب مسح الرأس الشعر كله. ولم ينف التكميل على العمامة. وقد أثبته المغيرة بن شعبة وغيره.
فسكوت أنس عنه لا يدل على نفيه. انتهى.
قال الشوكانيّ: ليس النزاع إلا في الوجوب. وأحاديث التعميم، وإن كانت أصح، وفيها زيادة وهي مقبولة- لكن أين دليل الوجوب؟ وليس إلّا مجرد الفعل.
وهو لا يدل على الوجوب. ثم قال: وبعد هذا، فلا شك في أولوية استيعاب المسح لجميع الرأس وصحة أحاديثه. ولكن دون الجزم بالوجوب، مفاوز وعقاب.

فصل


وأما قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. فقرأه بالنصب نافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب. وبالجرّ الباقون، ومن هاتين القراءتين تشعبت المذاهب في صفة طهارة الرجلين. فمن ذاهب إلى أن طهارتهما الغسل. ومن ذاهب إلى أنها المسح. ومن مخيّر بينهما. ولكلّ من هذه المذاهب حجج وتأويلات وأجوبة ومناقشات نسوق شذرة منها.
(١) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٥٨- باب المسح على العمامة، حديث ١٤٧.
68
فنقول: قال الأولون: قراءة النصب ظاهرها يفيد الغسل. وقراءة الجرّ ظاهرها يفيد المسح. إلّا أنه لما وجد ما يرجح الغسل تأولنا ما أفادته قراءة الجرّ في الظاهر.
والمرجح للغسل أمور.
منها: ما في (الصحيحين) «١» و (السنن) عن عثمان وعليّ وابن عباس ومعاوية وعبد الله بن زيد بن عاصم والمقداد بن معد يكرب أن رسول الله ﷺ غسل الرجلين في وضوئه، إما مرة وإما مرتين أو ثلاثا. على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أنّ رسول الله ﷺ توضأ فغسل قدميه ثم قال:
هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلّا به.
وفي (الصحيحين) «٢» عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفره. فأدركنا وقد أرهقنا العصر. فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا. قال، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار. مرتين أو ثلاثا. وكذلك هو في (الصحيحين) «٣» عن أبي هريرة.
وفي (صحيح مسلم) «٤» عن عائشة عن النبيّ ﷺ أنه قال: «أسبغوا الوضوء. ويل للأعقاب من النار»
وروى البيهقي والحاكم، بإسناد صحيح، عن عبد الله بن الحارث بن جزء أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار.
وروى الإمام أحمد «٥» وابن ماجة «٦» وابن جرير «٧» عن جابر بن عبد الله قال: رأى النبيّ ﷺ في رجل رجل مثل الدرهم لم يغسله، فقال: ويل للأعقاب من النار.
(١) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٢٢- باب الوضوء مرة مرة، حديث ١٢٨ عن ابن عباس.
و٢٣- باب الوضوء مرتين مرتين، حديث ١٢٩ عن عبد الله بن زيد.
و٢٤- باب الوضوء ثلاثا ثلاثا، حديث ١٣٠ عن عثمان بن عفان.
(٢) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٧- باب غسل الرجلين، ولا يمسح على القدمين، حديث ٥٣.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٦.
(٣) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٢٩- باب غسل الأعقاب، حديث ١٣٢.
ومسلم في: الطهارة، حديث ٢٨.
(٤) أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٢٥.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٣٩٠.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥، عن خالد عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. [.....]
(٦) أخرجه ابن ماجة في: الطهارة وسننها، ٥٥- باب غسل العراقيب، حديث ٤٥٤.
(٧) الأثر رقم ١١٥١٣.
69
قال ابن كثير: ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة. وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما، أو أنّه يجوز ذلك، لما توعد على تركه، لأن المسح لا يستوعب جميع الرّجل. بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف.
وروى الإمام أحمد «١» عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبيّ: «أن النبيّ ﷺ رأى رجلا يصلّي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم، لم يصبها الماء. فأمره رسول الله ﷺ أن يعيد الوضوء». زاد أبو داود: والصلاة.
وروى الإمام أحمد «٢» عن أبي أمامة قال: حدثنا عمرو بن عبسة قال: «قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء، قال: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر، إلّا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر. ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلّا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء. ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلّا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله. ثم يمسح رأسه إلّا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء. ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمر الله إلّا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء. ثم يقوم فيحمد الله ويثني بالذي هو له أهل، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
قال أبو أمامة: يا عمرو! انظر ما تقول. سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أيعطى هذا الرجل كله في مقامه؟ قال عمرو بن عبسة: يا أبا أمامة! لقد كبر سني ورقّ عظمي واقترب أجلي. وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لو لم أسمعه من رسول الله ﷺ إلّا مرة أو مرتين أو ثلاثا. لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك..
قال ابن كثير: وإسناده صحيح وهو
في (صحيح مسلم) «٣» من وجه آخر، وفيه: ثم يغسل قدميه كما أمره الله.
فدلّ على أن القرآن يأمر بالغسل. وهكذا
روى أبو إسحاق السبيعيّ عن الحارث عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم
. ومن هاهنا يتضح لك المراد من
حديث عبد خير عن عليّ، «أن رسول الله ﷺ رش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفا وهما في النعلين»
. ولا مانع من إيجاد الغسل والرّجل في نعلها. ويكون في
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ٤٢٤.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٦- باب تفريق الوضوء، حديث ١٧٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند (من حديث طويل) ٤/ ١١٤.
(٣) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٢٩٤.
70
هذا ردّ على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا ما
رواه ابن جرير «١» عن حذيفة قال: أتى رسول الله ﷺ سباطة قوم فبال قائما ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه
. وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه: بأن الثقات الحفاظ رووه عن حذيفة: فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه. قال ابن كثير: ويحتمل الجمع بينهما. بأن يكون في رجليه خفان وعليهما نعلان.
وهكذا
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «٢» عن أوس بن أبي أوس قال: «رأيت رسول الله ﷺ توضأ ومسح على نعليه ثم قام إلى الصلاة».
ورواه أبو داود «٣» عنه بلفظ: «رأيت رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه».
ثم قال الجمهور: إن قراءة الجرّ محمولة على الجوّ الجواريّ. ونظيره كثير في القرآن والشعر. كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦] و: حُورٌ عِينٌ [الواقعة: ٢٢] بالجرّ في قراءة حمزة والكسائيّ عطفا على بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ [الواقعة: ١٨] والمعنى مختلف. إذ ليس المعنى: يطوف عليهم ولدان مخلدون بحور عين. وكقولهم: جحر ضب خرب، وللنحاة باب في ذلك. حتى تعدوا، من اعتباره في الإعراب، إلى التثنية والتأنيث وغير ذلك. وقد ساق شذرة من أشباهه ونظائره أبو البقاء هنا. فانظره. وما قيل بأن حرف العطف مانع من الجوار (زعما بأنه خاص بالنعت والتأكيد) مردود بأنه ورد في العطف كثيرا في كلام العرب. قال الشاعر:
لم يبق إلّا أسير غير منفلت وموثق في عقال الأسر مكبول
فخفض (موثقا) بالمجاورة للمنفلت. وحقه الرفع عطفا على (أسير). وقال:
فهل أنت- إن ماتت أتانك- راحل إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
فجرّ (فخاطب) للمجاورة. وحقه الرفع عطفا على (راحل). وكفى في الردّ قراءة (وحور) بالجرّ كما قدّمنا. قالوا: وشرط حسن الجرّ الجواريّ عدم الإلباس مع تضمن نكتة. وهنا كذلك. فإن الغاية دلت أنه ليس بممسوح. إذ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة. والنكتة فيه الإشارة إلى تخفيفه حتى كأنه مسح.
(١) الأثر رقم ١١٥٢٨.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٤/ ٨.
(٣) أخرجه أبو داود في: الطهارة، ٦٢- باب المسح على الجوربين. حديث ١٦٠.
71
قال الناصر في (الانتصاف) : والوجه فيه أن الغسل والمسح متقاربان، من حيث إن كل واحد منهما إمساس بالعضو. فيسهل عطف المغسول على المسوح من ثمّ- كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وعلفتها تبنا وماء باردا- ونظائره كثيرة. وبهذا وجّه الحذاق. ثم يقال: ما فائدة هذا التشريك بعلة التقارب؟ وهلا أسند إلى كل واحد منهما الفعل الخاصّ به على الحقيقة؟ فيقال: فائدته الإيجاز والاختصار وتوكيد الفائدة- بما ذكره الزمخشريّ- أي: من أنّ الأرجل لما كانت مظنة للإسراف المذموم المنهيّ عنه، فعطف على الرابع المسوح، لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها. ثم قال الناصر: وتحقيقه أن الأصل أن يقال مثلا: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا لا إسراف فيه كما هو المعتاد، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح. ونبه بهذا التشريك، الذي لا يكون إلّا في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين جدّا، على أن الغسل المطلوب في الأرجل، غسل خفيف يقارب المسح. وحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة. انتهى.
وأما من أوجب الجمع بين المسح والغسل فأخذا بالجمع بين القراءتين. ومراد من ذهب إلى وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما. فحكاه من حكاه كذلك. ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء، وهو معذور. فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندراجه فيه. وإنما أراد ما ذكرته والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ خفضا على المسح وهو الدلك، ونصبا على الغسل، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه. انتهى.
وأما من قال: الوجب هو المسح، فتمسك بقراءة الجر، وهو مذهب الإمامية.
وأجابوا عن قراء النصب بأنها مقتضية للمسح أيضا. وقد وقفت على كتاب (شرح المقنعة) من كتبهم فوجدته أطنب في هذا البحث، ووجه اقتضاء النصب للمسح بأن موضع الرؤوس موضع نصب لوقوع الفعل، الذي هو المسح عليه. قال: وعلى هذا لا ينكر أن يعطف الأرجل على موضع الرؤوس لا لفظها فينصب، والعطف على الموضع جائز مشهور في لغة العرب. ثم ساق الشواهد في ذلك وقال بعد: فإن قيل:
ما أنكرتم أن تكون القراءة بالنصب لا تقتضي الغسل، فلا تحتمل المسح. لأن عطف الأرجل على مواضع الرؤوس في الإيجاب توسّع وتجوّز. والظاهر والحقيقة يوجبان عطفها على اللفظ لا الموضع، قلنا: ليس الأمر على ما توهمتم، بل العطف على الموضع مستحسن في لغة العرب، وجائز لا على سبيل الاتساع والعدول عن
72
الحقيقة. فالمتكلم مخير بين حمل الإعراب على اللفظ تارة، وبين حمله على الموضع أخرى. قال: وهذا ظاهر في العربية مشهور عند أهلها، وفي القرآن والشعر له نظائر كثيرة. ثم قال: على أنّا لو سلمنا أن العطف على اللفظ أقوى، لكان عطف الأرجل على موضع الرؤوس أولى، مع القراءة بالنصب، لأن نصب الأرجل لا يكون إلّا على أحد وجهين: إما بأن يعطف على الأيدي والوجوه في الغسل، أو يعطف على موضع الرؤوس فينصب، ويكون حكمها المسح. وعطفها على موضع الرؤوس أولى.
وذلك أن الكلام إذا حصل فيه عاملان، أحدهما قريب والآخر بعيد، فإعمال الأقرب أولى من إعمال الأبعد. وقد نص أهل العربية على هذا في باب التنازع. انتهى. فتأمّل جدلهم.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي عن طائفة من السلف القول بالمسح: فروى ابن جرير «١» عن حميد قال: قال موسى بن أنس ونحن عنده: يا أبا حمزة! إن الحجاج خطبنا بالأهواز، ونحن معه. فذكر الطهور فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلكم. وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه.
فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما. فقال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ.
قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إليه.
وروى ابن جرير «٢» أيضا عن عاصم عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة بالغسل. وإسناده صحيح أيضا.
وأسند «٣» أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: الوضوء غسلتان ومسحتان.
وكذا روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ، قال: هو المسح. ثم قال: وروى ابن عمر وعلقمة وأبي جعفر محمد بن عليّ والحسن (في إحدى الروايات) وجابر بن يزيد ومجاهد (في إحدى الروايتين) نحوه.
(١) الأثر رقم ١١٤٧٥.
(٢) الأثر رقم ١١٤٧٦.
(٣) الأثر رقم ١١٤٧٤.
73
وروى ابن جرير «١» عن أيوب قال: رأيت عكرمة يمسح على رجليه. وعن الشعبيّ «٢» قال: نزل جبريل بالمسح. ألا ترى أنّ التيمم، أن يسمح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا؟
وأما من ذهب إلى التخيير، فقال: لما جاءت القراءة بما يوجب الغسل وبما يوجب المسح، دلّ على أنه مخيّر. قال في (الشفا) : القراءتان لا توجبان الجمع، بل تثبتان التخيير.
ولا يخفى أن ظاهر الآية صريح في أن واجبهما المسح. كما قال ابن عباس وغيره. وإيثار غسلهما في المأثور عنه صلى الله عليه وسلم، إنما هو للتزيد في الفرض والتوسع فيه حسب عادته صلى الله عليه وسلم، فإنه سنّ في كل فرض سننا تدعمه وتقويه. في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وكذا في الطهارات كما لا يخفى، ومما يدلّ على أن واجبهما المسح، تشريع المسح على الخفين والجوربين. ولا سند له إلا هذه الآية. فإن كل سنة أصلها في كتاب الله، منطوقا أو مفهوما، فاعرف ذلك واحتفظ به، والله الهادي.

فصل


فيما قاله الصوفية- قدس الله سرهم- من أسرار طهارة هذه الأعضاء:
فأما الوجه، فإنما وجب غسله لأن فيه أكثر الحواس الظاهرة التي ينتفع بالمحسوسات بواسطتها، فلا بدّ من تطهيره عن ظهور آثار حدثت عنها، ولسبق الإحساس على العمل، قدم ما فيه أكثر الحواس الظاهرة أي غير السمع. ثم أمر بتطهير الآلة الفاعلية للأفعال التي منها تلك الآثار- وهي الأيدي إلى المرافق- لأن العمل بالأصابع يحتاج إلى تحريك الكف التي لا تتحرك غالبا إلّا بتحريك المرافق، ثم أمر بمسح الرأس لأنه جامع للحواس الباطنة، فأشبه جامع الحواس الظاهرة، وأخره عن غسل اليدين لأنه مخزن الصور المدركة بالحواس الظاهرة من أعماله وغيرها. ولم يأمر بغسله لأنه يضر بصاحب الشعر، ولا بد منه في الزينة، لا سيّما للمرأة، فخفف بالمسح. ثم أوجب غسل آلة السعي لمشابهة آلة العمل وهي الأرجل، ولما كانت حركتها توجب حركة جميع البدن، اقتصر على أدنى الغايات، أعني: الكعبين، لئلا
(١) الأثر رقم ١١٤٨٦.
(٢) الأثر رقم ١١٤٨٠.
74
تبطل فائدة تخصيص الأعضاء، وفي الفصل بين المغسولات بالممسوح إيماء إلى وجوب الترتيب، والسرّ فيه ما أشرنا إليه. كذا في تفسير (المهايميّ).
وذكر الشعرانيّ- قدّس سره- في سرّ ذلك، أن الوجه به حصول المواجهة في حضرة الله تعالى عند خطابه، والشرع قد تبع العرف في ذلك، وإلّا فكل جزء من بدن العبد- ظاهرا وباطنا- ظاهر للحق تعالى من العبد. أمر الله تعالى العبد بالتوبة فورا.
مسارعة للتطهير من النجاسة المعنوية. لأن الماء لا يصل إلى القلب. فافهم. ثم وجه قول الجمهور بدخول المرفقين في اليدين بأنهما محل الارتفاق. وتكمل الحركة بهما في فعل المخالفات. ووجّه قول زفر وداود، بأنهما لم يتمحضا للذراعين، لأنهما مجموع شيئين: إبرة الذراع ورأس العظمين، ثم وجّه مسح جميع الرأس، بالأخذ بالاحتياط. فيمسح جميع محل الرياسة التي عند المتوضئ ليخرج عن الكبر الذي في ضمنها، ويمكن من دخول حضرة الله تعالى في الصلاة. فإن من كان عنده مثقال ذرة من كبر لا يمكن من دخوله الجنة يوم القيامة، كما ورد، إذ هي الحضرة الخاصة، وكذلك القول في حضرة الصلاة. ثم وجّه غسل القدمين بمؤاخذة العبد بالمشي بهما في غير طاعة الله عزّ وجل، وكونهما حاملين للجسم كلّه. وممدين له بالقوة على المشي، فإذا ضعفا بالمخالفة أو الغفلة سرى ذلك فيما حملاه، كما يسري منهما القوة إلى ما فوقهما إذا غسل، فإنهما كعروق الشجرة التي تشرب الماء وتمدّ الأغصان بالأوراق والثمار. فتعين فيهما الغسل دون المسح، ثم ذكر سرّ من ذهب إلى وجوب الموالاة في طهارة أعضاء الوضوء، بأن الغالب على المتطهرين ضعف أبدانهم من كثرة المعاصي، أو الغفلات، أو أكل الشهوات، وإذا لم يكن موالاة جفت الأعضاء كلها قبل القيام إلى الصلاة، مثلا. وإذا جفت فكأنها لم تغسل ولم تكتسب بالماء انتعاشا. ولا حياة تقف بها بين يدي ربها. فخاطبت ربها بلا كمال لحضور ولا إقبال على مناجاته. هذا حكم غالب الأبدان، أما أبدان العلماء العاملين وغيرهم من الصالحين، فلا يحتاجون إلى تشديد في أمر الموالاة لحياة أبدانهم بالماء. ولو طال الفصل بين غسل أعضائهم. فيحمل قول من قال بوجوب الموالاة على طهارة عوام الناس. ويحمل قول من قال بالاستحباب على طهارة علمائهم وصالحيهم.
وسمعت سيدي عليّا الخوّاص، رحمه الله تعالى، يقول: نعم قول من قال بوجوب الموالاة في هذا الزمان. فإنّ من لم يوجبها يؤدي قوله إلى جواز طول الفصل جدّا. وزيادة البطء في زمن الطهارة، وفوات أول الوقت، كأن يغسل وجهه في
75
الوضوء للظهر بعد صلاة الصبح. ثم يغسل يديه ربع النهار. ثم يمسح رأسه بعد زوال الشمس. ثم يغسل رجليه قبيل العصر. مع وقوع ذلك المتوضئ مثلا، في الغيبة والنميمة والاستهزاء والسخرية والضحك والغفلة. وغير ذلك من المعاصي والمكروهات. أو خلاف الأولى إن كان ممن يؤاخذ به كما يؤاخذ بأكل الشهوات.
فمثل هذا الوضوء، وإن كان صحيحا في ظاهر الشرع- من حيث إنه يصدق عليه إنه وضوء كامل- فهو قليل النفع لعدم حصول حياة الأعضاء به بعد موتها أو ضعفها أو فتورها. ففات بذلك حكمة الأمر بالموالاة في الوضوء- وجوبا أو استحبابا- وهي إنعاش البدن وحياته قبل الوقوف بين يدي الله تعالى للمناجاة. ثم لو قدر عدم وقوع ذلك المتوضئ، الذي لم يوال، في معصية أو غفلة في الزمن المتخلل بين غسل الأعضاء. فالبدن ناشف كالأعضاء التي عمتها الغفلة والسهو والملل والسآمة. فلم يصر لها داعية إلى كمال الإقبال على الله تعالى حال مناجاته.
وقد كمل أسرار السنن بما يبهج، فلينظر في (ميزانه) رحمه الله تعالى.
وفي كلام الله تعالى من الفوائد والأسرار واللطائف، ما تضيق عنه الأسفار.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً أي: بخروج مني أو التقاء ختانين فَاطَّهَّرُوا أي:
بالماء، أي: اغتسلوا به. قال المهايميّ: أي: بالغوا في تطهير البدن لأنه يتلذذ به الجميع تلذذا أغرقه في غير الله، فأثر فيه بالحدث وَإِنْ كُنْتُمْ جنبا مَرْضى تخافون من استعمال الماء أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي رجع من مكان البراز أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ تذليلا للعضوين الشريفين. وقد مرّ تفسير هذا وأحكامه في سورة النساء. ما يُرِيدُ اللَّهُ أي ما يريد بالأمر بالطهارة للصلاة. أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال أو في تحصيل الماء وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي عن الذنوب، أو ليجعلكم في حكم الطاهرين بالتذلل بالتراب. فإنه لما رفع التكبر فكأنما رفع الحدث الذي ينشأ عن أمثاله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ أي: بشرعه ما هو مطهر لأبدانكم ومنعش لها مما لحقها، ومكفّر لذنوبكم، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بتمكينكم من عبادته بكل حال، حتى حال الحدث لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته ورخصته فيثيبكم.
وقد روى ابن جرير «١» عن أبي أمامة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ
(١) الأثر رقم ١١٥٤٥. [.....]
76
فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه».
ورواه مسلم «١» وأصحاب السنن عن أبي هريرة مفصلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالهداية لهذا الدين القويم لتذكركم المنعم وترغبكم في شكره وَمِيثاقَهُ أي عهده الوثيق الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ أي: أكد عليكم بقوله إِذْ قُلْتُمْ أي: لرسول الله ﷺ سَمِعْنا وَأَطَعْنا حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في نقض شيء من عهوده ولو بالقلب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بخفيّاتها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي: مقتضى إيمانكم الاستقامة، فكونوا مبالغين في الاستقامة باذلين جهدكم فيها لله. وهي إنما تتم بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه فكونوا شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أي: العدل. لا تتركوه لمحبة أحد ولا لعداوة أحد وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي: لا يحملنكم شَنَآنُ أي: شدة عداوة قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا في حقهم. قال المهايميّ: أي: فإنّا لا نأمركم به من حيث ما فيه من توفية حقوق الأعداء. بل من حيث ما فيه من توفية حقوق أنفسكم في الاستقامة اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل- أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: لحفظ الأنفس أن تتجاوز حدّ
(١)
أخرجه مسلم في: الطهارة، حديث ٣٢ ونصه: عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال «إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) فغسل وجهه، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء (أو قال مع آخر قطر الماء) فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء (أو مع آخر قطر الماء) حتى يخرج نقيّا من الذنوب».
استقامتها وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: أن تبطلوا حقوقه أو حقوق عباده ولو بطريق توهمون فيه العدل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الأعمال فيجازيكم بذلك.
وقد ثبت في (الصحيحين) «١» عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلا. فقالت أمي: لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكلّ ولدك نحلت مثله؟ قال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، وقال: إني لا أشهد على جور. قال، فرجع أبي فردّ تلك الصدقة.
قال بعض المفسرين: ثمرة الآية الدلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالقسط. يدخل فيه الشهادة بالعدل والحكم به. وكذلك الفتوى. وأن قول الحق لا يترك وجوبه بعدوّ ولا صديق. ولا يجوز اتباع الهوى.
قال الزمخشريّ وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إذا كان واجبا مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ التي من جملتها العدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني ثوابا وافرا في الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي منها ما تلى من الأمر بالعدل والتقوى.
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أهل النار. ثم بيّن تعالى أنّ من مقتضى الإيمان ملازمة شكره على ذكر نعمه، فقال سبحانه:
(١) أخرجه البخاري في: الهبة، ١٢- باب الهبة للولد، حديث ١٢٦٣.
وفي ١٣-: باب الإشهاد في الهبة.
وفي: الشهادات، ٩- باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد.
وأخرجه مسلم في: الهبة، حديث ٩- ١٨.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: في حفظه إيّاكم عن أعدائكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ أي: بأن يبطشوا بكم بالقتل والإهلاك فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أي: منعها أن تمدّ إليكم، وردّ مضرّتها عنكم.
قيل: الآية إشارة إلى ما
روى عبد الرزاق عن معمر عن الزهريّ عن أبي سلمة عن جابر: أن النبيّ ﷺ نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها. وعلّق النبي ﷺ سلاحه بشجرة. فجاء أعرابيّ إلى سيف رسول الله ﷺ فأخذه فسلّه. ثم أقبل على النبيّ ﷺ فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله عزّ وجلّ. قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا: من يمنعك مني؟ والنبيّ ﷺ يقول: الله. قال: فشام الأعرابي السيف. فدعا النبيّ ﷺ أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي. وهو جالس إلى جنبه، ولم يعاقبه».
وقال معمر: كان قتادة يذكر نحو هذا، ويذكر أنّ قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل هذه الآية.
وأخرج أبو نعيم في (دلائل النبوة) من طريق الحسن عن جابر بن عبد الله، «أن رجلا من محارب يقال له غورث بن الحارث قال لقومه: أقتل لكم محمدا. فأقبل إلى رسول الله ﷺ وهو جالس وسيفه في حجره فقال: يا محمد! أأنظر إلى سيفك هذا؟ قال: نعم. فأخذه فاستله وجعل يهزه ويهم به فيكبته الله تعالى. فقال يا محمد! أما تخافني؟ قال: لا. قال: أما تخافني والسيف في يدي؟ قال: لا. يمنعني الله منك. ثم غمد السيف ورده إلى رسول الله». فأنزل الله الآية.
وقصة هذا الأعرابي ثابتة في (الصحيح) «١».
(١)
أخرجها البخاري في: الجهاد، ٨٣- باب من علّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة، حديث ١٣٩٣ ونصه: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أخبر أنه غزا مع رسول الله ﷺ قبل نجد.
فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفلنا معه. فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله ﷺ تحت سمرة وعلّق بها سيفه. ونمنا نومة.
فإذا رسول الله ﷺ يدعونا. وإذا عنده أعرابيّ. فقال «إن هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم،
79
وأخرج ابن جرير «١» عن عكرمة ويزيد بن أبي زيادة واللفظ له: أن النبيّ ﷺ خرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتى دخلوا على كعب بن الأشرف ويهود بني النضير، يستعينهم في عقل أصابه. فقالوا: نعم.
اجلس حتى نطعمك أو نعطيك الذي تسألنا، فجلس. فقال حييّ بن أخطب لأصحابه: لا ترونه أقرب منه الآن. اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه. ولا ترون شرّا أبدا، فجاؤوا إلى رحى عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم. حتى جاء جبريل فأقامه من ثمت. فأنزل الله الآية. وروى نحوه ابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: ثم أمر رسول الله ﷺ أن يغدو إليهم، فحاصرهم حتى أنزلهم فأجلاهم
. انتهى.
وعلى هذه الروايات، فالمراد من قوله تعالى اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
وذكر الزمخشريّ، ومن بعده، من وجوه إشارات الآية، ما كان بعسفان من حفظه تعالى لهم من أعدائهم، لما هموّا بقتلهم عند اشتغالهم بصلاة العصر، بعد ما رأوهم يصلون الظهر. فندموا على أن لا أكبوا عليهم. فردّ كيد أعدائهم إذ أنزل عليهم صلاة الخوف. انتهى.
ولفظ الآية محتمل لذلك، بيد أني لم أره الآن مسندا عن أئمة الأثر.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في رعاية حقوق نعمته ولا تخلّوا بشكرها وَعَلَى اللَّهِ خاصة دون غيره فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي في إيصال الخير ودفع الشر لمن توكل عليه.
قال أبو السعود: والجملة تذييل مقرر لما قبله. وإيثار صيغة أمر الغائب.
فاستيقظت وهو في يده صلتا. فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا» ولم يعاقبه وجلس.
وأخرجه أيضا في: ٨٧- باب تفرق الناس عن الإمام عند القائلة.
وفي: المغازي، ٣١- باب غزوة ذات الرقاع.
وفي: ٣٢- باب غزوة بني المصطلق.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣١١.
وفي: الفضائل، حديث ١٣.
(١) الأثر رقم ١١٥٥٧.
80
وإسنادها إلى المؤمنين، لإيجاب التوكل على المخاطبين بالطريق البرهانيّ، وللإيذان بأن ما وصفوا به عند الخطاب من وصف الإيمان، داع إلى ما أمروا به من التوكل والتقوى، وازع عن الإخلال بهما.
بحث جليل في التوكل
قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية- قدس الله سرّه- في بعض مصنّفاته:
قد ظنّ طائفة ممن تكلم في أعمال القلوب، أن التوكل لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل ما كان مقدرا بدون التوكل، فهو مقدر مع التوكل. ولكن التوكل عبادة يثاب عليها من جنس الرضا بالقضا. وذكر ذلك أبو عبد الله بن بطة فيما صنفه في هذا الباب. وقول هؤلاء يشبه قول من قال: إن الدعاء لا يحصل به جلب منفعة ولا دفع مضرة. بل هو عبادة يثاب عليها كرمي الجمار، وآخرون يقولون: بل الدعاء علامة وأمارة. ويقولون ذلك في جميع العبادات، وهذا قول من ينفي الأسباب في الخلق والأمر، ويقول: إن الله يفعل عندها، لا بها. وهو قول طائفة من متكلمي أهل الإثبات للقدر- كالأشعريّ وغيره، وهو قول طائفة من الفقهاء والصوفية. وأصل هذه البدعة من قول جهم. فإنه كان غاليا في نفي الصفات وفي الجبر، فجعل من تمام توحيد الذات نفي الصفات، ففي تمام توحيد الأفعال نفي الأسباب. حتى أنكر تأثير قدرة العبد، بل نفى كونه قادرا، وأنكر الحكمة في التوكل والرحمة. وكان يخرج إلى الجذمي فيقول: أرحم الراحمين يفعل مثل هذا؟ يعني أنه يفعل بمحض المشيئة بلا رحمة. وقوله في القدر، قد تقرب إليه الأشعريّ ومن وافقه من الطوائف. والذي عليه السلف والأئمة والفقهاء والجمهور وكثير من أهل الكلام إثبات الأسباب. كما دلّ على ذلك الكتاب والسنة، مع دلالة الحسّ والعقل. والكلام على هؤلاء مبسوط في مواضع أخر. والمقصود هنا الكلام على التوكل. فإن الذي عليه الجمهور أن المتوكل يحصل له بتوكله، من جلب المنفعة ودفع المضرة، ما لا يحصل لغيره. وكذلك الدعاء. والقرآن يدل على ذلك في مواضع كثيرة. ثم هو سبب عند الأكثرين، وعلامة عند من ينفي الأسباب: قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. والحسب:
الكافي. فبيّن أنه كاف من توكل عليه. وفي الدعاء: يا حسيب المتوكلين! فلا يقال: هو حسب غير المتوكل كما هو حسب المتوكل، لأنه علق هذه الجملة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط، فيمتنع في مثل ذلك أن يكون وجود الشرط
81
كعدمه. ولأنه رتب الحكم على الوصف المناسب له. فعلم أن توكله هو سبب كونه حسيبا له، ولأنه ذكر ذلك في سياق الترغيب في التوكل، كما رغب في التقوى. فلو لم يحصل للمتوكل من الكفاية ما لا يحصل لغيره، لم يكن ذلك مرغّبا في التوكل.
كما جعل التقوى سببا للخروج من الشدة وحصول الرزق من حيث لا يحتسب.
وقال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: ١٧٣] فمدحوه سبحانه بأنه نعم الوكيل، والوكيل لا يستحق المدح إذا لم يجلب لمن توكل عليه منفعة ولم يدفع عنه مضرة. والله خير من توكل العباد عليه، فهو نعم الوكيل يجلب لهم كل خير ويدفع عنهم كل شرّ. وقال تعالى: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل: ٨- ٩]. وقال: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا [الإسراء: ٢]. فأمر أن يتّخذ وكيلا ونهى أن يتخذ من دونه وكيلا، لأن المخلوق لا يستقل بجميع حاجات العبد، والوكالة الجائزة أن يتوكل الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكل بذلك بعض مطلوبه. فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلّا الله. وذاك الذي يوكله لا يفعل شيئا إلا بمشيئة الله وقدرته. فليس له أن يتوكل عليه، وإن وكله. بل يعتمد على الله في تيسير ما وكله فيه، فلو كان الذي يحصل للمتوكل على الله، يحصل وإن توكل على غيره، ويحصل بلا توكّل، لكان اتخاذ بعض المخلوقين وكيلا أنفع من اتخاذ الخالق وكيلا. وهذا من أقبح لوازم هذا القول الفاسد. لأن التوكل على الخلق يشهد نفعه. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ٦٤] أي: الله كافيك وكافي من اتبعك من المؤمنين. فلو كانت كفايته للمؤمنين المتبعين للرسول- سواء اتبعوه أو لم يتبعوه- لم يكن للإيمان واتباع الرسول أثر في هذه الكفاية. ولا كان لتخصيصهم بذلك معنى. وكان هذا نظير أن يقال: هو خالقك وخالق من اتبعك. ومعلوم أنّ المراد خلاف ذلك. وإذا كان الحسب معنى يختص بعض الناس، علم أن قول المتوكل: (حسبي الله) وقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أمر مختص لا مشترك. وأن التوكل سبب ذلك الإختصاص، والله تعالى إذا وعد على العمل بوعد أو خصّ أهله بكرامة، فلا بدّ أن يكون بين وجود ذلك العمل وعدمه فرق في حصول تلك الكرامة. وإن كان قد يحصل نظيرها بسبب آخر. فقد يكفي الله بعض من لم يتوكل عليه كالأطفال. لكن لا بد أن يكون للمتوكل أثر في حصول الكفاية الحاصلة للمتوكلين، فلا يكون
82
ما يحصل من الكفاية بالتوكل حاصلا، وإن عدم التوكل. وقد قال تعالى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: ١٧٣- ١٧٤]، فعقب هذا الجزاء والحكم لذلك الوصف والعمل، بحرف (الفاء) وهي تفيد السبب، فدل ذلك على أن ذلك التوكل هو سبب هذا الانقلاب بنعمة من الله وفضل. وأن هذا الجزاء جزاء على ذلك العمل. وفي الأثر: من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله. فلو كان التوكل لا يجلب منفعة ولا يدفع مضرة، لم يكن المتوكل أقوى من غيره. وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب: ١- ٣]. وقال في أثناء السورة: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ، وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [الأحزاب:
٤٨]. فأمره سبحانه بتقواه واتباع ما يوحى إليه وأمره بالتوكل. كما جمع بين هذين الأصلين في غير موضع. كقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [الأحزاب: ٤٨]. وقوله:
وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:
٨- ٩]. وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: ١٠]. وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا [الممتحنة: ٤]. وقوله: هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ [الرعد: ٣٠] وقوله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: ٢- ٣]. وقوله في الفاتحة:
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥]. وعلم القرآن مجتمع في الفاتحة في هذين الأصلين: عبادة الله والتوكل عليه. وإذا أفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل. فإنه من عبادة الله. كقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [البقرة: ٢١] وقوله: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦]. وإذا قرن به التوكل كان مأمورا به بخصوصه. وهذا كلفظ الإسلام والإيمان. والإيمان والعمل، ولفظ الصلاة مع العبادة ومع اتباع الكتاب. ولفظ الفحشاء والبغي مع المنكر. ونظائر ذلك متعددة، يكون اللفظ عند تجرده وإفراده يتناول أنواعا. وقد يعطف بعض تلك الأنواع عليه فيكون مأمورا به لخصوصه. ثم قد يقال: إذا عطف لم يدخل في المعطوف عليه. وقد يقال: بل الأمر به خاص وعام، كما في قوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨]. وإذا كان الله أمره بالتوكل على الله، ثم قال: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا علم أن الله وكيل كاف لمن توكل عليه. كما يقال في الخطب
83
والدعاء: الحمد لله كافي من توكل عليه. وإذا كان (كفى به وكيلا) فهذا مختص به سبحانه ليس غيره من الموجودات (كفى به وكيلا) فإن من يتخذ وكيلا من المخلوقين غايته أن يفعل بعض الأمور، وهو لا يفعلها إلّا بإعانة الله، وهو عاجز عن أكثر المطالب. فإذا كان سبحانه وصف نفسه بأنه (كفى به وكيلا) علم أنه يفعل بالمتوكل عليه ما لا يحتاج معه إلى غيره من جلب المنافع ودفع المضار. إذ لو بقي شيء لم يكن (كفى به وكيلا) وهذا نقيض قول من ظنّ أنّ المتوكل عليه لا يحصل له بتوكله جلب منفعة ولا دفع مضرة، بل يجري عليه من القضاء ما كان يجري لو لم يتوكل عليه. والذين ظنوا، أصل شبهتهم أنهم لما أثبتوا أن الله إذا قضى شيئا فلا بد أن يكون، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن ما سبق علمه فهو كائن لا محالة- صاروا يظنون ما يوجد بسبب يوجد بدونه، وما يوجد مع عدم المانع يوجد مع المانع. وهذا غلط عظيم ضلّ فيه طوائف: طائفة قالت: لا حاجة إلى الأعمال المأمور بها. بل من خلق للجنة فهو يدخلها وإن لم يؤمن. ومن خلق للنار فهو يدخلها وإن آمن ولم يكفر. وهذه الشبهة سئل عنها النبي ﷺ «١» لما
قال: ما منكم من أحد إلّا وقد علم مقعده من الجنة والنار قالوا: أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب؟ فقال: لا! اعملوا، فكلّ ميسّر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة فسييسّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسييسّر لعمل أهل الشقاء
. وهذا المعنى قد ثبت عن النبي ﷺ في (الصحيح) في مواضع تبيّن أنّ ما سبق به الكتاب سبق بالأسباب التي تقضي إليه، فالسعادة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به سعيدا، والشقاوة سبقت بأن صاحبها يستعمل فيما يصير به شقيّا. فالقدر تضمن الغاية وسببها. لم يتضمن غاية بلا سبب. كما تضمن أن هذا يولد له بأن يتزوج ويطأ المرأة، وهذا تنبت أرضه بأن يزرع ويسقي الزرع. وأمثال ذلك. وكذلك
في (السنن) «٢»
أنه قيل له: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقيّ نسترقي بها، وتقاة نتقيها، هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر
(١)
الحديث أخرجه البخاري في: التفسير، ٩٢- سورة الليل، ٧- باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، حديث ٧١٨ ونصه: عن عليّ رضي الله عنه قال: كان النبيّ ﷺ في جنازة. فأخذ شيئا فجعل ينكت به الأرض. فقال «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة»
قالوا:
يا رسول الله! أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له. أما من كان من أهل السعادة، فييسّر لعمل أهل السعادة. وأما من كان من أهل الشقاء، فييسّر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى... الآية
. (٢) أخرجه ابن ماجة في: الطب، ١- باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، حديث ٣٤٣٧.
84
الله»
. فبيّن أن الأسباب التي تدفع بها المكاره هي من القدر، ليس القدر مجرّد دفع المكروه بلا سبب. وكذلك قول من قال: (إن الدعاء لا يؤثر شيئا والتوكل لا يؤثر شيئا) هو من هذا الجنس، لكن إنكار ما أمر به من الأعمال أمر ظاهر، بخلاف تأثير التوكل. لكن الأصل واحد. وهو النظر إلى المقدور مجردا عن أسبابه ولوازمه. ومن هذا الباب: (أن المقتول يموت بأجله) عند عامة المسلمين. إلّا فرقة من القدرية قالوا: إن القاتل قطع أجله. ثم تكلم الجمهور: لو لم يقتل؟ قال بعضهم: كان يموت لأن الأجل قد فرغ، وقال بعضهم: لا يموت لانتفاء السبب. وكلا القولين قد قال به من ينسب إلى السنة، وكلاهما خطأ. فإن القدر سبق بأنه يموت بهذا السبب لا بغيره. فإذا قدر انتفاء هذا السبب كان فرض خلاف ما في المقدور، ولو كان المقدور أنه لا يموت بهذا السبب، أمكن أن يكون المقدور أنه يموت بغيره، وأمكن أن يكون القدر أنه لا يموت. فالجزم بأحدهما جهل فيما تعددت أسبابه، لم يجزم بعدمه عند عدم بعضها، ولم يجزم بثبوته إن لم يعرف له سبب آخر. بخلاف ما ليس له إلّا سبب واحد. مثل دخول النار، فإنه لا يدخلها إلّا من عصى. فإذا قدر أنه لم يعص لم يدخلها. وقال تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٥٩- ١٦٠] فأمره إذا عزم، أن يتوكل على الله فلو كان التوكل لا يعينه على نيل ما عزم عليه، لم يكن لأمره به عند العزم فائدة، بيّن أنه هو سبحانه الناصر دون غيره وقال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٦٠] فنهى عن التوكل على غيره، وأمر بالتوكل عليه ليحصل للمتوكل عليه النصر الذي لا يقدر عليه غيره. وإلّا فالمتوكل على غيره يطلب منه النصر، فإن كان ذلك المطلوب لا يحصل منه لم يكن لذكر انفراده بالنصر معنى فإنه على هذا القول: نصره لمن توكل عليه كنصره لمن لم يتوكل عليه. وهذا يناقض مقصود الآية. بل عند هؤلاء:
قد ينصر من يتوكل على غيره ولا ينصر من يتوكل عليه، فكيف يأمر بالتوكل عليه دون غيره مقرونا بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ، وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وكذلك قوله تعالى:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ... - إلى قوله- قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ، عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ. [الزمر: ٣٦- ٣٩] فبيّن أن الله يكفي عبده الذي يعبده، الذي هو من عباده الذين ليس للشيطان
85
عليهم سلطان، الذي هو من عباده المخلصين، الذي هو من عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان: ٦٣]. ومثل هذا قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: ١]. وقوله: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: ١٩].
وقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: ٢٣]. ونظائر متعددة.
ثم أمره بقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: ٣٨]. وقال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ [يونس: ٧١] وكذلك قال عن هود لما قال قومه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود: ٥٤- ٥٦]. فهذا من كلام المرسلين، مما يبين أنه بتوكله على الله يدفع شرهم عنه.
فنوح يقول: إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ... الآية، فدعاهم، إذا استعظموا ما يفعله كارهين له، أن يجتمعوا ثم يفعلون به ما يريدونه من الإهلاك. وقال: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فلولا أنه بحقيقة هذه الكلمة- وهو توكله على الله- يعجزهم عما تحداهم به من مناجزته، لكان قد طلب منهم أن يهلكوه. وهذا لا يجوز، وهذا طلب تعجيز لهم. فدلّ على أنه- بتوكله على الله- يعجزهم عمّا تحدّاهم به، وكذلك هود، يشهد الله تعالى وإياهم أنه بريء مما يشركون بالله. ثم يتحداهم ويعجزهم بقوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يبين أنه توكل على من أخذ بنواصي الإنس وسائر الدواب. فهو يدفعكم عني لأني متوكل عليه، ولو كان وجود التوكل كعدمه في هذا، لكان قد أغراهم بالإيقاع به، ولم يكن لذكر توكله فائدة، إذ كان حقيقة الأمر عند هؤلاء أنه لا فرق بين من توكل ومن لم يتوكل في وصول العذاب إليه. وهم كانوا أكثر وأقوى منه. فكانوا يهلكونه. وهو لو قال: فإنّ الله مولاي وناصري- ونحو ذلك- لعلم أنه مخبر أنّ الله تعالى يدفعهم، وإنما يدفعهم لإيمانه وتقواه، ولأنه عبده ورسوله. فالله مع رسله وأوليائه، فإذا كان بسبب الإيمان والتقوى يدفع الله عن المؤمنين المتقين، علم أن العبد تقوم به أعمال باطنة وظاهرة، تجلب بها المنفعة وتدفع بها المضرة. والتوكل من أعظم ذلك. وعلم أن من ظن أن المقدور من المنافع والمضارّ، ليس معلقا بالأسباب، بل يحصل بدونها،
86
فهو غالط. وكذلك من جعل ذلك مجرّد أمارة وعلامة، لاقتران هذا بهذا، فقد أخطأ، فإن الله أخبر أنّه فعل هذا بهذا في غير موضع من القرآن، في خلقه وأمره. كقوله:
فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ [الأعراف: ٥٧]. وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ [الحاقة: ٢٤]. وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: ٧٢]، وأنكر على من ظنّ وجود الأسباب كعدمها في مثل قوله: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم: ٣٥]. وقوله: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:
٢٨]، وأمثال ذلك. وهؤلاء يقولون بالجبر. قالوا: والأمر والنهي حقيقته أنه إعلام بوقوع العذاب بالعاصي بمحض المشيئة لا لسبب ونحوه، ولا بحكمة. فقلبوا حقيقة الأمر والنهي إلى الجبر. كما أبطلوا الأسباب والحكمة. وأبطلوا قدرة العباد. وهم، وإن كانوا يردون على القدرية ويذكرون من تناقضهم ما يبين فساد قول القدرية، فقد ردوا باطلا بباطل،. وقاتلوا بدعة ببدعة. كردّ اليهود على النصارى والنصارى على اليهود مقالتهم في المسيح، وكلتا المقالتين باطلة، وكذلك تقابل الخوارج والشيعة في عليّ باطل، ونظائره متعددة. انتهى. فاحفظه ينفعك في مواضع كثيرة. وقوله تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ كلام مستأنف مشتمل على ذكر بعض ما صدر عن بني إسرائيل- من الخيانة ونقض الميثاق- وما أدى إليه ذلك من التبعات، مسوق لتقرير المؤمنين على ذكر نعمة الله تعالى ومراعاة حق الميثاق الذي واثقهم به. وتحذيرهم من نقضه. أو لتقرير ما ذكر من همّ بني قريظة بالبطش وتحقيقه حسبما مرّ من الرواية ببيان أنّ الغدر والخيانة عادة لهم قديمة توارثوها من أسلافهم- أفاده أبو السعود.
زاد الرازي: تقرير الإلزام بالتكليف بأنه سنة الله في الذين خلوا.
وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً رئيسا. سمي بذلك لأنه يفتش حال القوم
ويعلم دخيلة أمرهم وَقالَ اللَّهُ أي: لهم. وفي الالتفات تربية المهابة وتأكيد ما يتضمنه الكلام من الوعد إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعلم والقدرة والنصرة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي: الذين يجيئون إليكم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي:
أعنتموهم ونصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ أي بالإنفاق في سبيل الخير قَرْضاً حَسَناً بلا منّ ولا طلب ربح دنيوي، من رياء وسمعة لَأُكَفِّرَنَّ أي:
لأمحونّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ذنوبكم وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: تطّرد من تحت شجرها ومساكنها الْأَنْهارُ أنهار الماء واللبن والخمر والعسل فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد أخذ الميثاق والإقرار به مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي واضح السبيل، الموصل إلى كل مطلب عال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ (الباء) سببيّة و (ما) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أو نكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم لَعَنَّاهُمْ أي أبعدناهم عن رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظة، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه عَنْ مَواضِعِهِ التي أنزلت.
قال ابن كثير: أي: فسدت فهومهم، وساء تصرّفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذا بالله من ذلك.
قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظم مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول (لعناهم).
وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا نصيبا وافرا مما أمروا به في التوراة، ترك الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من اتّباع محمد ﷺ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة. على أنها مصدر ك (لاغية وكاذبة).
أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم.
قال مجاهد. وغيره بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم المؤمنون منهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ أي لا تعاقبهم.
قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ. ولعلّ الله يهديهم.
ولهذا قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يعني به الصفح عمّن أساء، فإنه من باب الإحسان.
تنبيه:
قال بعض المفسّرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة.
وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ... إلخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المبعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٤]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤)
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ بعبادة الله وحده، وأن لا يشركوا به شيئا، وحفظ شرعة عيسى عليه السلام. وإنما نسب تسميتهم نصارى إلى أنفسهم- دون أن يقال (ومن النصارى) - إيذانا بأنهم في قولهم نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢] بمعزل من الصدق. وإنما هو تقول محض منهم. وليسوا من نصرة الله تعالى في شيء. أو إظهارا لكمال سوء صنيعهم ببيان التناقض بين أقوالهم وأفعالهم. فإن ادعاءهم لنصرته تعالى يستدعي ثباتهم على طاعته تعالى ومراعاة ميثاقه. أفاده أبو السعود.
89
قال الناصر في (الانتصاف) : وبقيت نكتة في تخصيص هذا الموضع بإسناد النصرانية إلى دعواهم. ولم يتفق ذلك في غيره. ألا ترى إلى قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨]. فالوجه في ذلك- والله أعلم- أنه لما كان المقصود في هذه الآية ذمّهم بنقض الميثاق المأخوذ عليهم في نصرة الله تعالى، ناسب ذلك أن يصدر الكلام بما يدل على أنهم لم ينصروا الله ولم يفوا بما واثقوا عليه من النصرة. وما كان حاصل أمرهم إلا التفوه بدعوى النصرة وقولها دون فعلها. والله أعلم.
قال الشهاب الخفاجي: الموجود في كتب اللغة والتاريخ أن النصارى نسبت إلى بلدة (ناصرة) أي التي حبل فيه المسيح وتربى فيها. ولذلك كان يدعى عليه السلام (ناصريّا). ثم قال: فلو قيل في الآية: إنهم على دين النصرانية وليسوا عليها لعدم عملهم بموجبها ومخالفتهم لما في الإنجيل من التبشير بنبيّنا صلى الله عليه وسلم- لكان أقرب من وجه التسمية الذي ذكروه.
فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا أي ألقينا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: يتعادون ويتباغضون إلى قيام الساعة حسبما تقتضيه أهواؤهم المختلفة، وآراؤهم الزائغة المؤدية إلى التفرّق فرقا متباينة، يلعن بعضها بعضا، ويكفّر بعضها بعضا وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ يخبرهم الله في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ من المخالفة وكتمان الحق والعداوة والبغضاء. ونسيان الحظ الوافر مما ذكّروا به. وهذا وعيد شديد بالجزاء والعذاب.
لطيفة:
تطرف البقاعي- رحمه الله تعالى- في (تفسيره) هنا إلى ذكر نقباء بني إسرائيل بأسمائهم، وأن عدتهم طابقت عدة نقباء النصارى- وهم الحواريون- كما طابقت عدة نقباء الأنصار ليلة العقبة الأخيرة، حين بايع النبيّ ﷺ الأنصار على الحرب، وأن يمنعوه إذا وصل إليهم، وقال لهم: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا- كما اختار موسى من قومه- فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا: تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس. وذكر البقاعيّ: أن بعث النقباء من بني إسرائيل كان مرتين: الأول لما كلّم تعالى موسى في برية سيناء في اليوم الأول من الشهر الثاني من السنة لخروجهم من أرض مصر. وقد فصلت في الفصل الأول من سفر (العدد). والمرة الثانية: بعثوا لجسّ أرض كنعان. وفصلت أيضا في الفصل الثالث عشر من سفر
90
(العدد) ثم ذكر البقاعيّ: أن نقباء اليهود في جسّ الأرض لم يوف منهم إلّا يوشع بن نون وكالب بن يفنا، وأما نقباء النصارى، فخان منهم واحد- وهو يهوذا- كما مضى عند قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ. وأما نقباء الأنصار فكلهم وفى وبرّ بتوفيق الله تعالى.
وقد اقتص البقاعي أسماء نقباء الفرق الثلاث، ولمعة من نبئهم. فانظره، والله أعلم.
ثم خاطب تعالى الفريقين من أهل الكتاب إثر تشديد النكير عليهم بتحريف كتبهم ونبذهم الميثاق، ودعاهم إلى الحنيفية حتى يكونوا على نور من ربهم. فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٥]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي: من نحو بعثته صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم في التوراة، وبشارة عيسى به، إظهارا للحقّ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي: مما تخفونه. لا يبينه. مما لا ضرورة في بيانه، صيانة لكم عن زيادة الافتضاح. أو يعفو فلا يؤاخذ. وفي هذه الآية بيان معجزة له صلى الله عليه وسلم. فإنه لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما من أحد، فإخباره بأسرار ما في كتابهم إخبار عن الغيب، فيكون معجزا قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يريد القرآن. لكشفه ظلمات الشرك والشك. ولإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق. أو لأنه ظاهر الإعجاز. أو النور، محمد ﷺ لأنه يهتدى به، كما سمي سراجا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٦]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ أي رضاه بالإيمان به سُبُلَ السَّلامِ أي: طرق السلامة والنجاة من عذاب الله وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أي: ظلمات الكفر
والشّبه إلى نور الإيمان والدلائل القطعية بِإِذْنِهِ أي: بتوفيقه وإرادته وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الدين الحقّ السويّ في الاعتقادات والأعمال، العريّ عن الإفراط والتفريط فيها. ثم أشار إلى إفراط بعض النصارى في حق عيسى، وتفريطهم في حقّ الله جل شأنه فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٧]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ في هذه الآية وجهان:
الوجه الأول: إنّ ما أفادته من الحصر- وإن لم يصرحوا به- إلّا أنه نسب إليهم لأنه لازم مذهبهم لأن معتقدهم مؤدّ إليه.
قال الرازيّ: لأنهم يقولون: إن أقنوم الكلمة اتحد بعيسى عليه السلام. فأقنوم الكلمة إما أن يكون ذاتا أو صفة. فإن كان ذاتا فذات الله تعالى قد حلّت في عيسى واتّحدت بعيسى فيكون عيسى هو الإله على هذا القول. وإن قلنا: إنّ الأقنوم عبارة عن الصفة، فانتقال الصفة من ذات إلى ذات أخرى غير معقول. ثم بتقدير انتقال أقنوم العلم عن ذات الله تعالى إلى عيسى، يلزم خلوّ ذات الله عن العلم. ومن لم يكن عالما لم يكن إلها. فحينئذ يكون الإله هو عيسى. على قولهم. فثبت أنّ النصارى- وإن كانوا لا يصرحون بهذا القول- إلا حاصل مذهبهم ليس إلّا ذلك.
انتهى.
وبطلان الاتحاد معلوم بالبداهة.
قال العلامة العضد في (الموقف الثاني) : المقصد الثامن: الاثنان لا يتحدان.
وهذا حكم ضروريّ. فإن الاختلاف بين الماهيتين والهويتين اختلاف بالذات فلا يعقل زواله. وهذا ربما يزاد توضيحه فيقال: إن عدم الهويتان فلا اتحاد، بل وحدث أمر ثالث غيرهما- وإن عدم أحدهما- فلا يتحد المعدوم بالموجود، وإن وجدا فهما اثنان كما كانا، فلا اتحاد أيضا. انتهى.
92
الوجه الثاني: إنه عني بهذه الآية قوم يقولون بأن حقيقة الله هو المسيح لا غير.
قال الزمخشريّ: قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك. انتهى.
قال الإمام الشهرستانيّ في (الملل والنحل) عند ذكر فرق النصارى:
ومنهم اليعقوبية أصحاب يعقوب. قالوا بالأقانيم الثلاثة- كما ذكرنا- إلّا أنهم قالوا: انقلبت الكلمة لحما ودما فصار الإله هو المسيح، وهو الظاهر بجسده بل هو هو. وعنهم أخبرنا بالقرآن الكريم: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. فمنهم من قال: المسيح هو الله. ومنهم من قال: ظهر اللاهوت بالناسوت فصار ناسوت المسيح مظهر الحق. لا على طريق حلول جزء فيه. ولا على سبيل اتحاد الكلمة التي هي في حكم الصفة بل صار هو هو. وهذا كما يقال: ظهر الملك بصورة الإنسان. أو ظهر الشيطان بصورة حيوان.. إلخ.
وذكر الإمام الماورديّ في (أعلام النبوة) : إنّ أوائل النسطورية قالوا: إن عيسى هو الله. انتهى.
وذكر الأمام ابن إسحاق في (السيرة) : إن نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا من النصرانية على دين ملكهم، مع اختلاف من أمرهم. يقولون هو الله: ويقولون هو ولد الله. ويقولون هو ثالث ثلاثة- يعني هو تعالى وعيسى ومريم- وكذلك قول النصرانية. ثم قال: ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن.
قُلْ- أي: تبكيتا لهم، وإظهارا لفساد قولهم- فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من يستطيع إمساك شيء من قدرته تعالى إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: يميته وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي: فضلا عن آحادهم. احتج بذلك على فساد قولهم. وتقريره: أن المسيح حادث بلا شبهة. لأنه تولد من أم. ولذا ذكرت الأم للتنبيه على هذا. ومقهور قابل للفناء أيضا كسائر الممكنات. ومن كان كذلك كيف يكون إلها؟
قال أبو السعود: وتعميم إرادة الإهلاك للكل- مع حصول المطلوب يقصرها على المسيح- لتهويل الخطب وإظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكل تحت قهره تعالى وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره. وللإيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات في كونه عرضة للهلاك. كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز وعدم استحقاق الألوهية.
93
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الخلق والعجائب- وهذا تحقيق لاختصاص الألوهية به تعالى. إثر بيان انتفائها عن غيره يَخْلُقُ ما يَشاءُ جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعتراهم من الشبهة في أمر المسيح- لولادته من غير أب، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص- أي: يخلق ما يشاء من أنواع الخلق كما شاء بأب أو بغير أب... !
قال السمرقنديّ: وإنما قال يَخْلُقُ ما يَشاءُ لأن النصارى أهل نجران كانوا يقولون: لو كان عيسى بشرا كان له أب. فأخبرهم الله تعالى أنه قادر على أن يخلق خلقا بغير أب.
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خلق الخلق، والثواب لأوليائه، والعقاب لأعدائه- قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٨]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨)
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ حكاية لما صدر عن الفريقين من الدعوى الباطلة. وبيان لبطلانها بعد بطلان ما صدر عن أحدهما. أي قالوا: نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء في المنزلة والكرامة. ونحن أحباؤه لأننا على دينه.
قال ابن كثير: ونقلوا عن كتابهم أن الله قال لعبده إسرائيل: أنت ابني بكري.
فحملوا هذا على غير تأويله وحرّفوه. وقد ردّ عليه غير واحد ممن أسلم من عقلائهم. وقالوا: هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام. كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم، يعني ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدّعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام، وإنما أرادوا بذلك معزّتهم لديه، وحظوتهم عنده..! انتهى.
وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضد) : وما نقل عن الإنجيل- فعلى فرض صحته وعدم التحريف- يكون إطلاق الأب عليه بمعنى المبدأ. فإن القدماء كانوا يسمون المبادئ بالآباء. وأنت تعلم أن المتشابهات في القرآن وغيره من الكتب الإلهية كثيرة. ويردّها العلماء بالتأويل إلى ما علم بالدليل. فلو ثبت ذلك لكان من هذا القبيل. انتهى.
94
وقال الدهلويّ في (الفوز الكبير) : إن الله عزّ وجلّ شرف الأنبياء وتابعيهم في كل ملّة بلقب المقرب والمحبوب. وذم الذين ينكرون الملّة بصفة المبغوضية. وقد وقع التكلم في هذا الباب بلفظ شائع في كل قوم، فلا عجب أن يكون قد ذكر الأبناء مقام المحبوبين، فظنّ اليهود أن ذلك التشريف دائر مع اسم اليهودىّ والعبريّ والإسرائيليّ. ولم يعلموا أنه دائر على صفة الانقياد والخضوع وتمشية ما أراد الحقّ سبحانه ببعثة الأنبياء لا غير. وكان ارتكز من هذا القبيل في خاطرهم كثير من التأويلات الفاسدة المأخوذة من آبائهم وأجدادهم، فأزال القرآن هذه الشبهات على وجه أتمّ. انتهى.
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: لو كنتم أبناءه وأحبّاءه لما عذبكم، لكن اللازم منتف إذ عذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ، واعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودة.
لطيفة:
قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يردّ عليه، فتلا عليه الصوفيّ هذه الآية: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ. وهذا الذي قاله حسن. وله شاهد
في (المسند) للإمام أحمد «١» حيث قال: حدثنا ابن أبي عدّي. عن حميد، عن أنس قال: «مرّ النبيّ ﷺ في نفر من أصحابه، وصبيّ في الطريق. فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى وتقول: ابني ابني! وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله! ما كانت هذه لتلقي ولدها في النار، قال: فخفضهم النبيّ ﷺ فقال: لا، ولا يلقي الله حبيبه في النار»
. قال ابن كثير: تفرد به أحمد. انتهى.
وقال السمرقنديّ: في الآية دليل أن الله تعالى إذا أحبّ عبده يغفر ذنوبه ولا يعذبه بذنوبه. لأنه تعالى احتج عليهم فقال: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ لو كنتم أحباء إليه؟
وقد قال في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. [البقرة:
٢٢٢]، ففيها دليل أنه لا يعذب التوابين بذنوبهم، ولا المجاهدين الذين يجاهدون في سبيل الله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف: ٤].
وقوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، أي:
(١) أخرجه في المسند ٣/ ١٠٤ و ٢٣٥.
95
لستم كذلك بل أنتم بشر مِمَّنْ خَلَقَ أي: من جنس من خلقه من غير مزية لكم عليهم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ لمن تاب من اليهودية والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من مات على اليهودية والنصرانية وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: المرجع، مصير من آمن ومن لم يؤمن. فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٩]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي: ما أمرتم به وما نهيتم عنه عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق ب (جاءكم) أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل، وانقطاع من الوحي. إذ لم يكن بينه وبين عيسى رسول. ومدة الفترة بينهما خمسمائة وتسع وستون سنة. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ تعليل لمجيء الرسول بالبيان على حذف المضاف. أي: كراهة أن تعتذروا بذلك يوم القيامة، وتقولوا: ما جاءنا من رسول- بعد ما درس الدين- يبشرنا لنرغب فنعمل بما يسعدنا فنفوز. وينذرنا لنرهب فنترك ما يشقينا فنسلم. وقد كان اختلط في تلك الفترة الحق بالباطل- كما سنبيّنه- فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ متعلق بمحذوف تنبئ عنه الفاء الفصيحة وتبين أنه معلل به. أي: لا تعتذروا (بما جاءنا) فقد جاءكم بشير أي بشير، ونذير أي نذير. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من إرسال الرسل، والصواب لمن أجاب الرسل، والعقاب لمن لم يجبهم.
