تفسير سورة سبأ

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض... ﴾ [ سبأ : ٩ ] الآية.
" ما بين يدي الإنسان " : كل ما يقع نظره عليه، من غير أن يُحوّل وجهه إليه " وما خلفه " : هو كلّ ما يقع نظره عليه، حتى يحوّله إليه، فيعمّ الجهات كلّها.
فإن قلتَ : هلاّ ذكر الأيمان والشمائل، كما ذكرها في قوله :﴿ ثم لأتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴾ ؟ [ الأعراف : ١٧ ].
قلتُ : لأنه وُجد هنا ما يغني عن ذكرهما، من لفظ العموم، والسماء والأرض، بخلافه ثَمَّ.
قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ﴾ [ سبأ : ٩ ].
قاله هنا بتوحيد " الآية " وقال بعده ﴿ إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور ﴾ [ إبراهيم : ٥ ] بجمعهما، لأن ما هنا إشارة إلى إحياء الموتى، فناسب التوحيد، وما بعدُ إشارة إلى " سبأ " قبيلة تفرّقت في البلاد، فصارت فِرقا، فناسب الجمع.
قوله تعالى :﴿ يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل ﴾ [ سبأ : ١٣ ]. أي نقوشا من أبنية، أو صورا من نحاس، أو زجاج، أو رخام.
إن قلتَ : كيف أجاز سليمان عليه السلام عمل الصّور ؟   !
قلتُ : يجوز أن يكون عملها جائزا في شريعته، وأن تكون غير صور الحيوان، وهو جائز في شريعتنا( ١ ) أيضا.
١ - انظر تفصيل البحث في كتابنا "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن" ٢/٤٠٥..
قوله تعالى :﴿ لقد كان لسبأ في مساكنهم آية جنتان عن يمين وشمال... ﴾ [ سبأ : ١٥ ] الآية، وحّد الآية، مع أن الجنتين آيتان، لتماثلهما في الدلالة، واتحاد جهتهما، كقوله تعالى :﴿ وجعلنا ابن مريم وأمه آية ﴾ [ المؤمنون : ٥٠ ].
قوله تعالى :﴿ وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾ [ سبأ : ٢٤ ].
إن قلتَ : ما معنى التشكيك في ذلك ؟
قلتُ : هذا من إجراء المعلوم مجرى المجهول، بطريق اللّفّ والنشر المرتّب، و " أو " في الموضوعين بمعنى الواو، والتقدير : وإنا لعلى هدى، وأنتم في ضلال مبين، وإنما جاء بذلك لإرادة الإنصاف في الجدال، وهو أوصل إلى الغرض، أو باقيتين على معناهما والمعنى : وإنا لمهتدون أو ضالون( ١ )، وأنتم كذلك، وإنما قاله للتعريض بضلالهم، كقول الرجل لخصمه إذا أراد تكذيبه : إنّ أحدنا لكاذب.
١ - هذا نهاية الإنصاف مع الخصم، كأنه يقول: لا أدري من هو المهتدي منا ومن هو الضالّ !! وفي هذا الأسلوب تلطّف في الدعوى، وتعريض بضلالهم، وهو أبلغ من التصريح، ومثله قول العرب: أخزى الله الكاذب منا، مع تيقّنه بأن صاحبه هو الكاذب، وفي هذه الآية إرشاد من المولى جلّ وعلا، إلى أسلوب (المناظرة العلمية) لأن أحد المتناظرين إذ قال للاخر: هذا الذي تقول باطل، أو أنت مخطئ، فإن ذلك يغضبه، وعند الغضب تكون المكابرة والعناد، أما لو قال: لا شك أن أحدنا مخطئ، والتمادي في الباطل غير جميل، فإنه حينئذ يترك التعصّب، ويجتهد في النظر..
قوله تعالى :﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون... ﴾ [ سبأ : ٢٥ ] لم يذكر " كنتم " كما قاله في غيره، لأنه قوله هنا " تعملون " وقع في مقابلة " أجرمنا " وفي قوله :﴿ قلا لا تسألون عما أجرمنا ﴾ أي أذنبنا، وضمير أجرمنا للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيرُه، وغيره صدر منه ذنب فعبّر عنه بالماضي. والمخاطب في ﴿ تعملون ﴾ : الكفار، وكفرهم واقع في الحال، وفي المستقبل ظاهرا، فعبّر عنه بالمضارع، فلا يناسبه " كنتم " مع أن الخطاب في ذلك واقع في الدنيا، والخطاب في غيره نحو ﴿ ثم ينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] واقع في الآخرة، فناسبه التعبير بكنتم.
قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا في قرية من نذير... ﴾ [ سبأ : ٣٤ ].
لم يقل فيه " من قبلِكَ " أو " قبلَكَ " كما في غيرها، لأن ما هنا إخبار مجرّد، وفي غيره إخبار للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له.
قوله تعالى :﴿ بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون ﴾ [ سبأ : ٤١ ].
إن قلتَ : كيف قالت الملائكة في حقّ المشركين ذلك، مع أنه لم يُنقل عن أحد منهم، أنه عبد الجنّ ؟
قلتُ : معناه أنهم كانوا يطيعون الشياطين، فيما يأمرونهم به من عبادة غير الله تعالى، فالمراد بالجن الشياطين( ١ )، على أن الكرماني جزم بأنهم عبدوا الجن أيضا.
١ - هذا هو الصحيح من الأقوال، أن الملاكمة تتبرّأ من تلك الدعوى، وتقول: يا ربّنا ما أمرناهم بعبادتنا، بل كانوا يعبدون الشياطين، وهم الذين أضلّوهم، وزيّنوا لهم عبادة غير الله..
Icon