تفسير سورة التكاثر

التفسير القيم
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

أخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة.
وألهاهم عن الله والدار الآخرة حتى حضرهم الموت، فزاروا المقابر، ولم يفيقوا من رقدة من إلهاء التكاثر.
وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت، إيذانا بأنهم غير مسبقين ولا مستقرين في القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين، يحضرونها مدة ثم يظعنون عنها، كما كانوا في الدنيا زائرين لها، غير مستقرين فيها، ودار القرار هي الجنة أو النار.
ولم يعين سبحانه المتكاثر به، بل ترك ذكره، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء، لا المتكاثر به. كما يقال : شغلك اللعب واللهو، ولم يذكر ما يلعب ويلهو به، وإما إرادة الإطلاق، وهو كل ما تكاثر به العبد غيره من أسباب الدنيا، من مال أو جاه أو عبيد. أو إماء أو بناء، أو غراس، أو علم لا يبتغى به وجه الله، أو عمل لا يقربه إلى الله. فكل هذا من التكاثر الملهي عن الله والدار الآخرة. وفى «صحيح مسلم » من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه أنه قال :«انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ ﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ قال : يقول ابن آدم : مالي، مالي، وهل لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت ؟ ».
ثم أوعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا، إذا عاين تكاثره قد ذهب هباء منثورا، وعلم دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعا وغرورا، فوجد عاقبة تكاثره عليه لا له، وخسر هنالك تكاثره. كما خسر أمثاله. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه، وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقى بتكاثره، إذ أفاد منه العطب، دون الغنيمة والسلامة. فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين، ولم يحفظ به من علوه به في الدنيا بأن حصل مع الأسفلين.
فيا له تكاثرا ما أثقله وزرا، ما أجلبه من غنى جالبا لكل فقر، وخيرا توصل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه ﴿ يا ليتني قدمت لحياتي ﴾ [ الفجر : ٢٤ ]، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي ﴿ رب أرجعون * لعلي أعمل صالحا فيما تركت ﴾ فقيل له :﴿ كلا إنها كلمة هو قائلها ﴾ [ المؤمنون : ٩٩. ١٠٠ ] تلك كلمة يقولها، فلا يعول عليها، ورجعته يسألها، فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولا ( رب )، استغاث بربه، ثم التفت إلى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدي ربه تبارك وتعالى، وقال :﴿ أرجعون ﴾، ثم ذكر سبب سؤال الرجعة، وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه، فيقال له :﴿ كلا ﴾ لا سبيل لك إلى الرجعة، وقد عمرت، ما يتذكر فيه من تذكر.
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله، وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما فاته، أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها، لا حقيقة تحتها، وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه، وأنه لو رُدَّ لعاد لما نهى عنه، وأنه من الكاذبين.
فحكمه أحكم الحاكمين، وعزته وعلمه وحمده، يأبى إجابته إلى ما سأل. فإنه لا فائدة من ذلك. ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الأولى، كما قال تعالى :﴿ ولو ترى إذ وقفوا على النار قالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين * بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ﴾ [ الأنعام : ٢٧. ٢٨ ].
وقوله :﴿ كلا سوف تعلمون * ثم كلا سوف تعلمون ﴾.
قيل : تأكيد لحصول العلم. كقوله :﴿ كلا سيعلمون * ثم كلا سيعلمون ﴾ [ النبأ : ٤. ٥ ].
وقيل : ليس تأكيدا ؛ بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت، والعلم الثاني في القبر، هذا قول الحسن ومقاتل، ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه.
ويدل على صحة هذا القول عدة أوجه :
أحدها : أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره، مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني : توسط «ثم » بين العلمين، وهى مؤذنة بتراخي ما بين المرتبتين زمانا وخطرا.
الثالث : أن هذا القول مطابق للواقع، فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما يقينيا، هو فوق العلم الأول.
الرابع : أن عليا بن أبى طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر. قال الترمذي : حدثنا أبو كريب، حدثنا حكام بن سليم الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن الحجاج، عن منهال بن عمرو، عن زر، عن علي رضي الله عنه قال :«ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ ».