قال البقاعيّ: وفي الختم بوصف القدرة، وإتباعه تذكيرهم ما صاروا إليه من العز بالنبوّة والملك، بعد ما كانوا فيه من الذل بالعبودية والجهل، إشارة إلى أن إنكارهم لأن يكون من ولد إسماعيل عليه السلام نبيّ، يلزم منه إنكارهم للقدرة.
تنبيه:
قال ابن كثير: كانت الفترة بين عيسى ابن مريم- آخر أنبياء بني إسرائيل- وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق. كما
ثبت في (صحيح البخاريّ) «١»
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، حديث ١٦١٧.
96
عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «أنا أولى الناس بابن مريم ليس بيني وبينه نبيّ»
. وهذا فيه ردّ على من زعم أنه بعث عيسى نبيّ يقال له خالد بن سنان. كما حكاه القضاعيّ وغيره. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) : استدل به- يعني بحديث أبي هريرة- على أنه لم يبعث بعد عيسى أحد إلا نبيّنا صلى الله عليه وسلم. وفيه نظر لأنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية- المذكورة قصتهم في سورة «يس» - كانوا من أتباع عيسى. وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيّين، وكانا بعد عيسى.
والجواب: أن هذا الحديث يضعف ما ورد من ذلك. فإنه صحيح بلا تردد. وفي غيره مقال. أو المراد: إنه لم يبعث بعد عيسى نبيّ بشريعة مستقلة. وإنما بعث بعده، من بعث، بتقرير شريعة عيسى. وقصة خالد بن سنان أخرجها الحاكم في (المستدرك) من حديث ابن عباس، ولها طرق جمعتها في ترجمته في كتابي في (الصحابة).
انتهى.
وقد ذكرت في كتابي (إيضاح الفطرة في أهل الفترة) في الباب الحادي عشر من كان في الفترة من الأنبياء على ما روي. فارجع إليه.
قال ابن كثير: والمقصود من هذه الآية، أن الله بعث محمدا ﷺ على فترة من الرسل، وطموس من السبل، وتغيّر الأديان، وكثرة عبّاد الأوثان والنيران والصلبان.
فكانت النعمة به أتمّ النعم، والحاجة إليه أمر عام، فإن الفساد كان قد عمّ جميع البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد. إلّا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين. كما
روى أحمد «١» عن عياض المجاشعيّ- رضي الله عنه-
(١) أخرجه ٤/ ١٦٢.
وأخرجه مسلم في صحيحه في: الجنة، حديث ٦٣ وهاكموه نسوقه بنصه الكامل لما فيه من الفوائد الجليلة: عن عياض بن حمار المجاشعيّ، أن رسول الله ﷺ قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربّي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبدا حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم (أي استخفوهم فذهبوا بهم وأزالوهم عما كانوا عليه وجالوا معهم في الباطل) عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم.
وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم. إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا. وإن الله أمرني أن أحرّق قريشا. فقلت: ربّ! إذا يثلغوا رأسي (أي: يشدخوه ويشجّوه، كما يشدخ الخبز، أي يكسر) فيدعوه خبزة.
97
أن النبيّ ﷺ خطب ذات يوم فقال في خطبته: «وإن ربّي، أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم مما علمنّي في يومي هذا. كلّ مال نحلته عبادي حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وأنهم أتتهم الشياطين فأضلّتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ثم إن الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض فمقتهم. عجميهم وعربيهم. إلّا بقايا من أهل الكتاب. وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤه نائما ويقظانا..»
انتهى.
وقال الأستاذ النحرير الشيخ محمد عبده مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث رسالة نبينا ﷺ ما نصّه: ليس من غرضنا في هذه الوريقات أن نلمّ بتاريخ الأمم عامة، وتاريخ العرب خاصة، في زمن البعثة المحمدية، لنبين كيف كانت حاجة سكان الأرض ماسّة إلى قارعة تهزّ عروش الملوك، وتزلزل قواعد سلطانهم الغاشم، وتخفض من أبصارهم المعقودة بعنان السماء، إلى من دونهم من رعاياهم الضعفاء.
وإلى نار تنقض من سماء الحقّ على أدم الأنفس البشرية لتأكل ما اعشوشبت به من الأباطيل القاتلة للعقول. وصيحة فصحى تزعج الغافلين، وترجع بألباب الذاهلين، وتنبّه المرؤوسين إلى أنهم ليسوا بأبعد عن البشرية من الرؤساء الظالمين، والهداة الضالين، والقادة الغارّين، وبالجملة تؤوب بهم إلى رشد يقيم الإنسان على الطريق التي سنّها الإله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣]. ليبلغ بسلوكها كماله، ويصل على نهجها إلى ما أعدّ في الداريين له. ولكنا نستعير من التاريخ كلمة يفهمها من نظر فيما اتفق عليه مؤرّخو ذلك العهد، نظر إمعان وإنصاف.
كانت دولتا العالم (دولة الفرس في الشرق، ودولة الرومان في الغرب) في
قال:
استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك (أي نعينك) وأنفق فسننفق عليك وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك.
قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفّق. ورجل رحيم رقيق القلب، لكل ذي قربى مسلم. وعفيف متعفف ذو عيال.
قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (أي لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي) الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وإن دقّ إلا خانه.
ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا هو يخادعك عن أهلك ومالك».
وذكر البخل والكذب.
98
تنازع وتجالد مستمرّ دماء بين العالمين مسفوكة، وقوى منهوكة، وأموال هالكة، وظلم من الإحن حالكة. ومع ذلك، فقد كان الزهو والترف والإسراف والفخفخة والتفنّن في الملاذ بالغة حدّ ما لا يوصف في قصور السلاطين والأمراء، والقواد ورؤساء الأديان من كل أمّة، وكان شره هذه الطبقة من الأمم لا يقف عند حدّ. فزادوا في الضرائب، وبالغوا في فرض الإتاوات، حتى أثقلوا ظهور الرعية بمطالبهم. وأتوا على ما في أيديها من ثمرات أعمالها، وانحصر سلطان القويّ في اختطاف ما بيد الضعيف. وفكّر العاقل، في الاحتيال لسلب الغافل وتبع ذلك أن استولى على تلك الشعوب ضروب من الفقر والذل والاستكانة والخوف والاضطراب، لفقد الأمن على الأرواح والأموال. غمرت مشيئة الرؤساء إرادة من دونهم. فعاد هؤلاء كأشباح اللاعب. يديرها من وراء حجاب، ويظنها الناظر إليها من ذوي الألباب، ففقد بذلك الاستقلال الشخصيّ، وظنّ أفراد الرعايا أنهم لم يخلقوا إلّا لخدمة ساداتهم وتوفير لذّاتهم، كما هو الشأن في العجماوات مع من يقتنيها. ضلت السادات في عقائدها وأهوائها، وغلبتها على الحق والعدل شهواتها. ولكن بقي لها من قوة الفكر أردأ بقاياها. فلم يفارقها الحذر من أنّ بصيص النور الإلهي، الذي يخالط الفطر الإنسانية، قد يفتق الغلف التي أحاطت بالقلوب، ويمزّق الحجب التي أسدلت على العقول.
فتهتدي العامة إلى السبيل، ويثور الجم الغفير على العدد القليل، ولذلك لم يغفل الملوك والرؤساء أن ينشئوا سحبا من الأوهام. ويهيّئوا كسفا من الأباطيل والخرافات، ليقذفوا بها في عقول العامة. فيغلظ الحجاب، ويعظم الرّين، ويختنق بذلك نور الفطرة. ويتم لهم ما يريدون من المغلوبين لهم.
وصرّح الدين، بلسان رؤسائه، أنه عدوّ العقل وعدوّ كل ما يثمره النظر. إلّا ما كان تفسيرا لكتاب مقدس. وكان لهم في المشارب الوثنية ينابيع لا تنضب، ومدد لا ينفد.
هذه حالة الأقوام كانت في معارفهم، وذلك كان شأنهم في معايشهم. عبيد أذلاء، حيارى في جهالة عمياء، اللهمّ إلّا بعض شوارد من بقايا الحكمة الماضية، والشرائع السابقة، آوت إلى بعض الأذهان، ومعها مقت الحاضر، ونقص العلم بالغابر، ثارت الشبهات على أصول العقائد وفروعها، بما انقلب من الوضع، وانعكس من الطبع، فكان يرى الدنس في مظنة الطهارة، والشره حيث تنتظر القناعة، والدعارة حيث ترجى السلامة والسلام. مع قصور النظر عن معرفة السبب، وانصرافه لأول وهلة إلى أن مصدر كلّ ذلك هو الدين. فاستولى الاضطراب على المدارك. وذهب بالناس
99
مذهب الفوضى في العقل والشريعة معا. وظهرت مذاهب الإباحيين والدهريين في شعوب متعددة، وكان ذلك ويلا عليها، فوق ما رزئت به من سائر الخطوب. وكانت الأمة العربية قبائل متخالفة في النزعات، خاضعة للشهوات، فخر كل قبيلة في قتال أختها. وسفك دماء أبطالها، وسبي نسائها. وسلب أموالها. تسوقها المطامع، إلى المعامع. ويزين لها السيئات، فساد الاعتقادات. وقد بلغ العرب من سخافة العقل حدّا صنعوا أصنامهم من الحلوى ثم عبدوها. فلما جاعوا أكلوها. وبلغوا من تضعضع الأخلاق وهنا قتلوا فيه بناتهم تخلصا من عار حياتهن. أو تنصّلا من نفقات معيشتهنّ. وبلغ الفحش منهم مبلغا لم يعد معه للعفاف قيمة.
وبالجملة: فكانت ربط النظام الاجتماعيّ قد تراخت عقدها في كل أمة.
وانفصمت عراها عند كل طائفة.
أفلم يكن من رحمة الله بأولئك الأقوام أن يؤدبهم رجل منهم يوحي إليه رسالته؟ ويمنحه عنايته؟ ويمده من القوة بما يتمكن معه من كشف تلك الغمم.
التي أظلت رؤوس جميع الأمم؟ نعم، كان ذلك، وله الأمر من قبل ومن بعد. انتهى.
ثم أشار إلى تفريطهم في أمر الله الوارد على لسان موسى، وتفريطهم في حقه مع حثّه إياهم على شكر الله. ليسارعوا إلى امتثال أمره، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: التي هي فوق نعمه على من سواكم، فلا تفرّطوا في أمره إذ لم يفرّط في حقكم إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ أي: وهم أكمل الخلائق ومكملوهم، ولم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني: وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط مملوكين، فأنقذكم الله. فسمى إنقاذهم ملكا وَآتاكُمْ أعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من أنواع الإكرام التي خصكم بها- كفلق البحر لهم، وإهلاك عدوّهم، وتوريثهم أموالهم، وإنزال المنّ والسلوى عليهم، وإخراج المياه العذبة من الحجر، وإظلال الغمام فوقهم... - فمقتضى هذه النعم المبادرة إلى امتثال أوامر المنعم، شكرا له.
ثم أخبر تعالى عن تحريض موسى عليه السلام لقومه على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس الذي استحوذ عليه الجبابرة، وأنهم نكلوا وعصوا أمره، فعوقبوا بالتّيه لتفريطهم، فقال سبحانه مخبرا عن موسى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢١]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١)
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعني: أرض بيت المقدس التي كانت مقدسة بمساكنة من مضى من الأنبياء. ثم تلوّثت بمساكنة الأعداء من جبابرة الكنعانيين.
فأراد تطهيرها بإخراجهم وإسكان قومه الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي: التي وعدكموها على لسان أبيكم إبراهيم، بأن تكون ميراثا لولده بعد أن جعلها مهاجره وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي: لا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من خوف الجبابرة جبنا وهلعا فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ أي: فترجعوا مغبونين بالعقوبة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٢]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ أي: متغلبين ليس لنا مقاومتهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها أي: من غير صنع من قبلنا فإنه لا طاقة لنا بإخراجهم منها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها أي: بسبب من الأسباب التي لا تعلق لنا بها فَإِنَّا داخِلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٣]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣)
قالَ رَجُلانِ هما يوشع بن نون وكالب بن يفنا مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي:
يخافون الله تعالى دون العدوّ، ويتقونه في مخالفة أمره ونهيه.
وقال العلامة البقاعي: أي من الذين يوجد منهم الخوف من الجبارين. ومع ذلك لم يخافا. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي: بالتثبيت والثقة بوعده تعالى ومعرفة مقام أوامره تعالى ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي: باب بلدهم، أي: باغتوهم وامنعوهم من
البروز إلى الصحراء، لئلا يجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ- أي: باب بلدهم- فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ عليهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا أي: لا على قوة أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: بكمال قدرته ووعده النصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٤]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤)
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا- أي: الجبابرة- فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٥]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥)
قالَ أى: موسى عليه السلام لما رأى منهم ما رأى من العناد، على طريقة البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ أي: أحدا ألزمه قتالهم إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون. قال المهايميّ: أي: ومن يؤاخيني ويوافقني كهارون ويوشع وكالب. فَافْرُقْ أي: فاحكم بما يميز بين المحق والمبطل لتفرق بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: الخارجين عن أمرك، وهو في معنى الدعاء عليهم. وقد استجاب الله دعاءه، وفرق بأن أضلّهم ظاهرا كما ضلّوا باطنا. كما بينه بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٦]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قالَ فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: بسبب أقوالهم هذه وأفعالهم. لا يدخلونها ولا يملكونها. ممن قال هذه المقالة أو رضيها أحد، فالتحريم تحريم منع لا تحريم تعبد أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي: يترددون في البرية متحيرين في الأرض حتى يهلكوا كلّهم، و (التيه) المفازة التي يتيه فيها سالكها فيضلّ عن وجه مقصده فَلا تَأْسَ أي: تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي:
الخارجين من قيد الطاعات.
102
قال العلامة البقاعيّ: ثم بعد هلاكهم أدخلها بنيهم الذين ولدوا في التيه. وفي هذه القصة أوضح دليل على نقضهم للعهود التي بنيت السورة على طلب الوفاء بها، وافتتحت بها، وصرح بأخذها عليهم في قوله: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ..
[المائدة: ١٢] الآيات، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ فيما يفعلونه معه، وتذكير له بالنعمة على قومه بالتوفيق، وترغيب لمن أطاع منهم، وترهيب لمن عصى. ومات في تلك الأربعين، كل من قال ذلك القول أو رضيه حتى النقباء العشرة. وكان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس. ويكون لهم عمود من نور بالليل يضيء عليهم. وغير هذا من النعم، لأن المنع بالتيه كان تأديبا لهم. لا غضب. إذ أنهم تابوا. ثم ساق البقاعيّ- رحمه الله- شرح هذه القصة من التوراة التي بين أيديهم بالحرف. ونحن نأتي على ملخصها تأثرا له، فنقول:
جاء في سفر (العدد) في الفصل الثالث عشر: إن شعب بني إسرائيل لمّا ارتحلوا من حصيروت ونزلوا ببرّية فاران، كلم الرب موسى بأن يبعث رجالا يجسّون أرض كنعان. من كل سبط رجلا واحدا، وكلهم يكونون من رؤساء بني إسرائيل، فأرسلهم موسى وأمرهم أن ينظروا إلى الأرض. أجيدة أم رديئة؟ وإلى أهلها، أشديدون أم ضعفاء؟ قليلون أم كثيرون؟ وأن يوافوه بشيء من ثمرها. فساروا واجتسّوا الأرض من برية صين إلى رحوب عند مدخل حماة، ثم رجعوا بعد أربعين يوما. وكان موسى وقومه في برية فاران في قادش، فأروهم ثمر الأرض، وقصّوا عليهم ما شاهدوه من جودة الأرض، وأنها تدرّ لبنا وعسلا. ومن شدة أهلها وقوتهم وتحصن مدنهم فاضطرب قوم موسى. فأخذ كالب- أحد النقباء- يسكتهم عن موسى ويقول: نصعد ونرث الأرض فإنا قادرون عليها. وخالفه بقية النقباء وقالوا: لا نقدر أن نصعد إليهم لأنهم أشدّ منّا. وهوّلوا على بني إسرائيل الأمر وقالوا: شاهدنا أناسا طوال القامات، سيما بني عناق. فصرنا في عيوننا كالجراد. وكذلك كنا في عيونهم. فعند ذلك ضجّ قوم موسى ورفعوا أصواتهم وبكوا وقالوا: ليتنا متنا في أرض مصر أو في هذه البرية، ولا تكون نساؤنا وأطفالنا غنيمة للجبابرة. وخير لنا أن نرجع إلى مصر.
وقالوا: لنقم لنا رئيسا ونرجع إلى مصر. فلما شاهد موسى ذلك منهم وقع هو وأخوه هارون على وجوههما أمام الإسرائيليين. ومزّق، من النقباء، يوشع بن نون وكالب، ثيابهما. وكلّما بني إسرائيل قائلين: إن الأرض التي مررنا فيها جيدة، وإذا كان ربنا راضيا عنا فإنه يدخلنا إياها. فلا تتمردوا ولا تخافوا أهلها فسيكونون طعمة لنا. إذ الرب معنا فلما سمع بنو إسرائيل كلام يوشع وكالب قالوا: ليرجما بالحجارة، وكاد
103
حينئذ أن يحيق ببني إسرائيل العذاب الإلهيّ، لولا تضرع موسى إلى ربّه بأن يعفو عنهم، كيلا يكونوا أحدوثة عند أعدائهم المصريين، فعفا تعالى عنهم. وأعلم موسى أنّ قومه لن يروا الأرض التي أقسم عليها لآبائهم، وأنهم يموتون جميعا في التيه. إلّا كالبا. فإنه لحسن انقياده سيدخل الأرض، وكذلك يوشع، وأعلمه تعالى أيضا بأن أطفال قومه الذين سيهلكون في التيه يكونون رعاة فيه أربعين سنة بعدد الأيام التي تجس النقباء فيها أرض الكنعانيين. كل يوم وزره سنة ليعرفوا انتقامه، عزّ سلطانه ثم هلك النقباء العشرة، الذين شنّعوا لدى قومهم تلك الأرض، بضربة عجلت لهم. ثم همّ قوم موسى بالصعود إلى الكنعانيين لما أخبرهم موسى بما أعلمه تعالى. فنهاهم موسى وقال لهم: لا فوز لكم الآن بالنصر الرباني، وإن فعلتم فإن العدوّ يهزمكم وتسقطون تحت سيفه. فتجبّروا وصعدوا إلى رأس الجبل. فنزل العمالقة والكنعانيين عليهم فضربوهم وحطّموهم، ثم انقضاء الأربعين سنة فتحت الأرض المقدسة على يد يوشع، كما شرح في (سفره)، والله أعلم.
تنبيهات:
الأول: قوله تعالى: أَرْبَعِينَ سَنَةً ظرف متعلق ب (يتيهون). واحتمال كونه ظرفا ل (محرمة) كما ذكره غير واحد- لا يصح إلا بتكلف لما شرحناه من سياق القصة.
الثاني: قال الحاكم: دلّ قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ على أنّ من لحقه عذاب الله لا يجوز أن يحزن عليه لأن ذلك حكمه، بل يحمد الله إذا أهلك عدوّا من أعدائه.
الثالث: قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام. وأن طوله ثلاثة آلاف ذراع. وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع.
تحرير الحساب. وهذا شيء يستحيى من ذكره. ثم هو مخالف لما
ثبت في (الصحيحين) : أنّ رسول الله ﷺ قال: إنّ الله خلق آدم وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن. ثم ذكروا أنّ هذا الرجل كان كافرا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته
. وهذا كذب وافتراء، فإن الله تعالى ذكر أنّ نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦]. وقال تعالى فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ
104
فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ
[الشعراء: ١١٩- ١٢٠]. وقال تعالى:
لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود: ٤٣]، وإذا كان ابن نوح، الكافر، غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق وهو كافر وولد زنية؟ هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له عوج بن عنق، نظر. والله أعلم.
الرابع: قال ابن كثير: تضمنت هذه القصة تقريع اليهود، وبيان فضائحهم ومخالفتهم لله ولرسوله، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمراهم به من الجهاد، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجادلتهم ومقاتلتهم، مع أن بين أظهرهم رسول الله ﷺ وكليمه وصفيّه من خلقه في ذلك الزمان، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم.
هذا، مع ما شاهدوا من فعل الله بعدوّهم، فرعون، من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليمّ وهم ينظرون، لتقرّ به أعينهم (وما بالعهد من قدم). ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازن عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم، وظهرت قبائح صنيعهم للخاصّ والعام، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ولا يسترها الذيل. وقال- رحمه الله- قبل ذلك: وما أحسن ما أجاب به الصحابة «١» - رضي الله عنهم- يوم بدر رسول الله ﷺ حين استشارهم في قتال النفير الذين جاءوا لمنع العير الذي كان مع أبي سفيان. فلما فات اقتناص العير، واقترب منهم النفير، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف في العدة والبيض
(١)
أخرجه مسلم في: الجهاد، حديث ٨٣ ونصه: عن أنس أن رسول الله ﷺ شاور، حين بلغه إقبال أبي سفيان. قال: فتكلم أبو بكر فأعرض عنه. ثم تكلم عمر فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد؟ يا رسول الله! والذي نفسي بيده! لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها. ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد (موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل) لفعلنا. قال، فندب رسول الله ﷺ الناس. فانطلقوا حتى نزلوا بدرا. ووردت عليهم روايا قريش (أي إبلهم التي كانوا يستقون عليها. فهي الإبل الحوامل للماء. واحدتها راوية) وفيهم غلام أسود لبني الحجاج فأخذوه. فكان أصحاب رسول الله ﷺ يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه؟ فيقول: ما لي علم بأبي سفيان. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف.
فإذا قال ذلك ضربوه. فقال: نعم. أنا أخبركم. هذا أبو سفيان.
فإذا تركوه فسألوه فقال: ما لي بأبي سفيان علم. ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس. فإذا قال هذا أيضا ضربوه. ورسول الله ﷺ قائم يصلي. فلما رأى ذلك انصرف. قال «والذي نفسي بيده! لتضربوه إذا صدقكم، وتتركوه إذا كذبكم».
قال، فقال رسول الله ﷺ «هذا مصرع فلان» ويضع يده على الأرض، هاهنا وهاهنا فما ماط (أي تباعد) أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
105
واليلب. فتكلم أبو بكر- رضي الله عنه- فأحسن، ثم تكلم، من الصحابة، من المهاجرين،
ورسول الله ﷺ يقول: أشيروا عليّ أيها المسلمون!
وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار. لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ:
كأنك تعرض بنا يا رسول الله؟ فهو الذي بعثك بالحقّ! لو استعرضت بنا هذا البحر، فخضته، لخضناه معك. ما تخلّف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.
إنّا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء. لعل الله أن يريك منّا ما تقرّ به عينك. فسر بنا على بركة الله. فسرّ رسول الله ﷺ بقول سعد، ونشطه لذلك.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا، لأن أكون أنا صاحبه، أحبّ إليّ مما عدل به. أتى رسول الله ﷺ وهو يدعو على المشركين فقال: والله! يا رسول الله! لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ. ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن يسارك، ومن بين يديك، ومن خلفك.
فرأيت وجه رسول الله ﷺ يشرق لذلك. وسرّه ذلك. وهكذا رواه البخاري «٢» في (المغازي).
الخامس: استنبط العمرانيون من هذه الآية أنّ من عوائق الملك حصول المذلّة للقبيل، والانقياد لسواهم.
قال الحكيم ابن خلدون في (مقدمة العبر) في الفصل ١٩ تحت العنوان المذكور: إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا (ألفوا) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزا عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أنّ الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها [المائدة: ٢٢]. أي: يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٨٩ والحديث رقم ٣٦٩٨.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ٤- باب قول الله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ... الآيات [الأنفال: ٩- ١٣]. [.....]
106
العصيان وقالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: ٢٤] وما ذلك إلّا لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقابا حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدّره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلا على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنّهم تاهوا في قفر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنة. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصرا، ولا خالطوا بشرا، كما قصّه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها: أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ في ذلك التيه جيل آخر عزيز لا يعرف الأحكام والقهر، ولا يسام بالمذلة.
فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى اقتدروا بها على المطالبة والتغلب ويظهر لك من ذلك أن الأربعين سنة أقلّ ما يأتي فيها فناء جيل ونشأة جيل آخر، سبحان الحكيم العليم وفي هذا أوضح دليل على شأن العصبية. وأنّها هي التي تكون بها المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة. وأنّ من فقدها عجز عن جميع ذلك كله.
ثم بيّن تعالى وخيم عاقبة البغي والحسد، في جزاء ابني آدم لصلبه. تعريضا باليهود. وأنهم إن أصروا على بغيهم وحسدهم فسيرجعون بالصفة الخاسرة في الدارين، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٧]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على هؤلاء البغاة الحسدة من اليهود وأشباههم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ هابيل وقابيل، ملتبسا بِالْحَقِّ أي: الصدق والصحة موافقا لما في كتبهم إِذْ قَرَّبا قُرْباناً أي: ما يتقرب به إلى الله تعالى من نسيكة أو صدقة. وكان هابيل راعي غنم، وقابيل يحرث الأرض. فقدّم هابيل شيئا من أبكار غنمه ومن سمانها.
وقدّم قابيل شيئا رديئا من ثمر الأرض فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ
الْآخَرِ وهو قابيل قالَ قابيل لهابيل لَأَقْتُلَنَّكَ على قبول قربانك قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أي: إنما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى.
لا من قبلي. فلم تقتلني؟ ومالك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على تقوى الله التي هي السبب في القبول؟ فأجابه بكلام حكيم مختصر جامع لمعان وفيه دليل على أن الله تعالى لا يقبل طاعة إلّا من مؤمن متّق، فما أنعاه على أكثر العاملين أعمالهم! وعن عامر بن عبد الله: أنه بكى حين حضرته الوفاة: فقيل له: ما يبكيك فقد كنت وكنت؟ قال: إني أسمع الله يقول: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. كذا في (الكشاف).
وروى ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل قال: يحبس الناس في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر.
قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا العبادة. فيمرون إلى الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٨]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨)
لَئِنْ بَسَطْتَ أي: مددت إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي أي: ظلما ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي: دفعا إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي: من أن أصنع كما تريد أن تصنع.
وفي (الصحيحين) «١» : عن النبيّ ﷺ قال: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل. فما بال المقتول؟ قال:
إنه كان حريصا على قتل صاحبه»
.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الإيمان، ٢٢- باب المعاصي من أمر الجاهلية ولا يكفّر صاحبها بارتكابها إلا بالشرك، حديث ٢٩ ونصه: عن الأحنف بن قيس قال: ذهبت لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل. قال: ارجع فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار» فقلت: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال «إنه كان حريصا على قتل صاحبه».
وأخرجه مسلم في: الفتن وأشراط الساعة، حديث ١٤ و ١٥
.
وروى الإمام أحمد «١» وأبو داود والترمذيّ في حديث سعد بن أبي وقاص قال: «قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل بيتي وبسط يده ليقتلني؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن كابن آدم- وتلا-: لَئِنْ بَسَطْتَ... » الآية.
قال المهايميّ في تفسير هذه الآية: أي: إني- وإن لم أكن في الدفع ظالما- أخاف الله أن يكره مني هدم بنيانه الجامع ليظهر فيه من حيث كونه رب العالمين.
انتهى.
وهو منزع صوفيّ لطيف.
وقال أبو السعود: فيه من إرشاد قابيل إلى خشية الله تعالى، على أبلغ وجه وآكده، ما لا يخفى. كأنه قال: إني أخافه تعالى إن بسطت يدي إليك لأقتلك، أن يعاقبني. وإن كان ذلك مني لدفع عداوتك عني. فما ظنّك بحالك وأنت البادئ العادي؟ وفي وصفه تعالى بربوبيّة العالمين تأكيد للخوف. قيل: كان هابيل أقوى منه. ولكن تحرّج عن قتله واستسلم خوفا من الله تعالى. لأن القتل للدفع لم يكن مباحا حينئذ. وقيل: تحريا لما هو الأفضل،. حسبما
قال صلى الله عليه وسلم: كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
. ويأباه التعليل بخوفه تعالى، إلّا أن يدعي أنّ ترك الأولى عنده بمنزلة المعصية في استتباع الغائلة، مبالغة في التنزّه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٢٩]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
إِنِّي أُرِيدُ أي: باستسلامي لك وامتناعي عن التعرض لك أَنْ تَبُوءَ أي:
ترجع إلى الله ملتبسا بِإِثْمِي أي: بإثم قتلي وَإِثْمِكَ أي: الذي كان منك قبل قتلي، أو الذي من أجله لم يتقبل قربانك فَتَكُونَ أي: بالإثمين مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ.
(١)
أخرجه في المسند ١/ ١٨٥ وحديث ١٦٠٩ ونصه: عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال: عند فتنة عثمان بن عفان: أشهد أن رسول الله ﷺ قال «إنها ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي» قال: أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليّ ليقتلني؟ قال «كن كابن آدم».
وأخرجه أبو داود في: الفتن والملاحم، في النهي عن السعي في الفتنة، حديث ٤٢٥٧.
وأخرجه الترمذي في: الفتن، ٢٩- باب ما جاء تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم
.
قال الناصر في (الانتصاف) : فأما إرادته لإثم أخيه وعقوبته فمعناه: إني لا أريد أن أقتلك فأعاقب. ولمّا لم يكن بدّ من إرادة أحد الأمرين، إمّا إثمه بتقدير أن يدفع عن نفسه فيقتل أخاه، وإمّا إثم أخيه بتقدير أن يستسلم- وكان غير مريد للأول، اضطر إلى الثاني، فلم يرد إذا إثم أخيه لعينه، وإنما أراد أنّ الإثم هو بالمدافعة المؤدية إلى القتل- ولم تكن حينئذ مشروعة- فلزم من ذلك إرادة إثم أخيه. وهذا، كما يتمنّى الإنسان الشهادة. ومعناها أن يبوء الكافر بقتله وبما عليه في ذلك من الإثم، ولكن لم يقصد هو إثم الكافر لعينه، وإنما أراد أن يبذل نفسه في سبيل الله رجاء إثم الكافر بقتله ضمنا وتبعا. والذي يدل على ذلك أنّه لا فرق في حصول درجة الشهادة وفضيلتها بين أن يموت القاتل على الكفر وبين أن يختم له بالإيمان، فيحبط عنه إثم القتل الذي به كان الشهيد شهيدا. أعني بقي الإثم على قاتله، أو حبط عنه، إذ ذلك لا ينتقص من فضيلة شهادته ولا يزيدها، ولو كان إثم الكافر بالقتل مقصودا لاختلف التمني باعتبار بقائه وإحباطه، فدلّ على أنه أمر لازم تبع، لا مقصود. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٠]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ أي: رخصت وسهلت له نفسه. والتصريح بأخوّته لكمال تقبيح ما سوّلته نفسه. أي: الذي حقه أن يحفظه من كل من قصده بالسوء بالتحمل على نفسه فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينا، إذ صار كافرا حاملا للدماء إلى يوم القيامة. ودنيا، إذ صار مطرودا مبغضا للخلائق.
وقد أخرجه الجماعة- غير أبي داود- عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ «١» :«لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها. لأنه كان أول من سنّ القتل»
. انتهى.
ولما قتله لم يدر ما يصنع به من إفراط حيرته.
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ١- باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته، حديث ١٥٧٥.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣١]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
فَبَعَثَ أي: أرسل اللَّهُ غُراباً فجاء يَبْحَثُ أي: يحفر بمنقاره ورجله متعمقا فِي الْأَرْضِ.
قال القتيبيّ: هذا من الاختصار. ومعناه: بعث غرابا يبحث التراب على غراب ميت. وكذا رواه السدّيّ عن الصحابة أنه تعالى بعث غرابين اقتتلا. فقتل أحدهما الآخر. فحفر له. ثم حتى عليه حثيا.
لِيُرِيَهُ الضمير المستكن إمّا لله تعالى أو للغراب. والظاهر، للقاتل أخاه كَيْفَ يُوارِي أي: يستر في التراب سَوْأَةَ أَخِيهِ أي: جسده الميت. وسمّي سوأة لأنه مما يسوء ناظره قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع وتحسّر، والألف فيها بدل من ياء المتكلم. والويل والويلة الهلكة أَعَجَزْتُ أي: أضعفت عن الحيلة أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي: الذي هو من أخسّ الحيوانات. والاستفهام للتعجب من عدم اهتدائه إلى ما اهتدى إليه الغراب فَأُوارِيَ أي: أغطي سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ أي:
صار مِنَ النَّادِمِينَ أي: على حيرته في مواراته حيث لم يدفنه حين قتله. فصار أجهل من الحيوانات العجم وأضلّ منها وأدنى.
وفي (التنوير) : ولم يكن نادما على قتله.
وقال أبو الليث عن ابن عباس: لو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه.
تنبيهات:
الأول: ظاهر الآية أنه ما كان يعلم كيف يدفن المقتول، وأنه تعلم ذلك من الغراب. ولا مانع من ذلك. إذ مثله مما يجوز خفاؤه. لا سيما والعالم، في أول طور النشأة، وأنه أول قتيل، فيكون أول ميت.
ونقل الرازي احتمال أن يكون عالما بكيفية دفنه، قال: فإنه يبعد في الإنسان أن لا يهتدي إلى هذا القدر من العمل، إلا أنه لما قتله تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن الغراب الآخر، رق قلبه ولم يرض أن يكون أقل شفقة منه. فواراه تحت الأرض، والله أعلم.
111
الثاني: في الآية دلالة على أن الندم، إذا لم يكن لقبح المعصية، لم يكن توبة.
قال الرازيّ: ندم على قساوة قلبه وكونه دون الغراب في الرحمة. فكان ندمه لذلك، لا لأجل الخوف من الله تعالى، فلا جرم لم ينفعه ذلك الندم.
الثالث: الآية أصل في دفن الميت.
الرابع: قال ابن جرير «١» زعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل، قال له الله: يا قابيل! أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري. ما كنت عليه رقيبا. فقال الله: إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلغت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها، حتى تكون فزعا تائها في الأرض. انتهى.
الخامس:
روى ابن جرير «٢» بسنده عن عليّ بن أبي طالب قال: لما قتل ابن آدم أخاه بكى آدم فقال:
تغيّرت البلاد ومن عليها فلون الأرض مغبّر قبيح
تغيّر كل ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه المليح
فأجيب آدم عليه الصلاة والسلام:
أبا هابيل! قد قتلا جميعا وصار الحيّ كالميت الذّبيح
وجاء بشرّة قد كان منها على خوف، فجاء بها يصيح
أقول: قد اشتهر البيتان الأولان. وقد فنّد نسبتهما إلى آدم غير واحد.
قال الزمخشريّ: روي أن آدم رثاه بشعر. وهو كذب بحت. وما الشعر إلا منحول ملحون. وقد صح أن الأنبياء عليهم السلام معصومون من الشعر. انتهى.
قال الشرّاح: (المليح) في النظم المذكور، إن رفع فخطأ. لأنه صفة الوجه المجرور، وإن خفض فإقواء وهو عيب قبيح، وإن كثر. وقول من قال (الوجه فاعل قلّ.
وبشاشة منصوب على التمييز بحذف التنوين، إجراء للوصل مجرى الوقف) ألحن، وقيل: إن آدم عليه الصلاة والسلام رثاه بكلام منثور بالسريانيّ. فلم يزل ينقل إلى أن وصل إلى يعرب بن قحطان- وهو أول من خطّ بالعربية- فقدم وأخّر وجعله شعرا عربيا. انتهى.
(١) الأثر رقم ١١٧٦٥ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١١٧٢١ من التفسير.
112
قال الخفاجي. لا شك أن لوائح الوضع عليه رائحة لركاكته، لكن ما استصعبوه من الإقواء، وترك التنوين، ليس بصعب، لما في أشعار الجاهلية والشعراء من أمثاله.
مع أنه قد يخرج بأنه نعت جرى على المحل. لأن الوجه فاعل المصدر، وهو بشاشة.
السادس: حكمة تخصيص الغراب كون دأبه المواراة.
قال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء. فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه. انتهى.
والغراب هو الطائر الأسود المعروف. وقسموه إلى أنواع. وفي الحديث: أنه ﷺ غيّر اسم غراب لما فيه من البعد. ولأنه من أخبث الطيور. والعرب تقول: أبصر من غراب، وأحذر من غراب، وأزهى من غراب، وأصفى عيشا من غراب، وأشد سوادا من غراب، وهذا بأبيه أشبه من الغراب بالغراب. وإذا نعتوا أرضا بالخصب قالوا: وقع في أرض لا يطير غرابها. ويقولون وجد تمرة الغراب، وذلك أنه يتبع أجود التمر فينتقيه. ويقولون: أشأم من غراب وأفسق من غراب. ويقولون: طار غراب فلان، إذا شاب رأسه. وغراب غارب على المبالغة. كما قالوا: شعر شاعر، وموت مائت. قال رؤية:
فازجر من الطير الغراب الغاربا
قالوا: وليس شيء في الأرض يتشاءم به إلّا والغراب أشأم منه. وللبديع الهمذانيّ فصل بديع في وصفه. ذكره في (المضاف والمنسوب) وأورد ما يضاف إليه الغراب ويضاف إلى الغراب. والأبيات في غراب البين كثيرة، ملئت بها الدفاتر.
وحقق الإمام أبو عبد الله الشريف الغرناطيّ- قاضي غرناطة- في شرحه على (مقصورة حازم) أن غراب البين في الحقيقة هو الإبل التي تنقلهم من بلاد إلى بلاد.
وأنشد في ذلك مقاطيع. منها:
غلط الذين رأيتهم بجهالة... يلحون كلّهم غرابا ينعق
ما الذنب إلا للأباعر إنها... مما يشتّت جمعهم ويفرّق
إن الغراب بيمنه تدنو النوى... وتشتت الشمل الجميع الأينق
وأنشد ابن المسناويّ لابن عبد ربّه:
زعق الغراب فقلت: أكذب طائر... إن لم يصدقه رغاء بعير
113
كذا في «تاج العروس» شرح القاموس.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي: بسبب قتل قابيل هابيل ظلما كَتَبْنا أي فرضنا وأوحينا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ وإنما خصّوا بالذكر لأنهم أول من تعبدوا بذلك. وقوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي: أو بغير فساد يوجب إهدار دمها- كالكفر مع الحراب، والارتداد، وقطع الطريق الآتي بعد، وزنا المحصن- فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أي:
من حيث إنه هتك حرمة الدماء، وسنّ القتل، وجرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد وقتل الجميع سواء، في استجلاب غضب الله سبحانه وتعالى والعذاب العظيم وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً أي: ومن تسبب لبقاء حياتها بعفو أو منع عن القتل أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة. فكأنما فعل ذلك بالناس جميعا.
والمقصود منه: تعظيم قتل النفس وإحيائها في القلوب ترهيبا عن التعرض لها، وترغيبا في المحاماة عليها. أفاده البيضاوي.
وقال أبو مسلم في معنى الآية: من قتل وجب على المؤمنين معاداته. وأن يكونوا خصومه، كما لو قتلهم جميعا. لأن المسلمين يد واحدة على من سواهم.
ومن أحيا وجب موالاته عليهم، كما لو أحياهم. انتهى.
وقيل للحسن البصري «١» : هذه الآية لنا كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إي والذي لا إله غيره كما كانت لهم. وما جعل دماءهم أكرم من دمائنا.
أقول القاعدة في ذلك أن جميع ما يحكى في القرآن من شرائع الأولين وأحكامهم، ولم ينبّه على إفسادهم وافترائهم فيه، فهو حقّ. وقد أوضح ذلك الإمام الشاطبيّ في (الموافقات) فانظره فإنه مهمّ.
(١) الأثر رقم ١١٨٠٠ من تفسير ابن جرير.
114
وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: دخلت على عثمان يوم الدار فقلت: جئت لأنصرك. وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين! فقال: يا أبا هريرة! أيسرّك أن تقتل الناس جميعا وإياي معهم؟ قلت: لا! قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك، مأجورا غير مأزور. قال:
فانصرفت ولم أقاتل.
وروى الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن عمرو قال: «جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حمزة! نفس تحييها أحبّ إليك أم نفس تميتها؟ قال: بل نفس أحييها. قال: عليك بنفسك».
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ يعني: بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي: الآيات الواضحة الناطقة بتقرير ما كتبنا عليهم، تأكيدا لوجوب مراعاته، وتأييدا لتحتم المحافظة عليه، ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ما كتبنا عليهم، وبعد مجيء الرسل بالآيات والزجر المسموع منهم لَمُسْرِفُونَ يعني:
بالفساد والقتل. لا يبالون بعظمة ذلك.
قال ابن كثير: هذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها.
كما كانت بنو قريظة والنضير وغيرهم من بني قينقاع، ممن حول المدينة من اليهود الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج، إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها فدوا من أسروه، وودوا من قتلوه. وقد أنكر الله تعالى عليهم ذلك في (سورة البقرة) حيث يقول: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ [البقرة: ٨٤- ٨٥] الآيات.
وقال الرازيّ: المقصود من شرح هذه المبالغة- يعني قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ الآية- أن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل، وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى. ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول ﷺ في الواقعة التي ذكرنا أنهم عزموا على الفتك برسول الله ﷺ وبأكابر أصحابه- كان تخصيص بني إسرائيل في هذه القصة، في هذه المبالغة العظيمة، مناسبا للكلام ومؤكّدا للمقصود.
(١) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٥ وحديث ٦٦٣٩.
115
ولما ذكر الله تعالى تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد- أتبعه ببيان الفساد المبيح للقتل بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٣]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣)
إِنَّما جَزاءُ أي مكافأة الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي: يخالفونهما ويعصون أمرهما وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: يعملون في الأرض بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ.
أي: أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: يطردوا منها وينحّوا عنها. وهو التغريب عن المدن، فلا يقرّون فيها ذلِكَ أي: الجزاء المذكور لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو عذاب النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٤]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤)
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي من المحاربين مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى- روى ابن جرير «١» وأبو داود والنسائيّ عن ابن عباس، أنها نزلت في المشركين. وروى ابن جرير عن أبيّ، أنها نزلت في قوم من أهل الكتاب نقضوا عهدهم مع النبيّ صلى الله عليه وسلم. وظاهر أنها عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه
(١) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٣- باب ما جاء في المحاربة، حديث ٤٣٧٢ ونصه: عن ابن عباس قال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إلى قوله غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحدّ الذي أصابه.
116
الصفات. كما روى الشيخان «١» وأهل السنن وابن مردويه وهذا لفظه: عن أنس بن مالك أن ناسا من عرينة قدموا المدينة فاجتووها. فبعثهم رسول الله ﷺ في إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها ففعلوا فصحّوا، فارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا الراعي وساقوا الإبل. فأرسل رسول الله ﷺ في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمل أعينهم وألقاهم في الحرّة. قال أنس: فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا، حتى ماتوا. ونزلت: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.. الآية. ولمسلم «٢» عن أنس قال: إنما سمل النبيّ ﷺ أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وعند البخاريّ: قال أبو قلابة «٣» : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله.
الثانية- زعم بعضهم أن الآية نزلت نسخا لعقوبة العرنيين المتقدمة.
قال ابن جرير «٤» : حدثنا عليّ بن سهل، حدثنا الوليد بن مسلم قال: ذاكرت الليث بن سعد: ما كان سمل النبيّ ﷺ أعينهم وتركه حسمهم حتى ماتوا. فقال:
سمعت محمد بن عجلان يقول: أنزلت هذه الآية على رسول الله ﷺ معاتبة في ذلك. وعلّمه عقوبة مثلهم من القطع والقتل والنفي، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال:
وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو- بعني الأوزاعيّ- فأنكر أن تكون نزلت معاتبة، وقال: بلى. كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم. ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممّن حارب بعدهم. فرفع عنهم السمل.
وروى «٥» ابن جرير أيضا في القصة عن
(١) أخرجه البخاري في: الوضوء، ٦٦- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث ١٧٣.
وأخرجه مسلم في: القسامة، حديث ٩- ١٤.
(٢) أخرجه مسلم في: القسامة، حديث ١٤.
(٣) أخرجه البخاريّ في: الوضوء، ٦٦- باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، حديث ١٧٣.
(٤) الأثر رقم ١١٨١٨ من التفسير.
(٥)
الأثر رقم ١١٨١٠ من التفسير ونصه: عن عبد الكريم وسئل عن أبوال الإبل فقال: حدثني سعيد ابن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبيّ ﷺ فقالوا: نبايعك على الإسلام. فبايعوه، وهم كذبة، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة. فقال النبيّ ﷺ «هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح، فاشربوا من أبوالها وألبانها». قال، فبينما هم كذلك، إذ جاء الصريخ، فصرخ إلى رسول الله ﷺ فقال: قتلوا الراعي وساقوا النّعم. فأمر نبيّ الله فنودي في الناس: أن «يا خيل الله اركبي» قال، فركبوا، لا ينتظر فارس فارسا. قال: فركب رسول الله ﷺ على أثرهم. فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم. فرجع صحابة رسول الله ﷺ وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:
117
سعيد بن جبير قال: فما مثل رسول الله ﷺ قبل ولا بعد، قال: ونهى عن المثلة، قال «١» : لا تمثّلوا بشيء. والنهي عن المثلة مرويّ في الصحيح والسنن.
الثالثة- احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء، في ذهابهم إلى أنّ المحاربة في الأمصار وفي السبلات على السواء. لقوله: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً. وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعيد والشافعيّ وأحمد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولو شهروا السلاح في البنيان لا في الصحراء لأخذ المال. فقد قيل: إنهم ليسوا محاربين بل هم بمنزلة المنتهب. لأن المطلوب يدركه الغوث إذا استغاث بالناس. وقال الأكثرون: إن حكم من في البنيان والصحراء واحد، بل هم في البنيان أحق بالعقوبة منهم في الصحراء. لأن البنيان محل الأمن والطمأنينة، ولأنه محل تناصر الناس وتعاونهم، فإقدامهم عليه يقتضي شدة المحاربة والمغالبة، ولأنهم يسلبون الرجل في داره جميع ماله، والمسافر لا يكون معه غالبا إلّا بعض ماله وهذا هو الصواب.
حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتا فيقتله ويأخذ ما معه: إن هذه محاربة. ودمه إلى السلطان لا إلى وليّ المقتول. ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
وإنما كان ذلك محاربة، لأن القتل بالحيلة كالقتل مكابرة، كلاهما لا يمكن الاحتزاز منه، بل قد يكون ضرر هذا أشدّ، لأنه لا يدري به.
وقيل: إنّ المحارب هو المجاهر بالقتال، وإنّ هذا المغتال يكون أمره إلى وليّ أمر الدم. والاول أشبه بأصول الشريعة.
الرابعة- ظاهر الآية: أن عقوبة المحاربين المفسدين أحد هذه الأنواع. فيفعل الإمام منها ما رأى فيه صلاحا.
حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبيّ الله منهم، وصلب، وقطع، وسمل الأعين.
قال، فما مثّل رسول الله ﷺ قبل ولا بعد.
قال: ونهى عن المثلة وقال «لا تمثّلوا بشيء».
قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. [.....]
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث ٣ وهو ضمن حديث طويل كان يوصي به صلى الله عليه وسلم، إذا أمّر أميرا على جيش أو سرية.
118
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس، في الآية «١» : من شهر السلاح في قبة الإسلام، وأخاف السبيل ثم ظفر به وقدر عليه، فإمام المسلمين فيه بالخيار: إن شاء قتله، وإن شاء صلبه، وإن شاء قطع يده ورجله. وكذا قال سعيد بن المسيّب «٢» ومجاهد «٣» وعطاء «٤» والحسن البصري «٥» وإبراهيم النخعي «٦» والضحاك. كما رواه ابن جرير، وحكي مثله عن أنس.
قال ابن كثير: ومستند هذا القول ظاهر. وللتخيير نظائر من القرآن. كقوله في جزاء الصيد: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [المائدة: ٩٥]، وقوله في كفارة الترفه: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [البقرة: ١٩٦]. وقوله في كفارة اليمين: إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: ٨٩]، هذه كلها على التخيير، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور: هذه الآية منزلة على أحوال.
أخرج الشافعيّ عن إبراهيم بن أبي يحيي، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، في قطّاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا. وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا، قطّعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض. وقد رواه ابن أبي شيبة عن عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن عطية عن ابن عباس بنحوه، وعن أبي مجلز وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ والحسن وقتادة والسدّيّ وعطاء الخراساني نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة انتهى.
وفي (النهاية) من فقه الزيدية: يرجع في المحارب إلى رأي الإمام، فإن كان له رأي قتله أو صلبه- لأن القطع لا يدفع المضرة- وإن كان لا رأي له لكنه ذو قوة قطعه من خلاف، وإن عدم القوة والرأي ضرب ونفي وهذا معنى التخيير بين هذه الأمور، أنه يرجع إلى اجتهاد الإمام، على ما ذكر. انتهى.
(١) الأثر رقم ١١٨٥٠ من تفسير ابن جرير.
(٢) الأثر رقم ١١٨٥١ من التفسير.
(٣) الأثر رقم ١١٨٤٤ من التفسير.
(٤) الأثر رقم ١١٨٤٨ و ١١٨٤٩ من التفسير.
(٥) الأثر رقم ١١٨٤٦ و ١١٨٤٧ و ١١٨٥٢ و ١١٨٥٣ من التفسير.
(٦) الأثر رقم ١١٨٤٥ من التفسير.
119
ورأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية فصلا مهمّا في المحاربين في كتابه (السياسة الشرعية) وقد مثّلهم بقطّاع الطريق الذين يعترضون الناس بالسلاح في الطرقات ونحوها ليغصبوهم المال مجاهرة، من الأعراب أو التركمان أو الأكراد أو الفلاحين، أو فسقة الجند أو مردة الحاضرة أو غيرهم. ثم ساق رواية الشافعيّ المتقدمة عن ابن عباس وقال:
هذا قول كثير من أهل العلم- كالشافعي وأحمد رضي الله عنهما- وهو قريب من قول أبي حنيفة- رحمه الله- ومنهم من قال: للإمام أن يجتهد فيهم فيقتل من رأى قتله مصلحة فيهم وإن كان لم يقتل مثل أن يكون رئيسا مطاعا فيهم.
ويقطع من رأى قطعه مصلحة وإن كان لم يأخذ المال. مثل أن يكون ذا جلد وقوة في أخذ المال. كما أنّ منهم من يرى أنه إذا يرى أنه إذا أخذوا المال قتّلوا وقطّعوا وصلّبوا. والأول قول الأكثر. فمن كان من المحاربين قد قتل فإنه يقتله الإمام حدّا لا يجوز العفو عنه بحال، بإجماع العلماء. ذكره ابن المنذر. ولا يكون أمره إلى ورثة المقتول. بخلاف ما لو قتل رجل رجلا لعداوة بينهما، أو لخصومة، أو نحو ذلك من الأسباب الخاصة. فإن هذا دمه لأولياء المقتول. إن أحبوا قتلوا. وإن أحبوا عفوا. وإن أحبو أخذوا الدية لأنه قتله لغرض خاص. وأما المحاربون فإنما يقتلون لأخذ أموال الناس، فضررهم عام بمنزلة السّرّاق. فكان قتلهم حدّ الله. وهذا متفق عليه بين الفقهاء. حتى لو كان المقتول غير مكافئ للقاتل. مثل أن يكون القاتل حرّا والمقتول عبدا، أو القاتل مسلما والمقتول ذمّيّا أو مستأمنا. فقد اختلف الفقهاء:
هل يقتل في المحاربة؟ والأقوى أنه يقتل للفساد العام حدّا، كما يقطع إذا أخذ أموالهم. وكما يحبس بحقوقهم. وإذا كان المحاربون الحرامية جماعة، فالواحد منهم باشر القتل بنفسه والباقون له أعوان وردء له، فقد قيل: إنه يقتل المباشر فقط.
والجمهور على أن الجميع يقتلون ولو كانوا مائة. والردء والمباشر سواء. وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين. فإن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قتل ربيئة المحاربين. والربيئة هو الناظور الذي يجلس على مكان عال ينظر منه لهم من يجيء.
ولأن المباشر إنما يمكن من قتله بقوة الردء ومعونته. والطائفة إذا انتصر بعضها ببعض، حتى صاروا ممتنعين، فهم مشتركون في الثواب والعقاب كالمجاهدين. فإن
النبيّ ﷺ قال «١» :«المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد
(١)
أخرجه البخاري في: الفرائض، ٢١- باب إثم من تبرأ من مواليه، حديث ٩٥ ونصه: قال عليّ رضي الله عنه: ما عندنا كتاب نقرؤه، إلا كتاب الله، غير هذه الصحيفة قال، فأخرجها فإذا فيها
120
على من سواهم، ويردّ متسرّيهم على قاعدتهم».
يعني: أن جيش المسلمين إذا تسرّت منه سرية فغنمت مالا، فإن الجيش يشاركها فيما غنمت، لأنها بظهره وقوّته تمكنت. لكن تنفل عنه نفلا. فإن النبيّ ﷺ كان ينفل السرية، إذا كانوا في بدايتهم، الربع بعد الخمس. فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرّت سرية، نفلهم الثلث بعد الخمس. وكذلك لو غنم الجيش غنيمة شاركته السرية، لأنها في مصلحة الجيش. كما قسم النبيّ ﷺ لطلحة والزبير يوم بدر، لأنه كان قد بعثهما في مصلحة الجيش. فأعوان الطائفة المتمنعة وأنصارها منها، فيما لهم وعليهم. وهكذا المقتتلون على باطل لا تأويل فيه، مثل المقتتلين على عصبية ودعوى جاهلية.
كقيس ويمن ونحوهما، هما ظالمتان. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذ التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»
. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه أراد قتل صاحبه». أخرجاه في (الصحيحين) وتضمن كل طائفة ما أتلفته الأخرى من نفس ومال وإن لم يعرف عين القاتل. لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد. وأما إذا أخذوا المال فقط ولم يقتلوا- كما قد يفعله الأعراب كثيرا- فإنه يقطع من كل واحد يده اليمنى ورجله اليسرى عند أكثر العلماء. كأبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وغيرهم. وهذا معنى قوله تعالى:
أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ. تقطع اليد التي يبطش بها، والرجل التي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بالزيت المغليّ ونحوه، لينحسم الدم فلا يخرج فيفضي إلى تلفه. وكذا تحسم يد السارق بالزيت. وهذا الفعل قد يكون أزجر من القتل. فإن الأعراب وفسقة الجند وغيرهم، إذا رأوا دائما من هو بينهم مقطوع اليد والرجل، ذكروا بذلك جرمه، فارتدعوا. بخلاف القتل، فإنه قد ينسى. وقد يؤثر بعض النفوس الأبية قتله على قطع يده ورجله من خلاف. فيكون هذا أشدّ تنكيلا له ولأمثاله. وأما إذا شهروا السلاح ولم يقتلوا نفسا ولم يأخذوا مالا، ثم أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل (نفيهم) تشريدهم. فلا يتركون يأوون في بلد. وقيل هو حبسهم. وقيل: هو ما يراه الإمام أصلح من نفي أو حبس أو نحو
أشياء من الجراحات وأسنان الإبل. قال، وفيها «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور. فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. لا يقبل منه، يوم القيامة صرف ولا عدل. ومن والى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل. وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم. فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه يوم القيامة صرف ولا عدل».
121
ذلك. والقتل المشروع هو ضرب الرقبة بالسيف ونحوه. لأن ذلك أوحى (أي:
أسرع) أنواع القتل. وكذلك شرع الله قتل ما يباح قتله من الآدميين والبهائم إذا قدر عليه على هذا الوجه.
قال النبي ﷺ «١» :«إن الله كتب الإحسان على كلّ شيء. فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة. وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبح. وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته». رواه مسلم.
وقال «٢» :«إنّ أعف الناس قتلة أهل الإيمان»
. وأما الصلب المذكور فهو رفعهم على مكان عال ليراهم الناس ويشتهر أمرهم، وهو بعد القتل، عند جمهور العلماء. ومنهم من قال: يصلّبون ثم يقتلون وهم مصلوبون. وقد جوّز بعض الفقهاء قتلهم بغير السيف حتى قال: يتركون على المكان العالي حتى يموتوا حتف أنوفهم بلا قتل.
الخامسة: تتمة الآية. أعني قوله تعالى ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ تدل على أن المحاربين يعاقبون في الدنيا والآخرة مطلقا. ولا يكون الحدّ المذكور طهرة لهم، ولو كانوا مسلمين.
قال السيوطي في (الإكليل) : قال ابن الفرس: ظاهره أن عقوبة المحارب لا تكون كفارة له، كما تكون في سائر الحدود.
وقال العارف الشعراني في (ميزانه) : سمعت شيخنا، شيخ الإسلام زكريا رحمه الله يقول: لم يرد لنا أن أحدا يؤخذ بذنبه في الدنيا والآخرة معا، إلّا المحاربين، لقوله تعالى فيهم: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ.. الآية.
وقال ابن كثير: هذا يرجح رواية نزولها في المشركين. فأما أهل الإسلام
ففي (صحيح مسلم) «٣» عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: «أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على النساء، ألّا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يعضه بعضنا بعضا. فمن وفي منكم فأجره على الله تعالى، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه فهو كفارته، ومن ستره الله فأمره إلى الله. إن شاء عذّبه وإن شاء غفر له».
السادسة:
دلّ قوله تعالى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ على أن توبة المحاربين، قبل الظفر بهم، تسقط عنهم حدّ المحاربين المذكور في الآية. سواء
(١) أخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ٥٧ عن شدّاد بن أوس.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١١٠- باب في النهي عن المثلة، حديث ٢٦٦٦.
(٣) أخرجه مسلم في: الحدود، حديث ٤٣.
122
كانوا مشركين أو مسلمين. وهو مروي عن علي
وأبيّ هريرة والسدّي وغيره. وقد قال الهادي: إذا تاب المحارب قبل الظفر به، سقط عنه كل تبعة من قتل أو دين، لعموم الآية.
قال ابن كثير: أما على قول من قال: إنها في أهل الشرك فظاهر. أي: فإنهم إذا آمنوا قبل القدرة عليهم، سقط عنهم جميع الحدود المذكورة. فلا يطالبون بشيء مما أصابوا من مال أو دم. قال أبو إسحاق: جعل الله التوبة للكفار تدرأ عنهم الحدود التي وجبت عليهم في كفرهم، ليكون ذلك داعيا لهم إلى الدخول في الإسلام. وأما المحاربون المسلمون، فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم تحتم القتل والصلب وقطع الرجل. وهل يسقط قطع اليد؟ فيه قولان للعلماء. وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع، وعليه عمل الصحابة. كما روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال: كان حارثة بن بدر التميمي من أهل البصرة- وكان قد أفسد في الأرض وحارب- فكلم رجالا من قريش منهم: الحسن بن علي وابن عباس وعبد الله بن جعفر.
فكلّموا عليا فيه فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني، فخلفه في داره ثم أتى عليا فقال: يا أمير المؤمنين! أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا- فقرأ حتى بلغ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ. فقال: اكتب له أمانا. قال سعيد بن قيس: فإنه جارية بن بدر. وكذا رواه ابن جرير «١» من غير وجه عن مجالد عن الشعبي، فقال حارثة بن بدر:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية. قال فكان نفيهم أن نفوهم
إلا أبلغا همدان إما لقيتها على النأي لا يسلم عدوّ يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الإله ويقضي بالكتاب خطيبها
وروى ابن جرير «٢» - من طريق سفيان الثوري عن السدّي، ومن طريق أشعث- كلاهما. عن عامر الشعبي قال: جاء رجل من مراد إلى أبي موسى- وهو على الكوفة في إمرة عثمان رضي الله عنه- بعد ما صلى المكتوبة فقال: يا أبا موسى! هذا مقام العائذ بك. أنا فلان بن فلان المرادي. كنت حاربت الله ورسوله، وسعيت في الأرض فسادا، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي. فقام أبو موسى فقال: إن هذا فلان بن فلان. وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادا، وإنه تاب من قبل أن يقدر عليه، فمن لقيه فلا يعرض له إلّا بخير، (فإن يك صادقا فسبيل من صدق.
(١) الأثر رقم ١١٨٧٩ و ١١٨٨٠ و ١١٨٨١. من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١١٨٨٤ من التفسير. [.....]
123
وإن يك كاذبا تدركه ذنوبه). فأقام الرجل ما شاء الله، ثم إنه خرج فأدركه الله بذنوبه فقتله. ثم قال ابن جرير «١» : حدثني علي، حدثنا الوليد بن مسلم، قال: قال الليث.
وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني، وهو الآمر عندنا، أنّ عليا الأسدي حارب وأخاف السبيل، وأصاب الدم والمال، فطلبه الأئمة والعامة، فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائبا، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: ٥٣]. فوقف عليه فقال: يا عبد الله! أعد قراءتها. فأعادها عليه.
فغمد سيفه ثم جاء تائبا حتى قدم المدينة من السّحر. فاغتسل. ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلّى الصبح ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه. فلما أسفر عرفه الناس فقاموا إليه. فقال: لا سبيل لكم علي. جئت تائبا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة: صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم- في إمرته على المدينة في زمن معاوية- فقال: هذا علي جاء تائبا ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال، فترك من ذلك كله.
قال: وخرج علي تائبا مجاهدا في سبيل الله في البحر. فلقوا الروم. فقرّبوا سفينته إلى سفينة من سفنهم. فاقتحم على الروم في سفينتهم. فهزموا منه إلى سفينتهم الأخرى. فمالت بهم وبه. فغرقوا جميعا.
هذا، وفي تفسير بعض الزيدية- نقلا عن زيد والنفس الزكية والمؤيد بالله وأبى حنيفة ومالك والشافعي- أنّ توبة المحارب تسقط الحدود لله، دون حقوق بني آدم من قتل أو مال، لقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: ١٧٨]. وقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ [المائدة: ٤٥].
