تفسير سورة سورة سبأ من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
المنتخب
.
المتوفي سنة 2008 هـ
افتتحت هذه السورة باستحقاق الله وحده الثناء والمدح على ما أنعم به على عباده فكل ما في السماوات والأرض له سبحانه خلقا وملكا، وتحكي السورة قالة الكافرين في الساعة، واستبعادهم للبعث، ورميهم الرسول بالكذب وبالجنون، ويردهم سبحانه إلى دلائل قدرته، ويخوفهم من أن ينزل بهم مثل ما نزل بأشباههم فيخسف بهم الأرض، أو يسقط عليهم قطعا من السماء، ويذكرهم بفعله مع أوليائه. فقد ألان الحديد لداود، ومكن سليمان وسخر له الجن يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل، وداود وسليمان قد شكرا النعمة، وقليل من عباد الله الشكور، وأتبع ذلك بما أنعم الله على سبأ من نعم لم يشكروها، فكان لهم جنتان عن يمين وشمال، فكانت قراهم متقاربة يسيرون إليها آمنين، فأبطرتهم النعمة وطلبوا بعد الأسفار، فجازاهم الله بما يجازي به الجاحدين لنعمه، وهم قد حققوا ظن إبليس واتبعوه، وما كان له عليهم من سلطان، وإنما هو فتنة تميز المؤمن بالآخرة ممن هو في شك منها. ثم أخذت السورة نصف من جعلوهم آلهة بالعجز، وتذكر أن كل نفس مسئولة عن جرمها، وتثبت عموم رسالة الرسول، وتنقل استبطاء المشركين ليوم الوعيد، وله وقت معلوم.
وتحكي السورة قول الكافرين في القرآن ومحاورة المستكبرين والضعفاء، وتضع حدا للتفاخر بالأموال والأولاد، وأنها لا تقرب إلى الله إلا بقدر ما توجه إليه من نفع عام، فهي ملكه، وهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وتعرض صورا للمشركين، فقد قالوا في رسولهم : إنه يريد أن يصدهم عما يعبد آباؤهم، وقالوا فيما نزل عليه من آيات : إفك مفترى وسحر مبين، وما أتوا كتبا من قبل ؟، وما أرسا إليهم قبلك من رسول، وقد أرسلنا إلى من قبلهم ممن علموا قوتهم وعزتهم وأخبارهم، فلما لم يستجيبوا أخذناهم بالعذاب. ويؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يوضح مهمته معهم، وأنها التذكير دون الإلجاء، ويؤمرون بالنظر في صاحبهم، فما به جنون، ولا هو طالب لمال، ودعوته للناس إلى الحق بوحي من الله تعالى ليتحقق لهم الأمن، فإذا جاءت الساعة وفزعوا ولا مهرب أخذوا من مكان قريب، وقالوا عند ذلك : آمنا. وأنى لهم الإيمان وقد كفروا من قبل، وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأمثالهم، إنهم جميعا كانوا في شك من أمر الدين موقع في الريبة.
ﰡ
١- الثناء كله حق لله - وحده - الذي له ما في السماوات وما في الأرض خلقا ومُلْكا وتدبيرا، وله - وحده - الثناء في الآخرة لملكه الشامل، وهو الحكيم الذي لا يخطئ، الخبير الذي لا يغيب عنه سر.
٢- يعلم كل ما يدخل في أجزاء الأرض كالماء والكنوز والدفائن وأجزاء الموتى، وكل ما يخرج منها كالحيوان والنبات والمعادن ومياه الآبار والعيون، ويعلم ما ينزل من السماء كالملائكة والكتب التي يَتَلَقَّاها الأنبياء والمطر والصواعق، وما يصعد فيها ويرقى إليها كالملائكة وأعمال العباد والأرواح، وهو الكثير الرحمة العظيم المغفرة.
٣- وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة الموعودة للبعث والنشور. قل لهم - أيها الرسول - : ستأتيكم، وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يغيب عن علمه قدر ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها إلا مسطور في كتاب تام البيان.
٤- ليثيب الله الذين آمنوا وعملوا الخير لأنفسهم وللناس، أولئك المؤمنون العاملون لهم من الله مغفرة تمحو ذنوبهم ورزق واسع لا مَنَّ فيه.
٥- والذين أجهدوا أنفسهم في محاربة القرآن مغالبين أمر الله في نصر رسوله، أولئك لهم عذاب من أسوأ العذاب المؤلم.
٦- ويعلم الذين مَنَّ الله عليهم بالعلم أن القرآن الذي أنزل إليك من ربك - بما فيه من عقائد وهداية - هو الحق الذي لا مرية فيه، وهو الذي يهدى إلى طريق الله الغالب على كل شيء، المستحق لكل ثناء.
