ﰡ
﴿الم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) ﴾
﴿الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ: "وَرَحْمَةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، أَيْ: هُوَ هُدَىً وَرَحْمَةٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ ﴿لِلْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ﴾ ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ الْآيَةَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ، وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ كَانَ يَتَّجِرُ فَيَأْتِي الْحِيْرَةَ وَيَشْتَرِي أَخْبَارَ الْعَجَمِ وَيُحَدِّثُ بِهَا قُرَيْشًا، وَيَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَأَنَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثِ رُسْتُمَ وَاسْفَنْدِيَارَ وَأَخْبَارِ الْأَكَاسِرَةِ، فَيَسْتَمْلِحُونَ
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الْقَفَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبُرُوجِرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَانَ الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبِ بْنِ تَمَامٍ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ هِشَامٍ هُوَ ابْنُ حَسَّانَ، عَنْ مُحَمَّدٍ هُوَ ابْنُ سِيْرِيْنَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَكَسْبِ الزَّمَّارَةِ" (٤). قَالَ مَكْحُولٌ: مَنِ اشْتَرَى جَارِيَةً ضَرَّابَةً لِيُمْسِكَهَا لِغِنَائِهَا وَضَرْبِهَا مُقِيمًا عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ" الْآيَةَ (٥). وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا: "لَهْوُ الْحَدِيثِ" هُوَ الْغِنَاءُ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ أَيْ: يَسْتَبْدِلُ وَيَخْتَارُ الْغِنَاءَ وَالْمَزَامِيرَ وَالْمَعَازِفَ عَلَى الْقُرْآنِ، قَالَ أَبُو الصِّبَاءِ الْبَكْرِيُّ سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (٦).
(٢) انظر: أسباب النزول للواحدي ص (٤٠٠).
(٣) أخرجه ابن ماجه: التجارات، باب: ما لا يحل بيعه برقم: (٢١٦٨) ٢ / ٧٣٣، والإمام أحمد: ٥ / ٢٥٢، والطبري: ٢١ / ٦٠، وأخرجه بنحوه الترمذي: في التفسير: ٩ / ٥٤-٥٥، وقال: (هذا حديث غريب إنما يروى من حديث القاسم عن أبي أمامة، والقاسم ثقة، وعلي بن يزيد يضعف في الحديث، قاله محمد بن إسماعيل.
(٤) أخرجه البيهقي: ٦ / ١٢٦، والخطيب في تاريخ بغداد: ٧ / ٣٦٩، ٨ / ٣٠٤ والمصنف في شرح السنة: ٨ / ٢٣.
(٥) انظر: الدر المنثور: ٦ / ٥٠٥.
(٦) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦١.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ أَيْ: يَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا. قَرَأَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ، وَيَعْقُوبُ: ﴿وَيَتَّخِذَهَا﴾ بنصب الدال عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: "لِيُضِلَّ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: "يَشْتَرِي". ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) ﴾
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ ﴿خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ حَسَنٍ.
(٢) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٥٠٦ لابن أبي الدنيا والبيهقي.
(٣) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦٣.
(٤) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦٣.
(٥) وهو ما رجحه الطبري: ٢١ / ٦٣ إذ قال: (عنى به كل ما كان من الحديث ملهبا عن سبيل الله مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله تعالى عم بقوله: (لهو الحديث) ولم يخصص بعضا دون بعض فذلك على عمومه حتى يأتي ما يدل على خصوصه، والغناء والشرك من ذلك).
﴿هَذَا﴾ يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُ مِمَّا تُعَايِنُونَ، ﴿خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ مِنْ آلِهَتِكُمُ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ قوله
تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ يَعْنِي: الْعَقْلَ وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ نَاعُورَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَارِخَ وَهُوَ آزَرُ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ ابْنَ أُخْتِ أَيُّوبَ (١)، وَقَالَ [مُقَاتِلٌ: ذُكِرَ أَنَّهُ كَانَ ابْنَ خَالَةِ أَيُّوبَ (٢) ] (٣). قَالَ الْوَاقِدَيُّ: كَانَ قَاضِيًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ (٤).
وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ حَكِيمًا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، إِلَّا عِكْرِمَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا. وَتَفَرَّدَ بِهَذَا الْقَوْلِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خُيِّرَ لُقْمَانُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ (٥). وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا نِصْفَ النَّهَارِ فَنُودِيَ: يَا لُقْمَانُ، هَلْ لَكَ أَنْ يَجْعَلَكَ اللَّهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ؟ فَأَجَابَ الصَّوْتَ فَقَالَ: إِنْ خَيَّرَنِي رَبِّي قَبِلْتُ الْعَافِيَةَ، وَلَمْ أَقْبَلِ الْبَلَاءَ، وَإِنْ عَزَمَ عَلَيَّ فَسَمْعًا وَطَاعَةً، فَإِنِّي أَعْلَمُ إِنْ فَعَلَ بِي ذَلِكَ أَعَانَنِي وَعَصَمَنِي، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ بِصَوْتٍ لَا يَرَاهُمْ: لِمَ يَا لُقْمَانُ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْحَاكِمَ بِأَشَدِّ الْمَنَازِلِ وَأَكْدَرِهَا، يَغْشَاهَا الظُّلْمُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أَنْ يَعْدِلَ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ يَنْجُوَ، وَإِنْ أَخْطَأَ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْجَنَّةِ، وَمَنْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا ذَلِيلًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ
(٢) انظر البحر المحيط: ٧ / ١٨٦.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٤) انظر البحر المحيط: ٧ / ١٨٦.
(٥) قال الحافظ ابن كثير في التفسير: ٣ / ٤٤٤: (اختلف السلف في لقمان هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين، الأكثرون على الثاني، (يعني أنه لم يكن نبيا) ثم ذكر بعض الآثار، منها ما هو مصرح فيه بنفي كونه نبيا، ومنها ما هو مشعر بذلك، وفي بعضها ما يشعر أنه كان عبدا قد مسه الرق، فقال: وكونه عبدا قد مسه الرق ينافي كونه نبيا، لأن الرسل كانت تبعث في أحساب قومها، قال: ولهذا كان جمهور السلف على أنه لم يكن نبيا، قال: وإنما ينقل كونه نبيا عن عكرمة إن صح السند إليه قال: فإنه رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم من حديث وكيع عن إسرائيل عن جابر عن عكرمة، قال: كان لقمان نبيا، قال: وجابر هذا، هو ابن يزيد الجعفي، وهو ضعيف، والله أعلم. ثم قال ابن كثير: والذي رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة) أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيا، ولم يوح إليه) أ. هـ. فهذا يدل على أنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا.
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (١٤) ﴾
﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ﴾ وَاسْمُهُ أَنْعَمُ، وَيُقَالُ: مِشْكَمٌ، ﴿وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "يَا بُنَيْ لَا تُشْرِكُ بِاللَّهِ" بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَفَتَحَهَا حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، "يَا بُنَيَّ إِنَّهَا" بِفَتْحِ الْيَاءِ حَفْصٌ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ، "يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ"، بِفَتْحِ الْيَاءِ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَحَفْصٍ، وَبِإِسْكَانِهَا الْقَوَّاسُ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِدَّةً بَعْدَ شِدَّةٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةً عَلَى مَشَقَّةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَرْأَةُ إِذَا حَمَلَتْ تَوَالَى عَلَيْهَا الضَّعْفُ وَالْمَشَقَّةُ. وَيُقَالُ: الْحَمْلُ ضَعْفٌ، وَالطَّلْقُ ضَعْفٌ، وَالْوَضْعُ ضَعْفٌ. ﴿وَفِصَالُهُ﴾ أَيْ: فِطَامُهُ، ﴿فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ الْمَرْجِعُ، قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ صَلَّى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَقَدْ شَكَرَ اللَّهَ، وَمَنْ دَعَا لِلْوَالِدَيْنِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَقَدْ شَكَرَ الْوَالِدَيْنِ.