وقوله تعالى: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً [الإسراء: ٣٣].
وقوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى ترد» «٢»
وقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيبة من نفسه».
قال في (شرح الإبانة) : وروى زيد بن عليّ بإسناده إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّ قاطع الطريق، إذا تاب قبل أن يؤخذ وظفر به الإمام. ضمن المال واقتص منه. ثم قال: أما الكافر فلا خلاف أن توبته تسقط عنه جميع الحدود.
انتهى.
(١) الأثر رقم ١١٨٨٩ من التفسير.
(٢)
أخرجه الترمذي في: البيوع، ٣٩- باب ما جاء في أن العارية مؤداة، ونصه: عن سمرة عن النبيّ ﷺ قال «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي».
124
وأخرج أبو داود «١» والنسائي عن ابن عباس قال: نزلت في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يكن عليه سبيل.
وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحدّ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا- أي اطلبوا- إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي:
القربة- كذا فسّره ابن عباس ومجاهد وأبو وائل والحسن وزيد وعطاء والثوري وغير واحد. وقال قتادة: أي تقرّبوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. قال ابن كثير: وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة، لا خلاف بين المفسرين فيه. وفي (القاموس وشرحه) : الوسيلة والواسلة، المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وقال الجوهري: الوسيلة، ما يتقرب به إلى الغير. والتوسيل والتوسل واحد. يقال: وسّل إلى الله تعالى توسيلا، عمل عملا تقرب به إليه، كتوسل. و (إلى) يجوز أن يتعلق ب (ابتغوا) وأن يتعلق ب (الوسيلة).
قدم عليها للاهتمام به وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: بسبب المجاهدة في سبيله. وقد بين كثير من الآيات أن المجاهدة بالأموال والأنفس.
تنبيه:
ما ذكرناه في تفسير (الوسيلة) هو المعوّل عليه. وقد أوضح إيضاحا لا مزيد عليه، تقي الدين بن تيمية عليه الرحمة في (كتاب الوسيلة) فرأينا نقل شذرة منه، إذ لا غنى للمحقّق في علم التفسير عنه.
قال رحمه الله بعد مقدّمات:
إن لفظ الوسيلة والتوسل، فيه إجمال واشتباه، يجب أن تعرف معانيه ويعطى كلّ ذي حق حقه. فيعرف ما ورد به الكتاب والسنة من ذلك ومعناه. وما كان يتكلم به الصحابة ويفعلونه ومعنى ذلك. ويعرف ما أحدثه المحدثون في هذا اللفظ
(١) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٣- باب ما جاء في المحاربة، حديث ٤٣٧.
125
ومعناه. فإن كثيرا من اضطراب الناس في هذا الباب هو بسبب ما وقع من الإجمال والاشتراك في الألفاظ ومعانيها، حتى تجد أكثرهم لا يعرف في هذا الباب فصل الخطاب. فلفظ الوسيلة مذكور في القرآن في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وفي قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الإسراء: ٥٦- ٥٧]. فالوسيلة التي أمر الله أن تبتغي إليه، وأخبر عن ملائكته وأنبيائه أنهم يبتغونها إليه، هي ما يتقرب به إليه من الواجبات والمستحبات، فهذه الوسيلة التي أمر الله المؤمنين بابتغائها تتناول كل واجب ومستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب لا يدخل في ذلك، سواء كان محرما أو مكروها أو مباحا، فالواجب والمستحب هو ما شرعه الرسول فأمر به أمر إيجاب واستحباب. وأصل ذلك الإيمان بما جاء به الرسول. فجماع الوسيلة التي أمر الله الخلق بابتغائها، هو التوسل إليه باتباع ما جاء به الرسول، لا وسيلة لأحد إلى الله إلّا ذلك.
و (الثاني) لفظ الوسيلة في الأحاديث الصحيحة
كقوله ﷺ «١» :«سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلّا لعبد من عباد الله. وأرجوا أن أكون أنا ذلك العبد. فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة».
وقوله: «من قال حين يسمع النداء «٢» : اللهم! رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة».
فهذه الوسيلة للنبي ﷺ خاصة. قد أمرنا أن نسأل الله له هذه الوسيلة.
وأخبرنا أنها لا تكون إلا لعبد من عباد الله. وهو يرجو أن يكون ذلك العبد، وهذه الوسيلة أمرنا أن نسألها للرسول صلى الله عليه وسلم. وأخبرنا أن من سأل له الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة. لأن الجزاء من جنس العمل. فلما دعوا للنبي ﷺ استحقوا أن يدعو هو لهم. فإن الشفاعة نوع من الدعاء. كما قال «٣» : إنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا. وأما التوسل بالنبي ﷺ والتوجه به في كلام الصحابة، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته. والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين يراد به الإقسام به
(١) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ١١ عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٢) أخرجه البخاري في: الأذان، ٨- باب الدعاء عند النداء، حديث ٣٩٢، عن جابر بن عبد الله.
(٣) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ١١ عن عبد الله بن عمرو بن العاص، ضمن حديث طويل.
126
والسؤال به. كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين. ومن يعتقدون فيه الصلاح.
وحينئذ، فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين. ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة. فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء، فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته. والثاني دعاؤه وشفاعته كما تقدم. فهذان جائزان بإجماع المسلمين. ومن هذا قول عمر بن الخطاب «١» : اللهمّ! إنّا كنا إذا أجدبنا توسّلنا إليك بنبينا فتسقينا، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبينا فاسقنا. أى بدعائه وشفاعته. وقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي: القربة إليه بطاعته. وطاعة رسوله طاعته قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: ٨١]، فهذا التوسل الأول هو أصل الدين، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين. وأمّا التوسّل بدعائه وشفاعته- كما قال عمر- فإنه توسّل بدعائه لا بذاته، ولهذا عدلوا عن التوسّل به إلى التوسل بعمه العباس ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس. فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس، علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته. بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له، فإنه مشروع دائما.
فلفظ التوسل يراد به ثلاث معان: (أحدهما) التوسّل بطاعته. فهذا فرض لا يتمّ الإيمان إلّا به. و (الثاني) التوسّل بدعائه وشفاعته وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته. و (الثالث) التوسّل به. بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته. فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم. وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة. أو عن من ليس قوله حجة، وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه، إنه لا يجوز. ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك. قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى ب (شرح الكرخي) في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة. قال بشر بن الوليد: حدّثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو إلّا به. وأكره أن يقول:
بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك. وهو قول أبي يوسف. قال أبو يوسف:
بمعقد العز من عرشه هو الله. فلا أكره هذا. وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام.
(١) أخرجه البخاريّ في: الاستسقاء، ٣- باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث ٥٧٢.
127
قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز. لأنه لا حق للخلق على الخالق. فلا تجوز وفاقا.
وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه- من أن الله لا يسأل بمخلوق- له معنيان: أحدهما هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق، أولى وأحرى. وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: ١- ٢]، وَالشَّمْسِ وَضُحاها [الشمس: ١]. وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً [النازعات: ١]، وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات: ١]- فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته، ما يحسن معه إقسامه. بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها. كما
في (السنن) عن النبي ﷺ أنه قال «١» :«من حلف بغير الله فقد أشرك».
وقد صححه الترمذي وغيره.
وفي لفظ: فقد كفر
. وقد صححه الحاكم.
وقد ثبت عنه في (الصحيحين) «٢» أنه قال: من كان حالفا فليحلف بالله. وقال: لا تحلفوا بآبائكم. فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم.
وفي (الصحيحين) عنه أنه قال «٣» : من حلف باللات والعزّى فليقل: لا إله إلّا الله.
وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة، أو بما يعتقد هو حرمته- كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي ﷺ والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وسراويل الفتوّة وغير ذلك... - لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحنث بذلك.
(١)
أخرجه الترمذي في: النذور، ٩- حدثنا قتيبة، ونصه: عن ابن عمر سمع رجلا يقول: لا، والكعبة! فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله. فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»
. (٢)
أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، ٢٦- باب أيام الجاهلية، حديث ١٢٩٨ ونصه: عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبيّ ﷺ قال «ألا من كان حالفا، فلا يحلف إلا بالله» وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال «لا تحلفوا بآبائكم».
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٣ و ٤.
(٣)
أخرجه البخاري في: الأيمان والنذور، ٥- باب لا يحلف باللات والعزّى ولا بالطواغيت، حديث ٢٠٥٢ ونصه: عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبيّ ﷺ قال «من حلف فقال في حلفه: باللات والعزّى، فليقل: لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك، فليتصدق».
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٥
.
128
والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكى إجماع الصحابة على ذلك. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الأموال وغيرها جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليفادوا به أنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. وهذا تمثيل للزوم العذاب لهم، وإنه لا سبيل لهم إلى النجاة منه بوجه.
وقد روى البخاري عن أنس قال «١» : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم.
فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك: أن لا تشرك بي. فيؤمر به إلى النار»
. ورواه مسلم «٢» وغيره بنحوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٧]
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم لا ينقطع. وهذا كما قال تعالى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها...
[السجدة: ٢٠] الآية.
روى ابن مردويه، عن يزيد بن صهيب الفقير، عن جابر بن عبد الله. أنّ رسول الله ﷺ قال: «يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة». قال، فقلت لجابر بن عبد الله، يقول الله: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها قال: اتل أوّل الآية:
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ... الآية، ألا إنهم الذين كفروا.
(١) أخرجه البخاري في: الرقاق، ٤٩- باب من نوقش الحساب عذب، حديث ١٥٧٤.
(٢) أخرجه مسلم في: صفات المنافقين وأحكامهم، حديث ٥١ و ٥٢.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم «١» هذا الحديث من وجه آخر. عن يزيد الفقير، عن جابر
وهذا أبسط سياقا.
زاد ابن أبي حاتم: قال جابر: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قد جمعته قال:
أليس الله يقول: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء: ٧٩] ؟ فهو ذلك المقام، فإن الله تعالى يحبس أقواما بخطاياهم في النار ما شاء، لا يكلمهم، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم.
ولما أوجب تعالى- في الآية المتقدمة- قطع الأيدي والأرجل عند أخذ المال على سبيل المحاربة- بين أن أخذ المال على سبيل السرقة يوجب قطع الأيدي والأرجل أيضا، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
وَالسَّارِقُ أي: من الرجال وَالسَّارِقَةُ أي من النساء فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يعني يمين كل منهما، والمقطع الرسغ، كما بينته السنّة جَزاءً بِما كَسَبا أي:
يقطع الآلة الكاسبة نَكالًا أي: عقوبة مِنَ اللَّهِ أي: على فعل السرقة المنهي عنه من جهته تعالى، لا في مقابلة إتلاف المال، فإنه غير السرقة. فلذلك لا يسقط بعفو المالك، بخلاف العفو عن المال. ولا يبالي فيه بعزة السارق، لأنه تعالى غالب على أمره يمضيه كيف يشاء، كما قال: وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي: فلا يبالي- مع عزته الموجبة لامتثال أمره- عزّة من دونه حَكِيمٌ في شرائعه، فيختل أمر نظام العالم بمخالفة أمره، إذ فيه نفع عام للخلائق.
وفي الآية مسائل:
الأولى- قال أبو السعود: لما كانت السرقة معهودة من النساء كالرجال، صرح بالسارقة أيضا، مع أن المعهود في الكتاب والسنة إدراج النساء في الأحكام الواردة في شأن الرجال بطريق الدلالة. لمزيد الاعتناء بالبيان والمبالغة في الزجر. انتهى.
ولما كانت غلبة السرقة في الرجال، لقوتهم بدأ بالسارق. كما أن غلبة الزنى
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٣٢٠.
130
لما كانت في النساء لفرط شهوتهن- قال في آية الزنى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي.
الثانية- قال ابن كثير: روى الثوري بسنده إلى ابن مسعود، أنه كان يقرؤها:
والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما. وهذه قراءة شاذة. وكان الحكم عند جميع العلماء موافقا لها لا بها، بل هو مستفاد من دليل آخر وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية فقرر في الإسلام، وزيدت شروط أخر كما سنذكره إن شاء الله تعالى. كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه، وزيادات هي من تمام المصالح، ويقال: إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش، قطعوا رجلا يقال له (دويك) مولى لبني مليح بن عمرو من خزاعة، كان قد سرق كنز الكعبة، ويقال: سرقه قوم فوضعوه عنده.
الثالثة: ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئا قطعت يده به، سواء كان قليلا أو كثيرا، لعموم هذه الآية: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. فلم يعتبروا نصابا ولا حرزا. بل أخذوا بمجرد السرقة.
وقد روى ابن جرير «١» وابن أبي حاتم عن نجدة الحنفي قال: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما. أخاص أم عام؟ فقال: بل عام.. وهذا يحتمل أن يكون موافقة لابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء، ويحتمل ذلك، فالله أعلم.
وتمسكوا بما
ثبت في (الصحيحين) «٢» عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده.
وأما الجمهور فاعتبروا النصاب، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره.
فعند الإمام مالك «٣» : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة. فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه، وجب القطع. واحتج في ذلك بما
رواه عن نافع عن ابن عمر: أنّ رسول الله ﷺ قطع في مجنّ ثمنه ثلاثة دراهم
. أخرجاه «٤» في (الصحيحين) قال
(١) الأثر رقم ١١٩١٤ في التفسير. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في: الحدود، ٧- باب لعن السارق إذا لم يسمّ، حديث ٢٥٠٩.
ومسلم في: الحدود، حديث ٧.
(٣) أخرجه في الموطأ في: الحدود، حديث ٢١.
(٤) أخرجه البخاري في: الحدود، ١٣- باب قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، حديث ٢٥١٢.
131
مالك رحمه الله: وقطع عثمان رضي الله عنه في أترجة قوّمت بثلاثة دراهم. وهو أحب ما سمعت في ذلك.
قال أصحاب مالك: ومثل هذا الصنيع يشتهر ولم ينكر. فمن مثله يحكي الإجماع السكوتي. وفيه دلالة على القطع في الثمار، خلافا للحنفية، وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم، وللشافعية في اعتبار ربع دينار، والله أعلم. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدا، والحجة في ذلك ما
أخرجه الشيخان «١» من طريق الزهري عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ قال: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا.
ولمسلم «٢» عنها أيضا: أن رسول الله ﷺ قال: لا تقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعدا
. قال الشافعية: هذا الحديث فاصل في المسألة، ونصّ في اعتبار ربع الدينار لا ما سواه. قالوا: وحديث ثمن المجنّ، وإن كان ثلاثة دراهم، لا ينافي هذا، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهما. فهي ثمن ربع دينار فأمكن الجمع بهذا الطريق. ويروى هذا المذهب عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز والليث والأوزاعي وإسحاق (في رواية عنه) وأبو ثور وداود الظاهري، رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد وإسحاق (في رواية) إلى أنّ كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مردّ شرعي. فمن سرق واحدا منهما أو ما يساويه قطع، عملا بحديث ابن عمر وبحديث عائشة. ووقع
في لفظ عند الإمام أحمد «٣» عن عائشة: أن رسول الله ﷺ قال: اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك.
وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثني عشر درهما.
وفي لفظ للنسائي «٤» : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار
. فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم، والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه، وكذا سفيان الثوري، فإنهم ذهبوا إلى أن
(١) أخرجه البخاري في: الحدود، ١٣- باب قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما، حديث ٢٥١٠.
ومسلم في: الحدود، حديث ١- ٣.
(٢) أخرجه مسلم في: الحدود، حديث ٤.
(٣) أخرجه في المسند ٦/ ٨٠.
(٤) أخرجه النسائي في: السارق، ٩- باب ذكر الاختلاف على الزهري.
132
النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجنّ الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله ﷺ كان ثمنه عشرة دراهم،
وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير وعبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجنّ.
وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم. قالوا: فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجنّ. فالاحتياط الأخذ بالأكثر، لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما بلغ قيمة واحد منهما. يحكى هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي وأبي جعفر الباقر، رحمهم الله تعالى.
وقال بعض السلف: لا تقطع الخمس إلّا في خمس. أي في خمسة دنانير أو خمسين درهما. وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله.
وقد أجاب الجمهور- عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة: يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده- بأجوبة: (أحدها) أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر لأنه لا بد من بيان التاريخ. و (الثاني) أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن. قاله الأعمش فيما حكاه البخاري «١» وغيره عنه. و (الثالث) أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده.
ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية حيث كانوا يقطعون في الكثير والقليل. فلعن السارق يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة.
وقد ذكروا أن أبا العلاء المعرّى، لما قدم بغداد، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار، ونظم في ذلك شعرا فقال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار؟
وقد أجابه الناس في ذلك فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أنه قال: لما كانت أمينة، كانت ثمينة. ولما خانت هانت، ومنهم من قال: هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة. فإن في باب الجنايات، ناسب
(١) أخرجه البخاري في: الحدود، ٧- باب لعن السارق إذا لم يسمّ. ونصه: قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد. والحبل، كانوا يرون أنه منها ما يسوى دراهم.
133
أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار، لئلا يجنى عليها. وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب، ولهذا قال: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي: مجازاة على صنيعهما السيّئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك. كذا في تفسير ابن كثير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سرّه في كتابه (السياسة الشرعية) : وأما السارق فيجب قطع يده اليمنى بالكتاب والسنة والإجماع. قال الله تعالى:
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ الآية. ولا يجوز، بعد ثبوت الحدّ عليه بالبينة أو الإقرار، تأخيره. لا بحبس ولا مال يفتدي به ولا غيره. بل تقطع يده في الأوقات المعظمة وغيرها. فإن إقامة الحدود من العبادات كالجهاد في سبيل الله. وينبغي أن يعرف أن إقامة الحدّ رحمة من الله بعباده. فيكون الوالي شديدا في إقامة الحدّ، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات، لا إشفاء غيظه وإرادة العلوّ على الخلق. بل بمنزلة الوالد إذا أدب ولده. فإنه لو كف عن تأديب ولده، كما تستر به الأم رقة ورأفة، لفسد الولد. وإنما يؤدبه رحمة وإصلاحا بحاله.
مع أنه يودّ ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب. وبمنزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه. وبمنزلة قطع العضو المتآكل والحجم وقطع العروق بالفصاد ونحو ذلك. بل بمنزلة شرب الإنسان الدواء الكريه، وما يدخله على نفسه من المشقة لينال به الراحة. فكذلك شرعت الحدود. وهكذا ينبغي أن تكون نية الوالي في إقامتها، فإن من كان قصده صلاح الرعية والنهي عن المنكرات، بجلب المنفعة لهم ورفع المضرة عنهم وابتغائه بذلك وجه الله تعالى وطاعة أمره- ألان الله له القلوب وتيسرت له أسباب الخير. وكفاه العقوبة اليسيرة. وقد يرضى المحدود إذا قام عليه الحدّ. وأما إذا كان غرضه العلوّ عليهم وإقامة بأسه ليعطوه أو ليبذلوا له ما يريد من الأموال- انعكس عليه مقصوده.
ويروى أن عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، قبل أن يلي الخلافة كان نائبا للوليد ابن عبد الملك على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد ساسهم سياسة صالحة، فقدم الحجاج من العراق وقد سامهم سوء العذاب، فسأل أهل المدينة عن عمر: كيف هيبته فيكم؟ قالوا: ما نستطيع أن ننظر إليه هيبة له! قال: كيف محبتكم له؟ قالوا:
هو أحب إلينا من أهلنا! قال: فكيف أدبه؟ قالوا: ما بين الثلاثة الأسواط إلى العشرة... قال: هذه هيبته وهذه محبته وهذا أدبه! هذا أمر من السماء.
134
وإذا قطعت يده حسمت، ويستحب أن تعلق في عنقه. فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى. فإن سرق ثالثا أو رابعا، ففيه قولان للصحابة ومن بعده من العلماء:
(أحدهما) تقطع أربعته في الثالثة والرابعة، وهو قول أبي بكر، وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، والكوفيين وأحمد في إحدى الروايتين. و (الثاني) : أنه يحبس. وهو قول علي رضي الله عنه والكوفيين وأحمد في روايته الأخرى. وتتمة مباحث السرقة مقررة في كتب السنة.
الرابعة- قرأ الجمهور برفع (السارق والسارقة) على الابتداء، والخبر محذوف تقديره: وفيما يتلى عليكم- أو وفيما فرض عليكم- السارق والسارقة، أي:
حكمها، أو الخبر قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط. إذ المعنى: الذي سرق والتي سرقت. وقرأ عيسى بن عمر بالنصب، وفضلها سيبويه على قراءة الرفع، لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلّا بتأويل وإضمار، كذا اشتهر عن سيبويه.
قال الناصر في (الانتصاف) : المستقرأ من وجوه القراءات أن العامة لا تتفق فيها أبدا على العدول عن الأفصح. وجدير بالقرآن أن يجري على أفصح الوجوه، وأن لا يخلو من الأفصح، وما يشتمل عليه كلام العرب الذي لم يصل أحد إلى ذروة فصاحته ولم يتعلق بأهدابها. وسيبويه يحاشي من اعتقاد عراء القرآن عن الأفصح واشتماله على الشاذ الذي لا يعد من القرآن. ونحن نورد الفصل من كلام سيبويه على هذه الآية ليتضح لسامعه براءة سيبويه من عهدة هذا النقل. قال سيبويه في ترجمة (باب الأمر والنهي) بعد أن ذكر المواضع التي يختار فيها النصب: وملخصها أنّه متى بني الاسم على فعل الأمر، فذاك موضع اختيار النصب. ثم قال كالموضّح لامتياز هذه الآية عما اختار فيها النصب: وأما قوله عز وجل: السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا الآية، وقوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: ٢]. فإن هذا لم يبن على الفعل ولكنه جاء على مثال قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [محمد صلى الله عليه وسلم:
١٥]. ثم قال بعد: فيها كذا وكذا. يريد سيبويه تمييز هذه الآي عن المواضع التي بين اختيار النصب فيها. ووجه التمييز بأن الكلام حيث يختار النصب يكون الاسم فيه مبنيا على الفعل. وأما في هذه الآي فليس بمبنيّ عليه. فلا يلزم فيه اختيار النصب.
عاد كلامه قال: وإنما وضع المثل للحديث الذي ذكر بعده. فذكر أخبارا وقصصا. فكأنه قال: ومن القصص: مثل الجنة. فهو محمول على هذا الإضمار. والله
135
أعلم. وكذلك الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي لما قال جل ثناؤه: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها [النور: ١]. قال في جملة الفرائض: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي- ثم جاء- فَاجْلِدُوا.
بعد أن مضى فيهما الرفع، يريد سيبويه: لم يكن الاسم مبنيا على الفعل المذكور بعد، بل بني على محذوف متقدم وجاء الفعل طارئا.
عاد كلامه قال كما جاء: وقائلة خولان فانكح فتاتهم فجاء بالفعل بعد أن عمل فيه المضمر وكذلك وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وفيما فرض عليكم السارقة والسارق.
فإنما دخلت هذه الأسماء بعد قصص وأحاديث. وقد قرأ ناس والسّارق والسّارقة.
بالنصب، وهو في العربية ما ذكرت لك من القوة، ولكن أبت العامة إلا الرفع.
يريد سيبويه أن قراءة النصب جاء الاسم فيها مبنيا على الفعل غير معتمد على متقدم، فكان النصب قويا بالنسبة إلى الرفع، حيث يبني الاسم على الفعل لا على متقدم. وليس يعني أنه قوي بالنسبة إلى الرفع، حيث يعتمد الاسم على المحذوف المتقدم، فإنه قد بين أن ذلك يخرجه من الباب الذي يختار فيه النصب، فكيف يفهم عنه ترجيحه عليه، والباب مع القراءتين مختلف؟ وإنما يقع الترجيح بعد التساوي في الباب. فالنصب أرجح من الرفع حيث ينبني الاسم على الفعل. والرفع متعين (لا أقول أرجح) حيث بنى الاسم على كلام متقدم.
ثم حقق سيبويه هذا المقدر بأن الكلام واقع بعد قصص وأخبار. ولو كان كما ظنّه الزمخشري، لم يحتج سيبويه إلى تقدير بل كان يرفعه على الابتداء، ويجعل الأمر خبره. فالملخّص على هذا: أن النصب على وجه واحد، وهو بناء الاسم على فعل الأمر. والرفع على وجهين: أحدهما ضعيف وهو الابتداء وبناء الكلام على الفعل. والآخر قوي بالغ كوجه النصب- وهو رفعه على خبر ابتداء محذوف دلّ عليه السياق. وحيثما تعارض لنا وجهان في الرفع، أحدهما قوي والآخر ضعيف، تعيّن حمل القراءة على القوي كما أعربه سيبويه رضي الله عنه. والله أعلم. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٣٩]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩)
فَمَنْ تابَ أي: رجع من السّرّاق إلى الله مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: سرقته وَأَصْلَحَ أي: عمله فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي: يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: مبالغ في المغفرة ولذلك يقبل توبته. وهو تعليل لما قبله.
قال أبو السعود: وإظهار الاسم الجليل للإشعار بعلة الحكم وتأييد استقلال الجملة.
وكذا في قوله عزّ وجل:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٠]
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن عنوان الألوهية مدار أحكام ملكوتهما. والاستفهام لتقرير العلم. والمراد به الاستشهاد بذلك على قدرته تعالى على ما سيأتي من التعذيب والمغفرة على أبلغ وجه وأتمّه. أي: ألم تعلم أن له السلطان القاهر والاستيلاء الباهر المستلزمان للقدرة التامة على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وتقديم التعذيب لأن السياق للوعيد. فيناسب ذلك تقديم ما يليق به من الزواجر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومنه التعذيب والمغفرة.
تنبيه:
ذهب الجمهور إلى أن توبة السارق تسقط عنه حدود الله. وأما حقّ الآدمي من القطع وردّ المال أو بدله فلا يسقط بتوبته.
وقال أبو حنيفة: متى قطع، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد بينت السنة أنه إن عفي عنه قبل الرفع إلى الإمام، سقط القطع.
روى ابن ماجة «١» عن ثعلبة الأنصاري: أن عمر بن سمرة جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إني سرقت جملا لبني فلان فطهّرني. فأرسل إليهم النبي ﷺ فقالوا: إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده.
قال ثعلبة (أحد رجال السند) : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك.
أردت أن تدخلي جسدي النار.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبد الله بن عمرو: أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا. يا رسول الله!
(١) أخرجه ابن ماجة: الحدود، ٢٤- باب السارق يعترف، حديث ٢٥٨٨.
(٢) أخرجه في المسند ٢/ ١٧٧ والحديث رقم ٦٦٥٧.
137
إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها (يعني أهلها) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اقطعوا يدها. فقطعت يدها اليمنى، فقالت المرأة: هل لي من توبة؟ يا رسول الله! قال: نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عز وجل في سورة المائدة: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ.. الآية.
قال ابن كثير: وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت.
وحديثها ثابت في الصحيحين «١» من رواية الزهري عن عائشة أن امرأة سرقت في عهد رسول الله ﷺ في غزوة الفتح. ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه. قال عروة: فلما كلمه أسامة فيها، تلوّن وجه رسول الله ﷺ فقال: أتكلمني في حد من حدود الله؟ قال أسامة:
استغفر لي، يا رسول الله؟
فلما كان العشي قام رسول الله ﷺ خطيبا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد. فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
ثم أمر رسول الله ﷺ بتلك المرأة فقطعت يدها، فحسنت توبتها بعد ذلك.
وتزوجت.
قالت عائشة: فكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لفظ مسلم.
وفي لفظ له «٢» عن عائشة قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي ﷺ بقطع يدها.
وعن ابن عمر. قال: كانت امرأة مخزومية تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده. فأمر رسول الله ﷺ بقطع يدها. رواه الإمام أحمد «٣». وأبو داود والنسائي
، وهذا لفظه.
وفي لفظ له «٤» : إنّ امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا بلال! فخذ بيدها فاقطعها.
(١) أخرجه البخاريّ في: المغازي، ٥٣- باب وقال الليث، حديث ١٢٨٧.
وأخرجه مسلم في: الحدود، حديث ٨ و ٩.
(٢) أخرجه مسلم في: الحدود، حديث ١٠.
(٣) أخرجه في المسند ٢/ ١٥١ والحديث رقم ٦٣٨٣.
وأبو داود في: الحدود، ١٦- باب في القطع في العارية إذا جحدت، حديث ٤٣٩٧.
والنسائي في: السارق، ٥- باب ما يكون حرزا وما لا يكون.
(٤) أخرجه النسائي في: السارق، ٥- باب ما يكون حرزا وما لا يكون. [.....]
138
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤١]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ نهي. قال أبو البقاء: والجيّد فتح الياء وضم الزاي.
ويقرأ بضم الياء وكسر الزاي من (أحزنني) وهي لغة. الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: في إظهاره بما يلوح منهم آثار الكيد للإسلام ومن موالاة الكافرين مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ أي بألسنتهم. متعلّق ب (قالوا) وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وهم المنافقون، أي: لا تبال بهم فإني ناصرك عليهم وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على مِنَ الَّذِينَ قالُوا وهم يهود بني قريظة، كعب وأصحابه سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر لمحذوف، أي: هم سماعون. واللام إما لتقوية العمل، وإما لتضمين السماع معنى القبول، وإما لام كي، والمفعول محذوف والمعنى: هم مبالغون في سماع الكذب الذي افترته أحبارهم أو في قبوله. أو سماعون أخباركم ليكذبوا عليكم بالزيادة والنقص إرجافا وتهويلا.
وفي (الإكليل) : أن قوله تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يدلّ على أن سامع المحظور كقائله في الإثم.
سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: لم يحضروا مجلسك وتجافوا عنه إفراطا في البغضاء. أي: قابلون من الأحبار ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك. قيل: هم يهود خيبر. والسماعون، بنو قريظة يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ أي: كلم التوراة في الأحكام مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي: التي وضعه الله عليها.
قال ابن كثير: أي يتناولونه على غير تأويله، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا أي: إن أوتيتم هذا المحرّف المزال عن مواضعه من جهة الرسول ﷺ فَخُذُوهُ أي: اعملوا به فإنه الحقّ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ. بأن أفتاكم الرسول بخلافه فَاحْذَرُوا أي: من قبوله، وإياكم وإياه! فإنه الباطل والضلال.
139
قال ابن كثير: قيل: نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلا وقالوا تعالوا نتحاكم إلى محمد. فإن حكم بالدية فاقبلوه. وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.
والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا. وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم من الأمر برجم من أحصن منهم. فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم: تعالوا حتى نتحاكم إليه. فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه واجعلوه حجة بينكم وبين الله. ويكون نبيا من أنبياء الله قد حكم بذلك.
وقد وردت الأحاديث بذلك: فروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال «١» : جاءت اليهود إلى رسول الله ﷺ فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم. إنّ فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك. فرفع يده فإذا آية الرجم. فقالوا: صدق، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله ﷺ فرجما. فقال عبد الله بن عمر: فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة.
وأخرجاه في الصحيحين «٢»
. وهذا لفظ الموطأ.
وروى الإمام أحمد «٣» عن البراء بن عازب قال: مرّ على رسول الله ﷺ بيهودي محمّم مجلود. فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقالوا: نعم.
فدعا رجلا من علمائهم فقال: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ فقال: لا، والله! ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم. ولكنه كثر في أشرافنا. فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه.
وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد. فقلنا: تعالوا حتى نجعل شيئا نقيمه على الشريف والوضيع. فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم! إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه قال: فأمر به فرجم قال: فأنزل الله عز وجل:
(١) أخرجه في الموطأ في: الحدود، حديث رقم ١.
(٢) أخرجه البخاري في: الحدود، ٣٧- باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، حديث ٧٠٤.
ومسلم في: الحدود، ٦- باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث ٢٦.
(٣) أخرجه في المسند ٤/ ٢٨٦.
140
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إلى قوله- يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ. أي يقولون: ائتوا محمدا. فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه. وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا. قال الحافظ ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم «١» دون البخاري. أبو داود «٢» والنسائي وابن ماجة «٣». وكذا روى أبو بكر الحميدي في (مسنده) نحوه في سبب نزولها عن جابر. وأبو داود أيضا، عن ابن عمر.
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: ضلالته فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: في دفع ضلالته أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي: من دنس الفتنة ووضر الكفر لانهماكهم فيهما. وإصرارهم عليهما، وإعراضهم عن صرف اختيارهم إلى تحصيل الهداية لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي: فضيحة وهتك ستر، بظهور نفاقهم بالنسبة للمنافقين. وذل وجزية وافتضاح، بظهور كذبهم في كتمان نص التوراة بالنسبة لليهود. وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وهو النار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٢]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أي بالباطل. خبر لمحذوف. وكرر تأكيدا لما قبله وتمهيدا لقوله أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام. وهو الرشوة كما قال ابن مسعود.
قال الزمخشري: السحت كل ما لا يحل كسبه. وهو من (سحته) إذا استأصله. لأنه مسحوت البركة. كما قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:
٢٧٦]. والربا باب منه. وقرئ (السحت) بالتخفيف والتثقيل، و (السحت) بفتح السين على لفظ المصدر من (سحته)، و (السحت) بفتحتين، و (السحت) بكسر السين، وكانوا يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام. انتهى.
وفي (اللباب) : السحت كله حرام تحمل عليه شدة الشره. وهو يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا تكون له بركة ولا لآخذه مروءة ويكون في حصوله عار
(١) أخرجه مسلم في: الحدود، ٦- باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، حديث ٢٨.
(٢) أخرجه أبو داود في: الحدود، ٢٥- باب في رجم اليهوديين، حديث ٤٤٤٧.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: الحدود، ١٠- باب رجم اليهودي واليهودية، حديث ٢٥٥٨.
بحيث يخفيه لا محالة. ومعلوم أن حال الرشوة كذلك. فلذلك حرمت الرشوة على الحاكم
عن أبي هريرة «١» : أن رسول الله ﷺ لعن الراشي والمرتشي في الحكم.
أخرجه الترمذيّ. وأخرجه أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
قال ابن مسعود: الرشوة في كل شيء. فمن شفع شفاعة ليردّ بها حقّا أو يدفع بها ظلما. فأهدي بها إليه، فقبل، فهو سحت. فقيل له: يا أبا عبد الرحمن! ما كنا نرى ذلك إلّا الأخذ على الحكم؟ فقال: الأخذ على الحكم كفر! قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
فَإِنْ جاؤُكَ يعني اليهود لتحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ لأنهم اتخذوك حكما أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحقّ بل ما يوافق أهواءهم، أي: فأنت بالخيار. وقد استدل بالآية من قال: إن الإمام مخيّر في الحكم بين أهل الذمة أو الإعراض عنهم. وعن بعض السلف: إنّ التخيير المذكور نسخ بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. والتحقيق أنها محكمة، والتخيير باق.
وهو مرويّ عن الحسن والشعبيّ والنخعيّ والزهريّ، وبه قال أحمد. لأنه لا منافاة بين الآيتين. فإن قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيه التخيير. وقوله تعالى:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فيه كيفية الحكم، إذا حكم بينهم وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي: فلن يقدروا على الإضرار بك، لأن الله تعالى عاصمك من الناس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أي: بالعدل الذي أمرت به، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي: العادلين فيما ولوا وحكموا.
روى مسلم «٢» عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن. وكلتا يديه يمين. الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٣]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣)
(١) أخرجه الترمذي في: الأحكام، ٩- باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم.
(٢) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٨.
142
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. مع أن الحكم منصوص في كتابهم الذين يدّعون الإيمان به.
قال بعضهم: معنى فِيها حُكْمُ اللَّهِ أي: في المسألة التي تحاكموا فيها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهو حكم الله بحسب اعتقادهم أو بحسب الحقيقة. قال: ووجود هذا الحكم الخاص فيها، لا ينافي القول بوجود أشياء أخرى كثيرة فيها محرفة. وسمّاها التوراة: إما باعتبار عرفهم. أو باعتبار أصلها، أو لاشتمالها على أشياء كثيرة من التوراة الحقيقية. ولولا ذلك ما صحّ أن تسمى بذلك، كالإنجيل، مع اعتقاد تحريفها وتبديلها وعدم صحة كثير من أجزائها وكتبها...
ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد البيان في التوراة، وحكمك الموافق لما في كتابهم وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي: بالتوراة كما يزعمون.
قال الحاكم: وفي الآية دلالة على أنه لا يجوز طلب الرخصة بترك ما يعتقده حقّا إلى ما يعتقده غير حقّ. وقوله تعالى ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يدلّ على أن التولّي عن حكم الله يخرجه عن الإيمان.
قال بعض الزيدية: إذا كره حكم الشرع وطلب حكم المنع، هل ذلك يخرجه عن حكم الإيمان؟ وهذا ينبغي أن يفصل فيه، فيقال: إن اعتقد صحته، أو رأى له مزية أو تعظيما. أو استهان بحكم الإسلام، فلا إشكال في كفره. وإن لم يحصل ذلك منه، بل اعتقد أنه باطل خسيس، وأنه يعظّم شرع الإسلام، ولكن يميل إلى هوى نفسه، فهذا لا يكفر على الظاهر. إذ الكفر يحتاج إلى دليل قاطع.
وفي كلام الحاكم ما تقدم: أنه يخرجه عن الإيمان. فإن أوهم أنه حق أو أنه أصلح من شرع الإسلام، فهذا محتمل للكفر. لأنه كفر إبليس اللعين، بكونه اعتقد أن أمر الله تعالى له بالسجود لآدم، غير صلاح. لكونه خلقه من طين، وإبليس من النار. انتهى.
ثم أشار تعالى إلى حالة اليهود الذين كانوا لا يبالون بالتوراة ويحرّفونها، ويقتلون النبيين، بأنهم خالفوا ما أمرهم الله في شأنها من الهداية بها وصونها عن التحريف، فقال:
143
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي: إرشاد إلى الحق وَنُورٌ أي: إظهار لما أنبههم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من بني إسرائيل الَّذِينَ أَسْلَمُوا أي: الذين كانوا مسلمين من لدن موسى إلى عيسى عليهم السلام. وسنذكر سرّ هذه الصفة لِلَّذِينَ هادُوا وهم اليهود. و (هاد) بمعنى تاب ورجع إلى الحق.
قال المهايميّ: لِلَّذِينَ هادُوا أي: لا لمن يأتي بعدهم. ولم يختص بالحكم بها الأنبياء بل يحكم بها الرَّبَّانِيُّونَ أي: الزهّاد العبّاد وَالْأَحْبارُ أي: العلماء الفقهاء بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ أي: بسبب الذي استودعوه من كتاب الله أن يحفظوه من التغيير والتبديل وأن يقضوا بأحكامه. والضمير في (استحفظوا) للأنبياء والربانيين والأحبار جميعا. ويكون الاستحفاظ من الله، أي: كلفهم حفظه. أو للربانيين والأحبار، ويكون الاستحفاظ من الأنبياء وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ أي: رقباء يحمونه من أن يحوم حوله التغيير والتبديل بوجه من الوجوه. أو بأنه حق وصدق من عند الله. فمعلمو اليهود وعلماؤهم الصالحون لا يفتون ولا يقضون إلا بما لم ينسخ من شريعتهم وما لم يحرف منها، لشيوعه وتداوله وتواتر العمل به.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: قوله تعالى: الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيين على سبيل المدح. كالصفات الجارية على القديم سبحانه. لا للتفصلة والتوضيح. وأريد بإجرائها التعريض باليهود، وأنهم بعداء من ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث، وأن اليهودية بمعزل منها. انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وإنما بعثه على حمل هذه الصفة على المدح دون التفصلة والتوضيح، أنّ الأنبياء لا يكونون إلّا متّصفين بها. فذكر النبوّة يستلزم ذكرها. فمن ثمّ حملها على المدح، وفيه نظر. فإن المدح إنما يكون غالبا بالصفات الخاصة التي يتميّز بها الممدوح عمن دونه. والإسلام أمر عام يتناول أمم الأنبياء
144
ومتبعيهم كما يتناولهم. ألا ترى أنه لا يحسن في مدح النبيّ ﷺ أن يقتصر على كونه رجلا مسلما؟ فإن أقل متبعيه كذلك. فالوجه- والله أعلم- أن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها ولينوّه بها إذا وصف بها عظيم القدر. كما يكون ثبوتها بقدر موصوفها. فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. وعلى هذا الوصف جرى وصف الأنبياء بالصلاح في قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢] وأمثاله. تنويها بمقدار الصلاح. إذ جعل صفة الأنبياء. وبعثا لآحاد الناس على الدأب في تحصيل صفته. وكذلك قيل في قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر: ٧] فأخبر، عن الملائكة المقربين، بالإيمان. تعظيما لقدر الإيمان وبعثا للبشر على الدخول فيه، ليساووا الملائكة المقربين في هذه الصفة. وإلّا فمن المعلوم أن الملائكة مؤمنون ليس إلّا.
ولهذا قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني من البشر لثبوت حقّ الأخوة في الإيمان بين الطائفتين فكذلك- والله أعلم- جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به. لقد أحسن القائل في أوصاف الأشراف، والناظم في مدحه صلى الله عليه وسلم:
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي فلقد مدحت قصيدتي بمحمّد
والإسلام، وإن كان من أشرف الأوصاف، إذ حاصله معرفة الله تعالى بما يجب له ويستحيل عليه ويجوز في حقه، إلّا أن النبوة أشرف وأجلّ، لاستعمالها على عموم الإسلام مع خواص المواهب التي لا تسعها العبارة. فلو لم نذهب إلى الفائدة المذكورة في ذكر الإسلام بعد النبوة، في سياق المدح، لخرجنا عن قانون البلاغة المألوف في الكتاب العزيز، وفي كلام العرب الفصيح، وهو الترقي من الأدنى إلى الأعلى، لا النزول على العكس. ألا ترى أن أبا الطيب كيف تزحزح عن هذا المهيع في قوله:
شمس ضحاها هلال ليلتها درّ تقاصيرها زبرجدها!
فنزل عن الشمس إلى الهلال، وعن الدر إلى الزبرجد في سياق المدح.
فمضغت الألسن عرض بلاغته، ومزقت أديم صيغته. فعلينا أن نتدبّر الآيات المعجزات، حتى يتعلق فهمنا بأهداب علوّها في البلاغة المعهود لها. والله الموفق.
وقوله تعالى فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ قال الزمخشريّ: نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم وإدهانهم فيها، وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل
145
لخشية سلطان ظالم، أو خيفة أذية أحد من القرباء والأصدقاء.
وقال أبو السعود: خطاب لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الالتفات. وأما حكام المسلمين فيتناولهم النهي بطريق الدلالة دون العبارة. والفاء لترتيب النهى على ما فصل من حال التوراة وكونها معتنى بشأنها فيما بين الأنبياء عليهم السلام، ومن يقتدي بهم من الربانيين والأحبار المتقدمين عملا وحفظا. فإن ذلك مما يوجب الاجتناب عن الإخلال بوظائف مراعاتها والمحافظة عليها بأيّ وجه كان. فضلا عن التحريف والتغيير. ولما كان مدار جراءتهم علي ذلك، خشية ذي سلطان أو رغبة في الحظوظ الدنيوية، نهوا عن كل منهما صريحا، أي إذا كان شأنها كما ذكر فلا تخشوا الناس كائنا من كانوا، واقتدوا في مراعاة أحكامها وحفظها بمن قبلكم من الأنبياء وأشياعهم وَاخْشَوْنِ في مخالفة أمري والإخلال بحقوق مراعاتها وَلا تَشْتَرُوا أي تستبدلوا بِآياتِي أي التي فيها، بأن تتركوا العمل بها وتأخذوا لأنفسكم بدلا منها ثَمَناً قَلِيلًا
من الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس، فإنها- وإن جلّت- قليلة مسترذلة في نفسها، لا سيما بالنسبة إلى ما فات عنهم بترك العمل بها وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي كائنا من كان، دون المخاطبين خاصة، فإنهم مندرجون فيه اندراجا أوليّا. أي: من لم يحكم بذلك مستهينا به، منكرا له كما يقتضيه ما فعلوه اقتضاء بيّنا فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به. والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبلها أبلغ تقرير، وتحذير عن الإخلال به أشدّ تحذير. حيث علق فيه الحكم بالكفر بمجرد ترك الحكم بنا أنزل الله تعالى. فكيف وقد انضمّ إليه الحكم بخلافه؟ لا سيما مع مباشرة ما نهوا عنه من تحريفه ووضع غيره موضعه، وادعاء أنه من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. قاله أبو السعود.
تنبيهات:
الأول: في قوله تعالى فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ دلالة على أنّ على الحاكم أن لا تأخذه في الله لومة لائم.
الثاني: في قوله تعالى وَلا تَشْتَرُوا... إلخ دلالة على تحريم الرشا على التبديل. وكتمان الحقّ، وأنّ فعل ذلك، لغرض دنيوي من طلب جاه، أو مال- محرّم.
الثالث: في قوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية، تغليظ في الحكم بخلاف المنصوص عليه، حيث علق عليه الكفر هنا، والظلم والفسق بعد.
146
الرابع: ما أخرجه مسلم «١» عن البراء: أن قوله تعالى وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ. الثلاث الآيات في الكفار كلها. وكذا ما أخرجه أبو داود عن ابن عباس: أنها في اليهود خاصة، قريظة والنضير- لا ينافي تناولها لغيرهم، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا يخصص السبب، وكلمة مِنْ وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم.
الخامس: كفر الحاكم بغير ما أنزل بقيد الاستهانة به والجحود له، هو الذي نحاه كثيرون وأثروه عن عكرمة وابن عباس.
وروى الحاكم وابن أبي حاتم وعبد الرازق عن ابن عباس وطاوس: أن من لم يحكم بما أنزل الله، هي به كفر، وليس بكفر ينقل عن الملة. كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ونحو هذا روى الثوريّ، عن عطاء قال: هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير «٢».
ونقل في (اللباب) عن ابن مسعود والحسن والنخعيّ: أن هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة، فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق. وإليه ذهب السدّيّ. لأنه ظاهر الخطاب. ثم قال: وقيل: هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عيانا عمدا، وحكم بغيره. وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل، فلا يدخل في هذا الوعيد.. انتهى.
وقال إسماعيل القاضي في (أحكام القرآن) : ظاهر الآيات يدل على أن من فعل مثل ما فعلوا- يعني اليهود- واخترع حكما يخالف به حكم الله، وجعله دينا يعمل به فقد لزمه مثل ما لزمهم من الوعيد المذكور، حاكما كان أو غيره.
السادس: روي سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات.
أخرج الإمام أحمد «٣» عن ابن عباس قال: إن الله أنزل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وفَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ في الطائفتين من اليهود. وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا أو اصطلحوا على أن كل قتيل قتله العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل
(١) أخرجه في: الحدود، حديث ٢٨.
(٢) عن ابن عباس: الأثر ١٢٠٥٣ و ١٢٠٥٤ و ١٢٠٥٥.
وعن طاوس: الأثر ١٢٠٥٢ و ١٢٠٥٦.
وعن عطاء: الأثر ١٢٠٤٧.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٢٤٥ والحديث رقم ٢٢١٢.
147
قتيل قتله الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق. فكانوا على ذلك حتى قدم النبيّ ﷺ المدينة، فذلّت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويومئذ لم يظهر ولم يوطئهما عليه وهو في الصلح. فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا. فأرسلت العزيزة إلى الذليلة: أن ابعثوا لنا بمائة وسق، فقالت الذليلة: وهل كان في حيين قط، دينهما واحد ونسبهما واحد، وبلدهما واحد، دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنا إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم. فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهما، ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله ﷺ بينهم. ثم ذكرت العزيزة فقالت والله! ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منهم، ولقد صدقوا، ما أعطونا هذا إلّا ضيما منا وقهرا لهم. فدسّوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه.
إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه، فدسّوا إلى رسول الله ﷺ ناسا من المنافين ليخبروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما جاءوا رسول الله ﷺ أخبر الله رسوله ﷺ بأمرهم كلّه وما أرادوا. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ- إلى قوله- الْفاسِقُونَ ثم قال:
فيهما، والله! نزلت، وإياهم عنى الله عز وجلّ. ورواه أبو داود بنحوه.
وروى ابن جرير «١» من طريق أخرى عن ابن عباس قال: إن الآيات في المائدة قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ- إلى- الْمُقْسِطِينَ إنما أنزلت في الدية في بني النضير وبني قريظة. وذلك أن قتلى بني النضير، وكان لهم شرف يؤدّي الدية كاملة. وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية. فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله ذلك فيهم. فحملهم رسول الله ﷺ على الحق في ذلك، فجعل الدية في ذلك سواء. ورواه أحمد وأبو داود والنسائي بنحوه.
وروى ابن جرير «٢» أيضا عن ابن عباس قال: كانت قريظة والنضير. وكانت النضير أشرف من قريظة. فكان إذا قتل القرظيّ رجلا من النضير قتل به. وإذا قتل النضيري رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من تمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة. فقالوا: ادفعوه إليه، فقالوا: بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت: وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ورواه أبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم في (المستدرك) بنحوه.
وهكذا قال قتادة ومقاتل بن حيان وغير واحد.
(١) الأثر رقم ١١٩٧٤ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١١٩٨٥ من التفسير.
148
وقد روى العوفيّ وعليّ بن أبي طلحة الوالبيّ عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، كما تقدمت الأحاديث بذلك، وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد. فنزلت هذه الآيات في ذلك كله، والله أعلم. انتهى كلام ابن كثير.
وقد أسلفنا في (المقدمة) في بحث سبب النزول، ما يزيل الإشكال في تعدد السبب. فتذكر. ومما يقوي أن سبب النزول قضية القصاص- كما قال ابن كثير- قوله تعالى بعد ذلك:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي: فرضنا على اليهود في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
أي: مقتولة بها إذا قتلتها بغير حق وَالْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي:
ذات قصاص، أي: يقتص فيها إذا أمكن. كاليد والرجل والذكر ونحو ذلك وإلا- ككسر عظم وجرح لحم مما لا يمكن الوقوف على نهايته- فلا قصاص، بل فيه حكومة عدل.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية مما وبّخت به اليهود أيضا وقرّعت عليه. فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس، وقد خالفوا حكم ذلك عمدا وعنادا. فأقادوا النضريّ من القرظيّ، ولم يقيدوا القرظيّ من النضريّ. وعدلوا إلى الدية كما خالفوا حكم التوراة في رجم الزاني المحصن، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار، ولهذا قال هناك: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، لأنهم جحدوا حكم الله قصدا منهم وعنادا وعمدا. وقال هاهنا- في تتمة الآية فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه. فخالفوا وظلموا، وتعدوا على بعضهم بعضا- أفاده ابن كثير.
149
الثاني- قوله تعالى: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والمعطوفات بعده، كلها قرئت منصوبة ومرفوعة، والرفع للعطف على محل أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لأن المعنى: وكتبنا عليهم النفس بالنفس، إما لإجراء (كتبنا) مجرى (قلنا) وإما لأن معنى الجملة التي هي قولك (النّفس بالنّفس) مما يقع عليه (الكتب) كما تقع عليه (القراءة)، تقول:
كتبت الحمد لله، وقرأت سورة أنزلناها. ولذلك قال الزجاج: لو قرئ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بالكسر لكان صحيحا. كذا في (الكشاف). وقد توسع الخفاجيّ في (العناية) في بحث الرفع- هنا- على عادته في النحويات فانظره إن شئت.
روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ «١» والحاكم عن أنس بن مالك: أن رسول الله ﷺ قرأ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ نصب النفس ورفع العين، قال الترمذيّ: حسن غريب. وقال البخاريّ: تفرد ابن المبارك بهذا الحديث.
الثالث: استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا- إذا حكي مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عن الجمهور، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الأسفرايينيّ عن نص الشافعيّ وأكثر أصحابه- بهذه الآية. حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة. وقال الحسن البصريّ: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم. وقد حكى الإمام أبو منصور بن الصباغ في كتابه (الشامل) اجتماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.
الرابع: قال ابن كثير: احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة. بعموم هذه الآية الكريمة. وكذا
ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله ﷺ كتب في كتاب عمرو بن حزم «٢» : أن الرجل يقتل بالمرأة.
وفي الحديث الآخر «٣» : المسلمون تتكافأ دماؤهم
. وهذا قول جمهور العلماء.
(١) أخرجه الترمذي في: القراءات، ١- حدثنا علي بن حجر. [.....]
(٢) أخرجه الإمام مالك في الموطأ: الأمر بالوضوء لمن مس القرآن، الحديث رقم ١.
(٣) أخرجه أبو داود في: الديات، ١١- باب أيقاد المسلم بالكافر، حديث رقم ٤٥٣٠ ونصه: عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والأشتر إلى علي عليه السلام. قلنا: هل عهد إليك رسول الله ﷺ شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا. إلا ما في كتابي هذا. قال، فأخرج كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه: «المؤمنون تكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه. ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
150
وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وحكي عن الحسن وعثمان البستيّ، ورواية عن أحمد، أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها، بل يجب ديتها
. وهكذا احتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أن يقتل المسلم بالكافر الذميّ، وعلى قتل الحرّ بالعبد. وقد خالفه الجمهور فيهما.
ففي (الصحيحين) «١» عن أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقتل مسلم بكافر.
وأما العبد، ففيه عن السلف آثار متعددة. إنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحرّ، ولا يقتل حرّ بعبد. وجاء في ذلك أحاديث لا تصح. وحكى الشافعيّ الإجماع. على خلاف قول الحنفية في ذلك. انتهى.
وقال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآية مشروعية القصاص في النفس والأعضاء والجروح بتقدير شرعنا. كما
قال ﷺ في حديث أنس «٢» : كتاب الله القصاص
واستدل بعموم (النفس بالنفس) من قال بقتل المسلم بالكافر، والحرّ بالعبد، والرجل بالمرأة. وأجاب ابن الفرس بأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود المكتوب ذلك عليهم في التوراة كانوا ملة واحدة ليسوا منقسمين إلى مسلم وكافر، وكانوا أحرارا لا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبيّ ﷺ بين سائر الأنبياء. لأن الاستعباد من الغنائم. ولم تحلّ لغيره. وعقد الذمة لبقاء الكفار. ولم يقع ذلك في عهد نبيّ. بل كان المكذبون يهلكون جميعا بالعذاب.
وأخّر ذلك في هذه الأمة رحمة. وهذا جواب مبين.
وقوله وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ استدل به في كل جرح قيل بالقصاص فيه- كاللسان والشفة وشجاج الرأس والوجه وسائر الجسد- وعلى أن نتف الشعر والضرب لا قصاص فيه، إذ ليس بجرح. انتهى.
(١)
أخرجه البخاري في: العلم، ٣٩- باب كتابة العلم، حديث ٩٥، ونصه: عن أبي جحيفة قال، قلت لعليّ: هل عندكم كتاب؟ قال: إلّا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة.
قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال «العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الصلح، ٨- باب الصلح في الدية، حديث ١٣٠٦ ونصه: عن أنس أن الرّبيّع، وهي ابنة النضر، كسرت ثنيّة جارية. فطلبوا الأرش. وطلبوا العفو فأبوا. فأبوا النبيّ ﷺ فأمرهم بالقصاص.
فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنيّة الرّبيّع؟ يا رسول الله! لا. والذي بعثك الحق! لا تكسر ثنيّتها.
فقال «يا أنس! كتاب الله القصاص». فرضي القوم وعفوا.
فقال النبيّ ﷺ «إن من عباد الله، من لو أقسم على الله لأبرّه»
.
151
وقال بعض الزيدية في (تفسيره) : مذهب أئمة أهل البيت ومالك والشافعيّ أنه لا يقتل المسلم بالكافر. وقال أبو حنيفة: يقتل به، لا بالحربيّ ولا بالمستأمن من الحربيين أخذا بعموم الآية. قلنا: هي مخصصة بقوله في سورة الحشر: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ. وهذا يقتضي نفي المساواة عموما. قالوا: أراد (في الآخرة). قلنا: قال الله: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: ١٤١]. قالوا: ليس هذا على عمومه فإن له أخذ الدّين منه، وذلك سبيل.
قلنا:
قال صلى الله عليه وسلم: لا يقتل مؤمن بكافر
. فعمّ. قالوا: أراد بكافر حربيّ. بدليل أن في آخر الخبر: ولا ذو عهد في عهد. والمعنى: لا يقتل المؤمن ولا الكافر الذي عوهد، بالكافر الذي لا عهد له. قلنا: قد تمت الجملة الأولى وهي قوله عليه السلام: لا يقتل المؤمن بكافر. وأما قوله: ولا ذو عهد في عهده، فهذه جملة أخرى. يريد: لا يقتل ما دام في العهد. مع أن الحديث إن احتمل أنها جملة واحدة فالمراد: لا يقتل مؤمن بأحد من الكفار عموما. وكذلك المعاهد لا يقتل بأحد من الكفار عموما. فقامت الدلالة على أن المعاهد، يقتل ببعض الكفار. وبقي المؤمن على عمومه. وما قلنا مرويّ عن عليّ عليه السلام وعمر وعثمان وزيد بن ثابت. وقد رجع عمر إلى هذا لما أنكر عليه عليّ عليه السلام وزيد. وهذه المخصصات تخصص ما ورد من العمومات في هذه المسألة. انتهى.
الخامس: عموم قوله تعالى وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ كعموم قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. فما خصص ذلك العام، خصصه هنا، لكن ننبه على أطراف:
منها-: أن اليسرى لا تؤخذ باليمنى، والوجه عدم المساواة.
ومنها-: عين الأعور تؤخذ بعين الصحيح على ما نصه في (الأحكام)، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعيّ لعموم الآية. وقال في (المنتخب) ومالك: لا تؤخذ، لأن نورها أكثر فتطلب المساواة. واحتجوا بأنه مرويّ عن عليّ عليه السلام وعمر وابن عمر وعثمان قال في (الشرح) : وكان الإمام يحيى لا يصحح هذه الرواية عن عليّ عليه السلام.
ومنها-: في كيفية القصاص. فإن قلعت العين ثبت القصاص بالقلع. وإن ضرب حتى ذهب بصره ثبت القصاص. قال في (التهذيب) : فقيل: بالقلع. وقيل:
تحمى حديدة ثم تقرب من عينه.
وأما قوله تعالى: وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ فالكلام في عمومه كما تقدم. ويذكر هنا تنبيه، وهو أن القصاص إنما يكون إذا استؤصلت. لأن ذلك كالمفصل، لا إذا قطع بعضها.
152
والعموم في قوله تعالى: وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ أيضا كما تقدم. والقصاص: إذا قطعت من أصلها لا إذا قطع البعض. ولا تؤخذ أذن الصحيح بأذن الأصمّ.
وكذا عموم قوله تعالى وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ والقصاص: إذا قلع من أصله. ولا بد من المساواة. فلا يؤخذ الصحيح بالأسود ولا بالمكسور. ولا الثنية بالضرس. ونحو ذلك. كما لا تؤخذ اليمنى باليسرى.
وأما قوله تعالى وَالْجُرُوحَ فهذا فيما تمكن فيه المساواة، ويؤمن على النفس لتحرج الأمة.
كذا في (تفسير بعض الزيدية). وتتمة فقه هذه الآية يرجع فيه إلى مطولات كتب السنة وشروحها.
وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ أي: من المستحقين بِهِ أي: بالقصاص. أي:
فمن عفا عن الجاني. والتعبير عنه بالتصدق للمبالغة في الترغيب فَهُوَ أي:
التصدق، كَفَّارَةٌ لَهُ أي: للمتصدق يكفر الله بها ذنوبه. وقيل: فهو كفارة للجاني، إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه. وهذا التأويل الثاني روي عن كثير من السلف. كما أخرجه أبن أبي حاتم. واللفظ محتمل. إلّا أن الأخبار الواردة في فضل العفو تشهد للأول.
روى الإمام أحمد «١» عن الشعبيّ أن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من رجل يجرح في جسده جراحة فيتصدق بها إلّا كفّر الله عنه مثل ما تصدّق به. ورواه النسائي أيضا.
وروى الإمام أحمد «٢» عن رجل من أصحاب النبيّ ﷺ قال: من أصيب بشيء من جسده فتركه لله، كان كفارة له.
وروى الإمام ابن جرير «٣» عن أبي السفر قال: دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار. فاندقّت ثنيّته. فرفعه الأنصاريّ إلى معاوية. فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية: شأنك وصاحبك. قال، وأبو الدرداء عند معاوية. فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيهبه، إلّا رفعه الله به
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٣١٦.
(٢) لم أهتد إلى هذا الحديث.
(٣) الأثر رقم ١٢٠٨٠ من التفسير.
153
درجة وحطّ عنه به خطيئة. فقال الأنصاري: أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:
سمعته أذناي ووعاه قلبي. فخلّى سبيل القرشيّ. فقال له معاوية: مروا له بمال.
ورواه الإمام أحمد «١» أيضا عن أبي السفر قال: كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار. فاستعدى عليه معاوية. فقال القرشيّ: إن هذا دق سني، فقال معاوية:
كلّا. إنا سنرضيه. قال فلما ألح عليه الأنصاري. قال معاوية: شأنك بصاحبك- وأبو الدرداء جالس- فقال أبو الدرداء: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده، فيتصدق به، إلا رفعه الله به درجة وحط عنه بها خطيئة. قال فقال الأنصاري: أنت سمعت هذا من رسول الله ﷺ قال: نعم. سمعته أذناي ووعاه قلبي. يعني فعفا عنه الأنصاريّ. وهكذا رواه الترمذيّ
وقال: غريب، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لأنهم حكموا بخلاف حكم الله العدل. وتقدم في أول التنبيهات الخمس، قريبا، سرّ التعبير هاهنا ب (الظالمون) قبله ب (الكافرين) فتذكّر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٦]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦)
وَقَفَّيْنا أي أتبعنا عَلى آثارِهِمْ يعني أنبياء بني إسرائيل بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: أرسلناه عقبهم مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أي: مؤمنا بها حاكما بما فيها وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً أي إلى الحق وَنُورٌ أي: بيان للأحكام وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ أي: لما فيها من الأحكام. وتكرير ذلك لزيادة التقرير.