٧- وقال الكفار بعضهم لبعض - استهزاء بخبر البعث - : هل ندلكم على رجل يُحدثكم أنكم إذا متم وفُرِّقت أجسامكم كل تفريق أنكم لتبعثون في خلق جديد ؟
٨- أختلق هذا الرجل على الله كذباً فيما نسبه إليه من إحياء الموتى، أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدرى ؟ ليس الأمر كما زعموا، بل الحقيقة أن الذين لا يؤمنون بالآخرة واقعون في العذاب والضلال البعيد عن الحق.
٩- أعموا فلم ينظروا إلى ما بين أيديهم وما وراءهم من السماء والأرض، ليعلموا قدرتنا على فعل ما نشاء ؟ ! إن نشأ نخسف بهم الأرض خسفناها بهم، أو إن نشأ نُسقط عليهم قطعاً من السماء نسحقهم بها أسقطناها. إن فيما ذكرنا لدليلا لكل عبد راجع إلى ربه في كل أمره.
١٠- والله : لقد أعطينا داود منا فضلا بإعطائه الحكمة والكتاب، وقلنا : يا جبال رددي معه التسبيح إذا سبَّح، وسخرنا له الطير ترجع تقديس الله، وصيرنا له الحديد ليِّنا يشكله كما يشاء.
١١- أوحينا إليه أن اعمل دروعاً واسعة تحمى من بأس الأعداء، وأحكم نسْجها بتداخل حلقاتها، وقلنا له ولآله : اعملوا ما يعود عليكم وعلى غيركم بالخير والصلاح، إني بكل ما تعملون بصير لا يغيب عنى شيء منه.
١٢- وسخرنا لسليمان الريح، جريها في أول النهار يعدل السير العادي شهرا، وجريها في آخر النهار يعدل السير شهراً وأسلْنا له معدن النحاس يجرى غزيرا مستمرا، وسخرنا له من الجن من يعمل أمامه بتسخير ربه، ومن ينحرف من الجن عن أمرنا لهم بطاعة سليمان نُذقه من عذاب النار المستعرة.
١٣- يعملون له ما يريد من مساجد للعبادة، وصور مجسمة، وقصاع كبيرة كالأحواض، وأوان للطبخ ثابتات على قواعدها لعظمها، وقلنا لآل داود : اعملوا عملا تشكرون به الله شكراً، وقليل من عبادي من يذكر نعمى فيكثر شكري.
١٤- فلما حكمنا على سليمان بالموت ما دل الجن على موته إلا دابة الأرض تأكل عصاه وهو متكئ عليها، فلما سقط علمت الجن أنهم لو كانوا يعلمون الغيب ما مكثوا في العذاب الشاق المهين لهم.
١٥- أقسم : قد كان لأهل سبأ في مسكنهم باليمن آية دالة على قدرتنا : حديقتان تحفَّان ببلدهم عن يمين وشمال، قيل لهم : كلوا من رزق ربكم واشكروا نعمه بصرفها في وجوهها. بلدتكم بلدة طيبة ذات ظل وثمار، وربكم كثير المغفرة لمن شكره.
١٦- فأعرضوا عن شكر النعمة وبطروا معيشتهم، فأطلقنا عليهم السيل الجارف الذي أعقب تصدع السدود فأهلكت البساتين، وبدَّلناهم بجنتيهم المثمرتين جنتين ذواتي ثمر مر، وشجر لا يثمر، وشيء من نبق قليل لا غناء فيه.
١٧- ذلك الجزاء جزيناهم بكفرهم النعمة وعدم شكرها، وهل نعاقب هذا العقاب إلا شديد الكفر بالله وبأفضاله ؟ !
١٨- وجعلنا بين مسكنهم باليمن وبين القرى المباركة قرى متقاربة يظهر بعضها لبعض، وجعلنا نسبة بعضها إلى بعض على مقدار مُعَيَّن من السير لا مشقة معه، وقلنا لهم : سيروا فيها ليالي وأياماً متمتعين بالأمن.
١٩- فقالوا - بطراً بنعمة الراحة والأمن - : ربنا باعد بين أسفارنا، فلا نصادف قرى عامرة في طريقنا إلى مقاصدنا، فباعد الله بين أسفارهم، وظلموا أنفسهم بطغيانهم، فصيَّرناهم أحاديث للناس، وفرقناهم كل تفريق، إن فيما وقع لهم لعظات لكل صابر على البلاء، شكور على العطاء.
٢٠- ولقد حقَّق إبليس ظنه عليهم، فاتبعوه إلا فريقاً قليلا من المؤمنين.
٢١- وما كان لإبليس عليهم من قوة يخضعهم بها، ولكن الله امتحنهم ليُظهر من يُصدق بالآخرة ممن هو منها في شك. وربك - أيها النبي - على كل شيء رقيب قائم على كل أمر.
