تفسير سورة الماعون

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الماعون من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٧) [سورة الماعون (١٠٧) : الآيات ١ الى ٧]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧)
التفسير:
«أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟».
خطاب للنبى، صلوات الله وسلامه عليه، ولكل من هو أهل للخطاب، ولتلقّى العبرة والعظة منه..
والاستفهام هنا يراد به إلفات الأنظار والعقول إلى هذا الإنسان الذي يكذب بالدين.. إنه إنسان عجيب، لا ينبغى لعاقل أن يفوته النظر إلى هذا الكائن العجيب وتلك الظاهرة النادرة! ففيه عبرة لمن يعتبر، وفيه ملهاة لمن يريد أن يتلّهى..
والدين: هو الدينونة، أي الحساب والجزاء فى الحياة الآخرة..
والذين يكذبون بالدينونة، والبعث، والحساب، والجنة، والنار، لا يؤمنون بالله، وإن آمنوا به فهم لا يوقرونه، ولا يعرفون قدره. ومن هنا فهم
1684
لا يعلمون حسابا للقاء الله، ولا يقدّمون شيئا لليوم الآخر، فإنّ من خلت نفسه من شعور الثواب أو العقاب من الجهة التي يتعامل معها، فإنه لا يلقاها إلا فى تراخ وفتور، وعدم مبالاة.
وقوله تعالى:
«فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ».
الفاء واقعة فى جواب شرط مقدر، يدل عليه الاستفهام فى قوله تعالى:
«أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» ؟ أي إذا لم تكن رأيته، فها هو ذا، فانظر إليه، وشاهد أحواله، فهو ذلك الذي يدعّ اليتيم..
والإشارة مشاربها إلى هذا الذي يكذب بالدين.. إنه ذلك الذي «يَدُعُّ الْيَتِيمَ» أي يقهره، ويذله، وينزع عنه لباس الأمن والطمأنينة إذا وقع ليده، وعاش فى ظله.. إن اليتيم ضعيف، عاجز، أشبه بالطير المقصوص الجناح، يحتاج إلى اللطف، والرعاية، والحنان.. فإذا وقع ليد إنسان قد خلا قلبه من الرحمة، وجفت عواطفه من الحنان والعطف- كان أشبه بفرخ الطير وقع تحت مخالب نسر كاسر، فيموت فزعا وخوفا، قبل أن يموت تمزيقا ونهشا..
وقوله تعالى:
«وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ».
أي لا يدعو إلى إطعام المسكين، ولا يجعل من رسالته فى الناس إطعام الجياع.. فإن من لا يحمل همّ الجياع، ولا يدعو الناس إلى إطعامهم، لا يجد من نفسه الدافع الذي يدفعه إلى إطعامهم من ذات يده.. ذلك أن الذي يعرف عنه فى الناس أنه يحضّ على هذه المكرمة وينادى بها فيهم- يستحى أن يدعو إلى فعل ولا يفعله..
1685
وإنك لن تجد بخيلا أبدا يدعو إلى الإحسان، لأن كلمة الإحسان تفزعه، حتى لو نطق بها زورا ويهتانا.. فإذا دعا داع إلى الإحسان كان معنى هذا أنه يمكن أن يكون فى المحسنين يوما ما.. وهذا هو السرّ فى احتفاء القرآن الكريم بالحضّ على فعل المكارم، فمن حضّ على مكرمة، وجعلها دعوة له، كان قمينا بأن يكون من أهلها عملا، بعد أن كان من دعاتها قولا..
وإذا جاز لإنسان أن يدعّ اليتيم، ويزعج أمنه، أو يضن على جائع بلقمة يتبلغ بها- وهو غير جائز، ولا مقبول على أي حال- فإنه لا يجوز ولا يقبل أن يكون ذلك من أحد من قريش، الذين أطعمهم الله من جوع، وآمنهم من خوف، من بين العرب جميعا..
إنهم يشهدون ذلك فى كل لحظة من لحظات حياتهم: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» (٦٧: العنكبوت).
وقوله تعالى:
«فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ».
مناسبة هذه الآيات لما قبلها، هى أن الصلاة فى حقيقتها نور يضىء ظلام القلوب، ويجلّى غشاوة النفوس، لأنها أوثق الصلات التي تصل العبد بربه، وتقرّبه منه، وتعرضه لنفحات الرحمة، فتشيع فى كيانه الحب والحنان، حيث يضفيهما على عباد الله، وخاصة الضعفاء والفقراء، الذين وصّى الله سبحانه وتعالى يهم الأقوياء والأغنياء، واسترعاهم إياهم.