قال ابن كثير: أي متبعا لها غير مخالف لما فيها، إلا في القليل. مما بيّن لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارا عن المسيح. أن قال لبني إسرائيل: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ. ولهذا كان المشهور من قول العلماء: إن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة.
(١) أخرجه في المسند ٦/ ٤٤٨.
وأخرجه الترمذي في: الديات، ٥- باب ما جاء في العفو.
وَهُدىً وَمَوْعِظَةً أي: زاجر عن ارتكاب المحارم والمآثم لِلْمُتَّقِينَ أي:
لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه. وتخصيص كونه هدى وموعظة بالمتقين، لأنهم المهتدون بهداه والمنتفعون بجدواه.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٧]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أمر مبتدأ لهم، بأن يحكموا ويعملوا بما فيه من الأمور التي من جملتها: دلائل رسالته عليه الصلاة والسلام، وشواهد نبوّته. وقيل: هو حكاية للأمر الوارد عليهم. بتقدير فعل معطوف على (ءاتيناه) :
وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وقرئ (وليحكم) بالنصب على أن اللام (لام كي) أي:
آتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم.
قال بعض المحققين: وإنما خص أهل الإنجيل بالذكر، لبيان أن الإنجيل لم ينزله الله للأمم كافة وأن شريعته ليست باقية لكل زمان. لأن بعثة عيسى عليه السلام كانت خاصة بالأمة اليهودية.
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحقّ.
تنبيه:
في هذه الآية والآيتين المتقدمتين، من الوعيد ما لا يقادر قدره. وقد تقدم أنّ هذه الآيات، وإن نزلت في أهل الكتاب، فليست مختصة بهم، بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، اعتبارا بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ويدخل فيه السبب دخولا أوليّا.
وفي (فتح البيان) في تفسير هذه الآيات، مباحث نادرة سابغة الذيل. فلتراجع.
ولما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه، وأثنى عليها وأمر باتباعها، ثم ذكر الإنجيل ومدحه وأمر باتباعه- شرع في التنويه بالقرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٨]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي: الفرد الكامل الحقيق بأن يسمى كتابا على الإطلاق. لحيازته جميع الأوصاف الكمالية لجنس الكتاب السماويّ، وتفوّقه على بقية أفراده، وهو القرآن الكريم. فاللام للعهد. أفاده أبو السعود.
بِالْحَقِّ أي الصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ بيان ل (ما). و (اللام) للجنس. يعني: أنه يصدّق جميع الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه من قبله. وإنما قيل (لما قبل الشيء) : هو بين يديه، لأن ما تأخر عنه يكون وراءه وخلفه. فما تقدم عليه يكون قدامه وبين يديه وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي: مؤتمنا عليه وشهيدا وحاكما على ما قبله من الكتب.
قال ابن جريج: القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله، فما وافقه منا فهو حقّ، وما خالفه منها فهو باطل.
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي: بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي:
بما بيّن الله لك في القرآن.
قال في (الإكليل) : هذا ناسخ للحكم بكل شرع سابق. ففيه أنّ أهل الذمة إذا ترافعوا إلينا يحكم بينهم بأحكام الإسلام. لا بمعتقدهم. ومن صور ذلك عدم ضمان الخمر ونحوه. انتهى.
وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ نهى أن يحكم بما حرفوه أو بدّلوه.
اعتمادا على قولهم. ضمّن وَلا تَتَّبِعْ معنى (ولا تنحرف) فلذا عدي ب (عن) فكأنه قيل: ولا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم. أو التقدير: عادلا عمّا جاءك. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً أي: شريعة موصلة إلى الله وَمِنْهاجاً أي:
طريقا واضحا في الدين، تجرون عليه.
156
قال ابن كثير: هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام، المتفقة في التوحيد. كما
ثبت في (صحيح البخاريّ) «١» عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات. ديننا واحد
. يعني بذلك، التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله. كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: ٢٥]. وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦] الآية.
وقال أبو السعود: قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً كلام مستأنف جيء به لحمل أهل الكتابين، من معاصريه صلى الله عليه وسلم، على الانقياد لحكمه بما أنزل إليه من القرآن الكريم. ببيان أنه هو الذي كلفوا العمل به دون غيره من الكتابين، وإنما الذي كلفوا العمل بهما من مضى قبل نسخهما من الأمم السالفة. والخطاب بطريق التلوين والالتفات للناس قاطبة، لكن لا للموجودين خاصة، بل للماضين أيضا بطريق التغليب. والمعنى: لكل أمة كائنة منكم. أيها الأمم الباقية والخالية، جعلنا- أي عيّنا ووضعنا- شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة. لا تكاد أمة تتخطى شرعتها التي عيّنت لها. فالأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام شرعتهم التوراة. والتي كانت من مبعث عيسى إلى مبعث النبيّ عليهما الصلاة والسلام شرعتهم الإنجيل. وأما أنتم أيها الموجودون فشرعتكم القرآن ليس إلّا. فآمنوا به واعملوا بما فيه.
وفي (الإكليل) : استدلّ بهذه الآية من قال: إنّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا.
وبقوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ... الآية، من قال: إنه شرع لنا ما لم يرد ناسخ. واستدلّ بالآية. أيضا من قال: إن الكفر ملل لا ملة واحدة، ولم يورّث اليهود من النصارى شيئا. انتهى.
قال النسفيّ: ذكر الله إنزال التوراة على موسى عليه السلام. ثم إنزال الإنجيل على عيسى عليه السلام. ثم إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم. وبيّن أنه ليس للسماع فحسب، بل للحكم به. فقال في الأول: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ وفي الثاني.
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها، حديث ١٦١٧ ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدينا والآخرة. والأنبياء إخوة لعلّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»
.
157
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ وفي الثالث: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: جماعة متفقة على شريعة واحدة وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ متعلق بمحذوف يستدعيه النظام. أي: ولكن جعلكم أمما مختلفة ليختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة. هل تتركون ما ألفتم منها لما أحدث منها مذعنين له، معتقدين أن خلافه لها بمقتضى المشيئة الإلهية المبنية على أساس الحكم البالغة، والمصالح النافعة لكم في المعاش والمعاد؟ أو تزيغون عن الحق، وتتبعون الهوى، وتستبدلون المضرة بالجدوى، وتشترون الضلالة بالهدى؟
وبهذا اتضح أن مدار عدم المشيئة المذكورة ليس مجرد الابتلاء. بل العمدة في ذلك ما أشير إليه من انطواء الاختلاف على ما فيه مصلحتهم معاشا ومعادا، كما ينبئ عنه قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي: إذا كان الأمر كما ذكر، فسارعوا إلى ما هو خير لكم في الدارين من العقائد الحقة والأعمال الصالحة المندرجة في القرآن الكريم، وابتدروها انتهازا للفرصة وإحرازا لسابقة الفضل والتقدم. ففيه من تأكيد الترغيب في الإذعان للحق، وتشديد التحذير عن الزيغ، ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.
وقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف مسوق مساق التعليل لاستباق الخيرات بما فيه من الوعد والوعيد. أي: مصيركم، ومعادكم- أيها الناس- إليه يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أي: فيخبركم بما لا تشكّون معه من الجزاء الفاصل بين محقكم ومبطلكم، وعاملكم ومفرّطكم في العمل. كذا في (الكشاف).
فالإنباء مجاز عن المجازاة، وإنما عبر عنها به، لوقوعه موقع إزالة الاختلاف التي هي وظيفة الإنباء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٤٩]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على (الكتاب) أي: أنزلنا إليك الكتاب والحكم بما فيه. أو على (الحق) أي: أنزلناه بالحق وب (أن احكم) ويجوز أن يكون جملة، بتقدير: وأمرنا أن احكم. وفي التعرض لعنوان إنزاله تعالى إياه،
158
تأكيد لوجوب الامتثال، وتمهيد لما يعقبه من قوله وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي: يصرفوك عنه. وإظهار الاسم الجليل لتأكيد الأمر بتهويل الخطب. كإعادة (ما أنزل الله) فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: عن الحكم المنزل وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني بذنب التولّي عن حكم الله، وإرادة خلافه، فوضع (ببعض ذنوبهم) موضع ذلك. وأراد: أن لهم ذنوبا جمة كثيرة العدد. وأن هذا الذنب- مع عظمه- بعضها وواحد منها.. وهذا الإبهام لتعظيم التولي، واستسرافهم في ارتكابه، ونحو (البعض) في هذه الكلام ما في قول لبيد. (أو يرتبط بعض النفوس حمامها..!) أراد نفسه. وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام. كأنه قال: نفسا كبيرة ونفسا أيّ نفس. فكما أن التنكير يعطي معنى التكبير وهو معنى البعضية، فكذلك إذا صرح بالبعض. كذا في (الكشاف).
وفي (الحواشي) : ومثل هذا قوله تعالى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣]. أراد محمدا ﷺ وقيل: ذلك من الخصوص الذي أريد به العموم وقيل: أراد العذاب في الدنيا. وأما في الآخرة فإنه يعذب بجميع الذنوب. ولقد تلطف القائل:
وأقول بعض الناس عنك كناية خوف الوشاة، وأنت كلّ الناس
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ أي: المتمردون في الكفر معتدون فيه وهذا تسجيل عليهم بالمخالفة. يعني: إن التولّي عن حكم الله من التمرد العظيم والاعتداء في الكفر. والجملة اعتراض تذييليّ مقرر لمضمون ما قبله. ونظيرها قوله تعالى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف: ١٠٣]. وقوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: ١١٦].
روى ابن جرير «١» وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال كعب بن أسد، وابن صلوما، وعبد الله بن صوريا، وشاس بن قيس بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد! إنك قد عرفت أنّا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم. وأنا- إن اتبعناك- اتبعنا يهود، ولم يخالفونا. وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن لك ونصدقك. فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ. الآية.
(١) الأثر رقم ١٢١٥٠ من التفسير.
159
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي: يريدون منك.
قال أبو السعود: إنكار وتعجيب من حالهم وتوبيخ لهم و (الفاء) للعطف على مقدر يقتضيه المقام. أي: أيتولون عن حكمك فيبغون حكم الجاهلية. وتقديم المفعول للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار والتعجيب. لأن التولّي عن حكمه صلى الله عليه وسلم.
وطلب حكم آخر، منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب. والمراد ب (الجاهلية) إمّا الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، الموجبة للميل والمداهنة في الأحكام فيكون تعييرا لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم، يبغون حكم الجاهلية التي هي هوى وجهل لا يصدر عن كتاب ولا يرجع إلى وحي. وإما أهل الجاهلية، وحكمهم ما كانوا عليه من التفاضل فيما بين القتلى. انتهى.
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً أي: قضاء لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: ينظرون بنظر اليقين إلى العواقب. والاستفهام إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه تعالى أو مساويا له.
قال ابن كثير: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم- المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شرّ- وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن جنكزخان الذي وضع لهم (الياسق) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن فعل ذلك منهم فهو. كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله.
فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. قال الله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أي:
يبتغون ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن، وعلم أن الله تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها؟ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء. روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية. وكان طاوس إذا سأله رجل:
160
أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ.. الآية.
وروى الطبرانيّ: عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبغض الناس إلى الله عزّ وجل من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية، وطالب دم امرئ بغير حق ليريق دمه. ورواه البخاري»
بزيادة. انتهى. كلام ابن كثير.
قال بعض مفسّري الزيدية: اشتمل قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ إلى قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ على عشرين وجها من التأكيد في ملازمة شريعة نبيّنا ﷺ التي أنزلها الله تعالى، واختارها لأمته، واستأثر بكثير من أسرارها فلم يطّلع عليها، وما أشدّ امتثال ما تضمّنته؟ وكيف الخروج عن عهدته خصوصا على الأئمة والحكام؟ ولن يحصل ذلك حتى يلجم نفسه بلجام الحق، ويعزل عن نفسه مطالعة الخلق، لهذه الجملة. لا يقال: إنه ﷺ معصوم لا يتبع أهواءهم، فكيف نهى عما يعلم الله أنه لا يفعله؟ قال الحاكم: ذلك مقدور له، فيصحّ النهي وإن علم أنه لا يفعله. وقيل: الخطاب له والمراد غيره. كذلك لا يقال:
قوله فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يخرج من ذلك القياس. لأن ذلك- إن جعل خطابا له عليه الصلاة والسلام- فلم يكن متعبّدا بالقياس. وإن كان خطابا للكل فالقياس ثابت بالدليل فهو بمثابة المنزل. هكذا ذكر الحاكم. والأكثر: أنه يجوز منه عليه الصلاة والسلام الاجتهاد، ومنعه آخرون. وقوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قد يستدل به على أن الواجبات على الفور. وهو محتمل. لأن المراد قبل أن يسبق عليكم الموت. انتهى.
وفي (الإكليل) : استدلّ به على أن تقديم العبادت أول وقتها أفضل من تأخيرها. انتهى.
وقد روى مسلم «٢» عن ابن مسعود عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبرّ الوالدين.
وروى أبو داود «٣» والترمذي والحاكم عن أم فروة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها.
(١)
أخرجه البخاري في: الديات، ٩- باب من طلب دم امرئ بغير حق، حديث ٢٥٢٥ ونصه: عن ابن عباس أن النبيّ ﷺ قال «أبغض الناس إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطّلب دم امرئ بغير حق ليهريق دمه»
. (٢) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٤٠.
(٣) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ٩- باب في المحافظة على وقت الصلوات حديث ٤٢٦.
161
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ أي: لا يتخذ أحد منكم أحدا منهم وليّا، بمعنى: لا تصافوهم ولا تعاشروهم مصافاة الأحباب ومعاشرتهم.
قال المهايميّ: إذا كان تودد أهل الكتاب لرسول الله ﷺ لقصد افتتانه عن بعض ما أنزل الله مع غاية كماله، فكيف حال من يتودد إليهم من المؤمنين؟ انتهى.
ووصفهم بعنوان (الإيمان) لحملهم من أول الأمر على الانزجار عما نهوا عنه.
فإن تذكير اتصافهم بضد صفات الفريقين، من أقوى الزواجر عن موالاتهما.
بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إيماء إلى علة النهي. أي: فإنهم متفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين. وإجماعهم على مضادتكم. فما لمن دينه خلاف دينهم ولموالاتهم!! وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: من جملتهم.
وحكمه حكمهم وإن زعم أنه مخالف لهم في الدين، فهو بدلالة الحال منهم لدلالتها على كمال الموافقة.
قال الزمخشري: وهذا تغليظ من الله وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين واعتزاله. كما
قال «١» رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تراءى ناراهما
. ومنه قول عمر رضي الله عنه لأبي موسى في كاتبه النصرانيّ لا تكرموهم إذ أهانهم الله. ولا تأمنوهم إذ خوّنهم الله. ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله. وروي أنه قال له أبو موسى: (لا قوام للبصرة إلّا به) فقال: مات النصراني والسلام. يعني: هب أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ، فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يعني: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عتبة: ليتق أحدكم أن
(١)
أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٥- باب على ما يقاتل المشركون، حديث ٢٦٤٥ ونصه: عن جرير بن عبد الله قال: بعث رسول الله ﷺ سريّة إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود. فأسرع فيهم القتل.
قال، فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فأمر لهم بنصف العقل. وقال «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول الله! لم؟ قال «لا تراءى ناراهما»
. [.....]
يكون يهوديّا أو نصرانيّا وهو لا يشعر. قال. فظنناه يريد هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا.. الآية.
ثم بيّن تعالى كيفية تولّيهم. وأشعر بسببه وبما يؤول إليه أمره. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٢]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: نفاق وشكّ في وعد الله لإظهار دينه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في مودتهم في الباطن والظاهر، من غير نظر فيما يلحقهم من الضرر في دين الله، والفضيحة بالنفاق يَقُولُونَ أي: في عذرهم نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي: من دوائر الزمان، وصرف من صروفه، فتكون الدولة لهم، فنحتاج إليهم، فنحن نتحفّظ عن شرهم. ولا يتفكرون في أن الدائرة ربما تصيب من يوالونهم. والدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها. وأصلها: الخط المحيط بالسطح. استعيرت لنوائب الزمان، بملاحظة إحاطتها واستعمالها في المكروه. و (الدولة) ضدها، وقد ترد بمعنى (الدائرة) أيضا، لكنه قليل. كذا في (العناية).
ثم ردّ تعالى عللهم الباطلة، وقطع أطماعهم الفارغة، وبشّر المؤمنين بالظفر بقوله سبحانه فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أي: فتح مكة، عن السدّيّ. أو فتح قرى اليهود من خيبر وفدك، عن الضحّاك. وقال قتادة ومقاتل: هو القضاء الفصل بنصره ﷺ على أعدائه، وإظهار المسلمين أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يقطع شأفة اليهود، ويجليهم عن بلادهم فَيُصْبِحُوا أي: المنافقون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من الشك في ظهور الإسلام، أو من النفاق نادِمِينَ لافتضاحهم بالنفاق مع الفريقين. وتعليق الندامة بما كانوا يكتمونه- لا بما كانوا يظهرونه من موالاة الكفرة- لما أنه الذي كان يحملهم على الموالاة ويغريهم عليها. فدلّ ذلك على ندامتهم عليها بأصلها وسببها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٣]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الزمخشريّ: قرئ بالنصب عطفا على (أن يأتي)
163
وبالرفع على أنه كلام مبتدأ. أى: ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. وقرئ (يقول) بغير (واو) وهي مصاحف مكة والمدينة والشام كذلك. على أنه جواب قائل يقول:
فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا: أهؤلاء الذين أقسموا؟ (فإن قلت) : لمن يقولون هذا القول؟ (قلت) : إمّا أن يقوله بعضهم لبعض تعجّبا من حالهم، واغتباطا بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي: حلفوا لكم بأغلاظ الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي: إنهم أولياؤكم ومعاضدوكم على الكفار وإمّا أن يقولوه لليهود، لأنهم حلفوا لهم بالمعاضدة والنصرة. كما حكى الله عنهم: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر:
١١] أي: فقد تباعدوا عنكم. فيظهر أنهم لم يكونوا مع المؤمنين ولا مع اليهود حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ أي: في الدنيا، إذ ظهر نفاقهم عند الكل. وفي الآخرة، إذ لم يبق لهم ثواب.
قال الزمخشريّ: هذه الجملة من قول المؤمنين. أي: بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها في رأي أعين الناس، وفيه معنى التعجب، كأنه قيل: ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم! أو من قول الله عز وجلّ، شهادة لهم بحبوط الأعمال، وتعجيبا من سوء حالهم. انتهى.
وفيه من الاستهزاء بالمنافقين والتقريع للمخاطبين، ما لا يخفى.
تنبيهات:
الأول-: في سبب نزول هذه الآيات الكريمات.
روي عن السدّي «١»، أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد: أمّا أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهوديّ فأواليه وأتهوّد معه لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث. وقال الآخر: وأما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصرانيّ بالشام فأواليه وأتنصرّ معه. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى... الآيات.
وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر، حين بعثه رسول الله ﷺ إلى بني قريظة، فسألوه: ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه، أبي: إنه الذبح. رواه ابن جرير «٢». وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ، ابن سلول.
(١) الأثر رقم ١٢١٥٩ من تفسير ابن جرير.
(٢) الأثر رقم ١٢١٦٠ من التفسير.
164
روى ابن جرير «١» عن عطية بن سعد قال: جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إنّ لي موالي من يهود كثير عددهم. وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود. وأتولّى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبيّ: إني رجل أخاف الدوائر. لا أبرأ من ولاية مواليّ. فقال رسول الله ﷺ لعبد الله بن أبيّ: يا أبا الحباب! ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه. قال قد قبلت فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... الآيتين.
ثم
روى ابن جرير «٢» عن الزهريّ قال: لما انهزم أهل بدر، قال المسلمون لأوليائهم من يهود: آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر.. فقال مالك بن صيف: غرّكم إن أصبتم رهطا من قريش لا علم لهم بالقتال! أما لو أمررنا العزيمة أن نستجمع عليكم. لم يكن لكم يد أن تقاتلونا. فقال عبادة بن الصامت: يا رسول الله! إنّ أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم، كثيرا سلاحهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم، ولا مولى لي إلّا الله ورسوله.. فقال عبد الله بن أبيّ: لكني لا أبرأ من ولاية يهود. إني رجل لا بدّ لي منهم. فقال رسول الله ﷺ يا أبا الحباب! أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت، فهو لك دونه. فقال إذا أقبل! قال: فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ... - إلى قوله- وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وقال محمد بن إسحاق: فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله ﷺ حتى نزلوا على حكمه. فقام إليه عبد الله بن أبيّ، ابن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد! أحسن في مواليّ- وكانوا حلفاء الخزرج- قال:
فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: يا محمد! أحسن في مواليّ. قال: فأعرض عنه.
فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسلني. وغضب رسول الله ﷺ حتى رأوا لوجهه ظللا، ثم قال: ويحك! أرسلني. قال: لا، والله! لا أرسلك حتى تحسن في مواليّ. أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة؟ إني امرؤ أخشى الدوائر. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم لك.
(١) الأثر رقم ١٢١٥٦ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١٢١٥٧ من التفسير.
165
قال محمد بن إسحاق: فحدّثني أبي، إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي، وقام دونهم. ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- وكان أحد بني عوف من الخزرج، لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبيّ- فخلعهم إلى رسول الله ﷺ وتبرّأ إلى الله عز وجل، وإلى رسوله من حلفهم وقال: يا رسول الله! أتولّى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم... ففيه وفي عبد الله بن أبيّ نزلت الآيات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ- إلى قوله فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ.
وروى الإمام أحمد «١» عن أسامة بن زيد قال: دخلت مع رسول الله ﷺ على عبد الله بن أبيّ نعوده، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: قد كنت أنهاك عن حب يهود. فقال عبد الله: فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات. وكذا رواه أبو داود.
الثاني: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرات الآية أحكام.
(الأول) - أنه لا يجوز موالاة اليهود ولا النصارى. قال الحاكم: والمراد موالاته في الدين. وجعل الزمخشريّ الموالاة في النصرة والمصافاة. وبيّن وجوب المجانبة للمخالف في الدين، كما تقدم. والبعد والمجانبة استحباب، إذ قد جازت المخالطة في مواضع بالإجماع، وذلك حيث لا يوهم محبتهم ولا بأنهم على حق.
(الحكم الثاني) - أن للإمام أن يسقط الحدّ إذا خشي، أو يؤخره. وقد ذكر هذا، الأمير يحيى والراضي بالله والحاكم، وهذا مأخوذ من سبب النزول، وترك النبيّ ﷺ بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ.
(الحكم الثالث) - صحة الموالاة منهم لبعضهم بعضا. وقد قال عليّ بن موسى القمّيّ: الآية تدل على أنهم ملة واحدة: فتصح المناكحة بينهم والموارثة.
والمذهب خلاف ذلك. والدلالة على ما ذكر محتملة. لأنها تحتمل أن المراد:
بعضهم أولياء بعض في معاداة المسلمين أو يعني: بعض اليهود وليّا لبعض اليهود.
(الحكم الرابع) - أن من تولاهم فهو منهم. ولا خلاف في أنه صار عاصيا لله كما عصوه. ولكن أين تبلغ حد معصيته؟ وقد اختلف في ذلك، فقيل: معنى قوله فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: حكمه حكمهم في الكفر، وهذا حديث يقرّهم على دينهم.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٢٠١.
166
فكأنه قد رضيه. وقيل: من تولاهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد أنه منهم في وجوب عداوته والبراءة منه. قال الحاكم: ودلالة الآية مجملة. فهي لا تدل على أنه كافر إلا أن يحمل على الموافقة في الدين.
(الحكم الخامس) - ذكره الحاكم، أنه لا يجوز الاستعانة بهم. قلنا: ذكر الراضي بالله: أنه ﷺ قد حالف اليهود على حرب قريش وغيرهما إلى أن نقضوه يوم الأحزاب، وجدد ﷺ الحلف بينه وبين خزاعة. حتى كان ذلك سبب الفتح. وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم. مسلمهم وكافرهم. قال الراضي بالله: وهو ظاهر قول آبائنا عليهم السلام. وقد استعان عليّ عليه السلام بقتلة عثمان، واستعان ﷺ بالمنافقين. قال الراضي بالله: ويجوز الاستعانة بالفسّاق على حرب المبطلين، فتكون هذه الاستعانة غير موالاة.
التنبيه الثالث- في التفسير المتقدم ما نصه: وفي الآية الكريمة زواجر عن مولاة اليهود والنصارى من وجوه: (الأول) - النهي بقوله: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. وسائر الكفار لا حق بهم. (الثاني) - قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ. والمعنى: أن الموالاة من بعضهم لبعض لاتحادهم بالكفر، والمؤمنون أعلى منهم. (الثالث) - قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. وهذا تغليظ وتشديد ومبالغة. مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: لا تراءى ناراهما
. ومثل قوله عليه السلام «١» : لا تستضيئوا بنار المشركين. (الرابع) - ما أخبر الله به أنه لا يهديهم.
(الخامس) - وصفهم بالظلم، والمراد: الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار.
(السادس) - أنه تعالى أخبر أنّ الموالاة لهم من ديدن الذين في قلوبهم مرض، أي:
شكّ ونفاق. (السابع) - ما أخبر الله تعالى به من علة الموالين، وأنّ ذلك خشية الدوائر. لا أنّه بإذن من الله ولا من رسوله. (الثامن) - قطع الله لما زينه لهم الشيطان من خشية رجوع دولة الكفر فقال تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ.
و (عسى) في حق الله تعالى لواجب الحصول بالفتح لمكة أو لبلاد الشرك- (التاسع) - ما بشر الله تعالى به من إهانتهم بقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ. قيل: إذلال
(١)
أخرجه النسائيّ في: الزينة، ٥١- باب قول النبيّ ﷺ «لا تنقشوا على خواتيمكم عربيا» ونصه:
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ «لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيا».
وأخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٩٩.
167
الشرك بالجزية. وقيل: قتل قريظة وإجلاء النضير. وقيل: أن يورث المسلمين أرضهم وديارهم. (العاشر) - ما ذكره الله تعالى من الأمر الذي يؤول إليه حالهم. وأنهم يصبحون نادمين على ما أسرّوا في أنفسهم من غشّهم للمسلمين ونصحهم للكافرين. وقيل: من نفاقهم. وقيل: من معاندتهم للكفار، وذلك حين معاينتهم للعذاب. وقيل: في الدنيا، بما صاروا فيه من الذلّة والصغار. (الحادي عشر) - ما ذكره الله تعالى من تعجب المؤمنين من فضيحة أعداء الله وخبثهم في إيمانهم بقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ.. الآية. (الثاني عشر) - ما أخبر الله من حالهم بقوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ قيل: خسروا حظّهم من موالاتهم. وقيل: أهلكوا أنفسهم. وقيل: خسروا ثواب الله. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ، ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
لما نهى تعالى- فيما سلف- عن مولاة اليهود والنصارى، وبيّن أنّ موالاتهم مستدعية للارتداد عن الدين بقوله: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ- شرع في بيان حال المرتدين على الإطلاق.
ونوّه بقدرته العظيمة. فأعلم أنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه، وأشدّ منعة، وأقوم سبيلا. كما قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد صلى الله عليه وسلم: ٣٨]. وقال تعالى:
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء: ١٣٣]. وقال تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: ١٦- ١٧]. أي:
بممتنع ولا صعب.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى: قال المحققون: هذه الآية من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقد وقع المخبر به على وفقها. فيكون معجزا. فقد روي أنه ارتدّ عن الإسلام إحدى عشرة فرقة: ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
168
(بنو مدلج) ورئيسهم ذو الحمار- بحاء مهملة وضبطه بعضهم بالمعجمة- وهو الأسود العنسي- بالنون نسبة إلى عنس قبيلة باليمن- وكان كاهنا ثم تنبأ باليمن، واستولى على بلاده، وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكتب رسول الله ﷺ إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن. فأهلكه الله على يدي فيروز الديلميّ. بيّته فقتله. وأخبر رسول الله ﷺ بقتله ليلة قتل. فسرّ المسلمون. وقبض رسول الله ﷺ من الغد في آخر شهر ربيع الأول.
و (بنو حنيفة) قوم مسيلمة: تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب قرئ: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر رضي الله عنه بجنود المسلمين، وقتل على يدي وحشي، قاتل حمزة، وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية، وشر الناس في الإسلام. أراد: في جاهليتي وإسلامي.
و (بنو أسد) قوم طليحة بن خويلد: تنبأ في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكثر جمعه، ومات ﷺ وهو على ذلك. فبعث إليه أبو بكر خالدا رضي الله عنهما فقصده. فانهزم طليحة بعد القتال إلى الشام. ثم أسلم وحسن إسلامه.
وسبع في عهد أبي بكر رضي الله عنه:
(فزارة) قوم عيينة بن حصن و (غطفان) قوم قرة بن سلمة القشيري و (بنو سليم) قوم الفجاءة بن عبد ياليل- بيائين ولامين كهابيل- صنم سمي هذا به.
و (بنو يربوع) قوم مالك بن نويرة.
و (بعض تميم) قوم سجاح بنت المنذر. كانت كاهنة ثم تنبأت وزوجت نفسها مسيلمة الكذاب ثم أسلمت وحسن إسلامها.
و (كندة) قوم الأشعث بن قيس.
و (بنو بكر بن وائل) بالبحرين، قوم الحطم- كزفر- بن زيد. وكفى الله أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله عنه.
وفرقة واحدة في عهد عمر رضي الله عنه:
169
(غسان) قوم جبلة بن الأيهم، نصّرته اللطمة وسيّرته إلى بلاد الروم بعد إسلامه والجمهور: على أنه مات على ردته وقيل: إنه أسلم.
وروى الواقديّ: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام- لما لحق بهم- كتابا فيه: أن جبلة ورد إليّ في سراة قومه، فأسلم فأكرمته. ثم سار إلى مكة فطاف فوطئ إزاره رجل من بني فزارة، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه. (وقيل: قلع عينه، ويدل له ما سيأتي) فاستعدى الفزاريّ على جبلة إليّ. فحكمت إما بالعفو أو بالقصاص. فقال: أتقتصّ مني وأنا ملك وهو سوقة؟ فقلت: شملك وإياه الإسلام.
فما تفضله إلّا بالعافية.
فسأل جبلة التأخير إلى الغد. فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ولحق بالشام مرتدّا.
وروي أنه ندم على ما فعل وأنشد:
تنصّرت بعد الحقّ عارا للطمة ولم يك فيها، لو صبرت لها، ضرر
فأدركني فيها لجاج حمّية فبعث لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر
هذا ما في (الكشاف) و (العناية).
وقال الخطابيّ أهل الردة كانوا صنفين: صنفا ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعدلوا إلى الكفر. وهذه الفرقة طائفتان: (إحداهما) أصحاب مسيلمة الكذاب من بني حنيفة وغيرهم الذي صدقوه على دعواه في النبوة، أصحاب الأسود العنسي ومن استجابه من أهل اليمن. وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. مدعية النبوة لغيره. فقاتلهم أبو بكر حتى قتل مسيلمة باليمامة، والعنسيّ بصنعاء.
وانفضّت جموعهم وهلك أكثرهم. و (الطائفة الأخرى) ارتدوا عن الدين. فأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغير هما من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يسجد لله في الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس.
قال والصنف الآخر: هم الذين فرقوا بين الصلاة وبين الزكاة، فأنكروا وجوبها ووجوب أدائها إلى الإمام، وهؤلاء، على الحقيقة، أهل البغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمن خصوصا، لدخولهم في غمار أهل الردة، وأضيف الاسم في
170
الجملة إلى أهل الردة، إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما.
انظر تتمة هذا المبحث في (نيل الأوطار) في كتاب الزكاة.
قال الشوكانيّ: فأما مانعوا الزكاة منهم، المقيمون على أصل الدين، فإنهم أهل بغي. ولم يسمّوا على الانفراد كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردة اسم لغويّ. فكل من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه، فقد ارتد عنه. وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق. وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح، وعلق بهم الاسم القبيح، لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقّا.
الثانية: قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
مذهب السلف في المحبة المسندة له تعالى. أنها ثابتة له تعالى بلا كيف ولا تأويل، ولا مشاركة للمخلوق في شيء من خصائصها. كما تقدم في الفاتحة في الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
فتأويل مثل الزمخشريّ لها- بإثابته تعالى لهم أحسن الثواب، وتعظيمهم والثناء عليهم والرضا عنهم- تفسير باللازم، منزع كلاميّ لا سلفيّ. وقد أنكر الزمخشريّ أيضا كون محبة العباد لله حقيقية، وفسرها بالطاعة وابتغاء المرضاة. فرده صاحب (الانتصاف) بأنه خلاف الظاهر. وهو من المجاز الذي يسمى فيه المسبب باسم السبب، والمجاز الذي لا يعدل إليه عن الحقيقة، إلا بعد تعذرها، فليمتحن حقيقة المحبة لغة بالقواعد، لينظر: أهي ثابتة للعبد متعلقة بالله تعالى أم لا؟ إذ المحبة، لغة، ميل المتصف بها إلى أمر ملذ. واللذات الباعثة على المحبة منقسمة إلى مدرك بالحسن: كلذة الذوق في المطعوم، ولذة النظر واللمس في الصور المستحسنة، ولذة الشم في الروائح العطرة، ولذة السمع في النغمات الحسنة، وإلى لذة تدرك بالعقل: كلذة الجاه والرياسة والعلوم وما يجري مجراها. فقد ثبت أن في اللذات الباعثة على المحبة ما لا يدركه إلا العقل دون الحس، ثم تتفاوت المحبة ضرورة بحسب تفاوت البواعث عليها، وإذا تفاوتت المحبة بحسب تفاوت البواعث.
فلذات العلوم أيضا متفاوتة بحسب تفاوت المعلومات، فليس معلوم أكمل ولا أجمل من المعبود الحقّ. فاللذة الحاصلة في معرفته تعالى، ومعرفة جلاله وكماله، تكون أعظم. والمحبة المنبعثة عنها تكون أمكن، وإذا حصلت هذه المحبة بعثت على الطاعات والموافقات. فقد تحصّل من ذلك أن محبة العبد ممكنة، بل واقعة من كل
171
مؤمن، فهي من لوازم الإيمان وشروطه، والناس فيها متفاوتون بحسب تفاوت إيمانهم، وإذا كان كذلك، وجب تفسير محبة العبد لله بمعناها الحقيقيّ لغة، وكانت الطاعة والموافقات كالمسبب عنها والمغاير لها. ألا ترى إلى الأعرابيّ الذي سأل عن الساعة؟
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها كبير عمل.
ولكن حب الله ورسوله. فقال عليه الصلاة والسلام: أنت مع من أحببت.
فهذا الحديث ناطق بأن المفهوم من المحبة لله غير الأعمال والتزام الطاعات، لأن الأعرابيّ نفاها وأثبت الحب، وأقره عليه الصلاة والسلام على ذلك. ثم إذا ثبت إجراء محبة العبد لله تعالى على حقيقتها لغة، فالمحبة في اللغة. إذا تأكدت سميت عشقا، فمن تأكدت محبته لله تعالى، وظهرت آثار تأكدها عليه من استيعاب الأوقات في ذكره وطاعته- فلا تمنع أن تسمى محبته عشقا، إذ العشق ليس إلا المحبة البالغة.
انتهى.
الثالث: قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ.
قال ابن كثير: هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعا لأخيه ووليّه، متعززا على خصمه وعدوّه، كما قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩].
قال الزمخشريّ: فإن قلت: هلا قيل: أذلة للمؤمنين؟ قلت فيه وجهان:
(أحدهما) أن يضمن الذل معنى الحنوّ والعطف كأنه قيل: عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع. و (الثاني) أنهم- مع شرفهم وعلوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين- خافضون لهم أجنحتهم. وقرئ (أذلة وأعزة) بالنصب على الحال.
وفي (الحواشي) : أن قوله تعالى: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ تكميل. لأنه لما وصفهم بالتذلل، ربما توهم أن لهم في نفسهم حقارة. فقال: ومع ذلك هم أعزة على الكافرين، كقوله:
جلوس في مجالسهم رزان وإن ضيف ألمّ بهم خفوف
واستدل بالآية على فضل التواضع للمؤمنين والشدة على الكفار.
الرابعة: قوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ.
قال الزمخشريّ: يحتمل أن تكون (الواو) للحال على معنى: أنهم يجاهدون، وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين، فإنهم كانوا موالين لليهود. فإذا خرجوا
172
في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود، فلا يعملون شيئا مما يعلمون أنه يلحقهم فيه لوم من جهتهم وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله لا يخافون لومة لائم قط. وأن تكون للعطف على أنّ من صفتهم المجاهدة في سبيل الله. وأنهم صلاب في دينهم. إذا شرعوا في أمر من أمور الدين- إنكار منكر أو أمر بمعروف- مضوا فيه كالمسامير المحماة، لا يرعبهم قول قائل ولا اعتراض معترض ولا لومة لائم.
يشق عليه جدهم في إنكارهم وصلابتهم في أمرهم. و (اللومة) المرّة من اللوم. وفيها وفي التنكير مبالغتان. كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوّام. انتهى.
وفيه وجوب التمسك بالحق وإن لامه لائم. وإنه مع تمسّكه به صيّره محلّة أعلى ممن تمسّك به من غير لوم. لأنه تعالى مدح من هذا حاله. وفيه أيضا، أن خوف الملامة ليس عذرا في ترك أمر شرعي.
روى الإمام أحمد «١» عن أبي ذرّ قال: أمرني خليلي ﷺ بسبع: أمرني بحب المساكين والدنوّ منهم، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن لا أسأل أحدا شيئا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مرّا، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أكثر من قول (لا حول ولا قوة إلّا بالله) فإنهنّ كنز من تحت العرش.
وروى الإمام أحمد «٢» أيضا عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا، لا يمنعنّ أحدكم رهبة الناس أن يقول بحقّ إذا رآه أو شهده. فإنه لا يقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم.
وروى أيضا عنه «٣» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحقرنّ أحدكم نفسه، أن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه. فيقال له يوم القيامة: ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول: مخافة الناس، فيقول: إياي أحقّ أن تخاف.
وروى الشيخان «٤» عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ﷺ على
(١) أخرجه في المسند ٥/ ١٥٩.
(٢) أخرجه في المسند ٣/ ٥٠.
(٣) أخرجه في المسند ٣/ ٧٣.
(٤)
أخرجه البخاري في: الأحكام، ٤٣- باب كيف يبايع الإمام الناس، حديث ٢٥٤٧، وهذا لفظه.
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ٤١ وهذا لفظ مسلم: قال: بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم
.
173
السمع والطاعة في المنشط والمكره. وأن لا ننازع الأمر أهله. وأن نقول بالحق حيثما كنّا، لا نخاف في الله لومة لائم.
الخامسة: قوله تعالى ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ.
الإشارة إلى ما ذكر من حب الله إياهم، وحبهم لله وذلّتهم للمؤمنين، وعزّتهم على الكافرين، وجهادهم في سبيل الله، وعدم مبالاتهم للوم اللوّام. فالمذكور كله فضل الله الذي فضل به أولياءه.
قال المهايميّ: أما المحبتان فظاهر. وكذا العزة على الكفار والجهاد. وأما الذلة على المؤمنين فلأنه تواضع موجب للرفع. وأما عدم خوف الملامة فلما فيه من تحقيق المودة مع الله.
وقوله تعالى: يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي: ممن يريد به مزيد إكرام من سعة جوده، وَاللَّهُ واسِعٌ أي: كثير الفواضل، جلّ جلاله.
ولمّا نهى عن موالاة اليهود والنصارى، أشار إلى من يتعيّن للموالاة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٥]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ المفيض عليكم كلّ خير وَرَسُولُهُ الذي هو واسطة الفيض وَالَّذِينَ آمَنُوا المعينون في موالاة الله ورسوله بأفعالهم، لأنهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ التي هي أجمع العبادات البدنية وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ القاطعة محبة المال الجالب للشهوات وَهُمْ راكِعُونَ حال من فاعل الفعلين، أي: يعملون ما ذكر- من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة- وهم خاشعون ومتواضعون لله ومتذللون غير معجبين. فإن رؤيتهم تؤثر فيمن يواليهم بالعون في موالاة الله ورسوله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٦]
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فيعينهم وينصرهم فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ في العاقبة على أعدائه.
174
تنبيهات:
الأول: إنما أفرد (الوليّ) ولم يجمع، مع أنه متعدّد، للإيذان بأن الولاية لله أصل، ولغيره تبع لولايته عزّ وجل. فالتقدير: وكذلك رسوله والذين آمنوا.
الثاني: ثمرة هذه الآية تأكيد موالاة المؤمنين والبعد عن موالاة الكفار.
الثالث: قال ابن كثير: توهم بعض الناس أن هذه الجملة- يعني قوله تعالى وَهُمْ راكِعُونَ- في موضع الحال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي في ركوعهم.
ولو كان هذا كذلك، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمهم من أئمة الفتوى. وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرا عن عليّ بن أبي طالب، أنّ هذه الآية نزلت فيه: إنّه مرّ به سائل في حال ركوعه، فأعطاه خاتمه. ثم روى ابن كثير الأثر المذكور عن ابن أبي حاتم وابن جرير «١» وعبد الرزاق وابن مردويه، ثم قال: وليس يصحّ شيء منها بالكليّة. لضعف أسانيدها وجهالة رجالها.. انتهى.
وقد اقتصّ ذلك الخفاجيّ في (حواشي البيضاوي) عن الحاكم وغيره بطول.
ثم أنشد أبياتا لحسان بن ثابت فيها. ولوائح الضعف بل الوضع لا تخفى عليها. لا سيما ونفس حسان بن ثابت، العريق في العربية، بعيد مما نسب إليه. وأيّ حاجة للتنويه بفضل عليّ عليه السلام بمثل هذه الواهيات. وفضله أشهر من نار على علم.
قال البغويّ «٢» : روي عن عبد الملك بن سليمان قال: سألت أبا جعفر، محمد ابن عليّ الباقر عن هذه الآية إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا من هم؟ فقال:
المؤمنون. فقلت: إن ناسا يقولون هو عليّ. فقال: عليّ من الذين آمنوا.
قال ابن كثير: وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها، أنّ هذه الآية كلها نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه، حين تبرأ من حلف يهود، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين، الرابع: ذهب من رأى أن هذه الآية نزلت في عليّ عليه السلام وأنه تصدق بخاتمه وهو راكع- كما قدّمنا- إلى أنّ العمل القليل في الصلاة لا يبطلها، وإن صدقة النفل تسمى زكاة. نقله السيوطيّ في (الإكليل) عن ابن الفرس.
وقال بعض الزيدية: ثمرة الآية تأكيد موالاة المؤمنين، وبيان فضل من نزلت
(١) الأثر رقم ١٢٢١٠ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١٢٢١١ من تفسير ابن جرير.
175
فيه، وأنه يجوز إخراج الزكاة في الصلاة، وتنوي. وكذا نية الصيام في الصلاة تصح.
وإن الفعل القليل لا يفسد الصلاة. قال: وهذا مأخوذ من سبب نزولها، لا من لفظها.
ومتى قيل إنّ عليّا عليه السلام لم تجب عليه زكاة؟ قلنا: إذا صحّ ما ذكر أنها نزلت فيه، كان أولى بالصحة، وأنها قد وجبت عليه.
قال في (الغياضة) : إن قيل: قد روي أنه كان من ذهب، والذهب محرّم على الرجال أجيب بأن ذلك كان في صدر الإسلام ثم نسخ، أو أنّ هذا من خواصّ عليّ عليه السلام. انتهى.
قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه، واللفظ لفظ جماعة؟ قلت: جيء به على لفظ الجمع، وإن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه. ولينبه على أن سجية المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقد الفقراء. حتى إن لزّهم أمر لا يقبل التأخير- وهم في الصلاة- لم يؤخروه إلى الفراغ منها. انتهى.
وإنما أوردنا هذا، على علاته، تعجيبا من غرائب الاستنباط. وقد توسع الرازيّ، عليه الرحمة، في المناقشة مع الشيعة هنا، فليراجع فإنه بحث بديع.
الخامس: قوله تعالى: فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ معناه: فإنهم هم الغالبون.
فوضع الظاهر موضع الضمير العائد إلى (من) دلالة على علة الغلبة. وهو أنهم حزب الله. فكأنه قيل: ومن يتولّ هؤلاء فهم حزب الله. وحزب الله هم الغالبون. وتنويها بذكرهم وتعظيما لشأنهم وتشريفا لهم بهذا الاسم. وتعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان. وأصل (الحزب) القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وقيل: الحزب جماعة فيهم شدة. فهو أخصّ من الجماعة والقوم.
ثم أشار تعالى إلى أن موالاة غيرهم، إن كانت لجرّ نفع، فضررها أعظم. وإن كانت لدفع ضرر، فالضرر الحاصل بها لا يفي بالمدفع، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أي: مقتضى إيمانكم حفظ تعظيم دينكم لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ أي: الذي هو رأس مال كمالاتكم، الذي به انتظام معاشكم
ومعادكم، وهو مناط سعاداتكم الأبدية، وسبب قربكم من ربكم هُزُواً أي: شيئا مستخفا وَلَعِباً أي: سخرية وضحكا، مبالغة في الاستخفاف به حتى لعبوا بعقول أهله. ثم بين المستهزئين وفصّلهم بقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ قرئ بالنصب والجرّ، يعني المشركين كما في قراءة ابن مسعود (ومن الذين أشركوا) أَوْلِياءَ في العون والنصرة. وإنما رتب النهي على وصف اتخاذهم الدين هزوا ولعبا. تنبيها على العلة، وإيذانا بأن من هذا شأنه، جدير بالبغضاء والشنآن والمنابذة. فكيف بالموالاة؟ وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في ذلك، بترك موالاتهم، أو بترك المناهي على الإطلاق. فيدخل فيه ترك موالاتهم دخولا أوليّا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: حقا، فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء لا محالة.
ثم بيّن استهزاءهم بحكم خاص من أحكام الدين، بعد استهزائهم بالدين على الإطلاق، إظهارا لكمال شقاوتهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٨]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨)
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي: دعوتم إليها بالأذان اتَّخَذُوها أي: الصلاة أو المناداة هُزُواً وَلَعِباً بأن يستهزءوا بها ويتضاحكوا ذلِكَ أي الاتخاذ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي: معاني عبادة الله، فإن السفه يؤدي إلى الجهل بمحاسن الحق والهزء به، ولو كان لهم عقل في الجملة لما اجترءوا على تلك العظيمة. فإن الصلاة أكمل القربات، وفي النداء معان شريفة من تعظيم الله باعتبار ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله. ومن ذكر توحيده باعتبار ذاته، وباعتبار عدم مغايرة أسمائه وصفاته، ومن تعظيم رسوله باعتبار قيامه بمصالح المعاش والمعاد، ومن الصلاة من حيث هي وصلة ما بين العبد وبين الله، ومن حيث إفادتها معالي الدرجات، ومن تعظيم مقصده وهو الفلاح في الظاهر والباطن، وما هو غاية مقصده من القرب من الله باعتبار عظمة ظاهره وباطنه، ومن الوصول إلى توحيده الحقيقيّ.
أفاده المهايميّ.
تنبيهات:
الأول: في آثار رويت في هذه الآية:
روى أبو الشيخ ابن حبان عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث، قد أظهرا الإسلام ونافقا، وكان رجل من المسلمين يوادّهما.
177
فأنزل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا.. الآية.
وروى ابن جرير «١» وابن أبي حاتم عن السدّيّ في قوله: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً قال: كان رجل من النصارى بالمدينة، إذا سمع المنادي ينادي:
أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرّق الكاذب. فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار، وهو نائم وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
وذكر محمد بن إسحاق بن يسار في (السيرة) : أن رسول الله ﷺ دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال فأمره أن يؤذن. وأبو سفيان بن حرب وعتّاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة. فقال عتاب بن أسيد: لقد أكرم الله أسيدا أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لا تبعته. فقال أبو سفيان: لا أقول شيئا. لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبيّ ﷺ فقال: قد علمت الذي قلتم. ثم ذكر ذلك لهم.
فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله. والله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا، فنقول أخبرك.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبد الله بن محيريز- وكان يتيما في حجر أبي محذورة- قال: قلت لأبي محذورة: يا عم! إني خارج إلى الشام. وأخشى أن أسأل عن تأذينك. فأخبرني أن أبا محذور قال له: نعم! خرجت في نفر فكنا ببعض طريق حنين، فقفل رسول الله ﷺ من حنين فلقينا رسول الله ﷺ ببعض الطريق. فأذّن مؤذن رسول الله ﷺ بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون. فصرخنا نحكيه ونستهزئ به. فسمع رسول الله ﷺ الصوت فأرسل إلينا، إلى أن وقفنا بين يديه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع؟
فأشار القوم كلهم إليّ. وصدقوا. فأرسل كلّهم وحبسني فقال: قم فأذن. فقمت، ولا شيء أكره إليّ من رسول الله ﷺ ولا مما يأمرني به، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فألقى إليّ رسول الله ﷺ التأذين هو نفسه فقال: قل: الله أكبر، الله أكبر.
أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أنّ محمدا رسول الله. أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال لي: ارجع فامدد من صوتك. ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أنّ محمدا رسول الله، أشهد أنّ محمدا رسول
(١) الأثر رقم ١٢٢١٨ من التفسير.
(٢) أخرجه في المسند ٣/ ٤٠٩. [.....]
178
الله. حيّ علي الصلاة، حيّ علي الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم عادني حين قضيت التأذين فأعطاني صرة فيها شيء من فضة. ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة. ثم أمرّها على وجهه مرتين. ثمّ مرتين على يديه. ثم على كبده. ثم بلغت يد رسول الله ﷺ سرّة أبي محذورة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيك. فقلت: يا رسول الله! مرني بالتأذين بمكة.
فقال: قد أمرتك به. وذهب كل شيء كان لرسول الله ﷺ من كراهية، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدمت على عتّاب بن أسيد، عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأذّنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثاني: دلت الآية على وجوب موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار. والمراد به في أمر الدين، كما تقدم.
الثالث: دلت على أن الهزء بالدين كفر، وأن هزله كجدّه.
قال في (الإكليل) : الآية أصل في تكفير المستهزئ بشيء من الشريعة.
الرابع: دلت على أن للصلاة نداء وهو الأذان، فهي أصل فيه.
قال الزمخشري: قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب، لا بالمنام وحده. ولمّا نهى تعالى عن تولّي المستهزئين، أمر أن يخاطبوا بأن الدين منزّه عما يصحح صدور ما صدر عنهم من الاستهزاء، ويظهر لهم سبب ما ارتكبوا ويلقموا الحجر، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٥٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ وصفوا بذلك تمهيدا لتبكيتهم وإلزامهم بكفرهم بكتابهم، أي: يا أصحاب الكتاب، العالمين بالنقائص والكمالات، التي يستحق على تحققها وفقدها الاستهزاء هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا أي: ما تعيبون وتنكرون منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وهو رأس الكمالات وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وهو أصل الاعتقادات والأعمال والأخلاق وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وهو يشهد لما أنزل إلينا وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ أي:
متمردون خارجون عن الإيمان بما ذكر.
لطائف:
الأولى: إنما فسر (تنقمون) ب (تعيبون) و (تنكرون) لأن النقمة معناها
الإنكار باللسان أو بالعقوبة- كما قاله الراغب- لأنه لا يعاقب إلّا على المنكر فيكون على حد قوله:
ونشتم بالأفعال لا بالتكلم
فلذا حسن (انتقم منه) مطاوعه، بمعنى عاقبه وجازاه، وإلّا فكيف يخالف المطاوع أصله؟ فافهم. و (نقم) ورد كعلم يعلم وضرب يضرب، وهي الفصحى، ويعدّى ب (من) و (على). وقال أبو حيّان: أصله أن يتعدى ب (على). ثم (افتعل) المبنيّ منه، يعدى ب (من) لتضمنه معنى الإصابة بالمكروه، وهنا (فعل) بمعنى (افتعل). كذا في (العناية).
الثانية: في الآية تسجيل على أهل الكتاب بكمال المكابرة والتعكيس، حيث جعلوا الإيمان بما ذكر، موجبا لنقمه، مع كونه في نفسه موجبا لقبوله وارتضائه.
فمعنى الآية: ليس شيء ينقم من المؤمنين. فلا موجب للاستهزاء. وهذا مما تقصد العرب في مثله، تأكيد النفي والمبالغة فيه بإثبات شيء، وذلك الشيء لا يقتضي إثباته، فهو منتف أبدا. ويسمى مثل ذلك عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس، فمن الأول نحو:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
ومن الثاني هذه الآية وشبهها. أي: ما ينبغي لهم أن ينقموا شيئا إلّا هذا، وهذا لا يوجب لهم أن ينقموا شيئا، فليس شيء ينقمونه، فينبغي أن يؤمنوا به ولا يكفروا.
وفيه أيضا التعريض بكفرهم، وتقريع بسوء الصنيع في مقابلة الإحسان.
الثالث: إسناد الفسق إلى أكثرهم، لأن من قال منهم ما قال، وحمل غيره على العناد، طلبا للرياسة والجاه وأخذ الرشوة، إنما هو أكثرهم، ولئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٠]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ المخاطب بكاف الجمع أهل الكتاب المتقدم ذكرهم، أو الكفار مطلقا، أو المؤمنون. والمشار إليه الأكثر الفاسقون. وتوحيد اسم
180
الإشارة لكونه يشار به إلى الواحد وغيره، أو لتأويله بالمذكور ونحوه. وفي الكلام مقدر أي: بشرّ من حال هؤلاء. وقيل: المشار إليه المتقدمون الذين هم أهل الكتاب، يعني أن السلف شرّ من الخلف. وجعله الزمخشريّ إشارة إلى المنقوم.
وقد جوّد في إيضاحه العلامة أبو السعود بقوله: لما أمر عليه الصلاة والسلام بإلزامهم وتبكيتهم، ببيان أن مدار نقمهم للدين إنما هو اشتماله على من يوجب ارتضاءه عنهم أيضا، وكفرهم بما هو مسلم لهم- أمر عليه الصلاة والسلام عقيبه بأن يبكتهم ببيان أن الحقيق بالنقم والعيب حقيقة، ما هم عليه من الدين المحرف.
وينعى عليهم في ضمن البيان جناياتهم وما حاق بهم من تبعاتها وعقوباتها، على منهاج التعريض. لئلا يحملهم التصريح بذلك على ركوب متن المكابرة والعناد.
ويخاطبهم قبل البيان بما ينبئ عن عظم شأن المبيّن، ويستدعي إقبالهم على تلقيه من الجملة الاستفهامية المشوقة إلى المخبر به، والتنبئة المشعرة بكونه أمر خطيرا، لما أن النبأ هو الخبر الذي له شأن وخطر. وحيث كان مناط النقم شرّية المنقوم حقيقة أو اعتقادا، وكان مجرد النقم غير مقيد لشريته البتة، قيل (بشرّ من ذلك) ولم يقل: بأنقم من ذلك، تحقيقا لشرية ما سيذكر وزيادة تقرير لها. وقيل: إنما قيل ذلك، لوقوعه في عبارة المخاطبين، حيث أتى نفر من اليهود فسألوا رسول الله ﷺ عن دينه
فقال عليه الصلاة والسلام: «أومن بالله وما أنزل إلينا»..- إلى قوله- ونحن له مسلمون.
فحين سمعوا ذكر عيسى عليه السلام، قالوا: لا نعلم شرّا من دينكم. وإنما اعتبر الشرية بالنسبة إلى الدين- وهو منزه عن شائبة الشرية بالكلية- مجاراة معهم على زعمهم الباطل المنعقد على كمال شريته، ليثبت أن دينهم شرّ من كل شرّ. أي: هل أخبركم بما هو شرّ في الحقيقة مما تعتقدونه شرّا، وإن كان في نفسه خيرا محضا؟ انتهى.
وقوله: مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ أي جزاء ثابتا عند الله. قال الراغب: الثواب ما رجع إلى الإنسان من جزاء أعماله. سمي به بتصور أن ما عمله يرجع إليه، كقوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧]، ولم يقل: ير جزاءه. والثواب يقال في الخير ولا شر، لكن الأكثر المتعارف في الخير. وكذا المثوبة، وهي مصدر ميميّ بمعناه.
وعلى اختصاصها بالخير استعملت هنا في العقوبة على طريقة:
تحية بينهم ضرب وجيع
في التهكم. ونصبها على التمييز من (بشرّ) وقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ بدل من
181
شَرٌّ على حذف مضاف، أي: بشر من أهل ذلك من لعنه الله، أو بشر من ذلك دين من لعنه الله، أو خبر محذوف. أي: هو من لعنه الله وهم اليهود، أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وخنازير، وهم أصحاب السبت، كما تقدم بيانه في سورة البقرة وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة (من) والمراد من الطاغوت: العجل، أو الكهنة وكل من أطاعوه في معصية الله تعالى أُولئِكَ أي: الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً إثبات الشرارة للمكان كناية عن إثباتها لأهله، كقولهم: (سلام على المجلس العالي) و (المجد بين برديه) كأن شرهم أثّر في مكانهم أو عظم حتى صار متجسما! وقيل: المراد بالمكان محل الكون والقرار الذي يؤول أمرهم إلى التمكن فيه، كقوله: شَرٌّ مَكاناً [الفرقان: ٣٤]، وهو مصيرهم، يعني جهنم.
وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ أي: أكثر ضلالا عن الصراط المستقيم.
ثم بين تعالى علامات كمال شرهم وضلالهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦١]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١)
وَإِذا جاؤُكُمْ يعني سفلة اليهود، ويقال: المنافقون: قالُوا آمَنَّا أي:
بك ونعتك، أنه في كتابنا وَقَدْ دَخَلُوا إليكم متلبسين بِالْكُفْرِ بكفر السرّ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا أي: من عندكم متلبسين بِهِ أي: بكفر السر، فهم مستمرون عليه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر، وفيه وعيد لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٢]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي: الحرام، كالكذب والعصيان من غير مبالاة من الله ولا من الناس وَالْعُدْوانِ أي: الظلم والاعتداء على الناس وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام كالرشا. وخصه بالذكر مع اندراجه في الإثم للمبالغة في التقبيح، وفيه دلالة على تحريم الرشا، لأن ذلك ورد في كبرائهم أنهم يسترشون في تغيير الحكم لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ مما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٣]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣)
لَوْلا أي هلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي: الزهاد منهم والعبّاد وَالْأَحْبارُ أي العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ أي الكذب وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الرشوة، المفسدة أمر العالم كله لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ من ترهبهم وتعلمهم لغير دين الله. أو من تركهم نهيهم. وهذا الذم المقول فيهم، أبلغ مما قيل في حق عامتهم. أولا: لأنه لما عبر عن الواقع المذموم من مرتكبي المناكير بالعمل في قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ، وعبّر عن ترك الإنكار عليهم حيث ذمه بالصناعة في قوله: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ- كان هذا الذم أشد. لأنه جعل المذموم عليه صناعة لهم وللرؤساء، وحرفة لازمة، هم فيها أمكن من أصحاب المناكير في أعمالهم.
وهذا معنى قول الزمخشريّ: كأنهم جعلوا آثم من مرتكبي المناكير، لأن كل عامل لا يسمى صانعا، ولا كل عمل يسمى صناعة، حتى يتمكن فيه ويتدرب وينسب إليه. وكأن المعنى في ذلك، أن مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على ارتكابها. وأما الذي ينهاه، فلا شهوة معه في فعل غيره. فإذا فرط في الإنكار كان أشد حالا من المواقع. ثم قال الزمخشري: ولعمري! إن هذه الآية مما يقذ السامع وينعى على العلماء توانيهم. انتهى:
وفي (الإكليل) : في هذه الآية وجوب النهى عن المنكر على العلماء، اختصاص ذلك بهم.
وقال البيضاويّ: فيها تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإن (لولا) إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، وإذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.
روى ابن جرير «١» عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أشدّ توبيخا من هذه الآية.
وقال الضحاك «٢» : ما في القرآن آية أخوف عندي منها.
(١) الأثر رقم ١٢٢٣٩ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١٢٢٣٨ من التفسير.
وروى ابن أبي حاتم عن يحيي بن يعمر قال: خطب عليّ بن أبي طالب، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار. فلما تمادوا أخذتهم العقوبات. فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم. واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقا ولا يقرّب أجلا.
وروى الإمام أحمد «١» عن جرير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي، هم أعزّ منه وأمنع. ولم يغيّروا، إلّا أصابهم الله منه بعذاب.
ولفظ أبي داود «٢» عنه، مرفوعا: ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي، يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيّروا، إلّا أصابهم الله بعذاب قبل أن يموتوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٤]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أخرج الطبرانيّ وابن إسحاق عن ابن عباس قال:
قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس: إن ربك بخيل لا ينفق. فنزلت.
وأخرج أبو الشيخ من وجه آخر عنه: نزلت في فنحاص، رأس يهود قينقاع، وتقدم أنه الذي قال: إن الله فقير ونحن أغنياء. فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
فيكون أريد بالآية هنا، ما حكى عنه بقوله المذكور. والله أعلم.
