تفسير سورة القيامة

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة القيامة من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ
سورة القيامة
مكية وآياتها أربعون

لَهُ" (١) وَسُهَيْلٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَطَعِيُّ، أَخُو حَزْمٍ الْقَطَعِيِّ (٢). سُورَةُ الْقِيَامَةِ مَكِّيَّةٌ (٣) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢) ﴾
﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ قَرَأَ الْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ: "لَأُقْسِمُ" الْحَرْفُ الْأَوَّلُ بِلَا أَلِفٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ. ﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ بِالْأَلِفِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ [اللَّوَّامَةِ] (٤) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا وَ"لَا" صِلَةَ فِيهِمَا أَيْ أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: هُوَ تَأْكِيدٌ لِلْقِسْمِ كَقَوْلِكَ: لَا وَاللَّهِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: "لَا" رَدَّ، كَلَامَ الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٥).
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: يَقُولُونَ: الْقِيَامَةَ، وَقِيَامَةُ أَحَدِهِمْ مَوْتُهُ. وَشَهِدَ عَلْقَمَةُ جِنَازَةً فَلَمَّا دُفِنَتْ قَالَ: أَمَّا هَذَا فَقَدَ قَامَتْ قِيَامَتُهُ.
﴿وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا تَصْبِرُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: اللَّوَّامَةُ: الْفَاجِرَةُ.
(١) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة المدثر - ٩ / ٢٤٧-٢٤٨ وقال: "هذا حديث حسن غريب، وسهيل ليس بالقوي في الحديث وقد تفرد سهيل بهذا الحديث عن ثابت" والنسائي في التفسير: ٢ / ٤٧٥، وابن ماجه في الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة برقم: (٤٢٩٩) : ٢ / ١٤٣٧، والدارمي في الرقائق، باب في تقوى الله: ٢ / ٣٠٢، وأبو يعلى في المسند: ٣ / ٣٤٠، والإمام أحمد: ٣ / ١٤٢، وصححه الحاكم في المستدرك: ٢ / ٥٠٨، ورواه الخطيب في تاريخ بغداد: ٥ / ٥٢. وفيه سهيل القطعي، قال الحافظ في التقريب: ضعيف من السابعة.
(٢) وفي نسخة "ب" القطيعي وفي "أ" القطعي وهو الصحيح. واسمه سهيل بن مهران أخو حزم القطعي ويقال عبد الله القطعي أبو بكر البصري روى عن ثابت وعنه هدبة بن خالد. انظر: تهذيب التهذيب: ٤ / ٢٦١، ميزان الاعتدال: ٢ / ٢٤٤، الضعفاء والمتروكين للنسائي، المجروحين: ١ / ٣٥٣، الجرح والتعديل: ٤ / ٢٤٧.
(٣) أخرج ابن الضريس، والنحاس، وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" من طرق عن ابن عباس قال: نزلت سورة القيامة، وفي لفظ: نزلت "لا أقسم بيوم القيامة" بمكة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: نزلت سورة "لا أقسم" بمكة. انظر: الدر المنثور: ٨ / ٣٤٢.
(٤) ساقط من "أ".
(٥) راجع: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٠٧.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وَتَقُولُ: لَوْ فَعَلْتُ، وَلَوْ لَمْ أَفْعَلْ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَهِيَ تَلُومُ نَفْسَهَا، إِنْ كَانَتْ عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا ازْدَدْتُ، وَإِنْ عَمِلَتْ شرًّا قَالَتْ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ (١) قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ -والله -ما تاره إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ، مَا أَرَدْتُ بِكَلَامِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ وَلَا يُعَاتِبُهَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ تَلُومُ نَفْسَهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي أَمْرِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا.