والصلاة لاتثمر هذا الثمر الطيب، ولا تؤتى هذا الأكل الكريم، إلا إذا كانت خالصة لله، يشهد فيها المصلّى جلال خالقه، وعظمة ربه.. وذلك
1686
لا يكون حتى تصدق النية، وتخلص الرغبة، ويعظم اليقين فى لقاء الله، والثقة فى أنّ من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
والذين يسهون عن الصلاة، أي يغفلون عنها، ولا يشغلون أنفسهم بها، وبانتظار أوقاتها ليهيئوا أنفسهم لها، ويعدوها للقاء الله فى محرابها- هؤلاء ليسوا مصلين فى الحقيقة، وإن ركعوا، وسجدوا، لأن صلاتهم تلك إنما تقع عفوا، وتجىء حسب ما اتفق، كأن يكونوا فى جماعة، وقد أذّن المؤذن للصلاة، فيمنعهم الحياء، أو الخوف من قالة السوء فيهم أن تصلى الجماعة ولا يصلون، أو أنهم يصلون فى الأوقات التي لا يشغلهم فيها شىء، ولو كان تافها.
أما إذا شغلهم عمل، أو لهو، فلا يذكرون الصلاة، ولا يؤثرونها على ما بين أيديهم من عمل، أو لهو، حتى لكأن الصلاة نافلة من نوافل الحياة، لا قدر لها ولا وزن! فهذا هو السهو، وهؤلاء هم الساهون عن الصلاة الذين توعدهم الله سبحانه وتعالى بالويل، لأنهم يراءون الناس، وينافقونهم أو ينافقون أنفسهم بها، وهم لهذا لا ينتفعون بالصلاة، فلا يأتمرون منها بمعروف، ولا ينتهون بها عن منكر..
وقوله تعالى: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ».
الماعون: من العون، وهو ما يجد فيه الإنسان عونا على ما يلمّ به من حاجة وعوز..
والمراد بالماعون هنا الزكاة، لأنها أوسع الأبواب، وأجداها فى إسداء العون، للفقير، والمسكين، وابن السبيل..
فالويل إنما يتجه الوعيد به هنا، إلى الذين لا يقيمون الصلاة على وجهها، ولا يؤدّون الزكاة على تمامها وكمالها، طيبة بها أنفسهم، منشرحة بها صدورهم..
1687
فهم يمنعون الزكاة ما استطاعوا منعها، ويؤدونها إذا قام عليهم سلطان قاهر، يرصد أموالهم، ويستخرج منها زكاتهم، كما يستخرج رجال الأمن المال المسروق من جيب السارق!! وفى قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ» - وفى جعل هاتين الكلمتين آية ذات دلالة مستقلة، مستوفية أركان الجملة المفيدة من مبتدأ وخبر- فى هذا إعجاز من إعجاز البلاغة القرآنية، حيث تهزّ هاتين الكلمتين أقطار النفس، وتستثير دواعى الفكر، حين يجد المرء نفسه بين يدى هذه الحقيقة الغريبة المذهلة:
«ويل للمصلين» !! وكيف يكون الويل للمصلين، والصلاة عماد الدين، وركنه المتين، وعليها يقوم بناؤه، وبها تشتد أركانه، وتثبت دعائمة؟ أهذا ممكن أن يكون؟ ويجىء الجواب نعم! وكيف؟ إنها صلاة الساهين عنها، المستخفين بها، الذين يأتونها رياء ونفاقا.. وإن الذين لا يؤدون الصلاة أصلا، ممن يؤمنون بالله، لهم أحسن حالا، من هؤلاء المصلين المرائين، لأن الذين لا يؤدونها أصلا، لم يتعاملوا بالصلاة بعد، ولم يزنوها بهذا الميزان البخس، ولو أنهم صلّوا فقد يقيمونها على ميزان يعرف قدرها، ويبين عن جلالها، وعظمة شأنها.. أما الذي يصلى ساهيا عن الصلاة متغافلا عنها، مستخفّا بها- فقد بان قدر الصلاة عنده ووزنها فى مشاعره.. وهو قدر هزبل، ووزن لا وزن له، ومن هنا كان جزاؤه هذا الوعيد بالويل والعذاب الشديد..
1688
Icon