ولما لم ينكر على القائل قومه ورضوا به، نسبت تلك العظيمة إلى الكل، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا. وإنما القاتل واحد منهم. و (غلّ اليد وبسطها) : مجاز
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٣٦١.
(٢) أخرجه أبو داود في: الملاحم، ١٧- باب الأمر والنهي، حديث ٤٣٣٩.
184
مشهور عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٢٩]، قالوا: والسبب فيه أن اليد آلة لأكثر الأعمال.
لا سيما لدفع المال ولإنفاقه. فأطلقوا اسم السبب على المسبب. وأسندوا الجود والبخل إلى اليد والبنان والكف والأنامل. فقيل للجواد: فياض الكف. مبسوط اليد، وسبط البنان نزه الأنامل. ويقال للبخيل: كزّ الأصابع، مقبوض الكف، جعد الأنامل.
وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل أو بالفقر والمسكنة، أو بغلّ الأيدي حقيقة. يغلّون أي: تشدّ أيديهم إلى أعناقهم أسارى في الدنيا ومسحوبين إلى النار في الآخرة وَلُعِنُوا أي: أبعدوا عن الرحمة فلا يوفقون للتوبة بِما قالُوا من الكلمة الشنيعة التي لا تصح في حق الله حقيقة ولا مجازا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ أي: بأنواع العطايا المختلفة. وثنّى (اليد) مبالغة في الرّد ونفي البخل عنه تعالى، وإثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لما قبله، منبه على أن إنفاقه تابع لمشيئته، المبنية على الحكم، التي عليها يدور أمر المعاش والمعاد.
وهاهنا مباحث
الأول: ما زعمه الزمخشريّ ومن تابعه- من أنّ إثبات اليد لا يصحّ حقيقة له تعالى- فإنه نزعة كلامية اعتزالية.
قال الإمام ابن عبد البرّ في (شرح الموطأ) : أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز. إلّا أنهم لا يكيّفون شيئا من ذلك ولا يحدّون فيه صفة محصورة. وأما أهل البدع، الجهمية والمعتزلة كلها، والخوارج، فكلهم ينكروها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة. ويزعم أن من أقرّ بها شبّه. وهم عند من أقرّ بها نافون للمعبود. والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنة رسوله. وهم أئمة الجماعة.
وقال القاضي أبو يعلى في كتاب (إبطال التأويل) : لا يجوز ردّ هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها. والواجب حملها على ظاهرها، وأنها صفات الله، لا تشبّه بسائر الموصوفين بها من الخلق، ولا يعتقد التشبيه فيها ثم قال: ويدل على إبطال التأويل، أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين، حملوها على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفها عن ظاهرها، ولو كان التأويل سائغا لكانوا إليه أسبق. لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة.
185
وقال الإمام أبو الحسن الأشعريّ رحمه الله تعالى في كتاب (الإبانة) في باب (الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين) وذكر الآيات في ذلك. ورد على المتأولين بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته. مثل قوله:
فإن سئلنا: أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] وقوله تعالى: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: ٧٥]
وروي «١» عن النبيّ ﷺ أنه قال: ان الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذرية
وقد جاء في الخبر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: أن الله خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس شجرة طوبى بيده.
وليس يجوز في لسان العرب، ولا في عادة أهل الخطاب، أن يقول القائل: عملت كذا بيدي، ويعني به النعمة. وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري في مفهومها في كلامها، ومعقولا في خطابها، وكان لا يجوز في خطاب أهل اللسان أن يقول القائل: فعلت بيدي، ويعني به النعمة- بطل أن يكون معنى قوله عز وجل بِيَدَيَّ النعمة. وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه.
وقال القاضي أبو بكر الباقلانيّ في كتاب (الإبانة) له:
فإن قال: فما الدليل على أنّ لله وجها ويدا؟ قيل له: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن: ٢٧]، وقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ فأثبت لنفسه وجها ويدا: فإن قال: فما أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إذ كنتم لا تعقلون وجها ويدا إلّا جارحة؟ قلنا: لا يجب هذا كما لا يجب- إذا لم نعقل حيّا عالما قادرا إلّا جسما- أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه.
وقال الشيخ تقيّ الدين في (الرسالة المدنية)
(١)
أخرجه أبو داود في: السنة، ١٦- باب في القدر، حديث ٤٧٠٣ ونصه: عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ.
فقال عمر: سمعت رسول الله ﷺ سئل عنها فقال رسول الله ﷺ «إن الله عز وجل خلق آدم. ثم مسح ظهره بيمينه. فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون».
فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله ﷺ «إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة. وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار
.
186
مذهب أهل الحديث- وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف- أنّ هذه الأحاديث تمرّ كما جاءت ويؤمن. بها وتصدّق وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف- منهم الخطابيّ- مذهب السلف أنّها تجري على ظاهره مع نفي الكيفية والتشبيه عنها. وذلك، أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات، يحتذي حذوه ويتبع فيه مثاله. فإذا كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية.
فكذلك إثبات الصفات إثبات وجود لا إثبات كيفية.. انتهى.
ويرحم الله الإمام يحيى الصرصريّ الأنصاريّ حيث يقول من قصيدة:
إن المقال بالاعتزال لخطّة عمياء حلّ بها الغواة المرد
هجموا على سبل الهدى بعقولهم ليلا فعاثوا في الديار وأفسدوا
صمّ، إذا ذكر الحديث لديهم نفروا، كأن لم يسمعوه، وغرّدوا
واضرب لهم مثل الحمير إذا رأت أسد العرين فهنّ منهم شرّد
إلى أن قال:
يدعو من اتبع الحديث مشبّها هيهات ليس مشبّها من يسند
لكنه يروي الحديث كما أتى من غير تأويل ولا يتأوّد
الثاني:
روى الإمام «١» أحمد والشيخان «٢» في معنى الآية عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة. سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يغض ما في يمينه. وكان عرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض- أو القبض- يرفع ويخفض وقال: يقول الله تعالى:
أنفق أنفق عليك.
الثالث: في هذه الآية دلالة على جواز لعن اليهود، ولا إشكال أنّ ذلك جائز.
الرابع: هذه الآية أصل في تكفير من صدر منه، في جناب البارئ تعالى، ما يؤذن بنقص.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٤٢ والحديث رقم ٧٢٩٦.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ١١- سورة هود، ٢- باب قوله وكان عرشه على الماء، حديث ٢٠١٢.
ومسلم في: الزكاة، حديث ٣٦.
187
وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من جوامع الخيرات طُغْياناً أي: عدوانا على الناس، أو تماديا في الجحود وَكُفْراً أي: في أنفسهم بعد كفرهم وطغيانهم بالتحريف وأخذ الرشوة أوّلا. وهذا من إضافة الفعل إلى السبب. أي: يزدادون طغيانا وكفرا بما أنزل، كما قال:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ. [التوبة: ١٢٥].
قال الحافظ ابن كثير: أي يكون ما آتاك الله، يا محمّد، من النعمة نقمة في حقّ أعدائك من اليهود وأشباههم. فكما يزداد به المؤمنون تصديقا وعملا صالحا وعلما نافعا، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك، طغيانا- وهو المبالغة والمجاوزة للحدّ في الأشياء- وكفرا أي تكذيبا. كما قال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:
٤٤]، وقال تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢].
وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكلمتهم أبدا مختلفة وقلوبهم شتى، لا يقع بينهم اتفاق ولا تعاضد.
وقد ذكر الشهرستانيّ أنهم افترقوا نيّفا وسبعين فرقة. ولما قدم النبيّ ﷺ المدينة، كان اليهود ثلاث طوائف حول المدينة: بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة. وبسط ما جرياتهم، وهدية ﷺ في شأنهم، مبسوط في (زاد المعاد) لابن القيم. فراجعه.
قال الرازيّ: واعلم أن اتصال هذه الآية بما قبلها، هو أنه تعالى بيّن أنهم إنما ينكرون نبوّته بعد ظهور الدلائل على صحتها، لأجل الحسد ولأجل حب الجاه والتبع والمال والسيادة. ثم إنه تعالى بيّن أنهم، لما رجّحوا الدنيا على الآخرة، لا جرم أن الله تعالى، كما حرمهم سعادة الدين، فكذلك حرمهم سعادة الدنيا، لأن كل فريق منهم بقي مصرّا على مذهبه ومقالته. يبالغ في نصرته ويطعن في كل ما سواه من المذاهب والمقالات. تعظما لنفسه وترويجا لمذهبه. فصار ذلك سببا لوقوع الخصومة الشديدة بين فرقهم وطوائفهم. وانتهى الأمر فيه إلى أن بعضهم يكفّر بعضا، ويغزو بعضهم بعضا.
وفي الآية وجهان: (أحدهما) ما بين اليهود والنصارى، لأنه جرى ذكرهم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى [المائدة: ٥١]. وهو قول الحسن
188
ومجاهد. لأنهم المحدّث عنهم في قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ. و (الثاني) ما بين فرق اليهود خاصة.
أقول: وهو الظاهر. فإن قلت: فهذا المعنى حاصل أيضا بين فرق المسلمين، فكيف يكون ذلك عيبا على الكتابيين حتى يذموا به؟ قلت: بدعة التفرق التي حصلت في المسلمين، إنما حدثت بعد عصر النبيّ ﷺ وعصر الصحابة والتابعين.
أما في الصدر الأول فلم يكن شيء من ذلك حاصلا بينهم فحسن جعل ذلك عيبا على الكتابيين في ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن.
كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي: كلما أرادوا حرب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة شر عليه، ردهم الله سبحانه وتعالى، بأن أوقع بينهم منازعة كفّ بها عنه شرهم، أو: كلما أرادوا حرب أحد، غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط. فإيقاد النار كناية عن إرادة الحرب، لأنه كان عادتهم ذلك. ونيران العرب مشهورة، منها هذه. وإطفاء النار على الأول عبارة عن دفع شرهم، وعلى الثاني غلبتهم. و (للحرب) إما صلة ل (أوقدوا)، أو متعلق بمحذوف وقع صفة (نارا) أي:
كائنة للحرب. ووَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: للفساد أو مفسدين، أي: يجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وتعويق الناس عنه وإثارة الفتن وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي: من كان الإفساد صفته. و (اللام) إما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليّا، أو للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر للتعليل، وبيان كونهم راسخين في الإفساد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي: مع ما عددنا من سيئاتهم آمَنُوا برسول الله ﷺ وبما جاء به وَاتَّقَوْا مباشرة الكبائر لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ أي ذنوبهم وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ في الآخرة مع المسلمين. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وكثرة سيئاتهم، ودلالة على سعة رحمة الله تعالى وفتحه باب التوبة على كل عاص، وإن عظمت معاصيه وبلغت مبالغ سيئات اليهود والنصارى، وأن الإسلام يجبّ ما قبله وإن جلّ. وأن الكتابيّ لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
قال الزمخشريّ: وفيه أن الإيمان لا ينجي ولا يسعد إلا مشفوعا بالتقوى، كما قال الحسن: هذا العمود، فأين الأطناب؟ انتهى.
قال ناصر الدين في (الانتصاف) : هو ينتهز الفرصة من ظاهر هذه الآية فيجعله دليلا على قاعدته، في أن مجرد الإيمان لا ينجي من الخلود في النار، حتى ينضاف إليه التقوى. لأن الله تعالى جعل المجموع في هذه الآية شرطا للتكفير ولإدخال الجنة. وظاهره أنهما ما لم يجتمعا لا يوجد تكفير ولا دخول الجنة. وأنى له ذلك؟
والإجماع والاتفاق من الفريقين- أهل السنة والجماعة، والمعتزلة- على أن مجرد الإيمان يجبّ ما قبله ويمحوه كما ورد النص. فلو فرضنا موت الداخل في الإيمان عقيب دخوله فيه، لكان كيوم ولدته أمه- باتفاق- مكفّر الخطايا محكوما له بالجنة. فدل ذلك على أن اجتماع الأمرين ليس بشرط، هذا إن كان المراد بالتقوى الأعمال. وإن كانت التقوى- على أصل موضعها- الخوف من الله عز وجل، فهذا المعنى ثابت لكل مؤمن وإن قارف الكبائر، وحينئذ لا يتم للزمخشريّ منه غرض.
وما هذا إلا إلحاح ولجاج في مخالفة المعتقد المستفاد من
قوله «١» عليه الصلاة والسلام: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى أو سرق. كررها النبيّ ﷺ مرارا، ثم قال: وإن رغم أنف أبي ذر. لمّا راجعه رضي الله في ذلك، ونحن نقول: وإن رغم أنف القدرية
. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٦]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي: أقاموا أحكامهما وحدودهما وما فيهما من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصل الإقامة الثبات في المكان. ثم استعير إقامة الشيء لتوفية حقه وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ أي: بيّنوا ما بيّن لهم ربهم في التوراة والإنجيل. ويقال: أقروا بجملة الكتب والرسل من ربهم، ويقال: هو القرآن:
(١)
أخرجه البخاري في: اللباس، ٢٤- باب الثياب البيض، حديث ٦٦٠ ونصه: عن أبي ذر قال: أتيت النبي ﷺ وعليه ثوب أبيض وهو نائم. ثم أتيته وقد استيقظ فقال «ما من عبد قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال «وإن زنى وإن سرق؟» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال «وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال «وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر». وكان أبي ذر إذا حدث بهذا، قال: وإن رغم أنف أبي ذر.
قال عبد الله (أي البخاري) : هذا عند الموت أو قبله، إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر له.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ١٥٤
.
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لوسّع عليهم أرزاقهم، بأن يفيض عليهم بركات من السماء والأرض، ويكثر ثمرة الأشجار وغلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنونها من رأس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض. وجعل (من فوقهم ومن تحت أرجلهم) بمعنى الأمطار والأنهار التي تحصل بها أقواتهم- بعيد من الأكل. والأقرب الوجوه الثلاثة المتقدمة. ونبه تعالي بذلك على أن ما أصابهم من الضنك والضيق، إنما هو بشؤم معاصيهم. وكفرهم، لا لقصور في فيض الكريم، تعالى. ودلت الآية على أن العمل بطاعة الله تعالى سبب لسعة الرزق، وهو كقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: ٩٦]. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: ٢- ٣]. فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً.. الآيات. [نوح: ١٠].
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً [الجن: ١٦].
روى الإمام «١» أحمد عن زياد بن لبيد أنه قال: ذكر النبيّ ﷺ شيئا فقال:
وذاك عند ذهاب العلم قال، قلنا: يا رسول الله! وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ فقال: ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد! إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة. أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل، لا ينتفعون مما فيهما بشيء.
وفي رواية ابن أبي حاتم: أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى؟
فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله؟ ثم قرأ: لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ.. الآية.
مِنْهُمْ أُمَّةٌ أي طائفة مُقْتَصِدَةٌ أي: عادلة مستقيمة، وهم من آمن بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ أي: بئس ما يَعْمَلُونَ أي: من تحريف الحق والإعراض عنه والإفراط في العداوة. والآية كقوله تعالى: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: ١٥٩].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٧]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧)
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ نودي ﷺ بعنوان الرسالة تشريفا له وإيذانا بأنها من موجبات
(١) أخرجه في المسند ٤/ ١٦٠.
191
الإتيان بما أمر به من التبليغ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ مما يفصّل مساوئ الكفار، ومن قتالهم، والدعوة إلى الإسلام، غير مراقب في التبليغ أحدا، ولا خائف أن ينالك مكروه وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي: ما تؤمر به من تبليغ الجميع، سترا لبعض مساوئهم فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي: شيئا مما أرسلت به. لما أن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض.
فإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا. كما أنّ من لم يؤمن ببعضها، كان كمن لم يؤمن بكلّها.
قال في (الانتصاف) : ولما كان عدم تبليغ الرسالة أمرا معلوما عند الناس، مستقرّا في الأفهام أنه عظيم شنيع، ينقم على مرتكبه، بل عدم نشر العلم من العالم أمر فظيع، فضلا عن كتمان الرسالة من الرسول- استغنى عن ذكر الزيادات التي يتفاوت بها الشرط والجزاء، للصوقها بالجزاء في الأفهام. وإن كل من سمع عدم تبليغ الرسالة، فهم ما وراءه من الوعيد والتهديد. وحسن هذا الأسلوب في الكتاب العزيز بذكر الشرط عامّا بقوله وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ولم يقل: فإن لم تبلغ الرسالة فما بلغت الرسالة. حتى يكون اللفظ متغايرا، وهذه المغايرة اللفظية- وإن كان المعنى واحد- أحسن رونقا وأظهر طلاوة، من تكرار اللفظ الواحد في الشرط والجزاء. وهذا الفصل كاللباب من علم البيان.
وقوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة منه تعالى بحفظه من لحوق ضرر بروحه الشريفة، باعث له على الجدّ فيما أمر به من التبليغ وعدم الاكتراث بعداوتهم وكيدهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ تعليل لعصمته، أي: لا يهديهم طريق الإساءة إليك، فما عذرك في مراقبتهم؟
تنبيهات:
الأول: لا خفاء في أن النبيّ ﷺ قد بلّغ البلاغ التام، وقام به أتمّ القيام، وثبت في الشدائد وهو مطلوب، وصبر على البأساء والضرّاء وهو مكروب ومحروب، وقد لقى بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي. وهو، مع الضعف، يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ثم انتصب لجهاد الأعداء وقد أحاطوا بجهاته، وأحدقوا بجنباته، وصار بإئثانه في الأعداء محذورا، وبالرعب منه منصورا، حتى أصبح سراج الدين وهّاجا، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
روى البخاريّ «١» ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت لمسروق:
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٧- باب يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، حديث ١٥٢٨.
192
من حدثك أنّ محمدا كتم شيئا مما أنزل الله عليه فقد كذب، والله يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... الآية.
وفي (الصحيحين) «١» عنها أيضا أنها قالت: لو كان محمد ﷺ كاتما شيئا من القرآن لكتم هذه الآية: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ.
وروى البخاريّ «٢» وغيره عن أبي جحيفة قال: قلت لعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وقال البخاريّ «٣» : قال الزهريّ: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
قال ابن كثير: وقد شهدت له ﷺ أمته بإبلاغ الرسالة، وأداء الأمانة، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفا. كما
ثبت في (صحيح مسلم) «٤» عن جابر بن عبد
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٨٨.
(٢) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١٧١- باب فكاك الأسير، حديث ٩٥.
(٣) أخرجه البخاري في: التوحيد، ٤٦- باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ.
(٤)
أخرجه مسلم في: الحج، ١٩- باب حجة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ١٤٧ ونصه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم. جميعا عن حاتم. قال أبو بكر: حدثنا حاتم بن إسماعيل المدنيّ عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله. فسأل عن القوم حتى انتهى إليّ.
فقلت: أنا محمد بن عليّ بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي فنزع زري الأعلى (أي أخرجه من عروته لينكشف صدري عن القميص) ثم نزع زري الأسفل. ثم وضع كفه بين ثدييّ وأنا يومئذ غلام شابّ. فقال: مرحبا بك، يا ابن أخي! سل عما شئت. فسألته، وهو أعمى. وحضر وقت الصلاة فقام في نساجة (في النهاية: هي ضرب من الملاحف منسوجة) ملتحفا بها. كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها. ورداؤه إلى جنبه على المشجب (هو عيدان تضم رؤوسها ويفرج بين قوائمها، توضع عليها الثياب) فصلى بنا. فقلت: أخبرني عن حجّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال بيده (أي: أشار بها) فعدّ تسعا، فقال: إن رسول الله ﷺ مكث تسع سنين لم يحج.
ثم أذّن في الناس في العاشرة، أن رسول الله ﷺ حاجّ. فقدم المدينة بشر كثير. كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعمل مثل عمله. فخرجنا معه. حتى أتينا ذا الحليفة. فولدت أسماء
[.....]
193
الله: أن رسول الله ﷺ قال في خطبته يومئذ: يا أيها الناس! إنكم مسؤولون عني فما أنتم قائلون؟
بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري (الاستثفار هو أن تشد في وسطها شيئا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم وتشد طرفيها، من قدامها ومن ورائها، في ذلك المشدود في وسطها. وهو شبيه بثفر الدابة الذي يجعل تحت ذنبها) بثوب وأحرمي».
فصلى رسول الله ﷺ في المسجد، ثم ركب القصواء. حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت إلى مدّ بصري بين يديه. من راكب وماش. وعن يمينه مثل ذلك. وعن يساره مثل ذلك.
ومن خلفه مثل ذلك. ورسول الله ﷺ بين أظهرنا. وعليه ينزل القرآن. وهو يعرف تأويله. وما عمل به من شيء عملنا به. فأهلّ التوحيد «لبيك اللهم! لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك».
وأهلّ الناس بهذا الذي يهلون به. فلم يردّ رسول الله ﷺ شيئا منه. ولزم رسول الله ﷺ تلبيته.
قال جابر: لسنا ننوي إلا الحجة. لسنا نعرف العمرة. حتى إذا أتينا البيت معه، استلم الركن. فرمل (الرمل إسراع في المشي مع تقارب الخطا، وهو الخبب) ثلاثا ومشى أربعا. ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام. فقرأ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة: ١٢٥] فجعل المقام بينه وبين البيت. فكان أبي يقول (ولا أعلمه ذكره إلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم) : كان يقرأ في الركعتين: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وقُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ.
ثم رجع إلى الركن فاستلمه. ثم خرج من الباب إلى الصفا. فلما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [البقرة: ١٥٨] «أبدأ بما بدأ الله به».
فبدأ بالصفا. فرقى عليه، حتى رأى البيت فاستقبل القبلة. فوحّد الله وكبّره. وقال «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا إله إلا الله وحده. أنجز وعده. ونصر عبده. وهزم الأحزاب وحده».
ثم دعا بين ذلك. قال مثل هذا ثلاث مرات.
ثم نزل إلى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا.
حتى إذا كان آخر طوافه على المروة فقال «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة. فمن كان منكم ليس معه هدي فليحلّ، وليجعلها عمرة».
فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا أم لأبد؟ فشبّك رسول الله ﷺ أصابعه واحدة في الأخرى وقال «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا. بل لأبد أبد» وقدم عليّ من اليمن ببدن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فوجد فاطمة رضي الله عنها ممن حلّ، ولبسن ثيابا صبيغا واكتحلت. فأنكر ذلك عليها. فقالت: إن أبي أمرني بهذا.
قال، فكان عليّ يقول، بالعراق: فذهبت إلى رسول الله ﷺ محرّشا على فاطمة للذي صنعت.
مستفتيا لرسول الله ﷺ فيما ذكرت عنه: فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها. فقال «صدقت.
صدقت. ماذا قلت، حين فرضت الحج؟ قال، قلت: اللهم! إني أهلّ بما أهلّ به رسولك. قال «فإن معي الهدي فلا تحلّ»
.
194
قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع رأسه ويرفع يده إلى السماء وينكبها إليهم ويقولون: اللهم! هل بلغت؟.
قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به عليّ من اليمن، والذي أتى به النبيّ ﷺ مائة.
قال، فحلّ الناس كلهم وقصّروا. إلا النبيّ ﷺ ومن كان معه هدي.
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى. فأهلّوا بالحج. وركب رسول الله ﷺ فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر. ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس. وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة (موضع بجنب عرفات) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تشكّ قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام. كما كانت قريش تصنع في الجاهلية.
فأجاز رسول الله ﷺ حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها. حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له. فأتى بطن الوادي، فخطب الناس فقال:
«إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا. في شهركم هذا. في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية، تحت قدميّ موضوع. ودماء الجاهلية موضوعة. وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث. كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربانا. ربا عباس بن عبد المطلب. فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله. واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ولكنّ عليهنّ ألا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه. فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرّح. ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف.
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به. كتاب الله. وأنتم تسألون عني. فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وأديت ونصحت. فقال بإصبعه السبّابة، يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس «اللهم! اشهد. اللهم! اشهد»
ثلاث مرات.
ثم أذّن. ثم أقام فصلى الظهر. ثم أقام فصلى العصر. ولم يصلّ بينهما شيئا.
ثم ركب رسول الله ﷺ حتى أتى الموقف، فجعل ناقته القصواء إلى الصخرات (هي صخرات مفترشات في أسفل جبل الرحمة) وجعل حبل المشاة بين يديه (حبل المشاة أي مجتمعهم) واستقبل القبلة. فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص.
وأردف أسامة خلفه. ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق للقصواء الزمام. حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله. ويقول بيده اليمنى «أيها الناس! السكينة السكينة».
كلما أتى حبلا من الحبال (الحبل هو التل اللطيف من الرمل الضخم) أرخى لها قليلا، حتى تصعد. حتى أتى المزدلفة. فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين. ولم يسبّح بينهما شيئا. ثم اضطجع رسول الله ﷺ حتى طلع الفجر. وصلى الفجر حين تبين له الصبح، بأذان وإقامة.
ثم ركب القصواء حتى أشعر المشعر الحرام. فاستقبل القبلة. فدعاه وكبّره وهلّله ووحّده.
فلم يزل واقفا حتى أسفر جدّا. فدفع قبل أن تطلع الشمس. وأردف الفضل بن عباس. وكان رجلا حسن الشعر أبيض وسيما. فلما دفع رسول الله ﷺ مرت به ظعن يجرين. فطفق الفضل ينظر إليهن. فوضع رسول الله ﷺ يده على وجه الفضل. فحوّل الفضل وجهه إلى الشق الآخر ينظر.
فحول رسول الله ﷺ يده من الشق الآخر على وجه الفضل.
195
وروى الإمام أحمد «١» عن ابن عباس: قال رسول الله ﷺ في حجة الوداع: يا أيها الناس! أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام. قال: أيّ بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال فأي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام. قال: فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا. ثم أعادها مرارا. ثم رفع إصبعه إلى السماء فقال: اللهم! هل بلّغت؟ مرارا (قال ابن عباس: والله! إنها لوصية إلى ربه عز وجل) ثم قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب. لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض..! وقد روى البخاريّ «٢» نحوه..
الثاني: تضمن قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ معجزة كبرى لرسوله صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الماورديّ في كتابه (أعلام النبوة) في الباب الثامن في معجزاته، عصمته صلى الله عليه وسلم. ما نصه:
أظهر الله تعالى لرسوله ﷺ من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن، واستغنائه عما سواه من البرهان، ما جعله زيادة استبصار يحجّ به من قلت فطنته، ويذعن لها من ضعفت بصيرته، ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا واستظهارا، فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه، واللبيب محجوبا بفهمه وبيانه، لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب، ولهم أجذب، فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا، وأعم دليلا. فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير، والعدد الكثير، وهم على
حتى أتى بطن محسّر. فحرّك قليلا. ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى.
حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة. فرماها بسبع حصيات. يكبّر مع كل حصاة منها. حصى الخذف.
رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بيده. ثم أعطى عليّا، فنحر ما غبر. وأشركه في هديه. ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر، فطبخت. فأكلا من لحمها وشربا من مرقها.
ثم ركب رسول الله ﷺ فأفاض إلى البيت. فصلى بمكة الظهر.
فأتى بني عبد المطلب يسقون على زمزم. فقال «انزعوا، بني عبد المطلب! فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم، لنزعت معكم».
فناولوه دلوا فشرب منه.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢٣٠ والحديث رقم ٢٠٣٦.
(٢) أخرجه البخاري في: الحج، ١٣٢- باب الخطبة أيام منى، حديث ٨٩٢.
196
أتم حنق عليه، وأشد طلب لنفسه. وهو بينهم مسترسل قاهر، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرا، وترتد عنه أيديهم ذعرا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرا، حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة. ثم خرج عنهم. سليما لم يكلم في نفس ولا جسد. وما كان ذلك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فعصمه منهم.
ثم قال الماورديّ رحمه الله تعالى: وإن قريشا اجتمعت في دار الندوة. وكان فيهم النضر بن الحارث بن كنانة، وكان زعيم القوم. وساعده عبد الله بن الزّبعري وكان شاعر القوم. فحضهم على قتل محمد ﷺ وقال لهم: الموت خير لكم من الحياة. فقال بعضهم: كيف نصنع؟ فقال أبو جهل: هل محمد إلا رجل واحد؟ وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش؟ فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمدا ويريح قومه؟ وأطرق مليا. فقالوا: من فعل هذا ساد. فقال أبو جهل: ما محمد بأقوى من رجل منا. وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر. فإن قتلت أرحت قومي، وإن بقيت فذاك الذي أوثر. فخرجوا على ذلك. فلما اجتمعوا في الحطيم، خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد جاء. فتقدم من الركن فقام يصلي. فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود، فقال أبو جهل: فإني أقوم فأريحكم منه، فأخذ مهراسا عظيما. ودنا من رسول الله ﷺ وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه، وهو يراه. فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله. فرجع وقد شدخت أصابعه وهو يرتعد، وقد دوخت أوداجه.
ورسول الله ﷺ ساجد، فقال أبو جهل لأصحابه: خذوني إليكم. فالتزموه وقد غشي عليه ساعة. فلما آفاق قال له أصحابه: ما الذي أصابك؟ قال: لما دنوت منه، أقبل عليّ من رأسه فحل فاغر فاه. فحمل عليّ أسنانه. فلم أتمالك. وإني أرى محمدا محجوبا. فقال له بعض أصحابه: يا أبا الحكم! رغبت وأحببت الحياة ورجعت. قال:
ما تغرّوني عن نفسي. قال النضر بن الحارث: فإن رجع غدا فأنا له. قالوا له: يا أبا سهم! لئن فعلت هذا لتسودنّ. فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه. فأخذ حفنة من تراب وقال: شاهت الوجوه. وقال: حم لا ينصرون، فتفرقوا عنه.
وهذا دفع إلهيّ وثق به من الله تعالى. فصبر عليه حتى وقاه الله، وكان من أقوى شاهد على صدقه.
(ومن أعلامه) : أن معمر بن يزيد، وكان أشجع قومه، استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره، فلما شكوا إليه قال لهم: إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه. وعندي عشرون ألف مدجّج
197
فلا أرى هذا الحيّ من بني هاشم يقدر على حربي. وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات، ففي مالي سعة. وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر. وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس. فلبس، يوم وعده قريشا، سلاحه وظاهر بين درعين. فوافقهم بالحطيم ورسول الله ﷺ في الحجر يصلي. وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في الصلاة. فقيل له: هذا محمد ساجد. فأهوى إليه، وقد سل سيفه وأقبل نحوه. فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد. فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام، وقد أدمى وجهه بالحجارة، يعدو كأشد العدو. حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف. فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا: ما أصابك؟
قال: ويحكم! المغرور من غررتموه. قالوا: ما شأنك؟ قال: ما رأيت كاليوم. دعوني ترجع إلي نفسي. فتركوه ساعة وقالوا: ما أصابك؟ يا أبا الليث! قال: إني لما دنوت من محمد، فأردت أن أهوى بسيفي إليه، أهوى إليّ من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران، وتلمع من أبصارهما. فعدوت. فما كنت لأعود في شيء من مساءة محمد.
(ومن أعلامه) : أن كلدة بن أسد، أبا الأشد، وكان من القوة بمكان، خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم. فرأى رسول الله ﷺ في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال. فجاء كلدة ومعه المزراق.
فرجع المزراق في صدره. فرجع فزعا. فقالت له قريش: مالك؟ يا أبا الأشد! فقال:
ويحكم! ما ترون الفحل خلفي؟ قالوا: ما نرى شيئا. قال: ويحكم! فإني أراه. فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف. فاستهزأت به ثقيف، فقال: أنا أعذركم، لو رأيتم ما رأيت لهلكتم.
(ومن أعلامه) : أن أبا لهب خرج يوما، وقد اجتمعت قريش فقالوا له: يا أبا عتبة! إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا. وإن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه. ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا. وأنت بريء من دمه فنؤدي نحن الدية وتسود قومك. فقال: فإني أكفيكم! ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم. فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه، نزل أبو لهب، وهو يصلي. وتسلقت امرأته أم جميل الحائط، حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد. فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه، وهما كانا لا ينقلان قدما ولا يقدران على شيء حتى تفجر الصبح. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له أبو لهب: يا محمدا أطلق عنا. فقال: ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني، قالا: قد فعلنا. فدعا ربه فرجعا.
(ومن أعلامه) : أن قريشا اجتمعوا في الحطيم. فخطبهم. عتبة بن ربيعة
198
فقال: إن هذا ابن عبد المطلب قد نغص علينا عيشنا وفرّق جماعتنا وبدّد شملنا وعاب ديننا وسفّه أحلامنا وضلل آباءنا. وكان في القوم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام وشيبة بن ربيعة والنضر بن الحارث ومنبه ونبيه ابنا الحجاج، وأمية وأبيّ ابنا خلف، في جماعة من صناديد قريش. فقالوا له: قل ما شئت فإنا نطيعك. قال:
سأقوم فأكلمه. فإن هو رجع عن كلامه وعما يدعو إليه. وإلا رأينا فيه رأينا. فقالوا له:
شأنك يا أبا عبد شمس! فقام وتقدم إلى النبيّ ﷺ وهو جالس وحده. فقال: أنعم صباحا يا محمد! قال: يا عبد شمس! إن الله قد أبدلنا بهذا، السلام، تحية أهل الجنة. قال: يا ابن أخي! إني قد جئتك من عند صناديد قريش لأعرض عليك أمورهم. إن أنت قبلتها فلك الحظ فيها ولنا فيها الفسحة! ثم قال: يا ابن عبد المطلب! أنا زعيم قريش فيما قالت. قال: قل. قال: يا ابن عبد المطلب! إنك دعوت العرب إلى أمر ما يعرفونه فاقبل مني ما أقول لك. قال: قل. قال: إن كان ما تدعو إليه تطلب به ملكا فإنا نملكك علينا من غير تعب ونتوجك، فارجع عن ذلك. فسكت.
ثم قال له: وإن كان ما تدعوا إليه أمرا تريد به امرأة حسناء فنحن نزوجك. فقال: لا قوة إلا بالله! ثم قال له: وإن كان ما تتكلم به تريد مالا أعطيناك من الأموال حتى تكون أغنى رجل في قريش. فإن ذلك أهون علينا من تشتت كلمتنا وتفريق جماعتنا. وإن كان ما تدعو إليه جنونا داويناك كما تداوي قيس بن ثعلبة مجنونهم.
فسكت النبيّ ﷺ فقال: يا محمد! ما تقول؟ وبم أرجع إلى قريش؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ- حتى بلغ إلى قوله فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ [فصلت: ١- ١٣]. قال عتبة: فلما تكلم بهذا الكلام، فكأن الكعبة مالت حتى خفت أن تمس رأسي من أعجازها. وقام فزعا يجر رداءه. فرجع إلى قريش وهو ينتفض انتفاض العصفور. وقام النبيّ ﷺ يصلي.
فقالت قريش: لقد ذهبت من عندنا نشيطا ورجعت فزعا مرعوبا فما وراءك؟ قال:
ويحكم! دعوني. إنه كلمني بكلام لا أدري منه شيئا. ولقد رعدت عليّ الرعدة حتى خفت على نفسي، وقلت: الصاعقة قد أخذتني.. فندموا على ذلك.
(ومن أعلامه) : أنه لما أراد الهجرة، خرج من مكة ومعه أبو بكر. فدخل غارا في جبل ثور ليستخفي من قريش. وقد طلبته وبذلت لمن جاء به مائة ناقة حمراء، فأعانه الله تعالى بإخفاء أثره. وأنبت على باب الغار ثمامة (وهي شجرة صغيرة).
وألهمت العنكبوت فنسجت على باب الغار نسج سنين في طرفه عين. ولدغ أبو بكر
199
هذه الليلة غير لدغة. فخرّق ثيابه وجعلها في الشقوق. وسدّ بعضها بقدمه اتقاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقام فيه ثلاثة أيام ثم خرج منه. فلقيه سراقة بن مالك بن جعشم.
وهو من جملة من توجه لطلبه، فقال له أبو بكر: هذا سراقة قد قرب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ! اكفنا سراقة. فأخذت الأرض قوائم فرسه إلى إبطها. فقال سراقة: يا محمد! ادع الله أن يطلقني ولك عليّ أن أردّ من جاء يطلبك، ولا أعين عليك أبدا! فقال اللهمّ! إن كان صادقا فأطلق عن فرسه. فأطلق الله عنه. ثم أسلم سراقة وحسن إسلامه.
هذا ما أورده الماروديّ من الأعلام قبل الهجرة ثم أورد ما وقع بعدها وسننقلها عن ابن كثير، فإنه قال في هذه الآية:
ومن عصمة الله لرسوله، حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسّادها ومعانديها ومترفيها، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارا، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدره وحكمته العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب. إذ كان رئيسا مطاعا كبيرا في قريش. وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لا شرعية. ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها.
ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر، هابوه واحترموه. فلما مات عمه أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرا. ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام، وعلى أن يتحمل إلى دراهم، وهي المدينة. فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود. وكلّما همّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله وردّ كيده عليه. كما كاده اليهود «١» بالسحر، فحماه الله منهم وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء. ولما سمّه «٢» اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر، أعلمه الله به وحماه منه. ولهذا أشباه كثيرة جدّا يطول ذكرها. فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة:
فقال ابن جرير «٣» : حدثنا الحارث حدثنا عبد العزيز حدثنا أبو معشر حدثنا
(١) انظر صحيح البخاري في: الطب، ٤٧- باب السحر وقول الله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ. و ٤٩- باب هل يستخرج السحر و ٥٠- باب السحر.
والحديث رقم ١٤٩٩ عن السيدة عائشة رضي الله عنها.
(٢) انظر صحيح البخاري في: الجزية والموادعة، ٧- باب إذا غدر المشركون بالمسلمين، هل يعفى عنهم؟ والحديث رقم ١٤٩٨ عن أبي هريرة.
(٣) الأثر رقم ١٢٢٧٨ من التفسير.
200
محمد بن كعب القرظيّ وغيره قالوا: كان رسول الله ﷺ إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة، فيقيل تحتها. فأتاه أعرابيّ فاخترط سيفه ثم قال: من يمنعك مني؟ قال: الله عز وجلّ. فرعدت يد الأعرابيّ وسقط السيف منه. قال: وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه فأنزل الله عز وجل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
وروى ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: لما غزا رسول الله ﷺ بني أنمار، نزل ذات الرقاع بأعلى نخل. فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلّى رجليه، فقال الوارث من بني النجار: لأقتلنّ محمدا. فقال له أصحابه: كيف تقتله؟
قال: أقول له أعطني سيفك، فإذا أعطانيه قتلته به. قال: فأتاه فقال: يا محمد! أعطني سيفك أشيمه. فأعطاه إياه. فرعدت يده حتى سقط السيف من يده. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حال الله بينك وبين ما تريد. فأنزل الله عز وجل: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب من هذا الوجه. ثم قال: وقصة غورث بن الحارث مشهورة في الصحيح. يريد ما
أخرجه الشيخان «١» عن جابر قال: غزونا مع رسول الله ﷺ قبل نجد. فلما قفل رسول الله ﷺ أدركتهم القائلة في واد كثير العضاه. فنزل رسول الله ﷺ وتفرق الناس يستظلون بالشجر. فنزل رسول الله ﷺ تحت شجرة. فعلق بها سيفه ونمنا معه نومة. فإذا رسول الله ﷺ يدعونا. وإذا عنده أعرابيّ فقال: إنّ هذا اخترط عليّ سيفي وأنا نائم. فاستيقظت وهو في يده صلتا.
فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله. ثلاثا. ولم يعاقبه وجلس.
وفي رواية أخرى قال جابر: كنا مع رسول الله بذات الرقاع. فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رجل من المشركين، وسيف رسول الله ﷺ معلق بالشجرة. فاخترطه فقال: تخافني؟ فقال: لا! فقال: من يمنعك مني؟
قال: الله. فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزاد البخاريّ في رواية له: إن اسم ذلك الرجل غورث بن الحارث.
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ٨٤- باب من علّق سيفه بالشجر في السفر عند القائلة. و ٨٧- باب تفرّق الناس عن الإمام عند القائلة والاستظلال بالشجر.
والحديث رقم ١٣٩٣.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث ٣١١ و ٣١٢.
201
وروى ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنا إذا صحبنا رسول ﷺ في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها. فينزل تحتها. فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها.
فجاء رجل فأخذه فقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله يمنعني منك. ضع السيف. فوضعه. فأنزل الله عز وجل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وكذا رواه ابن حبان. في (صحيحه).
وروى الإمام أحمد «١» عن جعدة بن خالد بن الصمة قال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم، ورأى رجلا سمينا، فجعل النبيّ ﷺ يومئ إلى بطنه بيده ويقول: لو كان هذا في غير هذا لكان خيرا لك. قال: وأتي النبيّ ﷺ برجل فقالوا: هذا أراد أن يقتلك. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: لم ترع، لم ترع. ولو أردت ذلك لم يسلطك الله عليّ.
الثالث: كان النبيّ ﷺ قبل نزول هذه الآية يحرس، كما
روى الإمام أحمد «٢» عن عائشة: أن رسول الله ﷺ سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه، قالت: فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة! قالت: فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ فقال: أنا سعد بن مالك. فقال:
ما جاء بك؟ قال: جئت لأحرسك، يا رسول الله! قال: فسمعت غطيط رسول الله ﷺ في نومه. أخرجاه في (الصحيحين) «٣» :
وفي لفظ: سهر رسول الله ﷺ ذات ليلة مقدمة المدينة، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله ﷺ يحرس ليلا حتى نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ فأخرج رسول الله ﷺ رأسه من القبة فقال لهم: أيها الناس! انصرفوا فقد عصمني الله. أخرجه الترمذيّ «٤» والحاكم وابن أبي حاتم وابن جرير «٥».
وقد روى ابن جرير «٦» عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ يحرس. فكان أبو طالب يرسل إليه كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه. حتى نزلت عليه هذه
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٤٧١.
(٢) أخرجه في المسند ٦/ ١٤٠.
(٣) أخرجه البخاري في: التمني، ٤- باب قول النبيّ ﷺ «ليت كذا وكذا» حديث ١٣٨٠.
وأخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٣٩ و ٤٠.
(٤) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٤- حدثنا عبد بن حميد.
(٥) الأثر رقم ١٢٢٧٦ من التفسير. [.....]
(٦) هذان الأثران ذكرهما ابن كثير في تفسيره عن ابن مردويه (٢/ ٧٨) ولم أجدهما في الطبري.
202
الآية: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. قال: فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه فقال: إن الله قد عصمني من الجن والإنس. ورواه الطبراني أيضا. وروى ابن جرير نحوه أيضا عن جابر.
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب، وفيه نكارة. فإن هذا الآية مدنية، بل هي من أواخر ما نزل بها، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية، والله أعلم! انتهى.
أقول: بمراجعة ما أسلفنا في (المقدمة) من قاعدة أسباب النزول يرتفع الإشكال، فتذكر.
الرابع: قال العلامة أبو السعود: إيراد هذه الآية الكريمة في تضاعيف الآيات الواردة في حق أهل الكتاب، لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها. ويشق على الرسول ﷺ مشافهتهم بها، وخصوصا ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالتهم. ولذلك أعيد الأمر فقيل خطابا للفريقين:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٨]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: من الدين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي: تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما من الأمور التي من جملتها دلائل نبوة النبيّ ﷺ واتّباعه.
قال بعض المحققين:
معنى قوله تعالى: حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي: تعملوا طبق الواجب بأحكامهما، وتحيوا شرائعهما، وتطيعوا أوامرهما، وتنتهوا بنواهيهما. فإن الإقامة هي الإتيان بالعمل على أحسن أوجهه، كإقامة الصلاة مثلا. أي فعلها على الوجه اللائق بها. ولا يدخل في ذلك القصص التي فيهما ولا العقائد ونحوها فإنها ليست عملية.
والمراد أن يعملوا بما بقي عندهم من أحكام التوراة والإنجيل على علاته وعلى ما به من نقص وتحريف وزيادة. فإن شرائع هذه الكتب وأوامرها ونواهيها هي أقل أقسامها تحريفا، وأكثر التحريف في القصص والأخبار والعقائد وما ماثلها، وهي لا تدخل في الأمر بالإقامة. ولا شك أن أحكام التوراة والإنجيل وما فيهما من شرائع ومواعظ
203
ونصائح ونحوها، لا تزال فيهما أشياء كثيرة لا عيب فيها، ونافعة للبشر وفيها هداية عظمى للناس، فهي مما يدخل تحت قوله تعالى: وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ [آل عمران: ٣- ٤]، فإذا أقام أهل الكتاب أحكامهما على علاتها كانوا لا شك على شيء يعتد به ويصح أن يسمى دينا. وإذا لم يقيموهما وجروا على خلافهما، كانوا مجردين من كل شيء يستحق أن يسمى دينا. وكانوا مشاغبين معاندين، وبدينهم غير مؤمنين إيمانا كاملا. وهذا معنى صحيح، وهو المتبادر من الآية. فأي شيء في هذا المعنى يدل على عدم تحريف التوراة والإنجيل وعلى وجودهما كاملين، كما يدعي ذلك المكابرون من أهلهما، وخصوصا بعد قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ؟ [المائدة: ١٣].
ثم قال: ولك أن تقول: معنى قوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ. الحقيقيّين. وذلك يستلزم البحث والتنقيب والجد والاجتهاد في نقد ما عندهم منهما نقدا عقليا تاريخيا صحيحا، حتى يستخلصوا حقهما من باطلهما بقدر الإمكان، ونتيجة ذلك العناء كلّه، أن يكونوا على شيء من الدين الحقّ، وهذا أمر لا شبهة فيه. ولو اتبعوا القرآن لأراحوا واستراحوا. ولكنهم- كما أخبر تعالى عنهم- لا يزيدهم القرآن إلّا طغيانا وكفرا حسدا وعنادا فلا يؤمنون به. ولا يهتم جمهورهم بإصلاح دينهم من المفاسد وتنقيته من الشوائب. فلم يدركوا خير هذا ولا ذاك. فكأن الآية تريهم أنهم إذا لم يتبعوا القرآن يجب عليهم القيام بعبء ثقيل جدّا من البحث والتمحيص، وبعد ذلك يكونون على شيء من الحق لا على الحق كله ولو أقاموا التوراة والإنجيل الحقيقيين غاية الإقامة، فما بالك إذا كان ذلك مستحيلا لعدم وجودهما على حقيقتهما؟ فهم ليسوا على شيء مطلقا. ولا يمكن أن يكونوا عليه. فإن كتبهم قد صارت خلقة بالية. لذلك
قال رسول الله ﷺ لعمر رضي الله عنه، حينما رأى ورقة من التوراة بيده: ألم آتكم بها بيضاء نقية؟ والله لو كان موسى حيّا ما وسعه إلّا اتباعي.
(فإن قيل) : وكيف يحثهم الله على العمل بأي شيء من دينهم، ومنه ما جاء القرآن ناسخا له؟ (قلت) : لا شك عند كل عاقل أنه خير لأهل الكتاب أن يعملوا بشرائع دينهم الأصلية، فإنهم حينئذ يتجنبون الكذب والتحريف والعناد والأذى والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل والزنى، وغير ذلك مما يعمله الناس. فمراد القرآن على التفسير الأول للآية حثهم- إن أصروا على عدم الإيمان به- على العمل بدينهم على الأقل ليستريح النبيّ وأتباعه من أكثر شرورهم ورذائلهم. ولكن بعد العمل بدينهم لا يكونون على الدين الحق الكامل بل
204
الذي يفهم من الآية أنهم يكونون على شيء من الدين، وهو- ولا شك- خير من لا شيء. ولا يفهم أنهم يكونون على الحق كله وعلى الدين الكامل الذي لا غاية أعظم منه، فإن ذلك لا يكون إلّا بالإسلام أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: ٨٣]. انتهى.
ولا يخفى أنهم إذا أقاموا التوراة والإنجيل، آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. لما تتقاضى إقامتهما الإيمان به. إذ كثر ما جاء فيهما من البشارات به والتنويه باسمه ودينه.
فإقامتهما على وجوههما تستدعي الإسلام البتة، بل هي هو، والله الموفق...
وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي: القرآن المجيد بالإيمان به. وفي التعبير بقوله تعالى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه. كما تقول: هذا ليس بشيء! تريد غاية تحقيره وتصغير شأنه. وفي أمثالهم: أقل من لا شيء. أي:
لستم على دين يعتد به حتى يسمى شيئا، لفساده وبطلانه.
ثم بيّن تعالى غلوّهم في العناد وعدم إفادة التبليغ فقال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً. أي تماديا وَكُفْراً أي ثباتا على الكفر فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي: فإذا بالغت في تبليغ ما أنزل إليك، فرأيت مزيد طغيانهم وكفرهم، فلا تحزن عليهم لغاية خبثهم في ذواتهم، فإن ضرر ذلك راجع إليهم لا إليك، وفي المؤمنين غنى عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٦٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فيما يستقبلهم من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي:
في الآخرة إذا خاف المقصرون وحزنوا على تضييع العمر..
لطائف:
الأول: (الصابئون) رفع على الابتداء. وخبره محذوف. والنية به التأخير عما في حيز (إن) من اسمها وخبرها. كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا. والصائبون كذلك، وأنشد سيبويه شاهدا له:
205
أي: فاعملوا أنا بغاة، وأنتم كذلك. ثم قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما التقديم والتأخير إلّا لفائدة، فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح. فما الظنّ بغيرهم؟ وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدّهم غيّا، وما سموا صابئين إلّا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها. أي: خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله (وأنتم) تنبيها على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة من قومه. حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو (بغاة) لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) :
ثمة سؤال، وهو أن يقال: لو عطف (الصابئين) ونصبه- كما قرأ ابن كثير- لأفاد أيضا دخولهم في جملة المتوب عليهم، ولفهم من تقديم ذكرهم على (النصارى) ما يفهم من الرفع من أن هؤلاء الصابئين- وهم أوغل الناس في الكفر- يتاب عليهم، فما الظنّ بالنصارى؟ ولكان الكلام جملة واحدة بليغا مختصرا، والعطف إفراديّ. فلم عدل إلى الرفع وجعل الكلام جملتين؟ وهو يمتاز بفائدة على النصب والعطف الإفراديّ؟ ويجاب عن هذا السؤال بأنه لو نصبه وعطفه لم يكن فيه إفهام خصوصية لهذا الصنف. لأن الأصناف كلها معطوف بعضها على بعض عطف المفردات. وهذا الصنف من جملتها، والخبر عنها واحد. وأما مع الرفع فينقطع عن العطف الإفراديّ وتبقى بقية الأصناف مخصصة بالخبر المعطوف به. ويكون خبر هذا الصنف المنفرد بمعزل. تقديره مثلا (والصابئون كذلك) فيجيء كأنه مقيس على بقية الأصناف وملحق بها. وهو بهذه المثابة، لأنهم لما استقر بعد الأصناف من قبول التوبة، فكانوا أحقاء بجعلهم تبعا وفرعا مشبهين بمن هم أقعد منهم بهذا الخبر، وفائدة التقديم على الخبر أن يكون توسط هذا المبتدأ المحذوف الخبر، بين الجزأين، أدلّ على الخبر المحذوف من ذكره، بعد تقضي الكلام وتمامه، والله أعلم.
الثانية- فإن قلت: إن قوله تعالى: مَنْ آمَنَ منهم كيف يقع خبرا عن الَّذِينَ آمَنُوا أو بدلا، وهو يقتضي انقسام المؤمنين إلى مؤمنين وغير مؤمنين؟
أجيبك بأن المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا الذي آمنوا باللسان فقط. وهم المنافقون.
فالمعنى: الذين آمنوا باللسان ومن معهم، من أحدث منهم إيمانا خالصا. أو يؤول مَنْ آمَنَ بمن ثبت على الإيمان. فيصح في حق المؤمنين الخلص. وفي هذا شبه
206
جمع بين الحقيقة والمجاز، ودفع بأن الثبات على الإيمان ليس غير الإيمان، بل هو وإحداثه فردان من مطلقه. والوجه الأول. إذ في ضمّ المؤمنين إلى الكفرة إخلال بتكريمهم، قاله الخفاجيّ.
قال أبو السعود: أما على تقدير كون المراد ب الَّذِينَ آمَنُوا مطلق المتدينين بدين الإسلام، المخلصين منهم والمنافقين فالمراد ب مَنْ آمَنَ من اتصف منهم بالإيمان الخالص على الإطلاق، سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام عليه- كما هو شأن المخلصين. أو بطريق إحداثه وإنشائه- كما هو حال من عداهم من المنافقين وسائر الطوائف. وفائدة التعميم للمخلصين المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان، ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخلّ بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام.
انتهى.
الثالثة: قال الرازيّ: لما بيّن تعالى أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا، بيّن أن هذا الحكم عام في الكل، وأنه لا يحصل لأحد فضيلة ولا منقبة إلا إذا آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا، وذلك لأن الإنسان له قوتان: القوة النظرية والقوة العملية. أما كمال القوة النظرية فليس إلا بأن يعرف الحق. وأما كمال القوة العملية فليس إلا بأن يعمل الخير. وأعظم المعارف شرفا معرفة أشرف الموجودات وهو الله سبحانه وتعالى. وكمال معرفته إنما يحصل بكونه قادرا على الحشر والنشر، فلا جرم كان أفضل المعارف هو الإيمان بالله واليوم الآخر. وأفضل الخيرات في الأعمال أمران: المواظبة على الأعمال المشعرة بتعظيم المعبود، والسعي في إيصال النفع إلى الخلق. ثم بين تعالى أن كل من أتى بهذا الإيمان وبهذا العمل، فإنه يرد يوم القيامة من غير خوف ولا حزن. والفائدة في ذكرهما: أن الخوف يتعلق بالمستقبل، والحزن بالماضي، فقال: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ بسبب ما يشاهدون من أهوال القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بسبب ما فاتهم من طيّبات الدنيا، لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف وأطيب. (فإن قيل) : كيف يمكن خلوّ المكلف، الذي لا يكون معصوما، عن أهوال يوم القيامة؟ فالجواب من وجهين: الأول- أنه تعالى شرط ذلك بالعمل الصالح. ولا يكون آتيا بالعمل الصالح إلّا إذا كان تاركا لجميع المعاصي. والثاني- أنه إذا حصل خوف، فذلك عارض قليل لا يعتد به. انتهى.
ثم بين تعالى بعضا آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم بقوله:
207
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٠]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: على الإيمان بالله ورسله وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليقفوهم على ما يأتون وما يذرون في دينهم كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي: بما يخالف هواهم ويضادّ شهواتهم من الأحكام الحقة. مع أن وضع الرسالة، الدعوة إلى مخالفة الهوى فَرِيقاً منهم كَذَّبُوا مع ظهور دلائل صدقهم وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ بعد التكذيب. سدّا لدعوتهم إلى ما يخالف أهويتهم.
لطيفتان:
الأولى: قال الزمخشريّ: جواب الشرط محذوف يدل عليه قوله فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه.
قال الناصر في (الانتصاف) : ومما يدل على حذف الجواب أنه جاء ظاهرا في الآية الأخرى، وهي توأمة هذه، قوله تعالى: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ [البقرة: ٨٧]. فأوقع قوله اسْتَكْبَرْتُمْ جوابا. ثم فسر استكبارهم وصنيعهم بالأنبياء بقتل البعض وتكذيب البعض. فلو قدر الزمخشري هاهنا الجواب المحذوف مثل المنطوق به في أخت الآية فقال: وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم استكبروا، لكان أولى، لدلالة مثله عليه.
الثانية: قال الزمخشريّ: فإن قلت: لم جيء بأحد الفعلين ماضيا وبالآخر مضارعا؟ قلت: جيء يَقْتُلُونَ على حكاية الحال الماضية استفظاعا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة، للتعجيب منها.
قال في (الانتصاف) : أو يكون حالا على حقيقته. لأنهم داروا حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم. وقد قيل هذا الوجه في أخت هذه الآية في (البقرة) وقد مضى وجه اقتضاء صيغة الفعل المضارع لاستحضاره دون الماضي، وتمثيله بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج: ٦٣]. فعدل عن (فأصبحت) إلى (فتصبح) تصويرا للحال واستحضارا لها في ذهن السامع، ومنه:
وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم بغاة ما بقينا في شقاق
بأني قد لقيت الغول تهوى بسهب كالصحيفة صحصحان
فأضربها بلا دهش فخرّت صريعا لليدين وللجران
وأمثاله كثيرة. انتهى.
قال الخفاجيّ: اقتصر العلامة هنا على حكاية حال أسلافهم، لقرينة ضمائر الغيبة، وترك تلك الآية- يعني آية البقرة- على الاحتمالين لقرينة ضمائر المخاطبين. ليكون توبيخا وتعبيرا للحاضرين بفعل آبائهم. ولذا عقبت هذه الآية بقصة عيسى عليه السلام. فتأمل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧١]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: ظن بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله عذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل فَعَمُوا وَصَمُّوا عطف على (حسبوا)، و (الفاء) للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: آمنوا بأس الله تعالى، فتمادوا في فنون الغيّ والفساد، وعموا عن الدين، بعد ما هداهم الرسل إلى معالمه الظاهرة، وصمّوا عن استماع الحق الذي ألقوه عليهم، ولذلك فعلوا ما فعلوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: مما كانوا فيه.
قال العلامة أبو السعود: لم يسند التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم، تجافيا عن التصريح بنسبة الخير إليهم. وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبته تعالى عليهم، تمهيدا لبيان نقضهم إياهم بقوله تعالى:
ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كرة أخرى كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير في الفعلين أو خبر محذوف، أي: أولئك كثير منهم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ أي: بما عملوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارا لصورتها الفظيعة ورعاية للفواصل. والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور. ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا، إشارة إجمالية، اكتفي بها تعويلا على ما فصل نوع تفصيل في سورة (بني إسرائيل) [الإسراء]. أفاده أبو السعود. وهو مأخوذ من كلام القفال، كما سيأتي:
تنبيه:
في هذه الآية إشارة إلى ما اكتنف بني إسرائيل من الفتنة وعذاب الله الذي حاق
209
بهم قبل عيسى وبعده. وذلك أن أنبياءهم قبل عيسى كانوا يوبخون رؤساءهم الأشرار وشعبهم على خطاياهم. ولا سيما في عبادتهم الأوثان. وينحصوهم أن يرجعوا إلى الله. وينذرونهم بعقابه تعالى الشديد ودمارهم إن لم يتوبوا. كما أنبأهم إرميا عليه السلام بخراب بلدهم، وقضائه تعالى الهائل عليهم، إن أصرّوا على طغيانهم. فما استمعوا له. حتى روي أنه ختم له بالشهادة. إذ رجمته اليهود بمصرّ عتوّا واستكبارا.
ثم سلط الله عليهم بختنصر، ملك بابل، وسبى شعبهم وهدمت جنوده مدينتهم بيت المقدس وهيكلها. وصار تلال خراب. وذلك لاستئصال كفرهم وشرورهم، وتطهير هيكلهم من نجاسة أوثانهم. فحلّ عليهم من البابلية الشقاء والويل. وأخذوا أسرى إلى ما وراء الفرات. ولم يترك منهم إلّا الفقراء فقط، وبذلك انتهى ملكهم، وكان ذلك قبل ولادة عيسى عليه السلام بنحو خمسمائة وثمان وثمانين سنة. ثم تاب الله عليهم ورحمهم من سبيهم، وأعادهم برحمته إلى مدينتهم بيت المقدس. بعد أن أقاموا في بابل سبعين سنة. وابتدءوا ببناء هيكلهم ثانية. وأرجعوا العبادة إليه. وقام حزقيال عليه السلام بوعظهم وتهذيبهم ودعوتهم إلى التوبة وتذكيرهم بما مضى ليعتبروا. وهكذا كل نبيّ فيهم، لم يزل ينذرهم ويدعوهم إلى الله إلى أن بعث الله عيسى عليه السلام. فعموا عن الاهتداء به وصمّوا عن وعظه، وكان ما كان من همّهم بقتله. فدمرهم الله بعد ذلك وأباد مملكتهم. وطردوا من أرضهم بعد رفع عيسى عليه السلام بنحو أربعين سنة. وأخذ الرومانيون مدينتهم وهدموها مع الهيكل. وحلت عليهم نقمة الله فتفرقوا شذر مذر.
هذا، وما قيل بأن قوله تعالى فَعَمُوا وَصَمُّوا إشارة إلى عبادتهم العجل- فإنه بعيد. لأنها، وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم، لكنها في عصر موسى عليه السلام. ولا تعلّق لها بما حكي عنهم مما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار. وكذا ما قيل بأن قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا إشارة إلى طلبهم الرؤية- فبعيد أيضا، لما ذكرنا. وفنون الجنايات الصادرة عنهم لا تكاد تتناهى. خلا أنّ انحصار ما حكي عنهم هاهنا في المرتين، وترتبه على حكاية ما فعلوا بالرسل عليهم السلام، يقضي بأن المراد ما ذكرناه. والله عنده علم الكتاب.
كذا أفاده أبو السعود.
ونحن نوافقه على ما رآه. بيد أنّ ما سقناه في التنبيه أظهر في ما جرياتهم، وأشد مطابقة لما في تواريخهم، مما ساقه هنا. فتثبّت.