قال الواحدي : يعنى أن معنى قوله :﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ في القبر.
وقوله :﴿ كلا لو تعلمون علم اليقين ﴾.
جوابه محذوف، دل عليه ما تقدم، أي لما ألهاكم التكاثر، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لما فقد منكم علم اليقين، وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات، التي لا يشك ولا يمارى في صحتها وثبوتها. ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه عن موجبه، ولترتب أثره عليه. فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه. فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد. فإذا صار عين يقين، كجملة المشاهدات، كان تخلف موجبه عنه أندر شيء.
وفى هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أهل بدر :
سرنا، وساروا إلى بدر، لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
الخامس : أن هذا مطابق لما بعده من قوله :﴿ لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين ﴾ فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين : إطلاق الأولى، وتقييد الثانية بعين اليقين، وتقدم الأولى، وتراخى الثانية عنها.
ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد، والنون الثقيلة عن سؤال النعيم. فكل أحد يسأل عن نعيمه الذي كان فيه في الدنيا : هل ناله من حلاله ووجهه أم لا ؟
فإذا تخلص من هذا السؤال، سئل سؤالا آخر : هل شكر الله تعالى عليه، فاستعان به على طاعته أم لا ؟
فالأول : سؤال عن سبب استخراجه.
والثاني : عن محل صرفه. كما في «جامع الترمذي » من حديث عطاء بن أبى رباح، عن ابن عمر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس : عن عمره : فيما أفناه ؟ وعن شبابه : فيما أبلاه، وعن ماله : من أين اكتسبه ؟ وفيما أنفقه ؟ وفيما ذا عمل فيما علم ؟ ».
وفيه أيضا : عن أبى برزة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره : فيما أفناه ؟ وعن علمه : فيما عمل فيه ؟ وعن ماله : من أين اكتسبه وفيما أبلاه ؟ » قال : هذا حديث صحيح.
وفيه أيضا : من حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة - يعني من النعيم - أن يقال له : ألم نُصِحَّ جسمك ؟ ونرويك من الماء البارد ؟ ».
وفيه أيضا : من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال :«لما نزلت ﴿ لتسألن يومئذ عن النعيم ﴾ قال الزبير : يا رسول الله، فأي النعيم نسأل عنه وإنما هو الأسودان : التمر والماء ؟ قال صلى الله عليه وسلم «أما إنه سيكون » وقال : هذا حديث حسن.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه نحوه. وقال : إنما هو الأسودان : العدو حاضر، سيوفنا على عواتقنا. فقال صلى الله عليه وسلم :«إن ذلك سيكون ».
وقوله صلى الله عليه وسلم :«إن ذلك سيكون » إما أن يكون المراد به أن النعيم سيكون ويحدث لكم، وإما أن يرجع إلى السؤال، أي إن السؤال يقع عن ذلك، وإن كان تمرا وماء فإنه من النعيم.
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح - وقد أكلوا معه رطبا ولحما وشربوا من الماء البارد - «هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة »، فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.
وفى الترمذي من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يجاء بالعبد يوم القيامة، كأنه بِِذْج، فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول الله : أعطيتك وخَوَّلتك، وأنعمت عليك، فماذا صنعت ؟ فيقول : يا رب جمعته، وثمرته، فتركته أوفر ما كان، فارجعني آتيك به. فإذا أعيد لم يقدم خيرا فيمضى به إلى النار ».
وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله : ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وترتع، أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا ؟ فيقول : لا. فيقول له : اليوم أنساك كما نسيتني »، وقال : هذا حديث صحيح.
وقد زعم طائفة من المفسرين : أن هذا الخطاب خاص بالكفار، وهم المسئولون عن النعيم، وذكر ذلك عن الحسن ومقاتل، واختار الواحدي ذلك، واحتج بحديث أبي بكر رضي الله عنه :«لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبى الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم، وبسر قد ذَنَّب، وماء عذب، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي نسأل عنه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنما ذلك للكفار »، ثم قرأ :﴿ وهل نجازي إلا الكفور ﴾ [ سبأ : ١٧ ].