(٢) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦٧-٦٨.
(٣) عزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٥١٠ لابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وابن المنذر.
(٤) انظر: الطبري ٢١ / ٦٨، والدر المنثور: ٦ / ٥١٢.
(٥) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦٧.
﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ أَيْ: بِالْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الْبِرُّ وَالصِّلَةُ وَالْعِشْرَةُ الْجَمِيلَةُ، ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ أَيْ: دِينَ مَنْ أَقْبَلَ إِلَى طَاعَتِي، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ أَتَاهُ عُثْمَانُ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَاصٍ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، فَقَالُوا لَهُ: قَدْ صَدَّقْتَ هَذَا الرَّجُلَ وَآمَنْتَ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ صَادِقٌ، فَآمِنُوا بِهِ، ثُمَّ حَمَلَهُمْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ سَابِقَةُ الْإِسْلَامِ. أَسْلَمُوا بِإِرْشَادِ أَبِي بَكْرٍ (١). قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ وَقِيلَ: نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَاصٍ وَأُمِّهِ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ وَقِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ. ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّهَا" رَاجِعَةٌ إِلَى الْخَطِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ابْنَ لُقْمَانَ قَالَ لِأَبِيهِ: يَا أَبَتِ إِنْ عَمِلْتُ الْخَطِيئَةَ حَيْثُ لَا يَرَانِي أَحَدٌ كَيْفَ يَعْلَمُهَا اللَّهُ؟ فَقَالَ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: تَكُنْ فِي جَبَلٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي صَخْرَةٍ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعِ، وَهِيَ الَّتِي تُكْتَبُ فِيهَا أَعْمَالُ الْفُجَّارِ (٢)، وَخُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ عَلَى حُوتٍ -وَهُوَ النُّونُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ "ن وَالْقَلَمِ" -وَالْحُوتُ فِي الْمَاءِ، وَالْمَاءُ ظَهْرِ صَفَاةٍ، وَالصَّفَاةُ عَلَى ظَهْرِ مَلَكٍ، وَالْمَلَكُ عَلَى صَخْرَةٍ،
(٢) انظر: ابن كثير: ٣ / ٤٤٧ وقد قال معقبا: (كأنه متلقي من الإسرائليات التي لا تصدق ولا تكذب)، البحر المحط: ٧ / ١٨٨.
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) ﴾
﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ يَعْنِي مِنَ الْأَذَى، ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ يُرِيدُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْأَذَى فِيهِمَا، مِنَ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، أَوْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُعْزَمُ عَلَيْهَا لِوُجُوبِهَا. ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَيَعْقُوبُ: "وَلَا تُصَعِّرْ" بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "تُصَاعِرْ" بِالْأَلْفِ، يُقَالُ: صَعَّرَ وَجْهَهُ وَصَاعَرَ: إِذَا مَالَ وَأَعْرَضَ تَكَبُّرًا، وَرَجُلٌ أَصَعَرُ: أَيْ: مَائِلُ الْعُنُقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرْ فَتُحَقِّرَ النَّاسَ وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ إِحْنَةً فَتَلْقَاهُ فَيُعْرِضُ عَنْكَ بِوَجْهِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الَّذِي إِذَا سُلِّمَ عَلَيْهِ لَوَى عُنُقَهُ تَكْبُّرًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: وَلَا تَحْتَقِرِ الفقراء ليكن ٧٣/أالفقر وَالْغَنِيُّ عِنْدَكَ سَوَاءً، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ خُيَلَاءَ ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ، كُلَّ مُخْتَالٍ﴾ فِي مَشْيِهِ ﴿فَخُورٍ﴾ عَلَى النَّاسِ. ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ أَيْ: لِيَكُنْ مَشْيُكَ قَصْدًا لَا تَخَيُّلًا وَلَا إِسْرَاعًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: امْشِ بِالْوَقَارِ وَالسَّكِينَةِ، كَقَوْلِهِ: "يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا" (الْفُرْقَانِ-٦٣)، ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ انْقُصْ مِنْ صَوْتِكَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اخْفِضْ صَوْتَكَ ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ، ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ أَوَّلُهُ زَفِيرٌ وَآخِرُهُ شَهِيقٌ، وَهُمَا صَوْتُ أَهْلِ النَّارِ.