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (٣) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤) ﴾
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ نَزَلَتْ فِي عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ، حَلِيفِ بَنِي زُهْرَةَ، خِتْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ الثَّقَفِيِّ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي جَارِيَ السُّوءَ، يَعْنِي: عَدِيًّا وَالْأَخْنَسَ. وَذَلِكَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ حَدِّثْنِي عَنِ الْقِيَامَةِ مَتَى تَكُونُ وَكَيْفَ أَمْرُهَا وَحَالُهَا؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ وَلَمْ أؤمن [بك] (٢) أو يجمع اللَّهُ الْعِظَامَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ" (٣) يعني الكافر ﴿أَن لن نَجْمَعَ عِظَامَهُ﴾ بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالْبِلَى فَنُحْيِيهِ. قِيلَ: ذَكَرَ الْعِظَامَ وَأَرَادَ نَفْسَهُ لِأَنَّ الْعِظَامَ قَالِبُ النَّفْسِ لَا يَسْتَوِي الْخَلْقُ إِلَّا بِاسْتِوَائِهَا. وَقِيلَ: هُوَ خَارِجٌ عَلَى قَوْلِ الْمُنْكِرِ أو يجمع اللَّهُ الْعِظَامَ كَقَوْلِهِ: "قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ" (يس-٧٨). ﴿بَلَى قَادِرِينَ﴾ أَيْ نَقْدِرُ، اسْتِقْبَالٌ صُرِفَ إِلَى الْحَالِ، قَالَ الْفَرَّاءُ "قَادِرِينَ" نُصِبَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ نَجْمَعَ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ أَتَحْسَبُ أَنْ لَا نَقْوَى عَلَيْكَ؟ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَقْوَى مِنْكَ، يُرِيدُ: بَلْ قَادِرِينَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَا (٤)
مَجَازُ الْآيَةِ: بَلَى نَقْدِرُ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ وَعَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ ﴿عَلَى (٥) أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ﴾ أنامله، فنجعل ١٨٠/أأَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا كَخُفِّ الْبَعِيرِ وَحَافِرِ الْحِمَارِ، فَلَا
(١) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٠٨.
(٢) في "أ" به.
(٣) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص: (٥١٥). قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (١٨٠) :"ذكره الثعلبي والبغوي والواحدي بغير إسناد".
(٤) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٠٨.
(٥) لم ترد في النسختين وهي من الآية.
يَرْتَفِقُ بِهَا [بِالْقَبْضِ] (١) وَالْبَسْطِ وَالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا. هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ: ظَنَّ الْكَافِرُ أَنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ، بَلَى نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُعِيدَ السُّلَامَيَاتِ عَلَى صِغَرِهَا، فَنُؤَلِّفُ بَيْنَهَا حَتَّى نُسَوِّيَ الْبَنَانَ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى جَمْعِ صِغَارِ الْعِظَامِ فَهُوَ عَلَى جَمْعِ كِبَارِهَا أَقْدَرُ (٢)
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (٥) يَسْأَلُ أَيْانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (٦) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) ﴾
﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ يَقُولُ لَا يَجْهَلُ ابْنُ آدَمَ أَنَّ رَبَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ لَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ أَمَامَهُ، أَيْ: يَمْضِي قُدُمًا [عَلَى] (٣) مَعَاصِي اللَّهِ مَا عَاشَ رَاكِبًا رَأْسَهُ لَا يَنْزِعُ عَنْهَا وَلَا يَتُوبُ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالسُّدِّيِّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ" يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ، فَيَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ، سَوْفَ أَعْمَلُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَلَى شَرِّ أَحْوَالِهِ وَأَسْوَأِ أَعْمَالِهِ (٤).
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْأَمَلُ، يَقُولُ: أَعِيشُ فَأُصِيبُ مِنَ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا [وَلَا يَذْكُرُ الْمَوْتَ] (٥).
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ زَيْدٍ: يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. وَأَصْلُ "الْفُجُورِ" الْمَيْلُ، وَسُمِّي الْفَاسِقُ وَالْكَافِرُ: فَاجِرًا، لِمَيْلِهِ عَنِ الْحَقِّ. ﴿يَسْأَلُ أَيْانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ أَيْ مَتَى يَكُونُ [ذَلِكَ] (٦) تَكْذِيبًا بِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ "بَرَقَ" بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ.
قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: شَخَصَ الْبَصَرُ فَلَا يَطْرِفُ مِمَّا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي كَانَ يُكَذِّبُ بِهَا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِنْدَ رُؤْيَةِ جَهَنَّمَ بَرِقَ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ.
(١) في "ب" في القبض.
(٢) انظر: القرطين: ٢ / ١٩٣.