ويرحم الله الإمام القفال حيث قال: ذكر الله تعالى في سورة (بني إسرائيل)
210
ما يجوز أن يكون تفسيرا لهذه الآية فقال: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ، وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً [الإسراء: ٤- ٦] فهذا في معنى (فعموا وصموّا) ثم قال: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً. فهذا في معنى قوله ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ انتهى. ثم بيّن تعالى كفر النصارى وما هم عليه من فساد الاعتقاد المباين لأصل دعوة عيسى عليه السلام، من التوحيد الخالص، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٢]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
قال الرازيّ: هذا قول اليعقوبية منهم. يقولون: إن مريم ولدت إلها. قال: ولعلّ معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حلّ في ذات عيسى واتّحد بها، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وقد سبق الكلام على مثل هذا الآية في هذه السورة مفصّلا، فتذكّر.
ثم بيّن تعالى أنهم صمّوا عن مقالات عيسى الداعية إلى التوحيد، كما عموا عما فيه من أمارات الحدوث، بقوله سبحانه: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ ولم يقل اعبدوني. ثم صرّح بقوله: رَبِّي وَرَبَّكُمْ قلعا لمادة توهم الاتحاد إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ كيف والشرك أعظم وجوه الظلم وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة. والجمع لمراعاة المقابلة ب (الظالمين) و (اللام) إما للعهد، والجمع باعتبار معنى مَنْ، كما أن الإفراد في الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها. وما للجنس وهم داخلون فيه دخولا أوليّا. ووضعه على الأول موضع الضمير، للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحقّ. والجملة تذييل مقرّر لما قبله. وهو إمّا من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإمّا وارد من جهته تعالى،
تأكيدا لمقالته عليه السلام، وتقريرا لمضمونها. أفاده أبو السعود. ثم بيّن تعالى كفر طائفة أخرى منهم بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٣]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي: أحد ثلاثة آلهة، بمعنى واحد منها، وهم الله ومريم وعيسى.
وقال بعضهم: كانت فرقة منهم تسمى (كولى ري دينس) تقول: الآلهة ثلاثة: الأب والابن ومريم.
وجاء في كتاب (علم اليقين) : أن فرقة منهم تسمى (المريميّين) قال:
يعتقدون أن المريم والمسيح إلهان. قال: وكذلك البربرانيّون وغيرهم. انتهى.
وأسلفنا عن ابن إسحاق أنّ نصارى نجران، منهم من قال بهذا أيضا.
أو المعنى: أحد ثلاثة أقانيم كما اشتهر عنهم. أي هو جوهر واحد، ثلاثة أقانيم: أب وابن وروح القدس. وزعموا، أن الأب إله والابن إله والروح إله والكلّ إله واحد. كما قدمنا عنهم في قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ.
قال الرازي رحمه الله: واعلم أن هذا معلوم البطلان ببديهة العقل. فإن الثلاثة لا تكون واحدا، والواحد لا يكون ثلاثة. ولا يرى في الدنيا مقالة أشدّ فسادا وأظهر بطلانا من مقالة النصارى. انتهى.
وقد صنفت عدة مصنفات في تزييف معتقدهم هذا، وهي شهيرة متداولة، والحمد لله.
لطيفة:
اتفق النحاة واللغويون على أن معنى قولهم (ثالث ثلاثة ورابع أربعة..) ونحو ذلك أحد هذه الأعداد مطلقا. لا الوصف بالثالث والرابع.
وفي (التوضيح وشرحه) : لك في اسم الفاعل المصوغ من لفظ اثنين وعشرة وما بينهما أن تستعمله على سبعة أوجه: (أحدها) أن تستعمله مفردا عن الإضافة، ليفيد الاتصاف بمعناه. فتقول: ثالث ورابع. ومعناه حينئذ واحد موصوف بهذه الصفة وهي كونه ثالثا ورابعا.
212
(الوجه الثاني) أن تستعمله مع أصله الذي صيغ هو منه، ليفيد أن الموصوف به بعض تلك العدة المعينة لا غير. فتقول: خامس خمسة أي: واحد من خمسة لا زائد عليها، ويجب حينئذ إضافته إلى أصله. كما يجب إضافة البعض إلى كله. ك:
يد زيد، قال تعالى: إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ [التوبة: ٤٠]. وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. وزعم الأخفش وقطرب والكسائي وثعلب أنه يجوز إضافة الأول إلى الثاني، ونصبه إياه، فعلى هذا يجوز ثالث ثلاثة بجرّ (ثلاثة) ونصبها. كما يجوز في (ضارب زيد).
(الوجه الثالث) أن تستعمله مع ما دون أصله الذي صيغ منه بمرتبة واحدة، ليفيد معنى التصيير، فتقول: هذا رابع ثلاثة أي: جاعل الثلاثة بنفسه أربعة، قال تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ [المجادلة: ٧]. أي: إلا هو مصيّرهم أربعة ومصيرهم ستة. ويجوز حينئذ إضافته وإعماله، كما يجوز الوجهان في جاعل ومصير ونحوهما.
وانظر تتمة الأوجه.
وبما ذكرناه يعلم ردّ ما ذهب إليه الجامي في (شرح الكافية) من اعتبار الصفة في نحو (ثالث ثالثة) حيث قال في شرح قول ابن الحاجب ثالِثُ ثَلاثَةٍ: أي أحدها. لكن لا مطلقا. بل باعتبار وقوعه في المرتبة الثالثة. قال: وإلّا يلزم جواز إرادة الواحد الأول من عاشر العشرة وذلك مستبعد جدّا. انتهى.
فكتب عليه بعض المحققين ما نصّه: الظاهر من عبارة (التوضيح) ومن كلام المصنف أنه لا يعتبر الوقوع في المرتبة الثانية أو الثالثة وهكذا.. إذ يبعد في الآيتين كون المراد ب «ثاني اثنين وثالث ثلاثة» كونه في المرتبة الثانية أو الثالثة بل المراد أنه بعض تلك العدّة، بلا نظر لكونه في المرتبة الثانية أو الثالثة. إلّا أن يكون هذا باعتبار الوضع، وإن كان الاستعمال بخلافه. ولذا كتب العلامة عبد الحكيم على قوله (وذلك مستبعد جدّا) أي: عند العقل، وإلّا فالاستعمال بخلافه. انتهى.
وَما مِنْ إِلهٍ في نصّ الإنجيل والتوراة وجميع الكتب السماوية ودلائل العقل إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ لا يتعدد أفرادا ولا أجزاء وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من هذا الافتراء والكذب، بعد ظهور الدلالة القطعية، متمسكين بمتشابهات الإنجيل التي أوضحتها محكماته لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. من عذاب الحريق والأغلال والنكال.
213
قال الزمخشريّ: ولم يقل (ليمسّنهم) لأن في إقامة الظاهر مقام المضمر فائدة.
وهي تكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا وفي البيان فائدة أخرى وهي الإعلام في تفسير الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أنهم بمكان من الكفر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٤]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤)
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ بالتوحيد والتنزيه عمّا نسبوه إليه من الاتحاد والحلول، فيرجعوا عن التمسك بالمتشابهات إلى القطعيات، فالاستفهام لإنكار الواقع واستبعاده، فيه تعجيب من إصرارهم. ومدار الإنكار والتعجيب عدم الانتهاء والتوبة معا. أو معناه: ألا يتوبون- بعد هذه الشهادة المكررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد- مما هم عليه. فمدارهما عدم التوبة عقب تحقق ما يوجبها من سماع تلك القوارع الهائلة.
قال ابن كثير: هذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه. مع هذا الذنب العظيم، وهذا الافتراء والكذب والإفك، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة. فكل من تاب إليه تاب عليه. كما قال وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لهؤلاء إن تابوا، ولغيرهم.
قال أبو السعود: الجملة حالية من فاعل يَسْتَغْفِرُونَهُ مؤكدة للإنكار والتعجيب من إصرارهم على الكفر وعدم مسارعتهم إلى الاستغفار. أي: والحال أنه تعالى مبالغ في المغفرة. فيغفر لهم عند استغفارهم، ويمنحهم من فضله.
ثم أشار تعالى إلى بطلان التمسك بمعجزات عيسى وكرامات أمّه على إلهيتهما. بأنّ غايتهما الدلالة على نبوّته وولايتها، استنزالا لهم عن الإصرار على ما تقوّلوا عليهما، وإرشادا لهم إلى التوبة والاستغفار فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٥]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
مَا الْمَسِيحُ أي: المعلوم حدوثه من كونه ابْنُ مَرْيَمَ بالخوارق الظاهرة على يديه إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ أي: مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أولو الخوارق الباهرة.
214
فله أسوة أمثاله. كما قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف: ٥٩].
أي: ما هو إلّا رسول من جنس الرسل الذين خلوا قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها. إن أبرأ الله الأبرص وأحيا الموتى على يده، فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر على يد موسى. وهو أعجب. وإن خلقه من غير أب، فقد خلق آدم من غير أب ولا أم. وهو أغرب منه، وفي الآية وجه آخر: أي مضت من قبله الرسل، فهو يمضي مثلهم. فالجملة- على كل- منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي: مبالغة في الصدق. ووقع اسم الصديقة عليها لقوله تعالى: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ. والوصف بذلك مشعر بالإغراق في العبودية والقيام بمراسمها. فمن أين لهم أن يصفوها بما يباين وصفها؟
تنبيه:
قال ابن كثير:
دلت الآية على أن مريم ليست بنبيّه. كما زعمه ابن حزم وغيره- ممن ذهب إلى نبوّة سارة أم إسحاق ونبوّة أم موسى ونبوّة أم عيسى- استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم وبقوله: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ. وهذا معنى النبوّة. والذي عليه الجمهور أنّ الله لم يبعث نبيا إلّا من الرجال. قال الله تعالى:
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [يوسف: ١٠٩].
وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعريّ، رحمه الله، الإجماع على ذلك. انتهى.
فائدة (في حقيقة الصديق والصدق) :
قال العارف القاشانيّ قدس الله سرّه في (لطائف الأعلام) :
الصدّيق الكثير الصدق. كما يقال: سكّيت وصرّيع إذا كثر منه ذلك.
والصديق من الناس من كان كاملا في تصديقه لما جاءت به رسل الله علما وعملا، قولا وفعلا وليس يعلو على مقام الصديقية إلّا مقام النبوّة. بحيث إن من تخطى مقام الصديقية حصل في مقام النبوّة. قال الله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
[مريم: ٥٨]. الآية. فلم يجعل تعالى بين مرتبتي النبوة والصديقية مرتبة أخرى تتخللهما. ثم بيّن قدس سره صدق الأقوال، وصدق الأفعال، وصدق الأحوال.
(فالأول) هو موافقة الضمير للنطق. قال الجنيد: حقيقة الصدق أن تصدق في مواطن لا ينجيك فيه إلّا الكذب. و (صدق الأفعال) هو الوفاء لله بالعمل من غير مداهنة. قال المحاسبيّ: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب
215
الخلق من أجل إصلاح قلبه. ولا يحب اطّلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله. ولا يكره أن يطلع الناس على السيء من حاله. لأن كراهته لذلك دليل على أنه يحب الزيادة عندهم. وليس هذا من أخلاق الصدّيقين. و (صدق الأحوال) اجتماع الهم على الحق، بحيث لا يختلج في القلب تفرقة عن الحق بوجه.
وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ استئناف مبين لما قبله من أنهما كسائر البشر في الافتقار إلى الغذاء. وفيه تبعيد عما نسب إليهما.
قال الزمخشريّ: لأن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم والنفض، لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة، مع شهوة وقرم وغير ذلك... مما يدل على أنه مصنوع مؤلّف مدبّر كغيره من الأجسام.
لطيفة:
إنما أخر في الاستدلال على بطلان مذهب النصارى، حاجتهما للطعام عما قبله من مساواتهما للرسل عليهم السلام، ترقيا في باب الاستدلال من الجليّ للأجلى، على ما هو القاعدة في سوق البراهين لإلزام الخصم، حتى إذا لم يسلّم في الجليّ لغموضه عليه، يورد له الأجلى تعريضا بغباوته. فيضطر للتسليم، إن لم يكن معاندا ولا مكابرا.
هذا ما ظهر لي في سر التقديم والتأخير.
وأما قول الخفاجيّ- ملخصا كلام البيضاويّ- في سر ذلك: أنه تعالى بين أولا أقصى مراتب كمالهما، وأنه لا يقتضي الألوهية، وقدمه لئلا يواجههما بذكر نقائص البشرية الموجبة لبطلان ما ادعوا فيهما، على حد قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ. حيث قدم العفو على المعاتبة له ﷺ انتهى- فبعيد.
وقياسه على الآية قياس مع الفارق لاختلاف المقامين. فالأظهر ما ذكرناه، والله أعلم بأسرار كتابه.
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أي: على توحيد الله، وبطلان الاتحاد وإلهية عيسى وأمه، وبطلان شبهاتهم! ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي: كيف يصرفون عن التأمل فيها إلى الإصرار على التمسك بالشبهات الظاهرة البطلان.!
قال أبو السعود: وتكرير الأمر بالنظر، للمبالغة في التعجيب من حال الذين
216
يدعون لهما الربوبية، ولا يرعوون عن ذلك، بعد ما بين لهم حقيقة خالهما بيانا لا يحوم حوله شائبة ريب، وثم لإظهار ما بين العجبين من التفاوت. أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه، بالغ لأقاصي الغايات القاصية من التحقيق والإيضاح. وإعراضهم عنها- مع انتفاء ما يصححه بالمرة، وتعاضد ما يوجب قبولها- أعجب وأبدع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٦]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً هذا دليل آخر على فساد قول النصارى، والموصول كناية عن عيسى وأمه، أي: لا يستطيعان أن يضراكم بمثل ما يضركم به الله من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال. ولا أن ينفعاكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والسعة والخصب. ولأن كل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع، فبإقدار الله وتمكينه، فكأنهما لا يملكان منه شيئا. وإيثار (ما) على (من) لتحقيق ما هو المراد من كونهما بمعزل من الألوهية رأسا. ببيان انتظامهما في سلك الأشياء التي لا قدرة لها على شيء أصلا أي: وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء لا يخرج مقدور عن قدرته. وإنما قدم (الضر) لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال والعقائد. فيجازي عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهو وعد ووعيد.
تنبيهات:
الأول. جعل ابن كثير الخطاب في قوله تعالى أَتَعْبُدُونَ عامّا للنصارى وغيرهم، أي قل لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم.
وفي (تنوير المقباس) أن (ما) عبارة عن الأصنام خاصة.
وكلاهما مما يأباه السباق والسياق.
الثاني: قال في (فتح البيان) : إذا كان هذا في حق عيسى النبيّ، فما ظنك بوليّ من الأولياء؟ فإنه أولى بذلك.
الثالث: جعل أكثر المفسرين (ما) كناية عن عيسى عليه السلام فقط، والمقام أنها كناية عنه وعن أمه عليهما السلام، كما أوضحه المهايميّ واعتمدناه.
الرابع: دلت الآية على جواز الحجاج في الدين فإن كان مع الكفار وأهل
البدع، فذلك ظاهر الجواز وإن كان مع المؤمن جاز بشرط أن يقصد إرشاده إلى الحق، لا إن قصد العلوّ فمحظور. وحكي عن الشافعيّ أنه كان إذا جادل أحدا قال:
اللهم! ألق الحق على لسانه. أفاده بعض الزيدية.
ولما أقام تعالى الأدلة القاهرة على بطلان ما تقوله النصارى، أرشدهم إلى اتباع الحق ومجانبة الغلوّ الباطل، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٧]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي: الذي هو ميزان العدل لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي: لا تتجاوزوا الحد في تعظيم عيسى وأمه، وترفعوهما عن رتبتهما إلى ما تقوّلتم عليهما من العظيمة، فأدخلتم في دينكم اعتقادا غير الحق بلا دليل عليه، مع تظاهر الأدلة على خلافه. ونصب (غير) على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: غلوّا غير الحق. يعني غلّوا باطلا. أو حال من ضمير الفاعل أي: مجاوزين الحق. و (الغلو) نقيض التقصير، ومعناه الخروج عن الحد وذلك لأن الحق بين طرفي الإفراط والتفريط، ودين الله بين الغلو والتقصير.
تنبيه:
دلت الآية على أن الغلوّ في الدين غلوّان: (غلوّ حق) كأن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه و (غلوّ باطل) وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه.
قال بعض الزيدية: دلت الآية على أن الغلوّ في الدين لا يجوز، وهو المجاوزة للحق إلى الباطل. ومن هذا، الغلوّ في الطهارة مع كثير من الناس، بالزيادة على ما ورد به الشرع لغير موجب. انتهى.
ومن هذا القبيل الغلوّ في تعظيم الصالحين وقبورهم حتى يصيّرها كالأوثان التي كانت تعبد.
وروى «١» الإمام أحمد والنسائيّ وابن ماجة والحاكم عن ابن عباس، أن النبيّ
(١) أخرجه في المسند ١/ ٢١٥، والحديث رقم ١٨٥١.
والنسائي في: مناسك الحج، ٢١٨- باب التقاط الحصى.
218
صلى الله عليه وسلم قال: إيّاكم والغلوّ في الدين. فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ في الدين.
وعن عمر «١» أن رسول الله ﷺ قال: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله. أخرجاه.
ولمسلم «٢» عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: هلك المتنطّعون! قالها ثلاثا
. ثم نهاهم تعالى عن اتباع سلفهم وأئمتهم الضالين بقوله سبحانه:
وَلا تَتَّبِعُوا قال المهايميّ: أي: تقليدا أَهْواءَ قَوْمٍ تمسّكوا بخوارقهما على إلهيتهما. فإن نظروا إلى سبقهم فغايتهم أنهم قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَإلى كثرة أتباعهم فغايتهم أنهم أَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على التثليث وَإلى تمسّكهم بمتشابهات الإنجيل، فغايتهم أنهم ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ إذ لم يردّوها إلى المحكمات.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي:
الهواء- هاهنا- المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجّة. قال الشعبيّ:
ما ذكر الله لفظ الهوى في القرآن إلّا ذمّه. قال: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص: ٢٦]. وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [طه: ١٦]. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣]. أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان: ٤٣]. قال أبو عبيدة: لم نجد الهوى يوضع إلّا في موضع الشر. لا يقال: فلان يهوى الخير. إنما يقال: يريد الخير ويحبه. وقال بعضهم: الهوى إله يعبد من دون الله. وقيل: سمّي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وأنشد في ذم الهوى:
إنّ الهوى لهو الهوان بعينه فإذا هويت فقد لقيت هوانا
وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك، فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة.
الثاني: قال الرازي أيضا:
(١) أخرجه البخاريّ عن عمر رضي الله عنه، في: الأنبياء، ٤٨- باب وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ، حديث ١٢١٤.
(٢) أخرجه مسلم في: العلم، حديث ٧.
219
إنه تعالى وصفهم بثلاث درجات في الضلال: فبيّن أنهم كانوا ضالين من قبل، ثم ذكر أنهم كانوا مضلّين لغيرهم، ثم ذكر أنهم استمرّوا على تلك الحالة حتى إنهم الآن ضالون كما كانوا. ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقاب الله تعالى، من هذه الحالة. نعوذ بالله منها. ويحتمل أن يكون المراد أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم، في ذلك الإضلال، أنه إرشاد إلى الحقّ. ويحتمل أن يكون المراد بالضلال عن الدين، وبالضلال عن طريق الجنة. انتهى.
وهذه الوجوه- مع ما أسلفناه عن المهايميّ- كلّها مما يصح إرادتها من الآية لتصادقها جميعا عليهم.
الثالث: دلت الآية على أن ما لهؤلاء الكفرة من الأباطيل- مع مخالفتها للعقول ومزاحمتها للأصول- لا مستند ولا معول لهم فيها غير التقليد لأسلافهم الضالّين، الذين أحدثوا القول بالتثليث بعد نحو ثلاثمائة سنة من رفع المسيح عليه السلام. وقرروه في تعاليمهم بعد جدال واضطراب. وتمسّكوا في ذلك، بظواهر الألفاظ التي لا يحيطون بها علما، مما لا أصل له في شرع الإنجيل، ولا مأخوذ من قول المسيح ولا من أقوال حواريّيه. وهو مع ذلك مضطرب متناقض متهافت، يكذب بعضه بعضا، ويعارضه ويناقضه، كما تبيّن من الكتب المصنفة في الردّ عليهم.
الرابع: جاء في (تنوير المقباس) :
إن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقوله وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ العاقب والسيد. والأول- كما قال ابن إسحاق- كان أمير القوم وذا رأيهم. والثاني صاحب رحلهم ومجتمعهم.
والأظهر أن المعني ب (أهل الكتاب) عموم النصارى. والمذكورون يدخلون فيه دخولا أوليّا.
الخامس: ذكر كثير من المفسّرين: أن المراد ب (أهل الكتاب) هنا: اليهود والنصارى. وأن كليهما غلا في عيسى عليه السلام: أما غلوّ اليهود فالتقصير في حقه حتى نسبوه إلى غير رشدة. وأما غلوّ النصارى فمعلوم. وأن الخطاب في قوله تعالى:
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ لليهود والنصارى الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم. نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه من الضلالة بأهوائهم. انتهى.
وظاهر أنّ ما نسب للفريقين- من الغلوّ والابتداع- مسلّم. بيد أن الأقرب
220
للسباق الداحض لشبهات النصارى، أن تكون هذه الآية فيهم زجرا لهم عمّا سلكوه، إثر إبطاله بالبراهين الدامغة. على أن الغلوّ ألصق بالنصارى منه باليهود، كما لا يخفى. والله أعلم.
ثم أخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل فيما أنزله على داود وعيسى عليهما السلام. بسبب عصيانهم وما عدّد من كبائرهم. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٨]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: لعنهم الله عز وجلّ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: لسانيهما. وأفرد لعدم اللبس، إن أريد باللسان الجارحة.
وقيل: المراد به الكلام وما نزل عليهما. كذا في (العناية).
ذلِكَ أي: لعنهم الهائل بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ بقتل الأنبياء واستحلال المعاصي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٧٩]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن ارتكاب المآثم والمحارم. ثم ذمّهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال:
لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ مؤكدا بلام القسم. تعجيبا من سوء فعلهم، كيف وقد أدّاهم إلى ما شرح من اللعن الكبير.
تنبيهات:
الأول: دلت الآية على جواز لعنهم.
الثاني: دلت الآية أيضا على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع. لما رواه أكثر المفسرين، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. وستأتي قصتهم في (الأعراف).
الثالث: دلت أيضا على وجوب النهي عن المنكر.
قال الحاكم: وتدل على أن ترك النهي من الكبائر.
221
الرابع:
روى الإمام أحمد «١» في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، أو في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. وكان رسول الله ﷺ متكئا فجلس فقال: لا، والذي نفسي بيده! حتى تأطروهم على الحق أطرا. أي: تعطفوهم عليه. ورواه الترمذي
وقال: حسن غريب.
وأخرجه أبو داود عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا! اتّق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا- إلى قوله- فاسِقُونَ. ثم قال: كلا والله! لتأمرنّ بالمعروف. ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنّه على الحق أطرا، أو تقصرنّه على الحق قصرا.
زاد في رواية: أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.
وكذا رواه الترمذيّ وحسّنه. وابن ماجة.
والأحاديث في (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كثيرة، ومما يناسب منها هذا المقام:
ما
رواه الإمام أحمد «٢» والترمذيّ عن حذيفة بن اليمان: أن النبيّ ﷺ قال: والذي نفسي بيده! لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم.
وفي (الصحيحين) «٣» عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان.
(١) أخرجه في المسند ص ٣٩١ ج ١ والحديث رقم ٣٧١٣.
وأخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٦- حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن.
وأبو داود في: الملاحم، ١٧- باب الأمر والنهي، حديث ٤٣٣٦.
وابن ماجة في: الفتن، ٢٠- باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث ٤٠٠٦.
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ٣٨٨.
والترمذيّ في: الفتن، ٩- باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
(٣) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٧٨.
222
وروى الإمام أحمد «١» عن عديّ بن عميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إنّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم. وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة.
وروى ابن ماجة «٢» عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبدا حجته قال: يا ربّ! رجوتك وفرقت الناس.
قال الحافظ ابن كثير: تفرّد به ابن ماجة
. وإسناده لا بأس به.
وروى الإمام أحمد «٣» والترمذيّ عن حذيفة عن النبي ﷺ قال: لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق.
قال الترمذيّ: حسن غريب.
وروى ابن ماجة «٤» عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم. قلنا:
يا رسول الله! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم، الفاحشة في كباركم، والعلم في رذالتكم.
قال زيد بن يحيى الخزاعيّ، أحد رواته: معنى
قول النبيّ ﷺ (والعلم في رذالتكم)
إذا كان العلم في الفساق.
تفرّد به ابن ماجة. وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ- أفاده ابن كثير.
أقول: هذه الأحاديث إنما يتروّح بها الضعفة، من نحو العلماء والقادة. وأما
(١) أخرجه في المسند ٤/ ١٩٢.
(٢) أخرجه ابن ماجة في: الفتن، ٢١- باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، حديث ٤٠١٧.
(٣) أخرجه في المسند ٥/ ٤٠٥.
والترمذيّ في: الفتن، ٦٧- باب حدثنا محمد بن بشار.
(٤) أخرجه ابن ماجة في: الفتن، ٢١- باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ، حديث ٤٠١٥.
223
من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم.. ولذا قال العلّامة الزمخشريّ: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلّة عبئهم به. كأنه ليس من ملّة الإسلام في شيء. مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب. وقد مرّ عند قوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ [المائدة: ٦٣] ما يؤيد ما هنا، فتذكّر.
الخامس: قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيرا للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قبل أن الله تعالى أمر بالتناهي. فكان الإخلال به معصية، وهو اعتداء.
ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى، وصف الحاضرين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٠]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من أهل الكتاب يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يوالون المشركين، بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الرازيّ: والمراد منهم كعب بن الأشرف وأصحابه، حين استجاشوا المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلم: وذكرنا ذلك في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا.
لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: لبئس شيئا قدموا لمعادهم. وقوله تعالى:
أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هو المخصوص بالذم، على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، تنبيها على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم. والمعنى: لبئس زادهم في الآخرة موجب سخطه تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ أي: عذاب جهنم هُمْ خالِدُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨١]
وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
وَلَوْ كانُوا أي: هؤلاء الذين يتولون عبدة الأوثان من أهل الكتاب يُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ وَالنَّبِيِ
أي نبيهم موسى عليه السلام وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ أي: من التوراة مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ إذ الإيمان بالله يمنع من تولّي من يعبد غيره وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم، أو متمردون في نفاقهم. يعني: أن موالاتهم للمشركين كفى بها دليلا على نفاقهم، وإن إيمانهم ليس بإيمان، لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة وفي شرع موسى عليه السلام. فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى عليه السلام، بل مرادهم الرياسة والجاه، فيسعون في تحصيله بأي طريق قدروا عليه، فلهذا وصفهم تعالى بالفسق.
وفي الآية وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: ولو كانوا- أي منافقوا أهل الكتاب المدّعون للإيمان- يؤمنون بمحمد ﷺ والقرآن حق الإيمان، ما ارتكبوا ما ارتكبوه، من موالاة الكافرين في الباطن.
والوجه الأول أقوم، والله أعلم.
ثم أكد تعالى ما تقدم من مثالب اليهود بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وإنما عاداهم اليهود لإيمانهم بعيسى ومحمد ﷺ وعاداهم المشركون لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء- أشار إليه المهايميّ.
وقال غيره: لشدة إبائهم، وتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيبهم، ومناصبتهم لهم. ولهذا قتلوا كثيرا منهم حتى هموا بقتل رسول الله ﷺ غير مرة، وسموه، وسحروه، وألّبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم (اليهود) على (المشركين)، بعد لزّهما في قرن واحد، إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى:
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة: ٩٦] إيذانا
225
بتقدمهم عليهم في الحرص. وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم وقلة غلّ قلوبهم.
قال ابن كثير: وما ذاك إلا لما في قلوبهم، إذ كانوا على دين المسيح، من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً [الحديد: ٢٧]. وفي كتابهم: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر.
وليس القتال مشروعا في ملّتهم. انتهى.
ولأن من مذهب اليهود، أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان، من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام. فحصل الفرق.
وقد روى ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا: ما خلا يهوديّ بمسلم إلا همّ بقتله.
ولكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب، مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد، ولين العريكة، كما أشير إليه بقوله تعالى: ذلِكَ أي: كونهم أقرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ أي: بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ أي علماء وَرُهْباناً أي عبّادا متجردين وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود.
وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر- محمود. وإن كان ذلك من كافر.
لطيفة:
قال الناصر في (الانتصاف) :
إنما قال تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل (النّصارى) تعريضا بصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر، لأن اليهود قيل لهم: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ [المائدة: ٢١] فقابلوا ذلك بأن قالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤]. والنصارى قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران: ٥٢]. ومن ثم سمّوا نصارى. وكذلك أيضا ورد أول هذه السورة. وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة: ١٤]. فأسند ذلك إلى قولهم، والإشارة به إلى قولهم: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ لكنه هاهنا ذكر تنبيها على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. وفي الآية الثانية ذكر تنبيها على أنهم أقرب حالا من اليهود.
لأنهم لما ورد عليهم الأمر لم يكافحوه بالردّ مكافحة اليهود. بل قالوا: نَحْنُ أَنْصارُ
226
اللَّهِ
. واليهود قالت:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ الآية، فهذا سره. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٣]
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ عطف على (لا يستكبرون). قال أبو البقاء:
ويجوز أن يكون مستأنفا في اللفظ وإن كان له تعلق بما قبله في المعنى. يعني: وإذا سمعوا القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ أي: تنصبّ مِنَ الدَّمْعِ الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف، مع برد اليقين مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي من كتابهم، فوجدوه أكمل منه وأفضل، أو من الذي نزل على الرسول ﷺ وهو الحق، أو من صفة محمد ﷺ ونعته في كتابهم يَقُولُونَ أي: من عدم استكبارهم رَبَّنا آمَنَّا أي: بك وبما أنزلت وبرسولك محمد فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: الذين شهدوا بأنه حق أو بنبوته. روى الحاكم، وصححه، ابن عباس قال: أي مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته هم الشاهدون. يشهدون لنبيهم أنه قد بلّغ، وللرسل أنهم قد بلّغوا.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٤]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجبه- وهو الطمع- في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ أي. وبما جاءنا من القرآن. وفي إعرابه وجه آخر يأتي، وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ يعني مع أمة محمد ﷺ أو المعنى: أن يدخلنا ربّنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٥]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥)
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي: بما تكلموا به من قولهم رَبَّنا آمَنَّا الصادر عن اعتقاد وإخلاص واعتراف بالحقّ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: من تحت شجرها
227
ومساكنها الْأَنْهارُ يعني أنهار الماء واللبن والخمر والعسل خالِدِينَ فِيها أي:
مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون منها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ يعني المؤمنين الموحّدين المخلصين في إيمانهم.
تنبيهات:
الأول: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله عليهم.
أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن وعروة ابن الزبير قالوا: بعث رسول الله ﷺ عمرو بن أمية الضمريّ وكتب معه كتابا إلى النجاشيّ. فقدم على النجاشي. فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه وأرسل إلى الرهبان والقسّيسين. ثم أمر جعفر بن أبي طالب فقرأ عليهم سورة مريم. فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع. فهم الذين أنزل الله فيهم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً..- إلى قوله- فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: بعث النجاشيّ ثلاثين رجلا من خيار أصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقرأ عليهم سورة (يس) فبكوا، فنزلت فيهم الآية.
وأخرج النسائي عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت هذه الآيات في النجاشيّ وأصحابه: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
وروى الطبرانيّ عن ابن عباس نحوه، بأبسط منه.
- كذا في (أسباب النزول للسيوطيّ) - وقال ابن كثير: قال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشيّ وأصحابه، الذين، حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن، بكوا حتى أخضبوا لحاهم.
قال ابن كثير: وهذا القول فيه نظر. لأن هذه الآية مدنية، وقصة جعفر مع النجاشيّ قبل الهجرة. انتهى.
أقول: إن نظره مدفوع، فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه.. وظاهر أنّ المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة. وهم يهود بني قريظة والنضير. وبعناد
228
المشركين أيضا، وقساوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه. وقال ابن كثير: هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران: ١٩٩]. الآية، وهم الذين قال الله فيهم:
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ..- إلى قوله- لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص: ٥٢- ٥٥]. انتهى.
وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة أنّ قريشا ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم.
قال ابن إسحاق رحمه الله تعالى: فلما رأى رسول الله ﷺ ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء- قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإنّ بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم.
فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله ﷺ إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة. وفرّوا إلى الله بدينهم. فكانت أول هجرة كانت في الإسلام.
فكان جميع من لحق بأرض الحبشة وهاجر إليها من المسلمين- سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها- ثلاثة وثمانين رجلا، إن كان عمّار بن ياسر فيهم، وهو يشكّ فيه.
ثم روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة- زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم- قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشيّ. أمنّا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه. فلمّا بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشيّ فينا رجلين منهم جلدين. وأن يهدوا للنجاشيّ هدايا مما يستطرف من متاع مكة. وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم. فجمعوا له أدما كثيرا. ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلّا أهدوا له هدية. ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو ابن العاص. وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشيّ فيهم. ثم قدّما إلى النجاشيّ هداياه. ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.
229
قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشيّ- ونحن عنده بخير دار، عند خير جار- فلم يبق من بطارقته بطريق إلّا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشيّ، وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى- أي لجأ- إلى بلد الملك منا، غلمان سفهاء، فارقوا دين قومه، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع، لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. فإنّ قومهم أعلى بهم عينا. (أي أبصر بهم) وأعلم بما عابوا عليهم. فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدّما هداياهما إلى النجاشيّ فقبلها منهما، ثم كلّماه بما كلّما كلّ بطريق.
قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشيّ. قالت: فقالت بطارقته حوله: صدقا. أيها الملك! قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فأسلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم. فقالت: فغضب النجاشيّ ثم قال: لاها الله! إذا لا أسلمهم إليهما. ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم. فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم. وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا. ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله! ما علمنا. وما أمرنا به نبينا، كائنا في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوا- وقد دعا النجاشيّ أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، سألهم فقال لهم: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب فقال له: أيها الملك؟ كنا قوما أهل جاهلية. نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام ونسئ الجوار. ويأكل القويّ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه. فدعا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان. وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. - قالت: فعدّد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما
230
أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا مظلم عندك أيها الملك! قال: فقال له النجاشيّ:
هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشيّ: فاقرأه عليّ. قالت: فقرأ عليه صدرا من (كهيعص) قالت: فبكى، والله! النجاشيّ حتى اخضلّت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم. ثم قال النجاشيّ: إن هذا، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا، والله! لا أسلمهم إليكما ولا يكادون.
قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله! لآتينّه غدا عنهم بما أستأصل به خضراءهم (أي شجرتهم التي منها تفرعوا).
قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة- وكان أتقى الرجلين فينا-: لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله! لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما. فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم ليسألهم عنه.
قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط. فاجتمع القوم. ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول، والله! ما قال الله وما جاءنا به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن. قال: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبي طالب نقول فيه الذي جاءنا فيه نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت:
فضرب النجاشيّ بيده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: والله! ما عدا عيسى ابن مريم، مما قلت. هذا العود. قالت: فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال. فقال:
وإن نخرتم، والله! اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي- والشيوم الآمنون- من سبّكم، غرم.
قالها ثلاثا.
ثم قال: ما أحب أن لي دبرا- والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلا منكم. ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها.
231
قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.
ثم روى ابن إسحاق في قصته: أن النجاشيّ عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلّا الله وأن محمدا عبده ورسوله. ويشهد أنّ عيسى ابن مريم عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم. انتهى.
وإسلام النجاشيّ معروف. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما مات، صلّى عليه مع تباعد الديار.
وذكر شمس الدين بن القيّم في (زاد المعاد) : أنه كان مخرجهم إلى الحبشة في السنة الخامسة من المبعث.
التنبيه الثاني:
في الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء. وفي الخبر:
ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا. أخرجه المنذريّ في (الترغيب والترهيب) عن عبد الله بن عمرو. وقال: رواه الحاكم مرفوعا وصحّحه. والمراد إشراب القلب والخوف المهابة لله تعالى.
الثالث: في قوله تعالى: يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا وقوله فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا دليل على أن الإقرار داخل في الإيمان كما هو مذهب الفقهاء. وتعلقت الكرامية في أن الإيمان مجرد القول بقوله تعالى: بِما قالُوا، لكن الثناء بفيض الدمع في السباق، وبالإحسان في السياق، يدفع ذلك وأنّى يكون مجرد القول إيمانا وقد قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ؟ نفى الإيمان عنهم، مع قولهم آمَنَّا بِاللَّهِ لعدم التصديق بالقلب.
وقال أهل المعرفة: الموجود منهم ثلاثة أشياء: البكاء على الجفاء، والدعاء على العطاء، والرضا بالقضاء. فمن ادعى المعرفة، ولم يكن فيه هذه الثلاثة، فليس بصادق في دعواه..! أفاده النسفيّ.
وقال الخازن: إنما علق الثواب بمجرد القول، لأنه قد سبق وصفهم بما يدل على إخلاصهم فيما قالوا. وهو المعرفة والبكاء المؤذنان بحقيقة الإخلاص واستكانة القلب. لأن القول إذا اقترن بالمعرفة فهو الإيمان الحقيقيّ الموعود عليه بالثواب.
وقال الرازيّ: لما حصلت المعرفة والإخلاص وكمال الانقياد، ثم انضاف إليه القول، لا جرم كمل الإيمان.
232
الرابع: قوله تعالى: وَما جاءَنا يجوز أن يكون في موضع جرّ، أي: وبما جاءنا، ومِنَ الْحَقِّ حال من الفاعل المستتر، أو لغو متعلق بجاء أي: وبما جاءنا من عند الله. ويجوز أن يكون مبتدأ ومِنَ الْحَقِّ الخبر، والجملة في موضع الحال. وقوله تعالى: وَنَطْمَعُ يجوز أن يكون معطوفا على نُؤْمِنُ أي: وما لنا لا نطمع. ويجوز أن يكون التقدير: ونحن نطمع، فتكون الجملة حالا من ضمير الفاعل في نُؤْمِنُ- أفاده أبو البقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي: الذين جحدوا الحقّ الذي جاءهم وكذّبوا بحجج الله وبراهينه أولئك أصحاب الجحيم، أي: النار الشديدة الحرارة. جزاء وفاقا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي: ما طاب ولذّ منه.
كأنه- لما تضمن ما سلف مدح النصارى على الترهب، والحث على كسر النفس.
ورفض الشهوات- عقبه النهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية. ثم أشار إلى أنه اعتداء بقوله سبحانه وَلا تَعْتَدُوا أي: عمّا حدّ الله سبحانه وتعالى بجعل الحلال حراما. أو: ولا تعتدوا في تناول الحلال فتجاوزوا الحدّ فيه إلى الإسراف كما قال تعالى وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: ٣١].
وقال وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان:
٦٧]. أو: ولا تعتدوا على النفس والأهل بمنع الحقوق. أو: ولا تعتدوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم عليكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ في كل ما ذكر، وهو تعليل لما قبله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٨]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي: كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم
233
الله. فيكون حَلالًا مفعول كُلُوا ومِمَّا حال منه، أو متعلقة ب كُلُوا، أو هو المفعول وحَلالًا حال من ما أو من عائده المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف، أي: أكلا حلالا. وقوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ تأكيد للتوصية بما أمر به، وزاده تأكيدا بقوله: الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب التقوى، في الانتهاء إلى ما أمر به وعما نهى عنه.
قال المهايميّ: مقتضى إيمانكم أن لا تغيروا شيئا من أحكام دينكم، وأن لا تعارضوا في أحكامه ولو بكراهة من أنفسكم، وأن تتقوه في وضع قواعد تخالف قواعد الشرع، بل غاية ما يجوز أخذ معان من علم الشريعة مؤكدة لمقتضاه.
تنبيهات.
الأول: فيما روي في سبب نزولها:
أخرج الترمذيّ «١» عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلا أتى النبيّ ﷺ فقال: إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمت عليّ اللحم.
فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا.. الآية.
وروى ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: نقطع مذاكيرنا ونترك شهوات الدنيا ونسيح في الأرض كما تفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأرسل إليهم، فذكر لهم ذلك، فقالوا: نعم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأنكح النساء. فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني. وروى ابن مردويه نحوه.
وفي (الصحيحين) «٢» من حديث عائشة رضي الله عنها، أنّ ناسا من أصحاب
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٤- حدثنا عمرو بن عليّ أبو حفص الفلاس.
(٢)
أخرجه البخاري في: النكاح، ١- باب الترغيب في النكاح، حديث ٢٠٩٩ ونصه: عن حميد بن أبي حميد، الطويل، أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: جاء ثلاثة رهطا إلى بيوت أزواج النبيّ ﷺ يسألون عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم. فلما أخبروا كأنهم تقالّوها. فقالوا: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا.
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر.
وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدا.
فجاء رسول الله ﷺ فقال «أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له.
لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني»
.
وأخرجه عن أنس، مسلم أيضا في: النكاح، حديث ٥
.
234
رسول الله ﷺ سألوا أزواج النبيّ ﷺ عن عمله في السرّ؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء. وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبيّ ﷺ فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم. وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.
وروى ابن أبي حاتم، أن عبد الله بن مسعود جاءه معقل بن مقرن فقال: إني حرمت فراشي. فتلا عليه هذه الآية.
وأخرج أيضا عن مسروق قال: كنا عند عبد الله بن مسعود. فجيء بضرع فتنحّى رجل. فقال عبد الله: ادن. فقال: إني حرمت أن آكله. فقال عبد الله: ادن فاطعم وكفّر عن يمينك. وتلا هذه الآية. ورواه الحاكم أيضا.
الثاني: قال بعض الزيدية: ثمرة الآية النهي عن تحريم الطيبات من الحلال.
وذكر الحاكم: أن هذا النهي يحتمل وجوها لا مانع من الحمل على جميعها:
أحدهما لا تعتقدوا التحريم. ومنها: لا تحرّموا على غيركم بالفتوى والحكم. ومنها:
لا تجروه مجرى الحرمات في شدة الاجتناب. ومنها: لا تلتزموا تحريمه بنذر أو غيره.
وقال القاضي: لا تحرموا الحلال بفعل يصدر منكم. ، كالبياعات الربوية وخلط الحلال بالمغصوب والطاهر بالنجس.
ثم قال: ويتعلق بهذا أمرين: الأول إذا حرم الحلال، هل يجب عليه الحنث والرجوع؟ قلنا: ظاهر الآية يدل على ذلك، ويلزم مع ذلك التوبة. الأمر الثاني: هل يلزمه في ذلك كفارة؟ قلنا: هذه الآية قد يستدل بها على اللزوم، لأن النهي يقتضي فساد المنهيّ عنه. وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء. انتهى.
وقال ابن كثير: ذهب الشافعيّ إلى أنه من حرّم مأكلا أو ملبسا أو شيئا، ما عدا النساء، أنّه لا يحرم عليه، ولا كفارة عليه أيضا. لإطلاق هذه الآية. ولأن الذي حرم اللحم على نفسه- كما في الحديث المتقدم- لم يأمره النبي ﷺ بكفارة.
وذهب آخرون- منهم الإمام أحمد- إلى أنّ من حرم شيئا- مما ذكر- فإنه يجب عليه كفارة يمين، كما إذا التزم تركه باليمين. فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاما له بما التزمه، كما أفتى بذلك ابن عباس، وكما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ، تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
235
[التحريم: ١]. ثم قال: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ [التحريم: ٢]..
الآية. وكذلك هنا. لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين، فدلّ على أنّ هذا منزل منزلة اليمين في اقتصاء التكفير. والله أعلم.
وفي (زاد المعاد) لابن القيّم فصل مهمّ في حكم من حرم أمته أو زوجته أو متاعه. تنبغي مراجعته.
الثالث: هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدّد في التعبّد- كذا في (الإكليل).
قال ابن جرير: لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء، ممّا أحلّ الله لعباده المؤمنين، على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك ردّ النبيّ ﷺ التبتّل على عثمان بن مظعون. فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحلّه الله لعباده.
وأن الفضل والبرّ إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده، وعمل به رسول الله ﷺ وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون. إذ كان خير الهدى هدى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم.. فإذا كان ذلك كذلك تبيّن خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان، إذا قدر على لباس ذلك من حله. وآثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذرا من عارض الحاجة إلى النساء.. قال: فإن ظنّ ظان أن الفضل في غير الذي قلنا- لما في لباس الخشن وأكله من المشقة على النفس وصرف ما فضل منهما من القيمة إلى أهل الحاجة- فقد ظنّ خطأ. وذلك أن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربّها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة. لأنها مفسدة لعقله ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سببا إلى طاعته.. انتهى.
وللرازيّ هنا مبحث جيّد في حكمة هذا النهي. مؤيد لما ذكر. فليراجع فإنه نفيس.
وقد أخرج الترمذيّ «١» عن عائشة قالت: كان رسول الله يحب الحلواء والعسل.
وله «٢» عن أبي هريرة قال: أتى رسول الله ﷺ بلحم فرفع إليه الذراع- وكانت تعجبه- فنهش منها. قالت «٣» عائشة: ما كان الذراع أحبّ إلى رسول الله ﷺ ولكن كان لا يجد اللحم إلّا غبّا، وكان يعجل إليه الذراع لأنه أعجلها نضجا.
أخرجه الترمذيّ.
(١) أخرجه الترمذي في: الأطعمة، ٢٩- باب ما جاء في حب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحلواء والعسل. [.....]
(٢) أخرجه الترمذي في: الأطعمة، ٣٤- باب ما جاء في أي اللحم كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٣) أخرجه الترمذي في: الأطعمة، ٣٤- باب ما جاء في أي اللحم كان أحبّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
236
وحكى الزمخشريّ عن الحسن أنه دعي إلى طعام ومعه فرقد السّبخيّ وأصحابه. فقعدوا على المائدة- وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذ وغير ذلك- فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو صائم؟ قالوا: لا ولكنه يكره هذه الألوان، فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد! أترى لعاب النحل، بلباب البر، بخالص السمن، يعيبه مسلم. ؟
وعنه: أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذ ويقول: لا أؤدي شكره قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا نعم، قال: إنه جاهل. إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ.
وعنه: أن الله تعالي أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق: ٧]. ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا فتنعّموا وأطاعوا. ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه.
الرابع: قال الرازي: لم يقل تعالى: كلوا ما رزقكم، ولكن قال مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وكلمة من للتبعيض. فكأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات، لأنه إرشاد إلى ترك الإسراف كما قال وَلا تُسْرِفُوا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٨٩]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ تقدم الكلام على اللغو في اليمين في (سورة البقرة) وإنه ما يسبق إليه اللسان بلا قصد الحلف، كقول الإنسان: لا، والله! وبلى والله! والمراد بالمؤاخذة: مؤاخذة الإثم والتكفير، أي: فلا إثم في اللغو ولا كفارة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي: بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها عليه بأن حلفتم عن قصد منكم، أي: إذا حنثتم. أو بنكث ما عقدتم، فحذف للعلم به.
وقرئ بالتخفيف، وقرئ (عاقدتم) بمعنى عقدتم فَكَفَّارَتُهُ أي: فكفارة نكثه، أي الخصلة الماحية لإثمه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أي: لا من أجوده فضلا عما تخصونه
237
بأنفسكم. ولا من أردأ ما تطعمونهم فضلا عن الذي تعطونه السائل أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: عتقها فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: شيئا مما ذكر فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ كفارته ذلِكَ أي: المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ أي: التي اجترأتم بها على الله تعالى إِذا حَلَفْتُمْ أي: وحنثتم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي: عن الإكثار منها- أو عن الحنث- إذا لم يكن ما حلفتم عليه خيرا، لئلا يذهب تعظيم اسم الله عن قلوبكم كَذلِكَ أي: مثل هذا البيان الكامل يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي: أعلام شرائعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: نعمته فيما يعلمكم ويسهل عليكم المخرج.
قال المهايمي: أي: تشكرون نعمه بصرفها إلى ما خلقت له، ومن جملتها صرف اللسان، الذي خلق لذكر الله وتعظيمه، إلى ذلك. فإذا فات صرف بعض ما ملكه إلى بعض ما يجبره ليقوم مقام الشكر باللسان، إذ به يتم تعظيمه. فإذا لم يجد كسر هوى النفس من أجله فهو أيضا من تعظيمه. فافهم.
وفي هذه الآية مباحث:
الأول: معنى: (أو) التخيير وإيجاب إحدى الكفارات الثلاث. فإذا لم يجد انتقل إلى الصوم.
فأما الإطعام فليس فيه تحدي بقدر. لا في وجبة ولا وجبتين، ولا في قدر من الكيل.
ولذا روي عن الصحابة والتابعين فيه وجوه. جميعها مما يصدق عليه مسماه، فبأيها أخذ أجزأه. فمنها ما
رواه ابن أبي حاتم عن عليّ رضي الله عنه قال: يغديهم ويعشيهم
. كأنه ذهب- رضي الله عنه- إلى المراد بالإطعام الكامل- أعني قوت اليوم وهو وجبتان- وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة.
ولذا قال الحسن ومحمد بن الحنفية: يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزا ولحما. زاد الحسن: فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا، فإن لم يجد فخبزا وزيتا وخلا حتى يشبعوا.
وعن عمر وعلي أيضا وعائشة وثلّة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما.
وعن ابن عباس: لكل مسكين مدّ من بر ومعه إدامه.
وفي (فتح القدير) من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز. إلا أنه إن كان برّا لا يشترط الإدام، وإن كان غيره فبإدام.
238
وحكي عن الهادي: اشتراط الأكل لإشعار (الإطعام) بذلك.
والأكثرون: أن الأكل غير شرط. لأنه ينطلق لفظ (الإطعام) على التمليك.
الثاني: إطلاق (المساكين) يشمل المؤمن والكافر الذميّ والفاسق. فبعضهم أخذ بعموم ذلك. ومذهب الشافعية والزيدية: خروج الكافر بالقياس على منع صرف الزكاة إليه، وأما الفاسق فيجوز الصرف إليه مهما لم يكن في ذلك إعانة له على المنكر. ولم يجوزه الهادي. وظاهر الآية اشتراط العدد في المساكين. وقول بعضهم:
إن المراد إطعام طعام يكفي العشرة، مفرعا عليه جواز إطعام مسكين واحد عشرة أيام- عدول عن الظاهر، لا يثبت إلا بنص.
الثالث: لم يبين في الآية حدّ الكسوة وصفتها فالواجب حينئذ الحمل على ما ينطلق عليها اسمها.
قال الشافعيّ، رحمه الله: لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة- من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة- أجزأه ذلك.
وقال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد أن يدفع إلى كلّ واحد منهم من الكسوة ما يصحّ أن يصلي فيه، إن كان رجلا أو امرأة، كل بحسبه.
وقال العوفيّ عن ابن عباس: عباءة لكل مسكين أو شملة.
وقال مجاهد: أدناه ثوب وأعلاه ما شئت.
وعن ابن المسيّب: عمامة يلفّ بها رأسه، وعباءة يلتحف بها.
وعن الحسن وابن سيرين: ثوبان ثوبان.
وروى ابن مردويه عن عائشة عن رسول الله ﷺ في قوله تعالى: أَوْ كِسْوَتُهُمْ قال: عباءة لكلّ مسكين
. قال ابن كثير: حديث غريب.
أقول: لا يخفى الاحتياط والأخذ بالأكل والأفضل في الإطعام والكسوة.
الرابع: قال الرازيّ: المراد ب (الرقبة) الجملة. قيل: الأصل في هذا المجاز أنّ الأسير في العرب كان يجمع يداه إلى رقبته بحبل. فإذا أطلق حلّ ذلك الحبل. فسمّي (الإطلاق من الرقبة) فكّ الرقبة. ثم جرى ذلك على العتق. وقد أخذ بإطلاقها أبو حنيفة فقال: تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعيّ وآخرون: لا بدّ أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها من كفارة القتل لاتحاد الموجب، وإن اختلف السبب.
239
ومن حديث معاوية بن الحكم السلميّ- الذي هو في (موطأ مالك) «١» و (مسند الشافعيّ) و (صحيح مسلم) «٢»
- أنه ذكر أنّه عليه عتق رقبة. وجاء معه بجارية سوداء. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت:
أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة... الحديث بطوله.
قال الشعرانيّ، قدس سعره في (الميزان) : قال العلماء: عدم اعتبار الإيمان في الرقبة مشكل. لأن العتق ثمرته تخليص رقبة لعبادة الله عزّ وجلّ. فإذا أعتق رقبة كافرة فإنما خلّصها لعبادة إبليس. وأيضا فإن العتق قربة، ولا يحسن التقرب إلى الله تعالى بكافر. انتهى.
الخامس: للعلماء في حدّ الإعسار الذي يبيح الانتقال إلى الصوم أقوال. وظاهر الآية هو أنه لا يملك قدر إحدى الكفارات الثلاثة- من الإطعام أو الكسوة أو العتق- فإن وجد قدر إحداها كان ذلك مانعا من الصوم، اللهمّ إذا فضل عن قومه وقوت عياله في يومه ذلك.
وقد روى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن أنهما قالا: من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام، وإلّا صام.
(١) أخرجه في الموطأ في: العتق والولاء، حديث ٨.
(٢)
أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٣٣. وسنسوقه بنصه الكامل: عن معاوية بن الحكم السّلميّ قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذا عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم. فقلت: واثكل أمّياه. ما شأنكم؟ تنظرون إليّ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمّتونني. لكن سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلّما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه. فو الله! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن». أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية. وقد جاء الله بالإسلام. وإن منا رجالا يأتون الكهّان. قال «فلا تأتهم» قال: ومنا رجال يتطيّرون. قال «ذاك شيء يجدونه في صدورهم. فلا يصدّنهم» قال قلت: ومنا رجال يخطّون. قال «كان نبيّ من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطه فذاك».
قال: وكانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجّوانية. فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها. وأنا رجل من بني آدم. آسف كما يأسفون. لكني صككتها صكة. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعظّم ذلك عليّ. قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال «ائتني بها» فأتيته بها. فقال لها «أين الله؟» قالت: في السماء. قال «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله. قال «أعتقها فإنها مؤمنة».
240
السادس: إطلاق قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ صادق على المجموعة والمفرّقة. كما في قضاء رمضان، لقوله فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: ١٨٤]. ومن أوجب التتابع استدلّ بقراءة أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرءان فصيام ثلاثة أيام متتابعات. وقراءتهما لا تتخلف عن روايتهما.
قال الأعمش: كان أصحاب ابن مسعود يقرءونها كذلك.
قال ابن كثير: وهذه، إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترا. فلا أقلّ أن يكون خبر واحد أو تفسير من الصحابة. وهو في حكم المرفوع.
وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله! نحن بالخيار؟ قال: أنت بالخيار، إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت.
وإن شئت أطعمت. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات. قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جدّا.
ونقل بعض الزيدية، رواية عن ابن جبير، أنه كان يصلّي تارة بقراءة ابن مسعود وتارة بقراءة زيد.
السابع: قال الناصر في (الانتصاف) : في هذه الآية- يعني قوله تعالى ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ- وجه لطيف المأخذ في الدلالة على صحة وقوع الكفارة بعد اليمين وقبل الحنث، وهو المشهور من مذهب مالك. وبيان الاستدلال بها أنه جعل ما بعد الحلف ظرفا لوقوع الكفارة المعتبرة شرعا. حيث أضاف إِذا إلى مجرد الحلف وليس في الآية إيجاب الكفارة حتى يقال: قد اتفق على أنها إنما تجب بالحنث. فتعين تقديره مضافا إلى الحلف. بل إنما نطقت بشرعية الكفارة ووقوعها على وجه الاعتبار. إذ لا يعطي قوله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إيجابا، إنما يعطي صحة واعتبارا. والله أعلم.
وهذا انتصار على منع التكفير قبل الحنث مطلقا، وإن كانت اليمين على برّ.
والأقوال الثلاثة في مذهب مالك، إلّا أن القول المنصور هو المشهور. انتهى.
وقال الرازيّ: احتجّ الشافعيّ بهذه الآية على أن التكفير قبل الحنث جائز. لأنها ذلت على أن كل واحد من الثلاثة كفارة لليمين عند وجود الحلف. فإذا أدّاها بعد الحلف، قبل الحنث، فقد أدّى الكفارة. وقوله تعالى: إِذا حَلَفْتُمْ فيه دقيقة. وهي التنبيه على أن تقديم الكفارة قبل اليمين لا يجوز. انتهى.
241
وفي (الصحيحين) «١» من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير.
وعند أبي داود: فكفّر عن يمينك ثم أت الذي هو خير.
الثامن قال السيوطيّ في (الإكليل) : في قوله تعالى وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ استحباب ترك الحنث إلّا إذا كان خيرا، أي: لما تقدم من حديث ابن سمرة. وهذا على أحد وجهين في الآية. والآخر النهي عن الإكثار من الحلف كما سبق. قال كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الأليّة برّت!
التاسع: حكمة تقديم الإطعام على العتق- مع أنه أفضل- من وجوه:
(أحدها) : التنبيه من أول الأمر على أنّ هذه الكفارة وجبت على التخيير لا على الترتيب. وإلّا لبدئ بالأغلظ (ثانيها) : كون الطعام أسهل لأنه أعمّ وجودا، والمقصود منه التنبيه على أنه تعالى يراعي التخفيف والتسهيل في التكاليف و (ثالثها) : كون الإطعام أفضل، لأن الحرّ الفقير قد لا يجد الطعام، ولا يكون هناك من يعطيه الطعان، فيقع في الضرّ. أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته، أفاده الرازيّ.
العاشر: سرّ إطعام العشرة، أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام العدد الكامل، الكاسرة للنفس المجترئة على الله تعالى. وسرّ الكسوة كونه يجزي بستر العورة سرّ المعصية. وسرّ التحرير فكّ رقبة عن الإثم. وسرّ صوم الثلاثة، أنّ الصيام لما كان ضيرا بنفسه اكتفى فيه بأقلّ الجمع. أفاده المهايميّ، قدس سره.
الحادي عشر: قال شمس الدين بن القيّم في (زاد المعاد) :
«كان ﷺ يستثني في يمينه تارة، ويكفرّها تارة، ويمضي فيها تارة. والاستثناء
(١)
أخرجه البخاريّ في: الأيمان والنذور، ١- باب قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، حديث رقم ٢٤٨٨ وهاكموه بتمامه: عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال النبيّ ﷺ «يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فكفّر عن يمينك وأت الذي هو خير.
وأخرجه مسلم في: الأيمان، حديث ١٦
.
242
يمنع عقد اليمين. والكفارة تحلّها بعد عقدها. ولهذا سمّاها الله تَحِلَّةَ.
وحلف ﷺ في أكثر من ثمانين موضعا. وأمره الله سبحانه بالحلف في ثلاثة مواضع:
فقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ، قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس: ٥٣] وقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ: ٣] وقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: ٧]. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهريّ ولا يسميه بالفقيه. فتحاكم إليه يوما هو وخصم له.
فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود. فتهيّأ للحلف. فقال له القاضي إسماعيل:
وتحلف، ومثلك يحلف يا أبا بكر؟ فقال: وما يمنعني عن الحلف؟ وقد أمر الله تعالى نبيّه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه. قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر، فاستحسن ذلك منه جدّا، ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ أي: الشراب الذي خامر العقل، أي خالطه فستره وَالْمَيْسِرُ أي: القمار وَالْأَنْصابُ أي: الأصنام المنصوبة للعبادة وَالْأَزْلامُ أي: القداح رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: خبيث من تزيين الشيطان، وقذر تعاف عنه القول.
قال المهايميّ: لأن الخمر تضيع العقل، وما دون السكر داع إلى ما يستكمله، فأقيم مقامه في الشرع الكامل. والميسر يضيع المال. والأنصاب تضيع عزة الإنسان بتذلّله لما هو أدنى منه. والأزلام تضيع العلم للجهل بالثمن والمثمن. انتهى.
وما ذكره هو شذرة من مفاسدها فَاجْتَنِبُوهُ أي: اتركوه، يعني: ما ذكر. أو (الرجس) الواقع على الكل لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: رجاء أن تنالوا الفلاح فتنجوا من السخط والعذاب وتأمنوا في الآخرة.
ثم أكد تعالى تحريم الخمر والميسر ببيان مفاسدهما الدنيوية والدينية.
فالأولى في قوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩١]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١)
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ أي: المشاتمة والمضاربة والمقاتلة وَالْبَغْضاءَ القاطعة للتعاون الذي لا بد للإنسان منه في معيشته فِي الْخَمْرِ أي إذا صرتم نشاوى وَالْمَيْسِرِ إذا ذهب مالكم. وقد حكى أنه ربّما قامر الرجل بأهله وولده فإذا أخذه الخصم وقعت العداوة بينهما أبدا. ثم أشار إلى مفاسدهما الدينية بقوله: وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إذ يغلب السرور والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذّ الجسمانية فيلهى عن ذكر الله. والميسر، إن كان صاحبه غالبا انشرحت نفسه ومنعه حب الغلبة والقهر عن ذكر الله. وإن كان مغلوبا، مما حصل من الانقباض أو الاحتيال إلى أن يصير غالبا، لا يخطر بباله ذكر الله وَعَنِ الصَّلاةِ أي: ويصدكم عن مراعاة أوقاتها. وقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ من أبلغ ما ينهى به، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع.
فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون؟ أنتم على ما كنتم عليه كأن لم توعظوا ولم تزجروا؟ أفاده الزمخشريّ.
تنبيهات:
الأول: سبق الكلام على الخمر والميسر في سورة البقرة في قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وسلف أيضا معنى الأنصاب والأزلام في أول هذه السورة عند قوله: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فتذكر.
