تفسير سورة المنافقون

القطان
تفسير سورة سورة المنافقون من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

المنافق: هو من يُظهر الايمان ويبطن الكفر. جنة: بضم الجيم، وقاية. طبع: ختم عليها. لا يفقهون: لا يعلمون. تعجبك اجسامهم: لصباحتها وتناسُب اعضائها. تسمع لقولهم: لفصاحتهم وحسن حديثهم. خشُب مسندة: جمع خشبة، يعني انهم أجسام فارغة لا حياة ليها. يحسبون كل صيحة عليهم: فهم لشعورهم بالذنب وبحقيقة حالهم، يظنون أن كل صوت او حركة عليهم. قاتلَهم الله: لعنهم الله وطردهم من رحمته.
يؤفكون: يصرفون عن الحق. لوَّوا رؤوسهم: أمالوها استهزاء. يصدّون: يعرِضون.
لقد وصف الله تعالى المنافقين هنا بأوصاف قبيحة في منتهى الشناعة، فهم كذّابون يقولون غير ما يعتقدون، قد تستّروا بأيمانهم، يحلِفون كذبا بالله سَتراً لنفاقهم وحقناً لدمائهم، وهم يصدّون الناس عن الاسلام، ويأمرونهم أن لا ينفقوا على المسلمين. وانهم جُبناء، فرغم ضخامة أجسامهم، وفصاحة ألسنتهم يظلون في خوف دائم، يظنّون كل صيحة عليهم.
ولذلك كشف أمرهم هنا بوضوح فقال تعالى:
﴿إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾.
فالله تعالى يخبر الرسول الكريم أن المنافقين عندما يأتون اليه ويحلفون عنده بانهم مؤمنون به - يكونون غير صادقين، والله يعلم ان سيدنا محمداً رسول الله، ولذلك أكد بيان كذبهم بقوله:
﴿والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ﴾
كذبوا فيما أخبَروا به، لأنهم لا يعتقدون ما يقولون، ﴿يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٧].
ثم بين انهم يحلفون كذباً بأنهم مؤمنون حتى يصدّقهم الرسول الكريم، ومن يغتَرُّ بهم من المؤمنين.
﴿اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾
جعلوا أيمانهم الكاذبة وقايةً وستراً لهم من افتضاح امرهم، فصدوا الناس عن سبيل الله. فما أقبح ما هم عليه من الكفر والكذب!!
ثم بين الله تعالى انهم آمنوا بالاسلام قولاً ظاهرا، ولكنهم كفروا به عملاً، فطبع الله على قلوبهم ﴿فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾.
ثم وصف هيئاتهم الظاهرة والباطنة، فأجسامُهم في الظاهر حسنة تُعجِب الناس، ومنطقهم حسن، ولكلامهم حلاوة، أما في الباطن فهم خُشُبٌ لا فائدة فيها، اشباح بلا ارواح، فسدت بواطنهم، وحسنت ظواهرهم.
ثم وصفهم بالجبن والذلة اذا سمعوا اي صوت او حركة ظنّوا انهم المقصودون، وان أمرهم قد افتُضِح: ﴿يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ وأنهم هالكون لا محالة. ﴿هُمُ العدو فاحذرهم﴾ ايها الرسول ولا تأمنهم ابدا.
ثم زاد في ذمهم وتوبيخهم فقال:
﴿قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ لعنهم الله وطردَهم من رحمته كيف يُصرَفون عن الحق الى ما هم عليه من النفاق.
ولما افتضح امرهم ونزل القرآن بصفتهم - جاءهم اقرباؤهم، وقالوا لهم: افتضحتم بالنفاق، فتوبوا الى الله واذهبوا الى الرسول واطلبوا ان يستغفر لكم، فأمالوا رؤوسهم استهزاءً واستكبارا، ولم يقبلوا ذلك.
ثم بين الله ان هؤلاء المنافقين لا فائدة منهم، ولن ينفع معهم أيُّ شيء بقوله تعالى: ﴿سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾.
فالاستغفار وعدمه سِيّان، لا يُجديهم نفعا، لأن الله كَتَبَ عليهم الشقاء، بما كسبتْ أيديهم.
قراءات:
قرأ ابن كثير وابو عمرو والكسائي: خشب باسكان الشين. والباقون: خشب بضم الخاء والشين. وقرأ نافع: لووا رؤوسهم بفتح الواو الأولى بلا تشديد، والباقون: لووا رؤوسهم بتشديد الواو الاولى المفتوحة.
حتى ينفضّوا: حتى يتفرقوا. ليُخرجنّ الاعزُّ منها الأذلَّ: يعني ان المنافقين هم اصحاب العزة، والمسلمين هم الاذلاء كما يزعمون. لولا أخّرتيني: هلاّ أخّرتني.