قال الواحدي : والظاهر يشهد بهذا القول ؛ لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم.
والمعنى أيضا يشهد بهذا القول، وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم، حيث أشركوا به وعبدوا غيره. فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم، توبيخا لهم، هل قاموا بالواجب فيه، أم ضيعوا حق النعمة ؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.
قال : وهذا معنى قول مقاتل، وهو قول الحسن، قال : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
قلت : ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار ؛ بل ظاهر اللفظ، وصريح السنة والاعتبار : يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بإلهاء التكاثر له، فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك.
ويدل على ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءة هذه السورة :«يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ؟ أو لبست فأبليت ؟ الحديث » وهو في صحيح مسلم.
وقائل ذلك قد يكون مسلما، وقد يكون كافرا.
ويدل عليه أيضا الأحاديث التي تقدمت، وسؤال الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمهم العموم، حتى قالوا له :«وأي نعيم نسأل عنه، وإنما هو الأسودان »، فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك. وقال : ما لكم ولها ؟ إنما هي للكفار. فالصحابة فهموا العموم، والأحاديث صريحة في التعميم، والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم.
وأما حديث أبي بكر رضي الله عنه الذي احتج به أرباب هذا القول فحديث لا يصح، والحديث الصحيح في تلك القصة يشهد ببطلانه، ونحن نسوقه بلفظه :
ففي «صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :«خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال :«ما أخرجكما من بيوتكما في هذه الساعة ؟ » قالا : الجوع، يا رسول الله. قال :«وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوما »، فقاما معه. فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته امرأته قالت : مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :«وأين فلان ؟ » قالت : ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، فقال : الحمد لله، ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني. قال : فانطلق فجاءهم بعِذْقٍ فيه بُسْر وتمر ورطب، فقال : كلوا من هذا. فأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إياك والحلوب ». فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم ».
فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب، وأنه غير مختص بالكفار.
وأيضا : فالواقع يشهد بعدم اختصاصه، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع من المسلمين كثيرا ؛ بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر. وخطاب القرآن عام لمن بلغه، وإن كان أول من دخل فيه المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو متناول لمن بعدهم، وهذا معلوم بضرورة الدين، وإن نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين.
فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ] ونظائره، كما دخل تحته الصحابة بالضرورة المعلومة من الدين.
فقوله :﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف، وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
فإن قيل : فالمؤمنون لم يلههم التكاثر، ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه.
قيل : هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار ؛ لأنه لم يمكنهم حمله على العموم، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد، فخصوهم به.
وجواب هذا : أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان. كقوله :﴿ وكان الإنسان عجولا ﴾ [ الإسراء : ١١ ] ﴿ وكان الإنسان كفورا ﴾ [ الإسراء : ٦٧ ] ﴿ إن الإنسان لربه لكنود ﴾ [ العاديات : ٦ ] ﴿ وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ﴾ [ الأحزاب : ٧٢ ] ﴿ إن الإنسان لكفور ﴾ [ الحج : ٦٦ ] ونظائره كثيرة.
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه. وليس له ذلك من نفسه ؛ بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه، لا من نفسه، فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته، التي هي له من نفسه، ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريدا للآخرة، مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا، فإن أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد.
وأما احتجاجهم بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار فيقال :
الوعيد المذكور مشترك، وهو العلم عند معاينة الآخرة. فهذا أمر يحصل لكل أحد، لم يكن حاصلا له في الدنيا، وليس في قوله :﴿ سوف تعلمون ﴾ ما يقتضي دخول النار، فضلا عن التخليد فيها. وكذلك رؤية الجحيم لا يستلزم دخولها لكل من رآها، فإن أهل الموقف يرونها، ويشاهدونها عيانا. وقد أقسم الرب تبارك وتعالى أنه لا بد أن يراها الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم :﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ﴾ [ مريم : ٧١ ].
فليس في جملة هذه السورة ما ينفي عموم خطابها.
وأما ما ذكره عن الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار، فباطل قطعا، إما عليه، وإما منه. والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده. وبالله التوفيق.
Icon