الثاني: إنما جمع الخمر والميسر مع الأنصاب والأزلام أولا، ثم أفردا آخرا، وخصصا بشرح ما فيهما من الوبال- للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما. وذكر الأصنام والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة. كأنه لا مباينة بين من عبد صنما وأشرك بالله في علم الغيب، وبين من شرب خمرا أو قامر.
روى الحارث بن أبي أسلمة في (مسنده) عن ابن عمرو مرفوعا: شارب الخمر كعابد وثن، وشارب الخمر كعابد اللات والعزّى. وإسناده حسن.
وتخصيص الصلاة بالإفراد، مع دخولها في الذكر، للتعظيم والإشعار بأن الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان، لما أنها عماده.
الثالث: هذه الآية دالة على تأكيد تحريم الخمر والميسر من وجوه:
(منها) : تصدير الجملة ب (إما) وذلك لأن هذه الكلمة للحصر، فكأنه تعالى قال: لا رجس ولا شيء من عمل الشيطان إلا الخمر والميسر وما ذكر معهما.
و (منها) : أنه قرنهما بعبادة الأوثان.
و (منها) : أنه جعلهما رجسا كما قال تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠].
و (منها) : أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلا الشر البحث.
و (منها) أنه أمر بالاجتناب، وظاهر الأمر للوجوب.
و (منها) : أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحا، كان الارتكاب خيبة ومحقة.
و (منها) : أنه ذكر ما ينتج منهما من الوبال- وهو وقوع التعادي والتباغض- وما يؤديان إليه من الصدّ عن ذكر الله وعن مراعاة أوقات الصلاة.
و (منها) : إعادة الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أصناف الصوارف بقوله سبحانه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فآذن بأن الأمر في الزجر والتحذير، وكشف ما فيهما من المفاسد والشرور قد بلغ الغاية. وأنّ الأعذار قد انقطعت بالكلية- و (منها) : قوله تعالى بعد ذلك:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أي: في جميع ما أمرا به ونهيا عنه وَاحْذَرُوا أي: مخالفتهما في ذلك. فيدخل فيه مخالفة أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولا أوليّا.
و (منها) : قوله تعالى:
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: إن أعرضتم عن الامتثال بما أمرتم به من الاجتناب عن الخمر والميسر، فقد قامت عليكم الحجة
وانتهت الأعذار. والرسول قد خرج عن عهدة التبليغ إذ أدّاه بما لا مزيد عليه. فما بقي بعد ذلك إلّا العقاب. وفيه تهديد عظيم ووعيد شديد في حقّ من خالف وأعرض عن حكم الله وبيانه.
الرابع: قال الرازيّ: اعلم أن من أنصف وترك الاعتساف، علم أنّ هذه الآية نصّ صريح في أن كل مسكر حرام. وذلك لأنه تعالى رتب النهي عن شرب الخمر على كونها مشتملة على تلك المفاسد الدينية والدنيوية، ومن المعلوم في بدائه العقول أن تلك المفاسد إنما تولّدت من كونها مؤثرة في السكر. وهذا يفيد القطع بأن علة قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ هي كون الخمر مؤثرا في الإسكار، وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن كلّ مسكر حرام. قال: ومن أحاط عقله بهذا التقرير، وبقي مصرّا على قوله، فليس لعناده علاج. انتهى.
ثم بيّن تعالى رفع الإثم عمّن مات وهو يشرب الخمر قبل التحريم- كما سنفصّله- بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٣]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم فِيما طَعِمُوا مما حرّم بعد تناولهم إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وهنا مسائل الأولى: قال بعض المفسرين: إن قيل: لم خصّ المؤمنين بنفي الجناح في الطيبات إذا ما اتقوا، والكافر كذلك؟ قال الحاكم: لأنه لا يصحّ نفي الجناح عن الكافر، وأما المؤمن فيصحّ أن يطلق عليه، ولأن الكافر سدّ على نفسه طريق معرفة الحلال والحرام. انتهى.
وفي (العناية) : تعليق نفي الجناح بهذه الأحوال ليس على سبيل اشتراطها، فإن عدم الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يشترط بشرط. بل على سبيل المدح والثناء والدلالة على أنهم بهذه الصفة.
قال الزمخشريّ: ومثاله أن يقال لك: هل على زيد فيما فعل جناح؟ فتقول
246
- وقد علمت أن ذلك أمر مباح- ليس على أحد جناح في المباح إذا اتقى المحارم وكان مؤمنا محسنا، تريد: إن زيدا تقيّ مؤمن محسن، وإنه غير مؤاخذ بما فعل.
وقال العلامة أبو السعود: ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة، لا دخل لها في انتفاء الجناح. وإنما ذكرت في حيز (إذا) شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها، ومدحا لهم بذلك، وحمدا لأحوالهم. وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعا للاتقاء في كل مرة تمييزا بينها وبين ما له دخل في الحكم، فإنّ مساق النظم الكريم بطريق العبارة- وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي بقضية كلمة (إذا ما) - لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم في ضمن التشريع الكليّ على الوجه البرهانيّ بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها، فكأنه قيل: ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى. مع ما لهم من الصفات الحميدة- بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال- وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك. ولو حرّما في عصرهم، لاتقوهما بالمرة.
وقال الطيبيّ: المعنى أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات. وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال. وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك، وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به، وعلى الأعمال الصالحة لتحصيل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج (أن تعبد الله كأنّك تراه) وهو المعنيّ بقوله تعالى: وَأَحْسَنُوا... إلخ. وبه ينتهى للزلفى عند الله ومحبته.
والله يحب المحسنين.
قال الخفاجيّ: وهذا دفع للتكرير وأنه ليس لمجرد التأكيد، لأنه يجوز فيه العطف ب (ثم) كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر: ٣- ٤]. بل به باعتبار تغاير ما علق به مرة بعد أخرى.
والله أعلم.
الثانية: الإحسان المذكور في الآية: إمّا إحسان العمل، أو الإحسان إلى الخلق، أو إحسان المشاهدة المتقدم، ولا مانع من الحمل على الجميع.
247
الثالثة:
روي في سبب نزولها عن أنس قال «١» : كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. فنزل تحريم الخمر. فأمر ﷺ مناديا فنادى. فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت. قال، فخرجت فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إنّ الخمر قد حرّمت. فقال لي: اذهب فأهرقها. قال، فجرت في سكك المدينة.
قال، وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ. فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم. قال، فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية. رواه البخاري «٢» في (التفسير).
وروى الترمذيّ «٣» عن البراء بن عازب قال: مات ناس من أصحاب النبيّ ﷺ وهم يشربون الخمر. فلما نزل تحريمها قال ناس من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال، فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ.. الآية.
وقال: حسن صحيح.
وعن ابن عباس قال «٤» : قالوا: يا رسول الله! أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟ (لما نزل تحريم الخمر)، فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ.. الآية. أخرجه الترمذيّ
وقال: حديث حسن صحيح.
(١)
أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، ٢١- باب صب الخمر في الطريق، حديث ١٢١٦ وهذا نصه: عن أنس رضي الله عنه: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة. وكان خمرهم يومئذ الفضيح. فأمر رسول الله ﷺ مناديا ينادي «ألا إنّ الخمر قد حرّمت».
قال، فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها. فخرجت فهرقتها فجرت في سكك المدينة.
فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم.
فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا.. الآية
. (٢) هذا نص البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٠- باب قوله إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما كان لنا خمر غير فضيحكم هذا الذي تسمونه الفضيح. فإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلانا وفلانا، إذ جاء رجل فقال: وهل بلغكم الخبر؟ فقالوا: وما ذاك؟ قال:
حرّمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال، يا أنس! قال: فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل.
وفي:
١١- باب قوله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إلى قوله وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. ونصه كنص المتن.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١١- حدثنا بذلك بندار.
(٤) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٢- حدثنا عبد بن حميد.
248
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي هرير قال: حرمت الخمر ثلاث مرات: قدم رسول الله ﷺ المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر. فسألوا رسول الله ﷺ عنهما؟ فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [البقرة: ٢١٩]... إلى آخر الآية. فقال الناس: ما حرّم علينا. إنما قال: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ. وكانوا يشربون الخمر حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين. أمّ أصحابه في المغرب. خلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: ٤٣]. فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق، ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... - إلى قوله- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: ٩٠]. فقالوا:
«انتهينا. ربّنا» ؟ فقال الناس: يا رسول الله! ناس قتلوا في سبيل الله أو ماتوا على فرشهم، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر، وقد جعله الله رجسا ومن عمل الشيطان؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا.. الآية. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: لو حرّمت عليهم، لتركوها كما تركتم.
قال ابن كثير: انفرد به أحمد.
وعن «٢» أبي ميسرة قال: لما نزل تحريم الخمر قال عمر: اللهمّ! بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في البقرة: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ..
الآية، فدعي عمر فقرأت عليه فقال: اللهمّ! بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في سورة النساء: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى. فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا قال: حيّ على الصلاة- نادى: لا يقربنّ الصلاة سكران.
فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهمّ! بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا. فنزلت الآية التي في المائدة. فلما بلغ قول الله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال عمر: انتهينا! انتهينا! رواه الإمام أحمد. وأصحاب السنن.
وروى البيهقيّ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في
(١) أخرجه في المسند ٢/ ٣٥١.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٥٣ والحديث رقم ٣٧٨.
وأبو داود في: الأشربة، ١- باب في تحريم الخمر، حديث ٣٦٧٠.
والترمذيّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٨- باب حدثنا عبد بن حميد.
249
قبيلتين من قبائل الأنصار. شربوا فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض. فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته فيقول: صنع بي هذا أخي فلان.
وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فيقول: والله! لو كان بي رؤوفا رحيما ما صنع بي هذا. حتى وقعت الضغائن في قلوبهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. إِنَّمَا الْخَمْرُ... - إلى قوله- فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
فقال ناس من المتكلفين: هي رجس وهي في بطن فلان وقد قتل يوم أحد.
فأنزل الله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ... الآية. ورواه النسائيّ في (التفسير).
وأخرج أبو بكر البزار عن جابر رضي الله عنه قال: أصطبح ناس الخمر من أصحاب النبيّ ﷺ ثم قتلوا شهداء يوم أحد، فقالت اليهود: فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم، فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ.. الآية. قال البزار. إسناده صحيح.
قال ابن كثير: هو كما قال.
وقد ساق ابن كثير- هنا- أحاديث كثيرة في تحريم الخمر مما رواه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، فمن شاء فليرجع إليه. ولا يخفى أن تحريمها معلوم من الدين بالضرورة.
وقد روى السيوطيّ في (الجامع الكبير) عن ابن عساكر بسنده إلى سيف بن عمر عن الربيع وأبي المجالد وأبي عثمان وأبي حارثة قالوا: كتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنهما: إن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب. منهم ضرار وأبو جندل.
فسألناهم فتأولوا وقالوا: خيرنا فاخترنا. قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟ ولم يعزم.
فكتب إليه عمر: فذلك بيننا وبينهم فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ يعني: فانتهوا. وجمع الناس فاجتمعوا على أن يضربوا فيها ثمانين جلدة ويضمنوا النفس، ومن تأول عليها بمثل هذا، فإن أبى قتل. وقالوا: من تأول على ما فرّ رسول الله ﷺ منه، يزجر بالفعل والقتل. فكتب عمر إلى أبي عبيدة: أن ادعهم. فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم. وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين. فبعث إليهم فسألهم على رؤوس الأشهاد فقالوا:
حرام. فجلدهم ثمانين. وحدّ القوم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم- يا أهل الشام! - حادث، فحدث الرمادة.
ورواه سيف بن عمر أيضا عن الشعبيّ والحكم بن عيينة.
250
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي: يرسله إليكم وأنتم محرمون تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ لتأخذوه، وهو الضعيف من الصيد وصغيره وَرِماحُكُمْ لتطعنوه، وهو كبار الصيد لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فيمتنع عن الاصطياد لقوة إيمانه.
قال مقاتل بن حيان: أنزلت هذه الآية في عمرة الحديبية. فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما خلا، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
قال ابن كثير: يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرّا وجهرا، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:
١٢].
وقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى أي: بالصيد بَعْدَ ذلِكَ يعني بعد الإعلام والإنذار فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ لمخالفته أمر الله وشرعه.
لطيفة:
قال الزمخشريّ: فإن قلت: ما معنى التقليل والتصغير في قوله بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ؟ قلت: قلل وصغّر أنه ليس بفتنة من الفتن العظام التي تدحض عندها أقدام الثابيتن- كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال- وإنما هو شبيه بما ابتلى به أهل أيلة من صيد السمك، وأنهم إذا لم يثبتوا عنده، فكيف شأنهم عند ما هو أشدّ منه.. ؟
قال الناصر في (الانتصاف) : قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة في قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٥]. فلا خفاء في عظم هذه البلايا والمحن التي يستحق الصابر عليها أن يبشر، لأنه صبر عظيم. فقول الزمخشريّ: إنه قلل وصغّر تنبيها على أن هذه الفتنة ليست من الفتن العظام- مدفوع باستعمالها مع الفتن المتفق على عظمها. والظاهر- والله أعلم- أنّ المراد بما أشعر به اللفظ من التقليل
والتصغير، التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كلّ، بالنسبة إلى مقدور الله تعالى. وإنه تعالى قادر على أن يكون ما يبلوهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول. وأنه مهما اندفع عنهم ممّا هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل، لطفا بهم ورحمة. ليكون هذا التنبيه باعثا لهم على الصبر، وحاملا على الاحتمال. والذي يرشد إلى أن هذا مراد، أنّ سبق التوعد بذلك لم يكن إلّا ليكونوا متوطنين على ذلك عند وقوعه. فيكون أيضا باعثا على تحمله.
لأن مفاجأة المكروه بغتة أصعب. والإنذار به قبل وقوعه مما يسهل موقعه. وحاصل ذلك لطف في القضاء... فسبحان اللطيف بعباده. وإذا فكّر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا، وجد المندفع عنه منها أكثر، إلى ما لا يقف عند غاية. فنسأل الله العفو والعافية واللطف في المقدور... انتهى.
وللزمخشريّ أن يجيب بأن آية وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ شاهدة له لا عليه. لأنه المقصود فيه أيضا بالنسبة إلى ما دفعه الله عنهم- كما صرح به الناصر- مع أنه لا يتم دفعه بالآية إلّا إذا كان وَنَقْصٍ معطوفا على مجرور (من)، ولو عطف على (شيء) لكان مثل هذه الآية بلا فرق.. كذا في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي: محرمون بحج أو عمرة.
قال المهايميّ: لأن قتله تجبّر. والمحرم في غاية التذلّل. انتهى.
وذكر القتل، دون الذبح والذكاة، للتعميم. أو للإيذان بكونه في حكم الميتة.
و (الصيد) ما يصاد مأكولا أو غيره. ولا يستثنى إلّا ما
ثبت في (الصحيحين) «١» عن
(١)
أخرجه البخاري في: جزاء الصيد، ٧- باب ما يقتل المحرم من الدواب، حديث ٩٢٦ ونصه: عن عائشة رضي الله عنها، أن النبيّ ﷺ قال «خمس من الدواب، كلهن فاسق يقتلن في الحرم:
الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور»
.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث ٦٧ وفيه (الحية) عوضا عن العقرب.
252
عائشة: أن رسول الله ﷺ قال: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور. وفي رواية (الحية) بدل (العقرب).
قال زيد بن أسلم وابن عيينة: الكلب العقور يشمل السباع العادية كلها.
ويستأنس لهذا بما روي أنّ رسول الله ﷺ لمّا دعا على عتبة بن أبي لهب قال:
اللهمّ! سلّط عليه كلبك. فأكله السبع بالزرقاء. وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ أيها المحرمون مُتَعَمِّداً ذاكرا لإحرامه فَجَزاءٌ بالتنوين ورفع ما بعده، أي: فعليه جزاء هو مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي: شبهه في الخلقة. وفي قراءة بإضافة (جزاء) يَحْكُمُ بِهِ أي: بالمثل مجتهدان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به. وقد حكم ابن عباس وعمر وعليّ رضي الله عنهم في النعامة ببدنه. وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة. وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة. وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرها في الحمام، لأنه يشبهها في العبّ هَدْياً حال من (جزاء) بالِغَ الْكَعْبَةِ أي: يبلغ به الحرم. فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه. فلا يجوز أن يذبح حيث كان أَوْ عليه كَفَّارَةٌ غير الجزاء. وإن وجده. هي طَعامُ مَساكِينَ من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء. لكل مسكين مدّ. وفي قراءة بإضافة (كفارة) لما بعده، وهي للبيان أَوْ عليه عَدْلٍ مثل ذلِكَ الطعام صِياماً يصوم، عن كل مدّ، يوما لِيَذُوقَ أي: هاتك حرمة الله وَبالَ أَمْرِهِ أي: شدة وثقل هتكه لحرمة الإحرام. و (ليذوق) متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور. أي: فعليه جزاء ليذوق. أو بفعل يدلّ عليه الكلام. أي: شرع ذلك عليه ليذوق عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد قبل تحريمه. وَمَنْ عادَ إليه فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بطلب الجزاء في الدنيا والمعاقبة في الآخرة. وكيف يترك ذلك وَاللَّهُ عَزِيزٌ غالب على أمره. ومقتضى عزته الانتقام من هاتك حرمته، فهو لا محالة ذُو انْتِقامٍ ممّن عصاه.
تنبيهات:
الأول- روى ابن أبي حاتم عن طاوس قال: لا يحكم على من أصاب صيدا خطأ، إنما يحكم على من أصابه متعمدا.
قال ابن كثير: وهذا مذهب غريب. وهو تمسك بظاهر الآية.
ورأيت في بعض تفاسير الزيدية نسبة هذا القول إلى ابن عباس وعطاء ومجاهد وسالم وأبي ثور وابن جبير والحسن (في إحدى الروايتين)، والقاسم والهادي والناصر وغيرهم. انتهى.
253
والجمهور: أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه.
وقال الزهريّ: دلّ الكتاب على العابد. وجرت السنّة على الناسي.
الثاني: إذا لم يكن الصيد مثليّا حكم ابن عباس بثمنه يحمل إلى مكة. رواه البيهقيّ.
الثالث: ذهب معظم الأئمة إلى التخيير في هذا المقام بين الجزاء والإطعام والصيام، لأنه جيء بلفظ (أو) وحقيقتها التخيير.
وعن بعض السلف أن ذلك على الترتيب. قالوا: إنما دخلت (أو) لبيان أن الجزاء لا يعدو أحد هذه الأشياء، ولأنا وجدنا الكفارات من الظهار والقتل على الترتيب. قلنا: هذا معارض بكفارة اليمين وبدم الأذى، فلا يخرج عن حقيقة اللفظ وهو التخيير.
الرابع: تعلق بظاهر قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ من قال: لا كفارة على العائد. لأنه تعالى لم يذكرها. وهو مرويّ عن ابن عباس وشريح. والجمهور:
على وجوبها عليه. لأن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه. وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى. مع أن الآية يحتمل أن معناها: من عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله.
الخامس: قال الحاكم: كما دلت الآية على الرجوع إلى ذوي العدل في المماثلة. ففي ذلك دلالة على جواز الاجتهاد وتصويب المجتهدين. وجواز تعليق الأحكام بغالب الظن. وجواز رجوع العاميّ إلى العالم، وأن عند التنازع في الأمور يجب الرجوع إلى أهل البصر.. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٦]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦)
أُحِلَّ لَكُمْ خطاب للمحرمين صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ قال المهايميّ: إذ ليس فيه التجبّر المنافي للتذلل الإحراميّ. وصَيْدُ الْبَحْرِ ما يصاد منه طريّا، وطَعامُهُ ما يتزود منه مملحا يابسا، كذا في رواية عن ابن عباس. والمشهور عنه أن صيده
254
ما أخذ منه حيّا، وطعامه ما لفظه ميتا. قال ابن كثير: وهذا ما روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو وأبي أيوب الأنصاريّ رضي الله عنهم، وعن غير واحد من التابعين.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بكر قال: طعامه كل ما فيه.
وعن ابن المسيب: طعامه ما لفظه حيّا أو حسر عنه فمات.
مَتاعاً لَكُمْ أي: تمتيعا للمقيمين منكم يأكلونه طريا وَلِلسَّيَّارَةِ منكم يتزودونه قديدا.
و (السيارة) القوم يسيرون. أنّث على معنى الرفقة والجماعة.
تنبيهان:
الأول: قال ابن كثير: استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية، وبما رواه الإمام مالك «١» عن ابن وهب وابن كيسان عن جابر قال: بعث رسول الله ﷺ بعثا قبل الساحل. فأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم ثلاثمائة- قال وأنا فيهم- قال:
فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد. فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش.
فجمع ذلك كله فكان مزوديّ تمر، قال: فكان يقوّتنا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ولم تصبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فقدت. قال ثم انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظّرب. فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا. ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مرت تحتها ولم تصبها.
وهذا الحديث مخرج من (الصحيحين) «٢» وله طرق عن جابر.
وفي (صحيح مسلم) » عن جابر: وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله ﷺ فذكرنا ذلك له فقال: هو رزق أخرجه الله لكم. هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ قال: فأرسلنا إلى رسول الله ﷺ منه فأكله.
وفي بعض روايات مسلم: أنهم كانوا مع النبيّ ﷺ حين وجدوا هذه السمكة.
(١) أخرجه في الموطأ في: صفة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث ٢٤.
(٢) أخرجه البخاري في: الشركة، ١- باب الشركة في الطعام، حديث ١٢٢٦.
ومسلم في: الصيد والذبائح، حديث ١٧. [.....]
(٣) أخرجه مسلم في: الصيد والذبائح، حديث ١٧.
255
فقال بعضهم: هي واقعة أخرى. وقال بعضهم: هي قضية واحدة، ولكن كانوا أولا مع النبيّ ﷺ ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة. فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أي عبيدة. والله أعلم؟
وعن أبي هريرة «١» : أن رجلا سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء. فإن توضأنا به عطشنا. أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته. رواه مالك والشافعيّ وأحمد وأهل السنن. وصححه البخاري والترمذيّ وابن خزيمة وابن حبان وغيرهم.
وعن ابن عمر «٢» قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال. رواه الشافعيّ وأحمد وابن ماجة والدّارقطنيّ، والبيهقيّ، وله شواهد. وروي موقوفا
. فهذه حجج الجمهور.
الثاني: احتج بهذه الآية أيضا من ذهب من الفقهاء إلى أنه يؤكل دواب البحر، ولم يستثن من ذلك شيئا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال: طعامه كل ما فيه. وقد استثنى بعضهم الضفادع، وأباح ما سواها، لما
رواه الإمام أحمد «٣» وأبو داود عن أبي عبد الرحمن التيميّ، أن رسول الله ﷺ نهى عن قتل الضفدع.
وللنسائيّ عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله ﷺ عن قتل الضفدع وقال: نقيقها تسبيح.
وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أي: محرمين فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدا أثم وغرم. أو مخطئا غرم وحرم عليه أكله. لأنه في حقه كالميتة وَاتَّقُوا اللَّهَ في الاصطياد في الحرم أو في الإحرام، ثم حذرهم بقوله سبحانه:
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي: تبعثون فيجازيكم على أعمالكم.
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢/ ٢٣٧ والحديث رقم ٧٢٣٢.
وأخرجه أبو داود في: الطهارة، ٤١- باب الوضوء بماء البحر، حديث ٨٣.
والترمذيّ في: الطهارة، ٥٢- باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور.
والنسائي في: الطهارة، ٤٦- باب ماء البحر.
وابن ماجة في: الطهارة، ٣٨- باب الوضوء بماء البحر، حديث ٣٨٦.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٩٧ والحديث رقم ٥٧٢٣.
وأخرجه ابن ماجة في: الصيد، ٩- باب صيد الحيتان والجراد، حديث ٣٢١٨.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٤٥٣.
256
لطيفة:
قال المهايميّ: إنما حرّم الصّيد على المحرم، لأنه قصد الكعبة التي حرّم صيد حرمها، فجعل كالواصل إليه. وإنما حرم صيد حرمها لأنها مثال بيت الملك، لا يتعرض لما فيه أو في حرمه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٧]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي: مدارا لقيام أمر دينهم بالحج إليه، ودنياهم بأمن داخله وعدم التعرض له وجبى ثمرات كلّ شيء إليه.
قال المهايميّ: جعله الله مقام التوجه إليه في عبادته للناس المتفرقين في العالم، ليحصل لهم الاجتماع الموجب للتألف، الذي يحتاجون إليه في تمدّنهم، الذي به كمال معاشهم ومعادهم، لاحتياجهم إلى المعاونة فيهما.
وَالشَّهْرَ الْحَرامَ بمعنى الأشهر الحرم- ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب- قياما لهم بأمنهم من القتال فيها. لأنه حرم فيها ليحصل التآلف فيها وَالْهَدْيَ وهو ما يهدى إلى مكة وَالْقَلائِدَ جمع قلادة. وهي ما يجعل في عنق البدنة التي تهدى وغيره. والمراد ب (القلائد) ذوات القلائد وهي البدن. خصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر. والمفعول الثاني محذوف، ثقة بما مرّ، أي: جعل الهدي والقلائد أيضا قياما لهم. فإنهم كانوا يأمنون بسوق الهدي إلى البيت الحرام على أنفسهم. وفيه قوام لمعيشة الفقراء ثمّت. وكذلك كانوا يأمنون إذا قلدوها أو قلّدوا أنفسهم، عند الإحرام، من لحاء شجر الحرم. فلا يتعرض لهم أحد ذلِكَ أي: الجعل المذكور لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإنّ جعله ذلك لجلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل وقوعها، دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن.
وقد جوّد الرازيّ تقرير هذا المقام فأبدع، فلينظر.
وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم إثر تخصيص للتأكيد.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٨]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصرّ على ذلك وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ٩٩]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩)
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يعني: ليس على رسولنا الذي أرسلناه إليكم، إلّا تبليغ ما أرسل به من الإنذار بما فيه قطع الحجج. وفي الآية تشديد في إيجاب القيام بما أمر به. وأن الرسول قد فرغ مما وجب عليه من التبليغ. وقامت عليكم الحجّة، ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم في التفريط وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ من الخير والشرّ، فيجازيكم بذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ حكم عام في نفي المساواة عند الله سبحانه وتعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال، وجيّدها. قصد به الترغيب في صالح العمل وحلال المال وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإنّ العبرة بالجودة والرداءة، دون القلّة والكثرة. فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير. والخطاب عامّ لكل معتبر- أي: ناظر بعين الاعتبار- ولذلك قال فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي:
فاتقوه في تحرّي الخبيث وإن كثر. وآثروا الطيّب وإن قلّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي:
بمنازل القرب عنده تعالى المعدّ للطيّبين.
تنبيهان:
الأول- قال الرازي: أعلم أنه تعالى لمّا زجر عن المعصية ورغّب في الطاعة بقوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ... الآية ثم بما بعدها أيضا- أتبعه بنوع آخر من الترغيب والترهيب بقوله: قُلْ لا يَسْتَوِي... الآية. وذلك لأنّ الخبيث
والطيب قسمان: أحدهما الذي يكون جسمانيّا وهو ظاهر لكل أحد. والثاني الذي يكون روحانيّا. وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية. وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته. وذلك لأن الجسم الذي يلتصق به شيء من النجاسات يصير مستقذرا عند أرباب الطباع السليمة. فكذلك الأرواح الموصوفة بالجهل بالله والإعراض عن طاعته تصير مستقذرة عند الأرواح الكاملة المقدسة.
وأما الأرواح العارفة بالله تعالى، المواظبة على خدمته، فإنها تصير مشرقة بأنوار المعارف الإلهية، مبتهجة بالقرب من الأرواح المقدسة الطاهرة. وكما أنّ الخبيث والطيّب في عامل الجسمانيات لا يستويان، فكذلك في عالم الروحانيات لا يستويان. بل المباينة بينهما في عالم الروحانيات أشدّ لأن مضرة خبث الخبيث الجسمانيّ شيء قليل ومنفعة طيبة مختصرة. وأمّا خيث الخبيث الروحانيّ فمضرّته عظيمة دائمة أبدية. وطيب الطّيب الروحاني فمنفعته عظيمة دائمة أبدية. وهو القرب من جوار ربّ العالمين، والانخراط في زمرة الملائكة المقربين، والمرافقة مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين. فكان هذا من أعظم وجوه الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية.
الثاني: قال بعض المفسّرين: من ثمرة الآية أنه ينبغي إجلال الصالح وتمييزه على الطالح. وأنّ الحاكم إذا تحاكم إليه الكافر والمؤمن، ميّز المؤمن في المجلس.
انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا أي: نبيكم عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ أي: تظهر لَكُمْ تَسُؤْكُمْ لما فيها من المشقة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي: وإن تسألوا عن أشياء نزل القرآن بها مجملة، فتطلبوا بيانها، تبين لكم حينئذ لاحتياجكم إليها. هذا وجه في الآية. وعليه ف (حين) ظرف ل (تسألوا).
وثمة وجه آخر: وهو جعل (حين) ظرفا ل (تبد)، والمعنى: وإن تسألوا عنها.
تبد لكم حين ينزل القرآن.
قال ابن القيّم: والمراد ب (حين النزول) زمنه المتصل به، لا الوقت المقارن
259
للنزول. وكأنّ في هذا إذنا لهم في السؤال عن تفصيل المنزل ومعرفته بعد إنزاله. ففيه رفع لتوهم المنع من السؤال عن الأشياء مطلقا. ثم قال: وثمة قول ثان في قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها... إلخ، وهو أنّه من باب التهديد والتحذير، أي: ما سألتم عنها في وقت نزول الوحي جاءكم بيان ما سألتم عنه بما يسوؤكم: والمعنى:
لا تتعرّضوا للسؤال عمّا يسوءكم بيانه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أبدي لكم.
انتهى.
وقال بعضهم: إنه تعالى، بيّن أولا أنّ تلك الأشياء- التي سألوا عنها- إن أبديت لهم ساءتهم. ثم بيّن ثانيا أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم. فكان حاصل الكلام إن سألوا عنا أبديت لهم، وإن أبديت لهم ساءتهم، فيلزم من مجموع المقدمتين أنهم، إن سألوا عنها، ظهر لهم ما يسوءهم ولا يسرّهم.
قال العلامة أبو السعود: قوله تعالى: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صفة ل (أشياء) داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها. وحيث كانت المساءة في هذه الشرطية معلقة بإبدائها، لا بالسؤال عنه، عقبت بشرطية أخرى ناطقة باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور قطعا. فقيل: وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم. أي:
تلك الأشياء الموجبة للمساءة بالوحي، كما ينبئ عنه تقييد السؤال بحين التنزيل.
والمراد به: ما يشق عليهم ويغمّهم من التكاليف الصعبة التي لا يطيقون بها، والأسرار الخفية التي يفتضحون بظهورها، ونحو ذلك مما لا خير فيه. فكما أنّ السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها، كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد، لإساءتهم الأدب واجترائهم على المسألة والمراجعة، وتجاوزهم عمّا يليق بشأنهم من الاستسلام لأمر الله عزّ وجلّ، من غير بحث فيه ولا تعرّض لكيفيته وكمّيته. أي: لا تكثروا مساءلة رسول الله ﷺ عمّا لا يعنيكم من نحو تكاليف شاقة عليكم- إن أفتاكم بها وكلّفكم إياها حسبما أوحي إليه- لم تطيقوا بها، ونحو بعض أمور مستورة تكرهون بروزها.
عَفَا اللَّهُ عَنْها أي: عن تلك الأشياء حين لم ينزل فيها القرآن ولم يوجبها عليكم توسعة عليكم. أو: عفا الله عن بيانها لئلّا يسوءكم بيانها. فالجملة في موضع جرّ صفة أخرى ل أَشْياءَ. أو المعنى: عفا الله عن مسائلكم السالفة، وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية بمسائلكم، فلا تعودوا إلى مثلها. فالجملة حينئذ مستأنفة مبينة لأن نهيهم عنها لم يكن لمجرّد صيانتهم عن المساءة. بل لأنها في
260
نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا عنها. وفيه من حثّهم على الجدّ في الانتهاء عنها ما لا يخفى وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ اعتراض تذييليّ مقرّر لعفوه تعالى، أي: مبالغ في مغفرة الذنوب. ولذا عفا عنكم ولم يؤاخذكم بما فرط منكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٢]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: سألوا هذه المسألة، لكن لا عينها، بل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال. وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي: بسببها. حيث لم يمتثلوا ما أجيبوا به، ويفعلوه. وقد كان بنو إسرائيل يستفتون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
والمعنى: احذروا مشابهتهم والتعرّض لما تعرّضوا له.
تنبيهات:
الأول:
روى البخاريّ «١» في سبب نزولها في (التفسير) عن أبي الجويرية عن ابن عباس قال: كان قوم يسألون رسول الله ﷺ استهزاء. فيقول الرجل: من أبي؟
ويقول الرجل، تضلّ ناقته: أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية: وأخرج «٢» أيضا عن موسى بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله ﷺ خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا... قال: فغطّى أصحاب رسول الله ﷺ وجوههم، لهم خنين. فقال رجل: من أبي؟ قال: فلان، فنزلت هذه الآية: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا حتى فرغ من الآية كلها.
وروى البخاريّ «٣» أيضا في كتاب (الفتن) عن قتادة: أنّ أنسا حدثهم قال:
سألوا النبيّ ﷺ حتى أحفوه بالمسألة. فصعد النبيّ ﷺ ذات يوم المنبر فقال: لا
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٢- باب قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث ٢٠٠١.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٢- باب قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ، حديث ٨٠.
(٣) أخرجه البخاري في: الفتن، ١٥- باب التعوّذ من الفتن، حديث ٨٠.
261
تسألوني عن شيء إلّا بينت لكم. فجعلت أنظر يمينا وشمالا، فإذا كلّ رجل، رأسه في ثوبه يبكي. فأنشر رجل- كان إذ لا حي يدعى إلى غير أبيه- فقال: يا نبيّ الله! من أبي؟ فقال: أبوك حذاقة. ثم أنشأ عمر فقال: رضينا بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمّد رسولا. نعوذ بالله من سوء الفتن.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما رأيت في الخير والشرّ كاليوم قط. إنه صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط.
فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.
وفي رواية: قال قتادة يذكر- بالبناء للمجهول- هذا الحديث... إلخ
وروى البخاريّ «١» أيضا في كتاب (الاعتصام بالكتاب والسنّة) في باب ما يكره من كثرة السؤال، عن الزهريّ قال: أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ خرج حين زاغت الشمس فصلّى الظهر. فلما سلّم قام إلى المنبر فذكر الساعة.
وذكر أن بين يديها أمورا عظاما. ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل عنه، فو الله! لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا. قال أنس: فأكثر الأنصار البكاء، وأكثر رسول الله ﷺ أن يقول: فقال أنس: فقام إليه رجل فقال: أين مدخلي يا رسول الله! قال: النار. فقام عبد الله بن حذافة فقال: من أبي؟ يا رسول الله! قال: أبوك حذافة. قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني.
فبرك عمر على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ رسولا.
قال: فسكت رسول الله ﷺ حين قال عمر ذلك.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لقد عرضت عليّ الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط وأنا أصلي. فلم أر كاليوم في الخير والشر.
وعند مسلم «٢» : قال ابن شهاب: أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال:
قالت أم عبد الله بن حذافة لعبد الله بن حذافة: ما سمعت بابن قطّ أعقّ منك.
(١) أخرجه البخاري في: الاعتصام، ٣- باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، حديث ٨٠.
(٢) أخرجه مسلم في: الفضائل، حديث ١٣٦.
262
أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما تقارف نساء أهل الجاهلية، فتفضحها على أعين الناس؟
قال عبد الله بن حذافة: والله! لو ألحقني بعبد أسود للحقته.
وروى ابن جرير «١» عن السدّي قال: غضب رسول الله ﷺ يوما من الأيام فقام خطيبا فقال: سلوني. - نحو ما تقدم- وزاد: فقام إليه عمر فقبل رجله وقال: رضينا بالله ربا... إلخ.
وزاد: وبالقرآن إماما، فاعف عنا عفا الله عنك. فلم يزل به حتى رضي.
وأخرج أيضا عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ﷺ وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر. فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ قال: في النار. - نحو ما مرّ- وفيه: فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا.. الآية.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وبهذه الزيادة- أي على ما في البخاريّ من قول رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أين أنا؟ قال: في النار
. - يتضح أن هذه القصة سبب نزول:
لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ... الآية، فإن المساءة في حق هذا جاءت صريحة، بخلافها في حق حدافة فإنه بطريق الجواز، أي: لو قدر أنه في نفس الأمر لم يكن لأبيه، فبيّن أباه الحقيقيّ، لافتضحت أمه، كما صرحت بذلك أمه حين عاتبته على هذا السؤال.
انتهى.
وروى الإمام أحمد «٢» والترمذيّ «٣» عن أبي البختريّ عن عليّ رضي الله عنه قال: لما نزلته هذه الآية وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا قالوا:
يا رسول الله! أفي كل عام؟ فسكت، فقالوا: أفي كلّ عام؟ فسكت، قال ثم قالوا:
أفي كلّ عام؟ فقال: لا. ولو قلت نعم لوجبت. ولو وجبت لما استطعتم. فأنزل الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا... الآية.
قال الترمذيّ: غريب وسمعت البخاريّ يقول: أبو البختريّ لم يدرك عليّا.
وروى ابن جرير ونحوه عن أبي هريرة «٤» وأبي أمامة «٥»، وكذا عن ابن عباس «٦»،
(١) الأثر رقم ١٢٨٠٢ من التفسير.
(٢) أخرجه في المسند ١/ ١١٣ والحديث رقم ٩٠٥.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٥- حدثنا أبو سعيد الأشجّ.
(٤) الأثر رقم ١٢٨٠٤ من التفسير.
(٥) الأثر رقم ١٢٨٠٧ من التفسير. [.....]
(٦) الأثر رقم ١٢٨٠٨ من التفسير.
263
قال في الآية: لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك، ولكن انتظروا فإن نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم بيانه.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : والحاصل أنها نزلت بسبب كثرة المسائل.
إما على سبيل الاستهزاء أو الامتحان، وإما على سبيل التعنت عن الشيء الذي لو لم يسأل عنه لكان على الإباحة.
الثاني- قال ابن كثير: ظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته. فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن
الحديث الذي رواه الإمام أحمد «١» عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: لا يبلغني أحد عن أحد شيئا. فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر. ورواه أبو داود «٢» والترمذي «٣».
الثالث- قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقعين) :
لم ينقطع حكم هذه الآية. بل لا ينبغي للعبد أن يتعرّض للسؤال عمّا إن بدا له ساءه. بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو الله. ومن هاهنا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا. لمّا سأله عن رفيقه عن مائه: أطاهر أم لا؟
وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره فلعلّه يسوءه إن أبدي له. فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله.
فإنه سبحانه يكره إبداءها، ولذلك سكت عنها.
وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها. وأما المقصود أولا وبالذات- كما يفيده تتمتها- فهو النهي عن السؤال بما يسوء إبداؤه في زمن الوحي.
ويدل له، ما
رواه البخاريّ «٤» عن سعد بن أبي وقاص: أنّ النبيّ ﷺ قال: إنّ أعظم المسلمين جرما، من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته.
فإن مثل ذلك قد أمن وقوعه.
(١) أخرجه في المسند ١/ ٣٩٦ والحديث رقم ٣٧٥٩.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ٢٨- باب في رفع الحديث من المجلس، حديث رقم ٤٨٦٠.
(٣) أخرجه الترمذي في: المناقب، ٦٣- باب فضل أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم.
(٤) أخرجه البخاري في: الاعتصام بالكتاب والسنة، ٣- باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، حديث ٢٥٨٦.
264
وعن أبي هريرة: أن النبيّ ﷺ قال: ذروني ما تركتكم. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه رواه «١» الإمام أحمد ومسلم والنسائيّ.
وعن أبي ثعلبة الخشنيّ: أن النبيّ ﷺ قال: إنّ الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها. وحدّ حدودا فلا تعتدوها. وحرّم أشياء فلا تقربوها. وترك أشياء، من غير نسيان، فلا تبحثوا عنها... رواه الدارقطنيّ وأبو نعيم.
وعن سلمان الفارسي «٢» : قال سئل رسول الله ﷺ عن أشياء فقال: الحلال ما أحلّ الله في كتابه. والحرام ما حرّم الله في كتابه. وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا تتكلّفوا. رواه الترمذيّ والحاكم وابن ماجة.
وأخرج الشيخان «٣» عن أنس قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء.
وكان يعجبنا أن يجيء الرجل الغافل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع.
وفي قصة «٤» اللعان من حديث ابن عمر: فكره رسول الله ﷺ المسائل وعابها.
(١) أخرجه الأمام أحمد في المسند ٢/ ٢٤٧ والحديث رقم ٧٣٦١.
ومسلم في: الحج، حديث ٤١٢، والنسائي في: الحج، ١- باب وجوب الحج.
(٢) أخرجه الترمذي في: اللباس، ٦- باب ما جاء في لبس الفراء.
وابن ماجة في: الأطعمة، ٦٠- باب أكل الجبن والسمن، حديث ٣٣٦٧.
(٣) هذا الحديث لم يروه البخاري وهاكموه بنصه الكامل كما
أخرجه مسلم في: ١- كتاب الإيمان، حديث ١٠: عن أنس بن مالك قال: نهينا أن نسأل رسول الله ﷺ عن شيء. فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية، العاقل، فيسأله ونحن نسمع.
فجاء رجل من أهل البادية، فقال: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك. قال «صدق» قال: فمن خلق السماء؟ قال «الله» قال: فمن خلق الأرض؟ قال «الله» قال: فمن نصب هذه الجبال، وجعل فيها ما جعل؟ قال «الله» قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال، الله أرسلك؟ قال «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا. قال «صدق» قال: فبالذي أرسلك! الله أمرك بهذا؟ قال «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا. قال «صدق» قال: فبالذي أرسلك! الله أمرك بهذا؟ قال «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا. قال «صدق» قال: فبالذي أرسلك! الله أمرك بهذا؟ قال «نعم» قال: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا. قال «صدق».
قال ثم ولى. قال: والذي بعثك بالحق! لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن.
فقال النبيّ ﷺ «لئن صدق، ليدخلنّ الجنة»
. (٤) انظرها في البخاري في: التفسير، ٢٤- سورة النور، ١- باب قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، حديث ٢٧٩.
265
ولمسلم «١» عن النوّاس بن سمعان قال: أقمت مع رسول الله ﷺ سنة بالمدينة، ما يمنعني من الهجرة إلّا المسألة. كان أحدنا، إذا هاجر، لم يسأل النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ومراده: أنه قدم وافدا، فاستمر بتلك الصورة ليحصل المسائل، خشية أن يخرج من صفة الوقد إلى استمرار الإقامة، فيصير مهاجرا، فيمتنع عليه السؤال.
وفيه إشارة إلى أن المخاطب بالنهي عن السؤال غير الأعراب، وفودا كانوا أو غيرهم.
وأخرج أحمد «٢» عن أبي أمامة قال: لمّا نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ.. الآية، كنّا قد أتقينا أن نسأله صلى الله عليه وسلم. فأتينا أعرابيّا فرشوناه برداء وقلنا: سل النبيه صلى الله عليه وسلم.
ولأبي يعلى عن البراء: إن كان ليأتي عليّ السنة أريد أن أسأل رسول الله ﷺ عن الشيء فأتهيّب. وإن كنا لنتمنى الأعراب- أي قدومهم- ليسألوا، فيسمعوهم أجوبة سؤالات الأعراب، فيستفيدوها.
وأمّا ما ثبت في الأحاديث من أسئلة الصحابة، فيحتمل أن يكون قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي عن الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، أو ما لهم بمعرفته حاجة راهنة: كالسؤال عن الذبح بالقصب. والسؤال عن وجوب طاعة الأمراء إذا أمروا بغير الطاعة. والسؤال عن أحوال يوم القيامة وما قبلها من الملاحم والفتن.
والأسئلة التي في القرآن: كسؤالهم عن الكلالة والخمر والميسر والقتال في الشهر الحرام واليتامى والمحيض والنساء والصيد وغير ذلك.
لكن الذين تعلقوا بالآية في كراهية كثرة المسائل عمّا لم يقع، أخذوه بطريق الإلحاق، من جهة أن كثرة السؤال، لمّا كانت سببا للتكليف بما يشق، فحقها أن تجتنب.
وقد عقد الإمام الدارمي «٣» في أوائل (مسنده) لذلك بابا. وأورد فيه عن جماعة من الصحابة والتابعين آثارا كثيرة في ذلك، منها:
(١)
أخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب، حديث ١٥ وتتمة الحديث: قال: فسألته عن البرّ والإثم؟
فقال رسول الله ﷺ «البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطّلع عليه الناس»
. (٢) من حديث طويل في المسند ٥/ ٢٦٦.
(٣) أخرجه الدارمي في: المقدمة في: ١٨- باب كراهية الفتيا.
266
عن ابن عمر: لا تسألوا عما لم يكن. فإني سمعت عمر يلعن السائل عما لم يكن.
وعن عمر: أحرّج عليكم أن تسألوا عمّا لم يكن. فإن لنا فيما كان شغلا.
وعن زيد بن ثابت، أنه كان إذا سئل عن الشيء؟ يقول: كان هذا؟ فإن قيل:
لا! قال: دعوه حتى يكون.
وعن أبيّ بن كعب، وعن عمار نحو ذلك.
وأخرج أبو داود في (المراسيل) : عن أبي سلمة ومعاذ مرفوعا: لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها. فإنكم إن تفعلوا لم يزل في المسلمين من إذا قال سدّد- أو وفق- وإن عجلتم تشتّتت بكم السبل.
وعن أشياخ الزبير بن سعيد مرفوعا: لا يزال في أمتي من إذا سدّد، حتى يتساءلوا عمّا لم ينزل.
قال بعض الأئمة: والتحقيق في ذلك، أن البحث عما لا يوجد فيه نص، على قسمين:
(أحدهما) أن يبحث عن دخوله في دلالة النصّ على اختلاف وجوهها، فهذا مطلوب لا مكروه. بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين.
(ثانيهما) - أن يدقق النظر في وجوه الفروق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع، أو بالعكس بأن يجمع بين متفرقين بوصف طرديّ مثلا. فهذا الذي ذمه السلف. وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: هلك المتنطعون... أخرجه مسلم «١»، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته.
ومثله الإكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الإجماع، وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى، لا سيما إن لزم من ذلك إغفال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه. وأشد من ذلك- في كثرة السؤال- البحث عن أمور مغيبة ورد الشرع بالإيمان بها مع ترك كيفيتها. ومنها لا يكون له شاهد في عالم الحسّ. كالسؤال عن وقت الساعة وعن الروح وعن مدة هذه الأمة.. إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل الصرف. والكثير منه لم يثبت فيه شيء، فيجب الإيمان به من غير بحث. وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في
(١) أخرجه مسلم في: العلم، حديث ٧ عن عبد الله بن مسعود.
267
الشك والحيرة. قال بعضهم: مثال التنطع في السؤال حتى يفضي بالمسؤول إلى الجواب بالمنع بعد أن يفتي بالإذن- أن يسأل عن السلع التي توجد في الأسواق:
هل يكره شراؤها ممن هي في يده من قبل البحث عن مصيرها إليه أو لا؟ فيجيبه بالجواز. فإن عاد فقال: أخشى أن يكون من نهب أو غصب، ويكون ذلك الوقت قد وقع شيء من ذلك في الجملة، فيحتاج أن يجيبه بالمنع. ويقيّد ذلك إن ثبت شيء من ذلك حرم، وإن تردد كره أو كان خلاف الأولى. ولو سكت السائل عن هذا التنطع لم يزد المفتي على جوابه بالجواز. وإذا تقرر ذلك، فمن يسدّ باب المسائل حتى فاته معرفة كثير من الأحكام التي يكثر وقوعها، فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها- ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة- فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف.
ومن أمعن في البحث عن معاني كتاب الله، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله ﷺ وعن أصحابه، الذين شاهدوا التنزيل. وحصل من الأحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك، مقتصرا على ما يصلح للحجة منها، فإنه الذي يحمد وينتفع به. وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الأمصار من التابعين فمن بعدهم. - كذا في (فتح الباري).
ثم رأيت في (موافقات) الإمام الشاطبيّ رحمه الله تعالى، في أواخرها- في هذا الموضوع- مبحثا جليلا، قال في أوله:
الإكثار من الأسئلة مذموم. والدليل عليه النقل المستفيض من الكتاب والسنة وكلام السلف الصالح. من ذلك قوله تعالى... - وساق هذه الآية وما أسلفناه من الآثار وزاد أيضا عما نقلنا- ثم قال:... والحاصل أن كثرة السؤال ومتابعة المسائل بالأبحاث العقلية والاحتمالات النظرية، مذموم. وقد كان أصحاب رسول الله ﷺ قد وعظوا في كثرة السؤال حتى امتنعوا منه. وكان يحبون أن يجيء الأعراب فيسألون حتى يسمعوا كلامه ويحفظوا منه العلم.. ثم قال: ويتبيّن من هذا أن لكراهية السؤال مواضع، نذكر منها عشرة مواضع:
(أحدها) : السؤال عمّا لا ينفع في الدين، كسؤال «١» عبد الله بن حذافة: من أبي؟
وروي في (التفسير) أنه عليه السلام سئل: ما بال الهلال يبدو رقيقا كالخيط
(١) أخرجه البخاري في: العلم، ٢٩- باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدّث، حديث ٨٠ عن أنس بن مالك. [.....]
268
ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدرا ثم ينقص إلى أن يصير كما كان؟ فأنزل الله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ... [البقرة: ١٨٩] الآية
، فإنما أجيب بما فيه من منافع الدين.
و (ثانيها) : أن يسأل بعد ما بلغ من العلم حاجته، كما سأل الرجل عن الحج «١» : أكلّ عام؟ مع أن قوله تعالى وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: ٩٧]، قاض بظاهره أنه للأبد، لإطلاقه. ومثله سؤال بني إسرائيل بعد قوله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً... [البقرة: ٦٧].
و (ثالثها) : السؤال من غير احتياج إليه في الوقت، وكأن هذا- والله أعلم- خاص بما لم ينزل فيه حكم، وعليه يدل قوله: ذروني ما تركتكم. وقوله: وسكت عن أشياء رحمة بكم، لا عن نسيان، فلا تبحثوا عنها.
و (رابعها) : أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها، كما جاء في النهي «٢» عن الأغلوطات.
و (خامسها) : أن يسأل عن علة الحكم- وهو من قبيل التعبدات، أو السائل ممّن لا يليق به ذلك السؤال- كما في حديث «٣» قضاء الصوم دون الصلاة.
و (سادسها) أن يبلغ بالسؤال إلى حدّ التكلف والتعمّق، وعلى ذلك يدلّ قوله تعالى: قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: ٨٦]، ولما سئل
(١)
أخرجه مسلم في: الحج، حديث ٤١٢ ونصه: عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله ﷺ فقال «أيها الناس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» فقال رجل: أكلّ عام؟ يا رسول الله! فسكت.
حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله ﷺ «لو قلت: نعم، لوجبت، ولما استطعتم» ثم قال «ذروني ما تركتكم. فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»
. (٢)
أخرجه أبو داود في: العلم، ٨- باب التوقي في الفتيا، حديث ٣٦٥٦ ونصه: عن معاوية أن النبيّ ﷺ نهى عن الغلوطات.
(الغلوطات) بفتح الغين المعجمة وضم اللام- وهي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلّوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنة. وهي جمع غلوطة- بالفتح- ثم قيل: هي مثل حلوبة وركوبة، إذا جعلا اسمين. وقيل: أصلها أغلوطة، خففت بطرح الهمزة. كما تقول: لحمر. وأنت تريد (الأحمر).
محمد محي الدين عبد الحميد.
(٣) أخرجه مسلم في: الحيض، حديث ٦٩ ونصه: عن معاذة قالت: سألت عائشة فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: أحروريّة أنت؟ قلت: لست بحرورية، ولكني أسأل. قالت: وكان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة.
269
الرجل «١» : يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال عمر بن الخطاب:
يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإن نرد على السباع وترد علينا.
و (سابعها) : أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي، ولذلك قال سعيد: أعراقيّ أنت؟ وقيل لمالك بن أنس: الرجل يكون عالما بالسنة أيجادل عنها؟
قال: لا. ولكن يخبر بالسنة. فإن قبلت منه، وإلّا سكت.
و (ثامنها) : السؤال عن المتشابهات، وعلى ذلك يدل قوله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ.. [آل عمران: ٧] الآية. وعن عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أسرع التنقل. ومن ذلك سؤال من سأل مالكا عن الاستواء؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيفية مجهول، والسؤال عنه بدعة.
و (تاسعها) : السؤال عما شجر بين السلف الصالح. وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفّين؟ فقال: تلك دماء كف الله عنها يدي، فلا أحب أن ألطّخ بها لساني.
و (عاشرها) : سؤال التعنت والإفحام وطلب الغلبة في الخصام. وفي القرآن في ذم نحو هذا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ.. [البقرة: ٢٠٤] وقال: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف: ٥٨] وفي الحديث «٢» : أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم.
هذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، يقاس عليها ما سواها، وليس النهي فيها واحدا، بل فيها ما تشتدّ كراهيته، ومنها ما يخفّ، ومنها ما يحرم، ومنها يكون محلّ اجتهاد. وعلى جملة، منها يقع النهي عن الجدال في الدين كما جاء: إن المراء في القرآن كفر. وقال تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ... [الأنعام:
٦٨] الآية. وأشباه ذلك من الآي والأحاديث فالسؤال في مثل ذلك منهيّ عنه، والجواب بحسبه. انتهى كلامه.
(١) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في: الطهارة، حديث ١٤ ونصه: عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب خرج في ركب، فيهم عمرو بن العاص. حتى وردوا حوضا. فقال عمرو ابن العاص: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض! لا تخبرنا. فإنا نرد على السباع وترد علينا.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٢- سورة البقرة، ٣٧- باب وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، حديث ١٢١١ عن عائشة.
270
التنبيه الرابع:
قال بعض المفسّرين: لا بد من تقييد النهي في هذه الآية (بما لا تدعو إليه حاجة). لأن الأمر الذي تدعو إليه الحاجة في أمور الدين قد أذن الله بالسؤال عنه فقال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: ٤٣].
وقال ﷺ «١» :«قاتلهم الله ألّا سألوا إذ لم يعلموا. فإنما شفاء العيّ السؤال... » انتهى.
ولا يخفى أن الآية بقيدها- أعني إِنْ تُبْدَ.. إلخ- غنية عن أن تقيّد بقيد آخر كما ذكره البعض. لأن المراد بها ما يشق عليهم من التكاليف الصعبة وما يفتضحون به- كما أسلفنا- مما هو خوض في الفضول، وشروع فيما لا حاجة إليه.
وفيه خطر المفسدة. والشيء الذي لا يحتاج إليه ويكون فيه خطر المفسدة، يجب على العاقل الاحتراز عنه.
وأمّا ما تدعو إليه الحاجة فلا تشمله الآية- كما يتضح من نظمها الكريم- مع ما بيّنته السنّة في سبب النزول، وتحرّج الصحابة عن المسائل المارّ بيانه- معلوم أنه فيما لا ضرورة إليها. وإلّا فمسائلهم في الضروريات والحاجيات طفحت بها كتب السنة، مما يبيّن أن هذه الآية في موضوع خاص.
وقد كان ﷺ يكره فتح باب كثرة المسائل، خشية أن تفضي إلى حرج أو مسادة أو تعنّت..
روى الشيخان «٢» عن المغيرة بن شعبة أنه كتب إلى معاوية: أن النبيّ ﷺ كان
(١)
أخرجه أبو داود في: الطهارة، ١٢٥- باب في المجروح يتيمم، حديث ٣٣٦ ونصه: عن جابر قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجّه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات.
فلما قدمنا على النبيّ ﷺ أخبر بذلك. فقال «قتلوه، قتلهم الله. ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العيّ السؤال. إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر (يعصب) على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده»
. (٢)
أخرجه البخاري في: الرقاق، ٢٢- باب ما يكره من قيل وقال، حديث ٥٠٠ ونصه: عن ورّاد كاتب المغيرة بن شعبة، أن معاوية كتب إلى المغيرة أن اكتب إليّ بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال فكتب إليه المغيرة: إني سمعته يقول، عند انصرافه من الصلاة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير». ثلاث مرات.
قال: وكان ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال، ومنع وهات، وعقوق الأمهات، ووأد البنات.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث ١٢ و ١٣ و ١٤.
271
ينهى عن قيل وقال: وإضاعة المال، وكثرة السؤال.
وروى أحمد وأبو داود: أن النبيّ ﷺ نهى عن الأغلوطات
- وهي صعاب المسائل- والآثار في ذلك كثيرة.
ثم بيّن تعالى بطلان ما ابتدعه أهل الجاهلية- من تحريم بعض بهيمة الأنعام- بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٣]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ أي ما شرع وما وضع. و (من) مزيدة لتأكيد النفي.
والبحيرة (كسفينة) فعيلة بمعنى المفعول من (البحر) وهو شق الأذن. يقال: بحر الناقة والشاة، يبحرها: شق أذنها. وفي البحرة أقوال كثيرة ساقها صاحب القاموس وغيره.
قال أبو إسحاق النحويّ: أثبت ما روينا عن أهل اللغة في البحرة: أنها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن، فكان أخرها ذكرا، بحروا أذنها (أي: شقوها) وأغفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح، ولا تمنع من ماء ترده ولا من مرعى. وإذا لقيها المعيى المنقطع به، لم يركبها وَلا سائِبَةٍ وهي الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر أو لطواغيتهم. أي تترك ولا تركب ولا يحمل عليها كالبحيرة. أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث، ليس بينهن ذكر، سيبت فلم تركب ولم يجزّ وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف. أو كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجت دابته من مشقة أو حرب، قال: وهي (أي ناقتي) سائبة وَلا وَصِيلَةٍ كانوا إذا ولدت الشاة ستة أبطن عناقين عناقين. وولدت في السابع عناقا وجديا، قالوا وصلت أخاها. فلا يذبحون أخاها من أجلها. وأحلّوا لبنها للرجال وحرموه على النساء. والعناق (كسحاب) الأنثى من أولاد المعز. وقيل: الوصيلة كانت في الشاة خاصة، إذا ولدت الأنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكرا جعلوه لآلهتهم.
وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم وَلا حامٍ وهو الفحل من الإبل بضرب الضراب المعدود. فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس، وسيبوه للطواغيت. وقيل: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن. ثم هو
272
حام حمى حمى ظهره. فيترك فلا ينتفع منه بشيء، ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
وحكى أبو مسلم: إذا أنتجت الناقة عشرة أبطن، قالوا: حمت ظهرها.
وقد روي في تفسير هذه الأربعة، أقوال أخر. ولا تنافي في ذلك. لأن أهل الجاهلية لهم في أضاليلهم تفنّنات غريبة.
هذا
وروى ابن أبي حاتم عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن أبيه مالك بن نضلة، قال: أتيت النبيّ ﷺ في خلقان من الثياب. فقال لي: هل لك من مال؟ فقلت: نعم. قال: من أيّ المال؟ قالت فقلت: من كل المال: الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: فإذا أتاك الله مالا كثيرا فكثّر عليك. ثم قال: تنتج إبلك وافية آذانها؟ قال قلت: نعم. قال: وهل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها، وتقول: هذه حرم؟ قلت: نعم. قال: فلا تفعل. إن كل ما آتاك الله لك حلّ. ثم قال: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ.
أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها. فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة فهي التي يسيبون لآلهتهم يذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها، وأما الوصيلة فالشاة تلد ستة أبطن. فإذا ولدت السباع جدعت وقطعت قرنها فيقولون: قد وصلت، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض.
قال ابن كثير: هكذا ذكر تفسير ذلك مدرجا في الحديث. وقد روي من وجه آخر عن أبي الأحوص من قوله، وهو أشبه. وقد روى هذا الحديث الإمام أحمد «١» عن مالك بن نضلة. وليس فيه تفسير هذه. والله أعلم.
وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي: ما شرع
(١)
أخرجه في المسند ٣/ ٤٧٣ وهذا نصه: عن أبي الأحوص عن أبيه قال: أتيت النبيّ ﷺ وأنا قشيف الهيئة. فقال: «هل لك مال» ؟ قال قلت: نعم. قال «فما مالك» ؟ فقال: من كل المال، من الخيل والإبل والرقيق والغنم. قال «فإذا آتاك الله عزّ وجل مالا، فلير عليك» فقال «هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها، فتعمد إلى الموسى فتقطعها أو تقطّعها وتقول: هذه بحر. وتشق جلودها وتقول: هذه حرم، فتحرمها عليك وعلى أهلك» ؟ قال قلت: نعم. قال «كلّ ما آتاك الله عزّ وجل لك حلّ، وساعد الله أشدّ، وموسى الله أحدّ» وربما قالها وربما لم يقلها. وربما قال «ساعد الله أشدّ من ساعدك، وموسى الله أحد من موساك» قال قلت: يا رسول الله! رجل نزلت به فلم يقرني ولم يكرمني. ثم نزل بي، أقريه أو أجزيه بما صنع؟ قال «بل أقره».
