تفسير سورة قريش

تفسير الماتريدي
تفسير سورة سورة قريش من كتاب تأويلات أهل السنة المعروف بـتفسير الماتريدي .
لمؤلفه أبو منصور المَاتُرِيدي . المتوفي سنة 333 هـ

سُورَةُ (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤).
قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)، هذا يخرج على وجوه:
أحدها: ما قال الفراء: إن اللام لام الاعتدال؛ لأن السورة صلة لسورة (أَلَمْ تَرَ)، قال: (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)، (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)؛ كأنه يقول: أهلكت أصحاب الفيل، وفعلت بهم ما فعلت لتألف قريش بذلك المكان كما ألفوا به الرحلتين اللتين جعلتا لهم في الشتاء والصيف.
والثاني: يحتمل أن يقول: ألزمت الخلق عبادة رب هذا البيت حتى ألفوا ذلك البيت، وحملوا ما تحتاج إليه قريش، وأهل ذلك المكان من الطعام، وما يتعيشون به؛ لتألف قريش بعبادة رب ذلك البيت ما لولا ذلك لم يتهيأ لهم المقام بذلك المكان؛ لأنه لا زرع فيه، ولا نبات، ولا ما يتعيش به، وهو كما قال إبراهيم - عليه السلام -: (بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ)، وإنما تعيشهم في ذلك المكان بما يحمل إليهم من الآفاق والأمكنة النائية؛ كقوله: (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا...) الآية.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: أمرت قريش بأن يألفوا عبادة رب هذا البيت كإيلافهم رحلة الشتاء والصيف؛ يقول: كما ألفتم هاتين الرحلتين، فألفوا عبادة رب هذا البيت.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن أهل مكة كانوا يرتحلون تجارا آمنين في البلدان، لا يخافون شيئا؛ لحرمتهم؛ لأن الناس يحترمونهم لمكان الحرم، حتى لا يتعرض لهم بشيء، ولا يؤذيهم أحد حتى إن كان الرجل منهم ليصاب في حيّ من الأحياء؛ يقال: هذا حرمى؛ فيخلى عنه، وعن ماله؛ تعظيما لذلك المكان، وهو ما قال: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ).
وقيل: إن العرب كانت تغير بعضهم على بعض، ويسبي بعضهم بعضا، وأهل مكة كانوا آمنين في حرم اللَّه - تعالى - كقوله - تعالى -: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)، فذكر عظيم نعمه عليهم ومننه؛ ليعلموا ذلك أنه منه.
وأصله أن اللَّه - تعالى - لما كان من حكمته وإرادته جعل الرسالة في قريش وإبقاؤها إلى الوقت الذي أراد أن يبقى، جعل لهم من الأمن في ذلك المكان والأرزاق التي تجبى إليهم، وما يتعيشون به في ذلك؛ ليبقوا إلى الوقت الذي أراد بقاءهم إليه؛ فيكون ما أراد على ما أراد، فكما أنشأ هذا العالم للبقاء إلى الوقت الذي أراد أن يبقوا فيه جعل لهم من الأرزاق ما يبقون إلى الوقت الذي أراد؛ ليكون ما أراد؛ فعلى ذلك الأول.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الإيلاف: مصدر آلفت فلانا إيلافا؛ كما تقول: ألزمته إلزاما.
وقال الكسائي: آلفت المكان، وألفته؛ لغتان.
وعن ابن عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ)، أي: كصنع قريش (إِيلَافِهِمْ)، أي: صنيعهم، (رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ (٤) السنين الذي أصابهم، (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) العدو، واللَّه أعلم.
* * *
الآية٤ : وقوله تعالى :﴿ الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾١ أصله أن الله تعالى لما كان من حكمته وإرادته جعل الرسالة في قريش، وإبقاؤها إلى الوقت الذي أراد أن تبقى، جعل لهم من الأمر في ذلك المكان والأرزاق التي تجبى إليهم وما يتعيشون ( به )٢ في ذلك الوقت ليبقوا إلى ذلك الوقت الذي أراد إبقاؤهم إليه، فيكون ما أراد على ما أراد.
فكما أنشأ هذا العالم للبقاء إلى الوقت الذي أراد أن يبقوا فيه٣، جعل لهم من الأرزاق ما يبقون إلى الوقت الذي أراد ليكون ما أراد. / ٦٥٤ أ/ فعلى ذلك الأول.
قال القتبي : الإيلاف مصدر ألفت فلانا كذا إيلافا، كما تقول : ألزمته إلزاما. وقال الكسائي : ألفت المكان آلفته لغتان. وعن ابن عباس رضي الله عنه :﴿ لإيلاف قريش ﴾ أي لصنيع قريش ﴿ إلافهم ﴾ صنيعهم ﴿ رحلة الشتاء والصيف ﴾ ﴿ فليعبدوا رب هذا البيت ﴾ ﴿ الذي أطعمهم من جوع ﴾ السنين الذي أصابهم ﴿ وآمنهم من خوف ﴾ العدو، والله أعلم، ( والحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين )٤.
١ ساقطة من الأصل وم.
٢ ساقطة من الأصل وم.
٣ في الأصل وم: فيها.
٤ ساقطة من م..
Icon