عندما غزا رسولُ الله ﷺ بني المصطَلَق (وهم قوم من خزاعة من القحطانيين) وهاجمهم على ماءٍ لهم يقال له المريسيع من ناحية قديد قرب الساحل - هزمهم وساق إبلهم واموالهم ونساءهم سبايا. وكان في تلك الغزوة رأس المنافقين عبد الله بن أُبَيّ. وقد وقع شجارٌ بين غلام لعمر بن الخطاب وغلام لعبد الله بن ابي، وكاد يقع شر كبير بين المهاجرين والانصار لولا ان تدخّل الرسول الكريم وحسم الخلاف وسار بالناس باتجاه المدينة.
في هذه الاثناء قال عبد الله بن ابي: لقد كاثَرنا المهاجرون في ديارنا، واللهِ ما نحن وهم الا كما قال المثل: «سَمِّنْ كَلبك يأكلك» أما واللهِ لئن رجعنا الى المجينة ليُخرجنَّ الأعزُّ منها الأذل، ثم قال لأتباعه: لو أمسكتم عن هذا وذويه فضلَ الطعام لم يركبوا رقابكم، فلا تنفِقوا عليهم حتى ينفضّوا من حول محمد.
فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ، فقال عمر: دعني يا رسول الله أضرب عنقَ هذا المنافق، فقال له: فكيف اذا تحدّث الناس أن محمداً يقتل اصحابه؟
ثم قال رسول الله لعبد الله بن أُبي: أنت صاحبُ هذا الكلام الذي بلغني، قال: والله الذي انزل عليك الكتابَ ما قلتُ شيئا من ذلك، وان الذي بلَّغك لكاذب. فنزلت هذه الآيات.
﴿هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ﴾.
هؤلاء المنافقون - عبد الله بن ابي وأتباعه - يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله من المؤمنين حتى يتفرقوا عنه، ﴿وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السماوات والأرض﴾ ولكنهم نسوا ان الله هو الرازق، وله جميع هذا الكون وما فيه من ارزاق يعطيها من يشاء، ﴿ولكن المنافقين لاَ يَفْقَهُونَ﴾ لجهلهم بسنن الله في خلقه، وانه كفل الارزاق لعباده في اي مكان كانوا متى عملوا وجدّوا في الحصول عليها.
وهم الذين ﴿يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل﴾ يعني بذلك عبد الله بن أُبي ومن معه من المنافقين، ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ فالله له العزة والغلبة، ولمن اعزه الله من الرسول الكريم والمؤمنين، ﴿ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ﴾.
روي ان عبد الله بن عبد الله بن أُبي، وكان من خيار الصحابة المؤمنين عندما اشرف على المدينة وقف وسلّ سيفه وقال لابيه: لله عليَّ ان لا أغمده حتى تقول: محمد الأعز وأنا الأذل. فلم يبرح حتى قال عبد الله بن ابيّ ذلك.
وبعد ان بين حالَ المنافقين وفضحهم وكشف دسائسهم ومؤامراتهم اتجه الى المؤمنين يؤدبهم بأدب القرآن، ويذكّرهم بان الاموال والاولاد والدنيا بأسرها لا قيمة لها من غير إيمان خالص، وانفاق في سبيل الله، وان كل انسان له اجل لا بد منتهٍ اليه، والله خبير بما يعملون.
337
فعلى المؤمنين ان لا يكونوا مثل المنافقين، فلا تلهيهم اموالهم ولا اولادهم عن ذكر الله آناء الليل واطراف النهار، وعليهم ان يؤدوا ما فُرض عليهم من العبادات. ثم أمرهم ان ينفقوا اموالهم في سبيل الله، ولا يؤخروا ذلك حتى يحل الموت فيندموا حيث لا ينفع الندم، فيقول احدهم: ﴿رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين﴾. ولكل نفس اجل لا تعدوه، وعمر لا يزيد ولا ينقص ﴿وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ﴾ فعليكم ان تستعدوا للرحيل قبل حلول الأجل، وهيئوا الزاد ليوم المعاد. ﴿فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى﴾ [البقرة: ١٩٧].
ثم حذّرنا جميعا وانذرنا بانه رقيب على الجميع في كل ما يأتون ويذرون فقال: ﴿والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. وهكذا يربينا الله تعالى بهذا القرآن الكريم.
قراءات:
قرأ الجمهور: فاصدق وأكن بجزم أكن على محل أصدق. كان الكلام هكذا: ان اخرتني أصدَّق واكن. وقرأ ابو عمرو وابن محيصن ومجاهد: واكون بانلصب عطفا على اصدق، والله أعلم، والحمد لله وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
338
Icon