273
الله هذه الأشياء، ولا هي عنده قربة. ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعا لهم وقربة يتقربون بها، وليس ذلك بحاصل لهم، بل هو وبال عليهم.
وفي البخاريّ «١» أن التبحير والتسييب وما بعدهما، كله لأجل الطواغيت.
يعني أصنامهم،
وفي الصحيحين «٢» عن أبي هريرة أن النبيه ﷺ قال رأيت عمرو بن عامر الخزاعيّ يجر قصبه في النار. وكان أول من سيّب السوائب وبحر البحيرة وغيّر دين إسماعيل. لفظ مسلم.
زاد ابن جرير: وحمى الحامي.
وروى الإمام أحمد «٣» عن عبد الله بن مسعود عن النبيّ ﷺ قال: «إن أول من سيب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر وإني رأيته يجر أمعاءه في النار».
قال ابن كثير: عمرو هذا هو ابن لحيّ بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم. وكان أول من غيّر دين إبراهيم الخليل. فأدخل الأصنام إلى الحجاز ودعا الرعاء من الناس إلى عبادتها والتقرب بها. وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها. كما ذكره الله تعالى في (سورة الأنعام) عند قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً... الآيات. انتهى.
(١) الذي وجدته في البخاري في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٣- باب ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، هذا نصه
(الحديث: ١٦٥٧) : عن سعيد بن المسيّب قال: البحيرة التي يمنع درّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس. والسائبة كانوا يسيّبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء
. (٢)
أخرجه البخاري في الباب السابق ونصه: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار. كان أول من سيّب السوائب».
والوصيلة الناقة البكر تبكّر في أول نتاج الإبل، ثم تثنّي بعد بأنثى. وكانوا يسيبونها لطواغيتهم، إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر.
والحام فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شيء وسمّوه الحامي.
وهذا نصه في مسلم في: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث رقم ٥٠.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «رأيت عمرو بن لحييّ بن قمعة بن خندف، أبا بني كعب هؤلاء، يجرّ قصبه في النار»
. (٣) أخرجه في المسند ١/ ٤٤٦ والحديث رقم ٤٢٥٨.
274
لطيفة:
قال الرازي: فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء، فلم لا يجوز إعتاق هذه البهائم من الذبح والإتعاب والإيلام؟ قلنا: الإنسان مخلوق لخدمة الله تعالى وعبوديته. فإذا أزيل الرق عنه تفرغ لعبادته تعالى، فكان ذلك قربة مستحسنة. وأما هذه الحيوانات فإنها مخلوقة لمنافع الناس. فإهمالها يقتضي فوات منفعة على مالكها وعلى غيره. أي وهو خلاف الحكمة التي خلقت هي لأجلها. على أن الرقيق إذا أعتق قدر على تحصيل مصالح نفسه، بخلاف البهيمة. ففي تسيبها إيقاع لها في أنواع من المحنة والمشقة.
قال المهايمي: قاسوه (يعني التبحير) على عتق الإنسان مع ظهور الفرق. لما في عتق الإنسان من تمليك التصرفات، ولا تصرف للحيوانات العجم.
ثم قال: الأول كالعتق بلا نذر. والثاني كالعتق بالنذر. والثالث مشبه بما يشبه العتق. والرابع ملك النفس بلا تمليك. ولا معنى للتمليك في الحيوانات العجم، فهذه الأمور غير معقولة ظاهرا وباطنا، فلا يفعلها الحكيم.
تنبيه:
قال السيوطي في (الإكليل) : في الآية تحريم هذه الأمور. واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع. ومن صور السائبة: إرسال الطائر ونحوه. واستدل ابن الماجشون بالآية على منع أن يقول لعبده: أنت سائبة. وقال: لا يعتق. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: قال الحاكم: استدل بعضهم على بطلان الوقف بالآية الكريمة. لأن الملك لا يخرج عن ملك صاحبه إلا إلى مالك آخر. أو على وجه القربة إلى الله. كتحرير الرقاب.
قال الحاكم: وليس بصحيح. لأن الوقف قربة كالعتق. ولقائل أن يقول:
يستدل بالآية على نظير ذلك. وهو ما يلقى في الأنهار والطريق وقرب الأشجار، من طرح البيض والفراريج ونحو ذلك. فلا يجوز فعله، ولا يزول ملك المالك. ويحتمل أن يقال: قد رغب عنه وصيره مباحا. وأما كسر البيض على العمارة والطريق والأبواب، فالظاهر عدم الجواز. لأن في ذلك إضاعة مال، ولم يرد بفعله دليل. انتهى.
ولما بيّن تعالى أن أكثرهم لا يعقلون أن تحريم هذه الأشياء افتراء باطل حتى يخالفوهم ويهتدوا إلى الحق، وإنما يقلدون قدماءهم- أشار إلى عنادهم واستعصائهم حينما هدوا إلى الحق، وإلى ضلالهم ببقائهم في أسر التقليد، بقوله سبحانه:
275
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبيّن للحلال والحرام وَإِلَى الرَّسُولِ أي: الذين أنزل هو عليه، لتقفوا على حقيقة الحال، وتميزوا بين الحرام والحلال، فترفضوا تقليد القدماء المفترين على الله الكذب بالضلال قالُوا أي: لإفراط جهلهم وانهماكهم في التقليد حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي كافينا ذلك. وحَسْبُنا مبتدأ والخبر ما وَجَدْنا و (ما) بمعنى الذي. والواو في قوله تعالى أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ للحال. دخلت عليها همزة الإنكار. أي: أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً أي لا يعرفون حقّا ولا يفهمونه وَلا يَهْتَدُونَ أي: إليه. قال الزمخشري: والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي. وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة. انتهى.
وقال الرازي: واعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي. وإنما يكون عالما مهتديا إذا بنى قوله على الحجة والدليل. فإذا لم يكن كذلك لم يكن عالما مهتديا.
فوجب أن لا يجوز الاقتداء به. انتهى.
وقال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية قبح التقليد ووجوب النظر واتباع الحجة. ثم قال: وقد فسر التقليد بأنه قبول قول الغير من غير حجة انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي الزموا أن تصلحوها باتباع كتاب الله وسنة رسوله لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ أي ممن قال حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أو أخذ بشبهة. أو عاند في قول أو فعل إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي إلى الإيمان. وكأن المؤمنين كان يشتد عليهم بقاء الكفار في كفرهم وضلالهم. فقيل لهم: عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والمشي بها في طريق الهدى. لا يضركم ضلال الضالين وجهل الجاهلين، إذا كنتم مهتدين. كما قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ
276
عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ
[فاطر: ٨].
قال الزمخشريّ: وكذلك من يتأسف على ما فيه الفسقة من الفجور والمعاصي ولا يزال يذكر معايبهم ومناكيرهم، فهو مخاطب بهذه الآية إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ بعد الموت جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي في الدنيا من أعمال الهداية والضلال. فهو وعد ووعيد للفريقين. وتنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بعمل غيره.
تنبيه:
لا يستدل بالآية على سقوط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لأن الظاهر من الآية أن ضلال الغير لا يضر، وأن المطيع لربه لا يكون مؤاخذا بذنوب العاصي.
وإلا فمن تركهما مع القدرة عليهما، فليس بمهتد. وإنما هو بعض الضلال الذي فصلت الآية بينهم وبينه.
قال الحاكم: ولو استدل على وجوبهما بقوله تعالى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ كان أولى. لأنه يدخل في ذلك كل ما لزم من الواجبات. أي كما فعل المهايميّ في تفسيره حيث قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. أي ألزموا أن تصلحوها باتباع الدلائل من كتاب الله وسنة رسوله. والعقليات المؤيدة بها، ودعوة الإخوان إلى ذلك. بإقامة الحجج ودفع الشبه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بما أمكن من القول والفعل. لا تقصروا في ذلك. إذ لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، بدعوتهم إلى ما أنزل وإلى الرسول وإقامة الحجج لهم، ودفع الشبه عنهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بما أمكن من القول والفعل. ولا تقصروا في ذلك. إذ إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون، من التقصير أو الإيفاء قولا وفعلا، في حق أنفسكم أو غيركم. انتهى.
ونقل الرازي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإنه قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني عليكم أهل دينكم. ولا يضركم من ضل من الكفار. وهذا كقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [البقرة: ٥٤] يعني أهل دينكم. فقوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ يعني بأن يعظ بعضكم بعضا، ويرغّب بعضكم بعضا في الخيرات وينفّره عن القبائح والسيئات. والذي يؤكد ذلك ما بينا أن قوله: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ معناه: احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب. فكان ذلك أمرا بأن نحفظ أنفسنا. فإذا لم يكن
277
ذلك الحفظ إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك واجبا. انتهى.
وروى الإمام أحمد «١» عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. أنه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إلى آخر الآية. وإنكم تضعونها على غير موضعها. وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الناس، إذا رأوا المنكر، ولا يغيرونه، يوشك أن يعمهم الله عز وجل بعقابه».
ورواه أصحاب السنن وابن حبان في صحيحه وغيرهم.
وروى الترمذي «٢» عن أبي أمية الشعباني. قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع بهذه الآية؟ قال: آية آية؟ قلت: قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قال: أما والله! لقد سألت عنها خبيرا.
سألت عنها رسول الله ﷺ فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر. حتى إذا رأيت شحّا مطاعا وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوامّ. إن من ورائكم أياما الصبر فيهن مثل القبض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا، يعملون مثل علمكم.
قال عبد الله بن المبارك: وزادني غير عتبة: قيل يا رسول الله! أجر خمسين رجلا منا أو منهم؟ قال: لا، بل أجر خمسين منكم.
قال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب.
وكذا رواه أبو داود وابن ماجة وابن جرير «٣» وابن أبي حاتم.
وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله عنه سأله رجل عن قوله الله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال: إن هذا ليس بزمانها. إنها اليوم مقبولة. ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها. تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا. أو قال: فلا يقبل منكم. فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل.
ورواه أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسا. فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس. حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه. فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك. فإن الله يقول عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ
(١) أخرجه في المسند ١/ ٥ والحديث رقم ١٦.
(٢) أخرجه الترمذيّ في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٨- باب حدثنا سعيد بن يعقوب.
(٣) الأثر رقم ١٢٨٦٢ من التفسير. [.....]
278
الآية. قال، فسمعها ابن مسعود فقال: مه. لم يجئ تأويل هذه بعد. إن القرآن أنزل حيث أنزل. ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن. ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبيّ ﷺ بيسير. ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب، ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فأمر نفسك. وعند ذلك جاء تأويل هذه الآية. أخرجه ابن جرير.
وأخرج أيضا «١»
أنه قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله قال عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي. لأن رسول الله ﷺ قال: ألا فليبلغ الشاهد الغائب. فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب. ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا. إن قالوا لم يقبل منهم
. وقد ضعف الرازي ما روي عن ابن مسعود وابن عمر مما سقناه. قال: لأن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب عام، وهو أيضا خطاب مع الحاضرين. فكيف يخرج الحاضر ويخص الغائب؟ انتهى.
أقول: ليس مراد ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، إخراج الحاضرين عن الخطاب، وأنه لم يعن بها إلا الغيب. وإنما مرادهما الردّ على من تأولها بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأعلماه بأنه لا يسوغ الاستشهاد بها في ترك ذلك.
والاسترواح لظاهرها، إلا في الزمن الذي بيّناه. وحاصله: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان ما قبلا، فإن ردّا في مثل ذلك الزمن فليقرأ: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ.
هذا مرادهما. والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦)
(١) الأثر رقم ١٢٨٥١ من التفسير.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي: ظهرت أماراته حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف، لا ظرف (للموت) ولا لحضوره. فإن في الإبدال تنبيها على أن الوصية من المهمات التي لا ينبغي التهاون بها. وقوله تعالى:
اثْنانِ خبر شَهادَةً بتقدير مضاف. أي شهادة بينكم حينئذ، شهادة اثنين. أو فاعل (شهادة) على أن خبرها محذوف. أي: فيما نزل عليكم، أن يشهد بينكم اثنان ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من المسلمين: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي من أهل الذمة إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما أي: توقفونهما للتحليف مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر. كما قاله ابن عباس وثلّة من التابعين. وعدم تعيينها، لتعيينها عندهم بالتحليف بعدها. لأنه وقت اجتماع الناس ووقت تصادم ملائكة الليل وملائكة النهار. واجتماع طائفتي الملائكة، فيه تكثير للشهود منهم على صدقه وكذبه. فيكون أقوى من غيره وأخوف. وعن الزهريّ: بعد أيّ صلاة للمسلمين كانت. وذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق، وناهية عن الكذب والزور، كما قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: ٤٥]. فالتعريف في الصَّلاةِ إما للعهد أو للجنس. فَيُقْسِمانِ أي: يحلفان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: شككتم فيهما بخيانة وأخذ شيء من تركة الميت. وقوله تعالى: لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً جواب للقسم. أي يقولان: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من الله. أي: من حرمته عرضا من الدنيا بأن نهتكها ونزيلها بالحلف الكاذب. أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وَلَوْ كانَ أي: من نقسم له ونشهد عليه، المدلول عليه بفحوى الكلام ذا قُرْبى أي: قريبا منا.
تأكيد لتبرئهم من الحلف كاذبا. ومبالغة في التنزه عنه. كأنهما قالا: لا نأخذ لأنفسنا بدلا من حرمة اسمه تعالى مالا. ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء. فكيف إذا لم يكن كذلك؟ وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي: الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها. وإضافتها إلى الاسم الكريم تشريفا لها وتعظيما لأمرها إِنَّا إِذاً إن كتمناها لَمِنَ الْآثِمِينَ أي: المعدودين من المستقرين في الإثم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٧]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧)
فَإِنْ عُثِرَ أي اطلع بعد التحليف عَلى أَنَّهُمَا أي: الشاهدين الوصيين
280
اسْتَحَقَّا إِثْماً أي: فعلا ما يوجبه من خيانة أو غلول شيء من المال الموصى به إليهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي: فرجلان آخران يقومان مقام اللذين عثر على خيانتهما أي: في توجه اليمين عليهما لإظهار الحق وإبراز كذبهما فيما ادعيا من استحقاقهما لما في أيديها مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي: من ورثة الميت الذين استحق من بينهم الأوليان، أي: الأقربان إلى الميت، الوارثان له، الأحقّان بالشهادة، أي: اليمين. ف (الأوليان) فاعل (استحقّ). ومفعول (استحقّ) محذوف، قدّره بعضهم (وصيتهما) وقدره ابن عطية (مالهم وتركتهم)، وقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة لأنها حقهما ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وقرئ على البناء للمفعول أي: من الذين استحق عليهم الإثم. أي: جنى عليهم. وهم هل الميت وعشيرته. ف (الأوليان) مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف. كأنه قيل: ومن هما؟ فقيل: الأوليان. أو هو بدل من الضمير في (يقومان) أو من (آخران) وقد جوز ارتفاعه (استحقّ) على حذف المضاف. أي: استحق عليهم ندب الأوليين منهم للشهادة. وقرئ الأوّلين جمع (أوّل) على أنه صفة للذين، مجرور أو منصوب على المدح. ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة لكونهم أحق بها. وقرئ الأوليين، علي التثنية. وانتصابه على المدح. أفاده أبو السعود.
وقرئ الأوّلين تثنية (أول) نصبا على ما ذكر. كما في البيضاويّ.
قال أبو البقاء: ويقرأ الأوليين وهو جمع (أولى) وإعرابه كاعراب الأوّلين. ويقرأ الأولان، تثنية (الأول) وإعرابه كإعراب (الأوليان) فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ عطف على (يقومان) لَشَهادَتُنا أَحَقُّ أي: بالقبول مِنْ شَهادَتِهِما أي: لقولنا: إنهما خانا وكذبا فيما ادعيا من الاستحقاق، أحق من شهادتهما المتقدمة. لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم وَمَا اعْتَدَيْنا أي: ما تجاوزنا الحق فيها أو فيما قلنا فيهما من الخيانة إِنَّا إِذاً أي: إن اعتدينا لَمِنَ الظَّالِمِينَ أي أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه، بسبب هتك حرمة اسم الله تعالى. أو من الواضعين الحق في غير موضعه.
ومعنى الآية الكريمة أن الرجل إذا حضرته الوفاة في سفر، فليشهد رجلين من المسلمين.
فإن لم يجدهما، فرجلين من أهل الكتاب. يوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه.
فإذا قدما بتركته، فإن صدّقهما الورثة وعرفوا ما لصاحبهم قبل قولهما وتركا. وإن
281
اتهموهما، رفعوهما إلى السلطان فحلفا بعد صلاة العصر بالله، ما كتمنا ولا كذبنا ولا خنّا ولا غيرنا، فإن اطلع الأوليان على أن الكافرين كذبا في شهادتهما، قام رجلان من الأولياء، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة، وأنا لم نعتد. فترد شهادة الكافرين وتجوز شهادة الأولياء، هكذا روى ابن جرير «١» عن ابن عباس وابن جبير وغيرهما.
قال الإمام ابن كثير: وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما، والحالة هذه، كما يحلف أولياء المقتول، إذا ظهر لوث في جانب القاتل. فيقسم المستحقون على القاتل. فيدفع برمته إليهم. كما هو مقرر في (باب القسامة). وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس عن تميم الداريّ في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.. إلى آخرها قال: برئ الناس منها غيري وغير عديّ بن بداء، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام. فأتيا الشام لتجارتهما. وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل (بدال أو زاي مصغرا. وضبطه بالثانية ابن ماكولا) ابن أبي مريم بتجارة، معه جام من فضة يريد به الملك. وهو أعظم تجارته. فمرض فأوصى إليهما. وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله. قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم. واقتسمناه أنا وعديّ. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه. فقلنا: ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره.
قال تميم: فلما أسلمت، بعد قدوم رسول الله ﷺ المدينة تأثمت من ذلك.
فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم. وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها. فوثبوا عليه. فأمرهم النبيّ ﷺ أن يستحلفوه بما يحكم به على أهل دينه. فحلف فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ- إلى قوله- فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما. فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا.
فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء.
وهكذا رواه الترمذيّ «٢» وابن جرير «٣» عن محمد بن إسحاق به، فذكره.
(١) الأثر رقم ١٢٩٧٩ من التفسير.
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ١٩- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني.
(٣) الأثر رقم ١٢٩٦٧ من التفسير.
282
وعنده: فأتوا به رسول الله ﷺ فسألهم البيّنة فلم يجدوا. فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف. فأنزل الله هذه الآية. فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا. فنزعت الخمسمائة من عديّ بن بداء.
ثم تكلم الترمذيّ على إسناده. وأسند «١» بعد ذلك هذه القصة مختصرة
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بداء. فمات السهميّ بأرض ليس بها مسلم. فلما قدما بتركته فقدوا جاما من فضة مخوّصا بذهب. فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثمّ وجد الجام بمكة. فقيل:
اشتريناه من تميم وعديّ. فقام رجلان من أولياء السهميّ فحلفا بالله لشهادتنا أحقّ من شهادتهما. وأنّ الجام لصاحبهم. وفيهم نزلت هذه الآية. وكذا رواه أبو داود. ثم قال الترمذيّ: حديث حسن غريب! وأقول: أخرجه البخاريّ «٢» أيضا في كتاب (الوصايا) تحت باب عقده لهذه الآية بخصوصها.
و (الجام) الإناء، وتخويصه أن يجعل عليه صفائح من ذهب كخوص النخل.
قال ابن كثير: وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من التابعين. منهم عكرمة ومحمد بن سيرين وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر. رواه ابن جرير.
وكذا ذكرها مرسلة مجاهد والحسن والضحاك. وهذا يدلّ على اشتهارها في السلف وصحتها.
ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه ابن جرير «٣» بإسنادين صحيحين، وأبو داود بإسناد- رجاله ثقات- عن الشعبيّ: أن رجلا من المسلمين حضرته الصلاة بدقوقاء، قال: فحضرته الوفاة- ولم يجد أحدا من المصلين يشهده على وصيّته- فأشهده رجلين من أهل الكتاب، قال: فقدما الكوفة فأتيا أبا موسى الأشعريّ رضي الله عنه فأخبراه. وقدما الكوفة بتركته ووصيته، فقال الأشعريّ: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فأحلفهما بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيرا، وإنّها لوصية الرجل وتركته. قال: فأمضى شهادتهما.
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢٠- حدثنا سفيان بن وكيع.
(٢) أخرجه البخاري في: الوصايا، ٣٥- باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... الآية، حديث ١٣٣٠.
(٣) الأثر رقم ١٢٩٦٨ من التفسير.
283
وقوله (هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) الظاهر- والله أعلم- أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعديّ بن بداء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٨]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨)
ثم بيّن وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله:
ذلِكَ أي: الحكم المذكور أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود- أو الأوصياء- الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها، خوفا من العذاب الأخرويّ. ف (الوجه) بمعنى الذات والحقيقة.
قال أبو السعود: وهذه- كما ترى- حكمة شرعية التحليف بالتغليظ المذكور! وقوله تعالى: أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ بيان لحكمة شرعية ردّ اليمين على الورثة، معطوف على مقدر ينبئ عنه المقام كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة. أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب وَاسْمَعُوا أي: ما تؤمرون به سماع قبول وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته، أي إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.
وقد استفيد من الآية أحكام:
الأول- لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه. لأنه تعالى قال حِينَ الْوَصِيَّةِ أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم.
الثاني- قال بعضهم: دلّ قوله تعالى: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان. وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حقّ الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلّا شهادة الزنى. فلقوله تعالى في النور: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ [النور: ٤]، وهذا مجمع عليه.
قال ابن القيّم في (أعلام الموقّعين) : إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من
284
الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلّا بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره ويدل عليه. والشارع- في جميع المواضع- يقصد ظهور الحقّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له.
ولا يردّ حقّا قد ظهر بدليله أبدا. فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غير في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه. وقد أطال في ذلك بما لا يستغنى عن مراجعته.
الثالث- في قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ دلالة على صحة شهادة الذميّ على المسلم عموما. لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع.
قال بعض المفسّرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت. وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعيّ وشريح والراضي بالله وجدّه الإمام عبد الله بن الحسين: أنها صحيحة ثابتة. وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ.
وقال طاوس والحسن والهادي: إنه ثابت. انتهى.
أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرّض لدفعها.
قال الإمام ابن القيّم في (أعلام الموقّعين) :
أمر تعالى في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين من غيرهم. وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلمين. وقد حكم به النبيّ ﷺ والصحابة بعده، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فإنّ (المائدة) من آخر القرآن نزولا وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتة. ولا يصح أن يكون المراد بقوله مِنْ غَيْرِكُمْ من غير قبيلتكم فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... الآية. ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله:
مِنْ غَيْرِكُمْ أيتها القبيلة، والنبيّ ﷺ لم يفهم هذا من الآية. بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) :
285
واستدلّ بالآية على جواز شهادة الكفار بناء على المراد بال (غير) الكفار.
وخصّ جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ. منهم: ابن عباس وأبو موسى الأشعريّ، وسعيد بن المسيّب، وابن سيرين، والأوزاعيّ، والثوريّ، وأبو عبيد، وأحمد- وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية- وقوّى ذلك حديث الباب- يعني حديث ابن عباس المتقدم- فإن سياقه مطابق لظاهر الآية. وقيل: المراد بال (غير) العشيرة. والمعنى (منكم) أي: من عشيرتكم أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي: من غير عشيرتكم، وهو في قول الحسن واحتجّ له النحاس بأن لفظ (آخر) لا بدّ أن يشارك الذي قبله في الصفة، حتى لا يسوغ أن تقول: مررت برجل كريم ولئيم آخر. فعلى هذا فقد وصف (الاثنان) بالعدالة. فيتعيّن أن يكون (الآخران) كذلك.
وتعقب بأن هذا- وإن ساغ في الآية الكريمة- لكن الحديث دلّ على خلاف ذلك.
والصحابيّ إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقا.
وأيضا، ففي ما قال ردّ المختلف فيه بالمختلف فيه. لأن اتّصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه. وهو فرع قبول شهادته، فمن قبلها وصفه بها، ومن لا، فلا. واعترض أبو حيّان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق. فلو قلت: جاءني رجل مسلم وآخر كافر، صحّ. بخلاف ما لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر. والآية من قبيل الأول لا الثاني. لأن قوله أَوْ آخَرانِ من جنس قوله (اثنان)، لأن كلاهما منهما صفة (رجلان)، فكأنه قال: فرجلان اثنان ورجلان آخران. وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة. وأن ناسخها قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ واحتجوا بالإجماع على ردّ شهادة الفاسق. والكافر شرّ من الفاسق. وأجاب الأولون:
بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. حتى صحّ عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف، أن سورة المائدة محكمة. وعن ابن عباس أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين، فإن اتّهما استحلفا. أخرجه الطبريّ بإسناد رجاله ثقات.
وأنكر أحمد على من قال: إن هذه الآية منسوخة.
وصحّ عن أبي موسى الأشعريّ أن عمل بذلك بعد النبيّ ﷺ كما تقدّم.
ورجّح الفخر الرازيّ- وسبقه الطبريّ- لذلك. أن قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمؤمنين. فلما قال أَوْ آخَرانِ وضح أنه أراد غير المخاطبين.
286
فتعيّن أنهما من غير المؤمنين. وأيضا: فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطا بالسفر. وأن أبا موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة. فكان حجة. انتهى كلام الحافظ.
وفي (فتح البيان) : الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ. وأما قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ وقوله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ فهما عامّان في الأشخاص والأزمان والأحوال. وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين. ولا تعارض بين خاصّ وعامّ. انتهى.
وقد أطنب الرازيّ في (تفسيره) في الاحتجاج على عدم نسخها بوجوه عديدة، وجوّد الكلام- في أن المراد من غَيْرِكُمْ أي: من غير ملّتكم- تجويدا فائقا.
الرابع: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) :
ذهب الكرابيسيّ ثم الطبريّ وآخرون إلى أنّ المراد بالشهادة في الآية اليمين.
قال:
وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان. وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول: أشهد بالله. وأنّ الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق.
قالوا: فالمراد بالشهادة اليمين لقوله فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي: يحلفان. فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء. وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة، بخلاف الشهادة. وقد اشترطا في هذه القصة، فقوي حملها على أنها شهادة. وأما اعتلال من اعتل في ردّها بأنها تخالف القياس والأصول- لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرّد اليمين- فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره. وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع، كما في الطبّ. وليس المراد بالحبس السجن. وإنما المراد: الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة. وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة. وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرّد اليمين، فإن الآية تضمّنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصيّين. فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا، كما يشرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه، بل من باب الحكم له بيمينه
287
القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه. وأيّ فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم، وظهوره في صحة الدعوى بالمال؟ وحكى الطبريّ: أنّ بعضهم قال: المراد بقوله اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ الوصيان. قال: والمراد بقوله شَهادَةُ بَيْنِكُمْ معنى الحضور لما يوصيهما به الموصي. ثم زيف ذلك. انتهى كلام (الفتح).
ولا يخفاك أنّ الآية بنفسها- مع ما ورد في نزولها- غنيّة عن تكلف إدخالها تحت القياس والقواعد والتمحّل لتأويلها.
الخامس: في قوله تعالى مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ دلالة على تغليظ اليمين.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) وبعض المفسّرين:
ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان. فأما في الزمان فبعد العصر. وأما في المكان: ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أنّ ذلك في الدماء والمال الكثير، لا في القليل. انتهى.
وذهبت الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان.
وأخذوا بعموم
قوله «١» صلى الله عليه وسلم: البيّنة على المدّعى واليمين على من أنكر، ولم يفصل.
قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ يحتمل أن ذكره لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلّا في ذلك الوقت.
قال بعض الزيدية: وهل التغليظ في المكان والزمان على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار، التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان. وذلك مرويّ عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعيّ. قال: والمختار أنّه مستحبّ غير واجب. انتهى.
وفي كتاب (الشهادات) من (صحيح البخاريّ) بابان في هذه المسألة.
فليراجع مع شروحه.
السادس: قال ابن أبي الفرس: في قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ دليل على أن (أقسم بالله) يمين، لا (أقسم) فقط.
السابع: في قوله تعالى: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ.. الآية دليل على تحريم كتمان الشهادة. وذلك لا إشكال فيه.
(١) أخرجه البيهقيّ في (الشعب) وابن عساكر، عن ابن عمرو.
288
الثامن: قال السيوطيّ: تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة (يعني على قراءة الأوليان) لخصوص الواقعة التي نزلت لها. ثم ساق رواية البخاريّ السابقة. أي: وللإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة أيضا وإن كان فيهم كثرة.
غريبة:
قال مكيّ في كتابه المسمّى ب (الكشف) :
هذه الآيات الثلاث- عند أهل المعاني- من أشكل ما في القرآن إعرابا ومعنى وحكما وتفسيرا. ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفّون عنها.
قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر. وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد.
قال ابن عطيّة: هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها، وذلك بيّن من كتابه رحمه الله تعالى- يعني من كتاب مكيّ-.
قال القرطبيّ: ما ذكره مكيّ، ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضا.
قال السعد في (حاشيته على الكشاف) : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعرابا ونظما وحكما.. انتهى.
أقول: هذه الآية الكريمة غنيّة بنفسها- مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها- عن التشكيك فيها، والتكلّف لإدخالها تحت القواعد، والتمحّل لتأويلها. فخذ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٠٩]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١٠٩)
يَوْمَ منصوب ب (اذكروا) أو (احذروا) يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وذلك يوم القيامة، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم. كيف لا؟
وذلك يوم مجموع له الناس، بل لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم. بناء على ظهور كونهم أتباعا لهم فَيَقُولُ أي: للرسل ماذا أُجِبْتُمْ أي: ما الذي أجابكم من أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهدة الرسالة. إذا لم يقل: هل بلّغتم رسالاتي؟ وفي توجيه السؤال إليهم. والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم بأن يقال: ماذا أجابوا- من الإنباء عن شدة الغضب الإلهيّ ما لا يخفى.
289
وفي (الصحيح) «١» في حديث الشفاعة: إنّ ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.
قالُوا من هيبته تعالى، وتفويضا للأمر إلى علم سلطانه وتأدّيا بليغا في ذاك الموقف الجلاليّ لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي: ومن علم الخفيات، لم تخف عليه الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم.
تنبيهات:
الأول: قال الرازيّ: اعلم أنّ عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنّه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام، أتبعها إمّا بالإلهيات، وإمّا بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال القيامة، ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع. فلا جرم، لمّا ذكر- فيما تقدم- أنواعا كثيرة من الشرائع، أتبعها بوصف أحوال القيامة.
الثاني: قال الزمخشريّ فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم. كما كان سؤال الموءودة توبيخا للوائد. فإن قلت: كيف يقولون: لا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه، وإحاطته بما منوا به منهم، وكابدوا من سوء إجابتهم، إظهارا للتشكي واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم. إذا اجتمع توبيخ الله وتشكّي أنبيائه عليهم.
ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان، خاصة من خواصّه نكبة، قد عرفها السلطان واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجيّ؟ (وهو عالم بما فعل به) يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له:
أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حلّ به منه. انتهى.
واستظهر الرازيّ أن نفي العلم لهم على حقيقته عملا بما تقرر من أن العلم غير الظن. قال: لأن الحاصل من حال الغير عن كل أحد إنما هو الظن لا العلم.
وفي
(١) أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٣- باب قول الله عز وجلّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، حديث ١٥٧٩ عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٣٢٧ و ٣٢٨.
290
الحديث: نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر
وقال «١» صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض. فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار»
، فالأنبياء قالوا: لا علم لنا البتة بأحوالهم. إنما الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن. والظن كان معتبرا في الدنيا.
وأما الآخرة فلا التفات فيها إلى الظن. لأن الأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور. فلهذا السبب قالوا: لا علم لنا. ولم يذكروا ما معهم من الظن. لأن الظن لا عبرة به في القيامة. والله أعلم.
الثالث: دلت الآية عل جواز إطلاق لفظ (العلّام) عليه. كما جاز إطلاق لفظ (الخلّاق) عليه. وأما العلّامة فإنهم أجمعوا على أنه لا يجوز إطلاقه في حقه. ولعل السبب ما فيه من لفظ التأنيث. أفاده الرازيّ.
على أن المختار أن أسماءه تعالى توقيفية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٠]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠)
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين، من المفاوضة، على التفصيل. إثر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال، ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين.
وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان، تفصيلا بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل-
(١) أخرجه البخاري في: الشهادات، ٢٧- باب من أقام البينة بعد اليمين، حديث ١٢١٢ عن أم سلمة.
وأخرجه مسلم في: الأقضية، حديث ٤ و ٥ و ٦.
291
لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم. فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وأدخل في صرفهم عن غيهم وعنادهم. أفاده أبو السعود.
اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ أي: منّتي عليك وَعَلى والِدَتِكَ بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين إِذْ أَيَّدْتُكَ أي: قوّيتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي: بجبريل عليه السلام لتثبيت الحجة. أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية. بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك. ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة. لذلك تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي: في أضعف الأحوال وأقواها.
بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة. الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد.
قال ابن كثير: أي جعلتك نبيّا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك. فأنطقتك في المهد صغيرا. فشهدت ببراءة أمك من كل عيب. واعترفت لي بالعبودية. وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي. لهذا قال تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا أي:
تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن تُكَلِّمُ تدعو، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب. انتهى.
وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب وَالْحِكْمَةَ أي:
الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب. بل يخص به أهله وَالتَّوْراةَ وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام وَالْإِنْجِيلَ وهو الذي أنزله عليه، ﷺ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير بِإِذْنِي أي:
لك في ذلك فَتَنْفُخُ فِيها أي: في تلك الهيئة المصورة فَتَكُونُ أي: فتصير تلك الهيئة طَيْراً لحصول الروح من نفختك فيها بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي:
الذي يولد أعمى مطموس البصر وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى أي: من القبور أحياء بِإِذْنِي فهذا مما فعل به من جرّ المنافع. ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضارّ، فقال سبحانه وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي: منعت اليهود الذين أرادوا بك السود وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم ورفعتك إليّ وطهرتك من دنسهم إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر.
292
لطيفة:
إن قيل: إن السياق في تعديد نعمه تعالى على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه. إن هذا إلا سحر مبين، ليس من النعم بحسب الظاهر. فما السر في ذكره؟
فالجواب: إن من الأمثال المشهورة: إن كل ذي نعمة محسود. فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل علي أن نعم الله في حقه كانت عظيمة. فحسن ذكره عند تعديد النعم، للوجه الذي ذكرناه. أفاده الرازيّ.
ولما بين تعالى النعم اللازمة، تأثّرها بنعمه عليه المتعدية، فقال سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١١]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي: بطريق الإلهام والإلفاء في القلب أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي أي: عن دعوته قالُوا آمَنَّا وأكدوا إيمانهم بقولهم وَاشْهَدْ أي:
لتؤديها عند ربك بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: منقادون لكل ما تدعونا إليه.
وهاهنا لطائف:
الأولى- إنما قدموا ذكر الإيمان لأنه صفة القلب. والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر. يعني آمنا بقلوبنا وانقدنا بظواهرنا.
الثانية- إنما ذكر تعالى هذا في معرض تعديد النعم. لأن صيرورة الإنسان مقبول القول عند الناس. محبوبا في قلوبهم. من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان.
كذا قاله الرازيّ.
قال المهايميّ: ليحصل له رتبة التكميل وثواب رشدهم.
الثالثة: قال الرازيّ: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها. قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية، فهو حاصل، على سبيل التضمن والتبع للأم. ولذلك قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون: ٥٠]. فجعلهما معا آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر. انتهى.
وقال بعضهم: قيل: أريد بالذكر في قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي الشكر. ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة. وإن النعمة على الأم نعمة على الولد. والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٢]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢)
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقل بإنزال المائدة هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة فيقال: سورة المائدة.
وهاهنا قراءتان: الأولى يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ بالياء على أنه فعل وفاعل وأَنْ يُنَزِّلَ المفعول. والثانية- بالتاء ورَبُّكَ نصب أي سؤال ربك. فحذف المضاف.
والمعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ وهي قراءة عليّ وعائشة وابن عباس ومعاذ رضي الله عنهم. وسعيد بن جبير والكسائيّ. في آخرين.
قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز. إذ لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكّوا في قدرة الله تعالى. لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، مبالغة في التقاضي. وإنما قصد بقوله (هل تستطيع) هل يسهل عليك، وهل يخف أن تقوم معي؟ فكذلك معنى الآية. لأن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته. وسؤالهم ليس لإزاحة شك. بل ليحصل لهم مزيد الطمأنينة. كما قال إبراهيم عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦٠].
ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث مزيد الطمأنينة في القلب. ولهذا السبب قالوا: وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وحاصله أن هَلْ يَسْتَطِيعُ سؤال عن الفعل دون القدرة عليه، تعبيرا عنه بلازمه. أو عن المسبب بسببه. وقيل المعنى: هل يطيع ربك؟ أي هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ (فيستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد. والسين زائدة. كاستجاب وأجاب واستجب وأجب و (يطيع) بمعنى (يجيب) مجازا، لأن المجيب مطيع.
وذكر أبو شامة أن النبيّ ﷺ عاد أبا طالب في مرض. فقال له: يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني. فقال: اللهمّ! اشف عمي. فقام كأنما نشط من عقال. فقال: يا
294
ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك. فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك.
أي يجيبك لمقصودك.
وحسنه في الحديث المشاكلة، فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى.
قال الخازن: وقال بعضهم: هو على ظاهره. وقال: غلط القوم وقالوا ذلك قبل استحكام الإيمان والمعرفة في قلوبهم. وكانوا بشرا، فقالوا هذه المقالة. فرد عليهم غلطهم بقوله قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني اتقوا الله أن تشكّوا في قدرته.
والقول الأول أصح. انتهى.
وعليه فمعنى اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال، وأن توقفوا إيمانكم على رؤية المائدة إِنْ كُنْتُمْ به وبرسالتي مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان مما يوجب التقوى والاجتناب عن أمثال هذه الاقتراحات.
لطيفة:
في المائدة قولان: الأول- أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل. كما في (اللسان) وهذا القول جزم به الأخفش وأبو حاتم. أي: وإن لم يكن معه خوان. كما في (التقريب) و (اللسان) وصرح به ابن سيده في (المحكم).
قال الفاسيّ: والآية صريحة فيه، قاله أرباب التفسير والغريب. والثاني- أنها الخوان عليه الطعام. قال الفارسيّ: لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان، وصرّح به فقهاء اللغة. وجزم به الثعالبيّ وابن فارس. واقتصر عليه الحريريّ في (درة الغوّاص) وزعم أن غيره من أوهام الخواص. وذكر الفاسيّ في (شرحها) أنه يجوز إطلاق (المائدة) على (الخوان) مجرّدا عن الطعام. باعتبار أنه وضع أو سيوضع. وقال ابن ظفر: ثبت لها اسم المائدة بعد إزالة الطعام عنها. كما قيل (لقحة) بعد الولادة. وقال أبو عبيد: المائدة في المعنى مفعولة، ولفظها فاعلة.
وهي مثل عيشة راضية. وقيل: من (ماد) إذا أعطى. يقال: ماد زيدا عمرا، إذا أعطاه. وقال أبو إسحاق: الأصل عندي في (مائدة) أنها فاعلة. من (ماد يميد) إذا تحرّك. فكأنها تميد بما عليها. أي: تتحرك. وقال أبو عبيدة: سميت (مائدة) لأنها ميد بها صاحبها. أي: أعطيها وتفضّل عليه بها. وفي (العناية) : فكأنها تعطي من حولها مما حضر عليها. وفي (المصباح) : لأن المالك مادها للناس. أي: أعطاهم إياها. ومثله في كتاب (الأبنية لابن القطاع) : ويقال في المائدة ميدة. قاله الجرميّ وأنشد:
295
وميدة كثيرة الألوان تصنع للإخوان والجيران
كذا في (القاموس وشرحه). والخوان بضم الخاء وكسرها ما يؤكل عليه الطعام كما في (القاموس). معرّب كما في (الصحاح) و (العين). وقيل: إنه عربيّ مأخوذ من (تخونه) أي نقص حقه. لأنه يؤكل عليه فينقص. كذا في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٣]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣)
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي آمنا. لكنا نريد الأكل منها من غير مشقة تشغلنا عن عبادة الله تعالى وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا أي فلا تعتريها شبهة لا يؤمن من ورودها، لولا مثل هذه الآية. فإن انضمام علم المشاهدة إلى العلم الاستدلاليّ مما يوجب قوة اليقين وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي في دعوى النبوة، وفيما تعدنا من نعيم الجنة، مع أنها سماوية وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ أي فنشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل، ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا. ويؤمن بسببها كفارهم. أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
ثم لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك. وأنهم لا يقلعون عنه، أزمع على استدعائها واستنزالها. روى ابن أبي حاتم، أنه توضأ واغتسل ودخل مصلاه، فصلّى ما شاء الله. فلما قضى صلاته قام مستقبل القبلة. وصفّ قدميه، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وغض بصره وطأطأ برأسه، خشوعا. ثم أرسل عينيه بالبكاء. فما زالت دموعه تسيل على خديه، وتقطر من أطراف لحيته، حتى ابتلت الأرض حيال وجهه، من خشوعه. فعند ذلك دعا الله تعالى فقال: اللهمّ! ربنا. كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٤]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤)
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أي: يا الله المطلوب لكل مهمّ، الجامع للكمالات، الذي ربانا بها. ناداه سبحانه وتعالى مرتين بوصف الألوهية والربوبية، إظهارا لغاية التضرع ومبالغة في الاستدعاء أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ. أي التي
فيها ما تعدنا من نعيم الجنة تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه ونسرّ به، نحن الذين يدركونها. ومن بعدنا الذين يسمعونها فيتقوّون في دينهم. و (العيد) العائد. مشتق من (العود) لعوده في كل عام بالفرح والسرور.
وكل ما عاد عليك في وقت فهو عيد، قال الأعشى:
فوا كبدي من لا عج الحب والهوى إذا اعتاد قلبي من أميمة عيدها
كذا في (العناية).
وفي (القاموس) (العيد) بالكسر، ما اعتادك من هم أو مرض أو حزن ونحوه.
وكل يوم فيه جمع وَآيَةً مِنْكَ أي: على كمال قدرتك وصدق وعدك وتصديقك إياي وَارْزُقْنا أي: أعطنا ما سألناك وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي: خير من يرزق. لأنه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٥]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إجابة لدعوتكم فَمَنْ يَكْفُرْ أي: بي وبرسولي بَعْدُ أي بعد تنزيلها، المفيد للعلم الضروريّ بي وبرسولي مِنْكُمْ أيها المنعّمون بها فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي من عالمي زمانهم. أو من العالمين جميعا.
روى «١» ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ إلخ قالوا: لا حاجة لنا فيها، فلم تنزل.
روى «٢» منصور بن زاذان عن الحسن أيضا. أنه قال، في المائدة: أنها لم تنزل.
وروى»
ابن أبي حاتم وابن جرير عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد قال: هو مثل ضربه الله ولم ينزل شيء. أي مثل ضربه الله لخلقه. نهيا لهم عن مسألة الآيات لأنبيائه.
(١) الأثر رقم ١٣٠٢٠ من التفسير.
(٢) الأثر رقم ١٣٠٢١ من التفسير.
(٣) الأثر رقم ١٣٠١٩ من التفسير.
297
قال الحافظ ابن كثير: وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن. وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى. وليس هو في كتابهم. ولو كانت قد نزلت، لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله. وكان يكون موجودا في كتابهم متواترا، ولا أقل من الآحاد والله أعلم.
ثم قال: ولكن الجمهور أنها نزلت. وهو الذي اختاره ابن جرير. قال: لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ووعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا القول هو، والله أعلم، الصواب. كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.
ومن الآثار ما أخرجه الترمذيّ «١» عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد. فخانوا وادخروا ورفعوا لغد. فمسخوا قردة وخنازير
. قال الترمذيّ: وقد روي عن عمار، من طريق، موقوفا وهو أصح.
وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن شهاب عن ابن عباس، أن عيسى ابن مريم. قالوا له: ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء. قال فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها.
عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة. فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وقد ساق ابن كثير آثار في نزولها لا تخلو عن غربة ونكارة في سياقها، كما لا يخفى.
روى الإمام أحمد «٢» عن ابن عباس قال قالت قريش للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا ونؤمن بك. قال: وتفعلون؟ قالوا: نعم: قال فدعاه، فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبا، فمن كفر بعد ذلك منهم عذبته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين. وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال: بل باب التوبة والرحمة.
ورواه الحاكم في مستدركه وابن مردويه.
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢١- حدثنا الحسن بن قزعة. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ١/ ٢٤٤ والحديث رقم ٢١٦٦.
298
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٦]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (١١٦)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ اعلم أنا بينا أن الغرض من قوله تعالى للرسل ماذا أُجِبْتُمْ توبيخ من تمرد من أممهم. وأشد الأمم افتقار إلى التوبيخ والملامة النصارى. الذي يزعمون أنهم أتباع عيسى عليه السلام. لأن طعن سائر الأمم كان مقصورا على الأنبياء. وطعن هؤلاء الملحدة تعدى إلى جلال الله وكبريائه، حيث وصفوه بما لا يليق أن يوصف مقامه به، وهو اتخاذ الزوجة والولد. فلا جرم، ذكر تعالى أنه يعدد أنواع نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة. إشعارا بعبوديته، فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله، ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره، عليه السلام، على رؤوس الأشهاد، بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل.
إكذابا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتا للحجة على قومه فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك. وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثرهم، على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم.
تنبيهات:
الأول: روي عن قتادة: أن هذا القول يكون يوم القيامة لقوله تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ. وقال السدّيّ: هذا الخطاب والجواب. في الدنيا وصوّبه ابن جرير، قال: وكان ذلك حين رفعه إلى السماء. واحتج ابن جرير على ذلك بوجهين: أحدهما: أن الكلام بلفظ المضيّ. و (الثاني) قوله: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ.
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ.
قال الحافظ ابن كثير: وهذان الدليلان فيهما نظر. لأن كثيرا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضيّ ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ الآية: التبرؤ منهم وردّ المشيئة فيهم إلى الله تعالى. وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه. كما في نظائر ذلك من الآيات. فالذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر. فالله أعلم أنّ ذلك كائن يوم القيامة، ليدلّ على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد.
299
وقد روي بذلك حديث مرفوع، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله مولى عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة قال: سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه، أبي موسى الأشعري. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم. ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقرّ بها فيقول:
يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ الآية، ثم يقول: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فينكر أن يكون قال ذلك، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون: نعم هو أمرنا بذلك! قال: فيطول شعر عيسى عليه السلام. فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده فيجاثيهم بين يدي الله عز وجل مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ويرفع لهم الصليب وينطلق بهم إلى النار!
قال ابن كثير: وهذا حديث غريب عزيز! الثاني: إيثار قوله تعالى أُمِّي على مَرْيَمَ توبيخ للمتخذين، على توبيخ، أي مع أنك بشر تلد وتولد قبل هذا.
الثالث: توهم بعضهم أن كلمة (من دون الله) تفيد أنّ النصارى يعتقدون أن عيسى وأمه، عليهما السلام. مستقلان باستحقاق العبادة، بدلا عن الله تعالى. كما يقال: اتخذت فلانا صديقا دوني. فإن معناه أنه استبدله به، لا أنه جعله صديقا معه.
وهم لم يقولوا بذلك. بل ثلّثوا. فأجاب: بأن من أشرك مع الله غيره فقد نفاه معنى.
لأنه وحده لا شريك له، منزه عن ذلك. فإقراره بالله كلا إقرار. فيكون مِنْ دُونِ اللَّهِ مجازا عن (مع الله). ولا يخفى أن هذا تكلف. لأن توبيخهم إنما يحصل بما يعتقدونه ويعترفون به صريحا لا بما يلزمه بضرب من التأويل. فالصواب أن المراد اتخاذهما بطريق إشراكهما به سبحانه. كما في قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً [البقرة: ١٦٥]. وقوله عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ- إلى قوله تعالى- سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: ١٨]. إذ به يتأتى التوبيخ، ويتسنى التقريع والتبكيت. هذا ما حققوه هنا.
وأقول: إن كلمة (دون) في هذه الآية وأمثالها بمعنى (غير) كما حققه اللغويون. ولا تفيد، وضعا، الاستقلال والبدلية، كما توهم وسر ذكرها إفهام الشركة.
لأنه لولاها لتوهم دعوى انحصار الألوهية فيما عداه. مع أنهم لا يعتقدون ذلك. ولا
300
يفهم من نحو (اتّخذت صديقا من دوني) الاستبدال. فذاك من قرينة خارجية. وإلا فالمثال لا يعينه. لجواز إرادة اتخاذه معه كما لا يخفي. فتبصر قالَ سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن يقال هذا وينطق به ما يَكُونُ لِي أي ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق أَنْ أَقُولَ أي في حق نفسي ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي ما استقر في قلوب العقلاء عدم استحقاقي له مما يضلهم إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ استئناف مقرر لعدم صدور القول المذكور عنه عليه السلام، بالطريق البرهانيّ. فإن صدوره عنه مستلزم لعلمه تعالى به قطعا. فحيث انتفى علمه تعالى به، انتفى صدره عنه حتما. ضرورة. أن عدم اللازم مستلزم لعدم الملزوم. قاله أبو السعود تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي استئناف جار مجرى التعليل لما قبله. كأنه قيل: لأنك تعلم ما أخفيه في نفسي. فكيف بما أعلنه؟ وقوله تعالى: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ بيان للواقع، وإظهار لقصوره. أي ولا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. أفاده أبو السعود إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٧]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أي ما أمرتهم إلا بما أمرتني به. وإنما قيل: ما قُلْتُ لَهُمْ نزولا على قضية حسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام. وقوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ تفسير للمأمور به وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ. أي: رقيبا أراعي أحوالهم وأحملهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي: بالرفع إلى السماء. كما في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: ٥٥]. والتوفي: أخذ الشيء وافيا. والموت نوع منه. قال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها [الزمر: ٤٢]. وسبق في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ في (آل عمران) زيادة إيضاح على ما هنا. فتذكر كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي: الناظر لأعمالهم. فمنعت من أردت عصمته من التفوّه بذلك. وخذلت من خذلت من الضالين، فقالوا ما قالوا: وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ اعتراض تذييليّ مقرر لما قبله.
وفيه إيذان بأنه تعالى كان هو الشهيد على الكل، حين كونه عليه السلام فيما بينهم.
تنبيه:
دلت الآية على أن الأنبياء، بعد استيفاء أجلهم الدنيويّ، ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم.
وقد روى البخاري «١» هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله ﷺ فقال: يا أيها الناس! إنكم محشرون إلى الله حفاة عراة غرلا. ثم قال: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٨]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قال الحافظ ابن كثير: هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزّ وجلّ. فإنه الفعال لما يشاء لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: ٢٣]. ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله. وجعلوا لله ندّا وصاحبة وولدا. تعالى الله عما يقولون علوّا كبيرا. انتهى.
أي: إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك. ولا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك وقد عبدوا غيرك. وإن تغفر لهم فلا عجز ولا استقباح. لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب. الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم. فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل. وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد. فلا امتناع فيه لذاته، ليمتنع الترديد والتعليق ب (إن). أفاده البيضاوي.
يعني أن المغفرة، وإن كانت قطعية الانتفاء بحسب الوجود، لكنها لما كانت بحسب العقل، تحتمل الوقوع واللاوقوع، استعمل فيها كلمة (إن) فسقط ما يتوهم
(١) أخرجه البخاري في أبواب متعددة من صحيحه وأولها ما جاء في: الأنبياء، ٨- باب قوله تعالى:
وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، حديث ١٥٨٥.
302
أن تعذيبهم، مع أنه قطعيّ الوجود، كيف استعمل فيه (إن) وعدم وقوع العفو بحكم النص والإجماع.
وفي كتب الكلام: إن غفران الشرك جائز عقلا عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة. لأن العقاب حق الله على المذنب، وليس في إسقاطه مضرة.
وبالجملة: فليس قوله تعالى إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ تعريضا بسؤاله العفو عنهم. وإنما هو لإظهار قدرته على ما يريد، وعلى مقتضى حكمه وحكمته. ولذا قال: إنك أنت العزيز الحكيم، تنبيها على أنه لا امتناع لأحد عن عزته، فلا اعتراض في حكمه وحكمته.
قال الرازيّ: قال قوم: لو قال: فإنك أنت الغفور الرحيم، أشعر ذلك بكونه شفيعا لهم. فلما قال: فإنك أنت العزيز الحكيم، دل ذلك على أن غرضه تفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى، وترك التعرض لهذا الباب من جميع الوجوه.
وفي (العناية) ما ملخصه: أن ما ظنه بعضهم من أن مقتضى الظاهر الْغَفُورُ الرَّحِيمُ بدل الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كما وقع في مصحف عبد الله بن مسعود- فقد غاب عنه سر المقام. لأنه ظن تعلقه بالشرط الثاني فقط، لكونه جوابه. وليس كما توهم. بل هو متعلق بهما. ومن له الفعل والترك عزيز حكيم. فهذا أنسب وأدق وأليق بالمقام، أو هو متعلق بالثاني، وإنه احتراس، لأن ترك عقاب الجاني قد يكون لعجز ينافي القدرة، أو لإهمال ينافي الحكمة. فبيّن أن ثوابه وعقابه مع القدرة التامة والحكمة البالغة.
تنبيه:
قال الحافظ ابن كثير: هذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب. وقد ورد في الحديث أن النبيّ ﷺ قام بها ليلة إلى الصباح يرددها.
روى الإمام «١» أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى النبيّ ﷺ ذات ليلة.
فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلما أصبح قلت: يا رسول! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت. تركع بها وتسجد بها؟ قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها. وهي نائلة، إن شاء الله، لمن لا يشرك بالله شيئا.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ١٤٩.
303
وأخرجه النسائي أيضا.
وروى الإمام أحمد «١» أيضا عن أبي ذر قال: قام رسول الله ﷺ ليلة من الليالي في صلاة العشاء. فصلى بالقوم ثم تخلف أصحاب له يصلون. فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله. فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى. فجئت فقمت خلفه فأومأ إليّ بيمينه، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي. وخلفه، فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله. فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلو من القرآن ما شاء الله أن نتلو. وقام بآية من القرآن يرددها، حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا اومأت إلى عبد الله بن مسعود. أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود: لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ، فقلت: بأبي وأمي! قمت بآية من القرآن ومعك القرآن. لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه. قال:
دعوت لأمتي. قلت: فماذا أجبت؟ أو ماذا رد عليك؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة، تركوا الصلاة. قلت: أفلا أبشر الناس، قال: بلى. فانطلقت معنقا قريبا من قذفة بحجر. فقال عمر: يا رسول الله؟ إنك إن تبعث بهذا نكلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع. فرجع.
وتلك الآية إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبيّ ﷺ تلا قول الله عزّ وجلّ في إبراهيم رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي...
الآية [إبراهيم: ٣٦].
وقول عيسى إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
فرفع يديه وقال: اللهم! أمتي أمتي. وبكى. فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد. وربك أعلم، فاسأله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله ﷺ بما قال، وهو أعلم. فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له:
إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك.
ثم ختم تعالى حكاية ما حكى مما يقع يوم يجمع الله الرسل، عليهم الصلاة والسلام، مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله بقوله تعالى:
(١) أخرجه في المسند ٥/ ١٧٠.
304
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١١٩]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩)
قالَ اللَّهُ هذا أي: يوم القيامة يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لأنه يوم الجزاء.
والمراد ب (الصّادقين) المستمرون على الصدق في الأمور الدينية، التي معظمها التوحيد، الذي الآية في صدده. وفيه شهادة بصدق عيسى عليه السلام فيما قاله، جوابا عن قوله: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الآية. وقوله تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تفسير للنفع المذكور. ولذا لم يعطف عليه، أي: لهم بساتين من غرس صدقهم تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي: من تحت شجرها وسررها الْأَنْهارُ أنهار الماء واللبن والخمر والعسل خالِدِينَ فِيها مقيمين لا يموتون ولا يخرجون أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لصدقهم وَرَضُوا عَنْهُ تحقيقا لصدقهم. فلم يسخطوا لقضائه في الدنيا ذلِكَ أي:
الخلود والرضوان الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أي: الكبير الذي لا أعظم منه. كما قال تعالى:
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات: ٦١]. وكما قال تعالى: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ [المطففين: ٢٦]، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المائدة (٥) : آية ١٢٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ تحقيق للحق وتنبيه على كذب النصارى وفساد ما زعموا في المسيح وأمه. وذلك من تقديم الظرف. لأنه المالك لا غيره. فلا شريك له. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي: مبالغ في القدرة. فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته ومشيئته. فلا نظير له ولا وزير. لا إله غيره ولا رب سواه.
روى ابن وهب عن عبد الله بن عمرو، قال: آخر سورة أنزلت سورة المائدة.
أخرجه الترمذي «١» والحاكم. وأخرجا أيضا عن عائشة قالت: آخر سورة نزلت المائدة والفتح- كذا في (الإتقان) -.
كمل ما قدره تعالى على عبيده من محاسن تأويل هذه السورة الشريفة بعد عصر يوم الجمعة في ١٩ رمضان عام ١٣٢٠ في السدّة اليمنى العليا من جامع السنانية.
والحمد لله ربّ العالمين
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥- سورة المائدة، ٢٣- حدثنا قتيبة.
305
سورة الأنعام
وهي مكية. وهي مائة وخمس وستون آية.
روى العوفيّ وعكرمة وعطاء عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الأنعام بمكة.
روى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكية، نزلت جملة واحدة، نزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات منها، فإنها مدنيات، وهي قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ [الأنعام: ١٥١- ١٥٣]. إلى آخر الثلاث آيات. وقوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١]. الآية. وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: ٢١- ٢٢] إلى آخر الآيتين.
وذكر مقاتل نحو هذا وزاد آيتين، وهما قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ [الأنعام: ١١٤]. الآية. وقوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام: ٢٠]. الآية.
وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة أنهما قالا: إنها مكية إلا آيتين نزلتا بالمدينة، قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١]. وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ [الأنعام: ١٤١] الآية.
قال البيهقيّ في (الدلائل) : في بعض السور التي نزلت بمكة آيات نزلت بالمدينة، فألحقت بها. وكذا قال ابن الحصار: كل نوع من المكيّ والمدنيّ، منه آيات مستثناة. قالا: إلا أن من الناس من اعتمد في الاستثناء على الاجتهاد دون النقل. ثم ناقش هذه الآيات، قال: ولا يصح به نقل، خصوصا ما ورد أنها نزلت جملة.
وردّ عليه السيوطيّ بأنه صح النقل عن ابن عباس، باستثناء: قُلْ تَعالَوْا
306
[الأنعام: ١٥١- ١٥٣]. الآيات الثلاث، والبواقي: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام: ٩١]، لما أخرجه ابن أبي حاتم أنها نزلت في مالك بن الصيف. وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام: ٢١]. نزلتا في مسيلمة، وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ [الأنعام: ٢٠]. وقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [الأنعام: ١١٤].
وأخرج أبو الشيخ عن الكلبيّ قال: نزلت الأنعام كلها بمكة، إلا آيتين نزلتا بالمدينة في رجل من اليهود، وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: ٩١]- كذا في (اللباب) و (الإتقان). ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبرانيّ عن ابن عباس قال: نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا، جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك، يجأرون بالتسبيح.
وروى السدّي عن ابن مسعود قال: نزلت سورة الأنعام يشيّعها سبعون ألفا من الملائكة. وروي نحوه من وجه آخر عنه أيضا.
روى الحاكم في (مستدركه) عن جابر قال: لما نزلت سورة الأنعام سبّح رسول الله ﷺ ثم قال: لقد شيّع هذه السورة من الملائكة ما سدّ الأفق
. ثم قال: صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت سورة الأنعام معها موكب الملائكة سدّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج، ورسول الله يقول: سبحان الله العظيم؟ سبحان الله العظيم!
وأخرج أيضا عن ابن عمر: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نزلت عليّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشيّعها سبعون ألفا من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد.
قال الرازيّ: قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضيلة:
أحدهما- أنها نزلت دفعة واحدة.
والثاني- أنها شيعها سبعون ألفا من الملائكة. والسبب فيه أنها مشتملة على دلائل التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد، وإبطال مذاهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة. وأيضا فإنزال ما يدل على الأحكام، قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى قدر حاجتهم، وبحسب الحوادث والنوازل. وأما ما يدل على علم الأصول، فقد أنزله الله تعالى جملة واحدة، وذلك
307
يدل على أن تعلم علم الأصول واجب على الفور، لا على التراخي.
وأخرج «١» الدارميّ في (مسنده) عن عمر رضي الله عنه قال: الأنعام من نواجب القرآن.
وفي القاموس: نجائب القرآن أفضله ومحضه. ونواجبه لبابه. انتهى.
وسميت ب (سورة الأنعام)، لأن أكثر أحكامها، وجهالات المشركين فيها، وفي التقرب بها إلى أصنامهم- مذكورة فيها.
(١) أخرجه الدارمي في مسنده في: فضائل القرآن، ١٧- باب فضائل الأنعام والسور: عن عمر قال:
الأنعام من نواجب القرآن.
308
Icon