(٣) في "ب" في.
(٤) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٠٨.
(٥) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(٦) زيادة من "ب".
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْخَلِيلُ "بَرِقَ" -بِالْكَسْرِ -أَيْ: فَزِعَ وَتَحَيَّرَ لِمَا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ (١) وَ"بَرَقَ" بِالْفَتْحِ، أَيْ: شَقَّ عَيْنَهُ وَفَتَحَهَا، مِنَ الْبَرِيقِ، وَهُوَ التَّلَأْلُؤُ (٢)
﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (١٠) كَلَّا لَا وَزَرَ (١١) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) ﴾
﴿وَخَسَفَ الْقَمَرُ﴾ أَظْلَمَ وَذَهَبَ نُورُهُ وَضَوْءُهُ. ﴿وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ﴾ أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ. وَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي ذَهَابِ الضِّيَاءِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: يُجْمَعَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونَانِ نَارَ اللَّهِ الْكُبْرَى. ﴿يَقُولُ الْإِنْسَانُ﴾ أَيِ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ ﴿يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ﴾ أَيْ: الْمَهْرَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْفِرَارُ. [وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ، أَيْ: أَيْنَ الْفِرَارُ] (٣) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كَلَّا لَا وَزَرَ﴾ لَا حِصْنَ وَلَا حِرْزَ وَلَا مَلْجَأَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا جَبَلَ وَكَانُوا إذا فزعوا لجؤوا إِلَى الْجَبَلِ فَتُحَصَّنُوا بِهِ. [فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى] (٤) لَا جَبَلَ يَوْمَئِذٍ يَمْنَعُهُمْ. ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ﴾ أَيْ مُسْتَقَرُّ الْخَلْقِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، نَظِيرُهُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: "إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى" (الْعَلَقِ-٨) "وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ" (آلِ عِمْرَانَ-٢٨) (النُّورِ-٤٢) (فَاطِرٍ-١٨).
وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُنْتَهَى، نَظِيرُهُ: "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى" (النَّجْمِ-٤٢). ﴿يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: "بِمَا قَدَّمَ" (٥) ] قَبْلَ مَوْتِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمَا أَخَّرَ: بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُ بِهَا.
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "بِمَا قَدَّمَ" مِنَ الْمَعْصِيَةِ "وَأَخَّرَ" مِنَ الطَّاعَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَأَخَّرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فَضَيَّعَهُ.
(١) راجع معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢٠٩.
(٢) قال ابن جرير: ٢٩ / ١٧٩ "أولى القراءتين في ذلك عندنا بالصواب كسر الراء (فإذا برق) بمعنى: فزع فشق وفتح من هول القيامة وفزع الموت، وبذلك جاءت أشعار العرب. أنشدني بعض الرواة عن أبي عبيدة الكلابي:
لما أتاني ابن صبيح راغبا أعطيته عيساء منها فبرق.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٤) في "ب" فقال: قل.
(٥) ما بين القوسين ساقط من "أ".
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بِمَا قَدَّمَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ وَمَا أَخَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ أَمْوَالِهِ لِنَفْسِهِ وَمَا أَخَّرَ خَلْفَهُ لِلْوَرَثَةِ (١)
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (١٥) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) ﴾
﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلٌ، وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ رُقَبَاءُ يَرْقُبُونَهُ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ، وَهِيَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ (٢) وَدَخَلَ الْهَاءُ فِي الْبَصِيرَةِ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنْسَانِ هَاهُنَا جَوَارِحُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ "بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" يَعْنِي: لِجَوَارِحِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ: "وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ" (الْبَقَرَةِ-٢٣٣) أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ أَيْ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَطَاءٌ: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ شَاهَدٌ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْهَاءُ فِي "بَصِيرَةٍ" لِلْمُبَالِغَةِ، دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الْإِسْرَاءِ-١٤). ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ يَعْنِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ الشَّاهِدُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَجَادَلَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ" (غَافِرٍ-٥٢) وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ: قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوِ اعْتَذَرَ فَعَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ يُكَذِّبُ عُذْرَهُ وَمَعْنَى الْإِلْقَاءِ: الْقَوْلُ، كما قال: "وألقوا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ" (النَّحْلِ-٨٦). وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: "وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ" يَعْنِي: وَلَوْ أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ. وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ السِّتْرَ: مِعْذَارًا، وَجَمْعُهُ: مَعَاذِيرُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ لِيُخْفِيَ مَا يَعْمَلُ، فَإِنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
(١) قال ابن جرير: ٢٩ / ١٨٤ "والصواب من القول في ذلك عندنا، أن ذلك خبر من الله أن الإنسان ينبأ بكل ما قدم أمامه مما عمل من خير أو شر في حياته وأخر بعده من سنة أو سيئة مما قدم وأخر، كذلك ما قدم من عمل عمله من خير أو شر، وأخر بعده من عمل كان عليه فضيعه، فلم يعمله مما قدم وأخر ولم يخصص الله في ذلك بعضا دون بعض، فكل ذلك مما ينبأ به الإنسان يوم القيامة".