(٢) أخرجه الطبري: ٢١ / ٦٧-٦٨، والإمام أحمد في الزهد ص ٤٩، وابن أبي شيبة: ١٣ / ٢١٤.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ﴾ أَتَمَّ وَأَكْمَلَ، ﴿نِعَمَهُ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَحَفْصٌ: "نِعَمَهُ" بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مُنَوَّنَةً عَلَى الْوَاحِدِ، وَمَعْنَاهَا الْجَمْعُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا" (إِبْرَاهِيمَ-١٤)، ﴿ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ قَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النِّعْمَةُ الظَّاهِرَةُ: الْإِسْلَامُ وَالْقُرْآنُ، وَالْبَاطِنَةُ: مَا سَتَرَ عَلَيْكَ مِنَ الذُّنُوبِ وَلَمْ يُعَجِّلْ عَلَيْكَ بِالنِّقْمَةِ (١) وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الظَّاهِرَةُ: حُسْنُ الصُّورَةِ وَتَسْوِيَةُ الْأَعْضَاءِ، وَالْبَاطِنَةُ: الْمَعْرِفَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الظَّاهِرَةُ: تَسْوِيَةُ الْخَلْقِ، وَالرِّزْقُ، وَالْإِسْلَامُ. وَالْبَاطِنَةُ: مَا سَتَرَ مِنَ الذُّنُوبِ (٢). وَقَالَ الرَّبِيعُ: الظَّاهِرَةُ بِالْجَوَارِحِ، وَالْبَاطِنَةُ: بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْبَاطِنَةُ: الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ. وَقِيلَ: الظَّاهِرَةُ: تَمَامُ الرِّزْقِ وَالْبَاطِنَةُ: حُسْنُ الْخُلُقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الظَّاهِرَةُ: تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ، وَالْبَاطِنَةُ: الشَّفَاعَةُ.
(٢) رواه البيهقي في الشعب: ٨ / ٤١٨، وابن أبي الدنيا في الشكر ص: ١٠٩ بإسناد ضعيف.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٢٥) ﴾
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ وَجَوَابُ "لَوْ" مَحْذُوفٌ، وَمَجَازُهُ: يَدْعُوهُمْ فَيَتَّبِعُونَهُ، يَعْنِي: يَتَّبِعُونَ الشَّيْطَانَ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ﴾ يَعْنِي: لِلَّهِ، أَيْ: يُخْلِصْ دِينَهُ لِلَّهِ، وَيُفَوِّضْ أَمْرَهُ إِلَى اللَّهِ، ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ فِي عَمَلِهِ، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ أَيْ: اعْتَصَمَ بِالْعَهْدِ الْأَوْثَقِ الَّذِي لَا يَخَافُ انْقِطَاعَهُ، ﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا﴾ أَيْ: نُمْهِلُهُمْ لِيَتَمَتَّعُوا بِنَعِيمِ الدُّنْيَا قَلِيلًا إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ﴾ ثُمَّ نُلْجِئُهُمْ وَنَرُدُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ عَذَابُ النَّارِ. ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾
﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ الْآيَةَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ"، إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا" (الْإِسْرَاءِ-٨٥)، فَلَمَّا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ أَحْبَارُ الْيَهُودِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ تَقُولُ: "وَمَا أُوتِيتُمْ من العلم إلى قَلِيلًا" أَفَعَنَيْتَنَا أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: كُلًّا قَدْ عَنَيْتُ، قَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُوَا فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هِيَ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ وَقَدْ آتَاكُمُ اللَّهُ مَا إِنْ عَمِلْتُمْ بِهِ انْتَفَعْتُمْ"، قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَزْعُمُ هَذَا وَأَنْتَ تَقُولُ: "وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا" (الْبَقَرَةِ-٢٦٩)، فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ هَذَا عِلْمٌ قَلِيلٌ وَخَيْرٌ كَثِيرٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (١).
قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقُرْآنَ وَمَا يَأْتِي بِهِ مُحَمَّدٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ فَيَنْقَطِعَ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ﴾ (٢)، أَيْ: بُرِيَتْ أَقْلَامًا، ﴿وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ﴾ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: "وَالْبَحْرَ" بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "مَا"، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ ﴿يَمُدُّهُ﴾ أَيْ: يَزِيدُهُ، وَيَنْصَبُّ فِيهِ ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾ خَلْفِهِ، ﴿سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ وَفِي الْآيَةِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ يُكْتَبُ بِهَا كَلَامُ اللَّهِ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى قَوْلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَدَنِيَّةٌ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مَكِّيَّةٌ، وَقَالُوا: إِنَّمَا أَمَرَ الْيَهُودُ وَفْدَ قُرَيْشٍ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُوا لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ بَعْدُ بِمَكَّةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(٢) أخرجه الطبري: ٢١ / ٨١، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: ٦ / ٥٢٨ لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في العظمة ولأبي نصر السجزي في الإبانة.
﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [يَعْنِي كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] (١) وَبَعْثِهَا لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ شَيْءٌ، ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ﴾ أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ﴾ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ عَجَائِبِهِ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عَلَى أمر الله ٧٣/ب ﴿شَكُورٍ﴾ لِنِعَمِهِ. ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: كَالْجِبَالِ. وَقَالَ الكلبي: كالسحاب. والظل جَمْعُ الظُّلَّةِ شَبَّهَ بِهَا الْمَوْجَ فِي كَثْرَتِهَا وَارْتِفَاعِهَا، وَجَعَلَ الْمَوْجَ، وَهُوَ وَاحِدٌ، كَالظُّلَلِ وَهِيَ جَمْعٌ، لِأَنَّ الْمَوْجَ يَأْتِي مِنْهُ شَيْءٌ بَعْدَ شَيْءٍ، ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أَيْ: عَدْلٌ مُوفٍ فِي الْبَرِّ بِمَا عَاهَدَ اللَّهَ عَلَيْهِ فِي الْبَحْرِ مِنَ التَّوْحِيدِ لَهُ، يَعْنِي: ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي﴾ لَا يَقْضِي وَلَا يُغْنِي، ﴿وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ﴾ مُغْنٍ ﴿عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ امْرِئٍ يُهِمُّهُ نَفْسُهُ، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ يَعْنِي الشَّيْطَانَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْمَعْصِيَةَ وَيَتَمَنَّى الْمَغْفِرَةَ. ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي الْوَارِثِ (٢) بْنِ عَمْرِو، بْنِ حَارِثَةَ، بْنِ مُحَارِبِ، ابْنِ حَفْصَةَ، مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنِ السَّاعَةِ وَوَقْتِهَا وَقَالَ: إِنَّ أَرْضَنَا أَجْدَبَتْ فَمَتَى
(٢) في المخطوطتين (الوارث بن عمرو)، وفي الدر المنثور: ٦ / ٥٣٠ (الوارث من بني مازن بن حفصة)، وفي البحر المحيط: ٧ / ١٩٤ (الحارث بن عمارة المحاربي) وفي تفسير الكشاف: ٣ / ٢١٧ (الحارث بن عمرو بن حارثة بن محارب)، وفي تفسير القرطبي: ١٤ / ٨٣ عن مقاتل (الوارث بن عمرو بن حارثة).
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْمَكَانَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيٌ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَاعِدَةَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عَلِمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا، وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ" (٢). ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾
(٢) أخرجه البخاري: في الاستسقاء، باب: لا يدري متى يجيء المطر إلا الله: ٢ / ٥٢٤، والمصنف في شرح السنة: ٤ / ٤٢٢.