(٢) انظر: معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢١١.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ [عَلَيْهِ] (١) جِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ كَانَ رُبَّمَا يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفَ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْآيَةَ الَّتِي فِي لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ" (٢)
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩) ﴾
(١) ساقط من "ب".
(٢) أخرجه البخاري في التفسير، تفسير سورة القيامة، باب: "إن علينا جمعه وقرآنه": ٨ / ٦٨٢، ومسلم في الصلاة، باب الاستماع للقراءة برقم (٤٤٨) : ١ / ٣٣٠.
﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (٢٠) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (٢١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (٢٢) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (٢٣) ﴾
﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قَالَ عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ. ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ. ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَهُ بِلِسَانِكَ. قَالَ: فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَقَالَ: كَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ، يَخْشَى أَنْ يَنْفَلِتَ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ: "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ" "إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ" أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ (١) "وَقُرْآنَهُ" أَنْ تَقْرَأَهُ. ﴿كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ "تُحْبُّونَ وَتَذَرُونَ" بِالتَّاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ يَخْتَارُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْعُقْبَى، وَيَعْمَلُونَ لَهَا، يَعْنِي: كَفَّارَ مَكَّةَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ فَعَلَى تَقْدِيرِ: قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: بَلْ تُحِبُّونَ [وَتَذَرُونَ] (٢) ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿نَاضِرَةٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَسَنَةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَسْرُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَاعِمَةٌ. وقال مقاتل: ١٨٠/ب بِيضٌ يَعْلُوهَا النُّورُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُضِيئَةٌ. وَقَالَ يَمَانٌ: مُسْفِرَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُشْرِقَةٌ بِالنَّعِيمِ (٣) يُقَالُ: نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ يُنَضِّرُ نَضْرًا، وَنَضَّرَهُ اللَّهُ وَأَنْضَرَهُ وَنَضُرَ وَجْهُهُ يَنْضُرُ نَضْرَةً وَنَضَارَةً. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" (الْمُطَفِّفِينَ-٢٤) ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَكْثَرُ النَّاسِ تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا عَيَانًا بِلَا حِجَابٍ. قَالَ الْحَسَنُ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ [تَنْضُرَ] (٤) وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَمَوِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ
(١) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة القيامة - باب: (إن علينا جمعه وقرآنه) : ٨ / ٦٨١.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) معاني القرآن للفراء: ٣ / ٢١٢.
(٤) في النسختين كتبت بالظاء، والصواب ما أثبتناه لأنها من النضارة لا من النظر.
الشَّاشِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا شَبَّابَةُ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ ثُوَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ إِلَى جِنَانِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَنَعِيمِهِ وَخَدَمِهِ وَسُرُرِهِ مَسِيرَةَ أَلْفِ سَنَةٍ، وَأَكْرَمَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ غَدْوَةً وَعَشِيَّةً" ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" (١)
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (٢٥) كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (٢٦) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (٢٧) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (٢٨) ﴾
﴿وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ﴾ عَابِسَةٌ كَالِحَةٌ مُغْبَرَّةٌ مُسَوَّدَةٌ. ﴿تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ﴾ تَسْتَيْقِنُ أَنْ يُعْمَلَ بِهَا عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَاقِرَةُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْأَمْرُ الشَّدِيدُ يَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَاصِمَةُ الظَّهْرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ دُخُولُ النَّارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَنْ تُحْجَبَ عَنْ رُؤْيَةِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ. ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ﴾ يَعْنِي النَّفْسَ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ ﴿التَّرَاقِيَ﴾ فَحَشْرَجَ بِهَا عِنْدَ الْمَوْتِ، وَ"التَّرَاقِي" جَمْعُ التَّرْقُوَةِ، وَهِيَ الْعِظَامُ بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ، وَيُكَنَّى بِبُلُوغِ النَّفْسِ التَّرَاقِيَ عَنِ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ. ﴿وَقِيلَ﴾ أَيْ قَالَ مَنْ حَضَرَهُ [الْمَوْتُ] (٢) هَلْ "مِنْ رَاقٍ" هَلْ مِنْ طَبِيبٍ يَرْقِيهِ وَيُدَاوِيهِ فَيَشْفِيَهُ بَرُقْيَتِهِ أَوْ دَوَائِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْتَمَسُوا لَهُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ؟ فَتَصْعَدُ بِهَا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ. ﴿وَظَن﴾ أيقن الذين بَلَغَتْ رُوحُهُ التَّرَاقِيَ ﴿أَنَّهُ الْفِرَاقُ﴾ مِنَ الدُّنْيَا.
(١) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة القيامة - ٩ / ٢٤٩-٢٥٠، وقال: "هذا حديث غريب وقد روى غير واحد عن إسرائيل مثل هذا مرفوعا" والإمام أحمد: ٢ / ٦٤، وأبو يعلى في المسند: ٥ / ٢٧٦، وصححه الحاكم: ٢ / ٥٠٩، ٥١٠ فتعقبه الذهبي بقوله عن ثوير، "بل هو واهي الحديث" وأبو نعيم في الحلية: ٥ / ٨٧، والطبري: ٢٩ / ١٩٣، والمصنف في شرح السنة: ١٥ / ٢٣٢. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ١٠ / ٤٠١ "رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني وفي أسانيدهم ثوير بن أبي فاختة وهو مجمع على ضعفه". وأشار المنذري إلى تضعيفه في الترغيب والترهيب: ٤ / ٥٠٨ وزاد نسبته للبيهقي. وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة، رقم (١٩٨٥) : ٤ / ١٤٥٠.
(٢) ساقط من "ب".
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (٢٩) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (٣٠) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٣٢) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (٣٣) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٤) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (٣٥) ﴾
﴿وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: الشِّدَّةُ بِالشِّدَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: شِدَّةُ الْمَوْتِ بِشِدَّةِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الشَّدَائِدُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَخْرُجُ مِنْ كَرْبٍ إِلَّا جَاءَهُ أَشَدُّ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، فَكَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الْآخِرَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا سَاقَاهُ إِذَا الْتَفَّتَا فِي الْكَفَنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمَا سَاقَاهُ عِنْدَ الْمَوْتِ (١). ﴿إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ﴾ أَيْ مَرْجِعُ الْعِبَادِ [يَوْمَئِذٍ] (٢) إِلَى اللَّهِ يُسَاقُونَ إِلَيْهِ. ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى﴾ يَعْنِي: أَبَا جَهْلٍ، لَمْ يُصَدِّقْ بِالْقُرْآنِ وَلَا صَلَّى لِلَّهِ. ﴿وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ عَنِ الْإِيمَانِ. ﴿ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ رَجَعَ إِلَيْهِمْ ﴿يَتَمَطَّى﴾ يَتَبَخْتَرُ وَيَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَقِيلَ: أَصْلُهُ: "يَتَمَطَّطُ" أَيْ: يَتَمَدَّدُ، وَالْمَطُّ هُوَ الْمَدُّ. ﴿أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾ هَذَا وَعِيدٌ عَلَى وَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِأَبِي جَهْلٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْعَذَابِ وَأَحَقُّ وَأَوْلَى بِهِ، يُقَالُ لِلرَّجُلِ يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ يَسْتَوْجِبُهُ.
وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِمَنْ قَارَبَهُ الْمَكْرُوهُ وَأَصْلُهَا [مِنَ الْوَلَاءِ] (٣) مِنَ الْمَوْلَى وَهُوَ
(١) قال ابن جرير مرجحا: ٢٩ / ١٩٨ "وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندي قول من قال: معنى ذلك: والتفت ساق الدنيا بساق الآخرة، وذلك شدة كرب الموت بشدة هول المطلع، والذي يدل على أن ذلك تأويله قوله "إلى ربك يومئذ المساق" والعرب تقول لكل أمر اشتد: قد شمر عن ساقه، وكشف عن ساقه، ومنه قول الشاعر:
إذا شمرت لك عن ساقها فرنها ربيع ولا تسأم.
(٢) ساقط من "ب".
(٣) زيادة من "ب".
الْقُرْبُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ" (التَّوْبَةُ-١٢٣).
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَخَذَ بِمَجَامِعِ ثَوْبِ أَبِي جَهْلٍ بِالْبَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: "أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتُوعِدُنِي يَا مُحَمَّدُ؟ وَاللَّهِ مَا تَسْتَطِيعُ أَنْتَ وَلَا رَبُّكَ أَنْ تَفْعَلَا بِي شَيْئًا، وَإِنِّي لَأَعَزُّ مَنْ مَشَى بَيْنَ جَبَلَيْهَا! فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ صَرَعَهُ اللَّهُ شَرَّ مَصْرَعٍ، وَقَتَلَهُ أَسْوَأَ قِتْلَةٍ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِرْعَوْنًا [وَإِنَّ] (١) فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو جَهْلٍ (٢).
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (٣٧) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (٣٩) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (٤٠) ﴾
﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ هَمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَقَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ الْمُهْمَلُ وَإِبِلٌ سُدًى إِذَا كَانَتْ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ بِلَا رَاعٍ. ﴿أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى﴾ تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ، قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "يُمَنَّى" بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، لِأَجْلِ النُّطْفَةِ. ﴿ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى﴾ فَجَعَلَ فِيهِ الرُّوحَ فَسَوَّى خَلْقَهُ. ﴿فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ خَلَقَ مِنْ مَائِهِ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا. ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ﴾ الَّذِي فَعَلَ هَذَا ﴿بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن عمر اللؤلؤي، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَشْعَثَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمِّيَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَعْرَابِيًّا يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَرَأَ مِنْكُمْ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فَانْتَهَى إِلَى آخِرِهَا: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ" (التِّينِ-٨) فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، وَمَنْ قَرَأَ: "لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ" فَانْتَهَى إِلَى "أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى" فَلْيَقُلْ: بَلَى، وَمَنْ قَرَأَ: "وَالْمُرْسَلَاتِ" فَبَلَغَ "فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ" فَلْيَقُلْ: "آمَنَّا بِاللَّهِ" (٣).
(١) زيادة من "ب".
(٢) ذكره عبد الرزاق في التفسير: ٢ / ٣٣٥ بلاغا وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٣٦٣ أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر.
(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب مقدار الركوع والسجود: ١ / ٤٢٣، والإمام أحمد: ٢ / ٢٤٩، وصححه الحاكم: ٢ / ٥١٠، ووافقه الذهبي، والبيهقي في سننه: ٢ / ٣١٠، والمصنف في شرح السنة: ٣ / ١٠٤-١٠٥ وأخرجه الترمذي مختصرا في التفسير: ٩ / ٢٧٦-٢٧٧ وقال: "هذا حديث إنما يروى بهذا الإسناد عن هذا الأعرابي عن أبي هريرة ولا يسمى". وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٨ / ٣٦٤ أيضا لابن المنذر وابن مردويه. وقال الألباني في تعليقه على المشكاة: ١ / ٢٧٢ "وإسناده ضعيف فيه ابن الأعرابي لم يسم".
287
أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا أبو علي اللؤلؤي، أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يُصَلِّي فَوْقَ بَيْتِهِ فَكَانَ إِذَا قَرَأَ: "أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى" قَالَ: سُبْحَانَكَ بَلَى، فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (١).
(١) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الدعاء في الصلاة: ١ / ٤٢٢، وهو مرسل، والمصنف في شرح السنة: ٣ / ١٠٥. وراجع عون المعبود: ٣ / ١٣٩-١٤٠.
288
Icon