٢٢- قل - أيها النبي - للمشركين : ادعو الذين ادَّعيتم باطلا أنهم شركاء من دون الله يجلبوا لكم نفعا أو يدفعوا عنكم ضراً. هم لا يجيبونكم لأنهم لا يملكون مقدار ذرة في السماوات ولا في الأرض، وليس لهم فيهما شركة مع الله في خلق أو ملك، وليس لله من هؤلاء الشركاء المزعومين من يُعينه على تدبير شئون خلقه.
٢٣- ولا تنفع الشفاعة عند الله إلا للمستأهلين لمقام الشفاعة، حتى إذا كشف الفزع عن قلوبهم بالإذن لهم في الشفاعة قال بعضهم لبعض - مستبشرين - : ماذا قال ربكم ؟ ! فيجابون بأنه قال القول الحق بإذنه في الشفاعة لمن ارتضى، وهو - وحده - صاحب العلو والكبرياء، ويأذن ويمنع من يشاء كما يشاء.
٢٤- قل - أيها النبي - للمشركين : من يأتيكم برزقكم من السماوات والأرض ؟ ! قل لهم - حين لا يجيبون عناداً - : الله - وحده - هو الذي يرزقكم منهما، وإننا معشر المؤمنين أو إياكم معشر المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى أو الضلال الواضح.
٢٥- قل لهم - أيها النبي - : لا تسألون عما أذنبنا ولا نسأل عن أعمالكم.
٢٦- قل لهم : يجمع بيننا ربنا يوم القيامة ثم يقضى بيننا بالحق، وهو - سبحانه - الحاكم في كل أمر، العليم بحقيقة ما كان منا ومنكم.
٢٧- قل لهم : أروني الذين ألحقتم بالله في استحقاق العبادة تزعمون شركتهم له، ليس له شريك، بل هو الله الغالب على كل شيء. الحكيم في تدبيره وتصريفه.
٢٨- وما أرسلناك - يا محمد - إلا للناس جميعاً بشيراً للمؤمنين بالخير، ونذيراً للكافرين بالشر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون صدقك وعموم رسالتك.
٢٩- ويقول الكافرون - استبعاداً لليوم الموعود للجزاء - : متى هذا الوعد فندخل النار وتدخلون الجنة إن كنتم صادقين في وعدكم به ؟ !
٣٠- قل لهم - أيها النبي - : لكم ميعاد يوم عظيم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون.
٣١- وقال الذين كفروا : لن نصدق بهذا القرآن ولا بالكتب التي تقدمت عليه فيما تأمر به وتدعو إليه، ولو ترى - يا من تمكنك الرؤية - وقت وقف الظالمين عند خالقهم ومالك أمرهم لرأيت العجيب في موقفهم حين يرد بعضهم إلى بعض القول، يقول المستضعفون للمستعلين عليهم : لولا أنتم - بتسلطكم علينا - لكنا مؤمنين.
٣٢- قال المستكبرون للمستضعفين - منكرين قولهم - : أنحن صددناكم عن الهدى بعد مجيئه لكم نصدكم عنه ؟. بل كنتم مؤثرين الضلالة على الهدى.
٣٣- وقال المستضعفون للمستكبرين : بل تدبيركم ووسوستكم لنا في الليل والنهار أوقعنا في التهلكة حين كنتم تطلبون منا أن نكفر بالله، ونجعل له شركاء، وأسر الفريقان الحسرة لما رأوا العذاب واقعاً بهم، فعلموا أن لا فائدة من إظهار هذه الحسرة، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين لم يؤمنوا. هل يستحق هؤلاء إلا جزاء ما كانوا يعملون ؟ !
٣٤- وما أرسلنا في قرية من رسول يدعوهم إلى الحق إلا قال المترفون من أهلها : إنا بما جئتم به مكذبون.
٣٥- وقالوا - متباهين - : نحن أكثر أموالاً وأولاداً، وما نحن بمعذبين في الآخرة.
٣٦- قل لهم - أيها النبي - : إن خالقي يُوسِّع الرزق لمن يشاء من العاصين والمطيعين ويُضيِّق على من يشاء، وليس ذلك دليل رضاه أو سخطه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
٣٧- وليست أموالكم وأولادكم بالمزية التي تقربكم عندنا قربة، لكن من ثبت له الإيمان وعمل صالحاً فأولئك لهم الثواب المضاعف بما عملوا، وهم في أعالي الجنات آمنون.
٣٨- والذين يسْعَون في معارضة آياتنا - محاولين إبطالها وتعجيز أنبيائنا عن تبليغها - أولئك في العذاب محضرون لا يفلتون.
٣٩- قل - أيها النبي - : إن ربى يُوسِّع الرزق لمن يشاء من عباده ويُضيِّق عليه، وما أنفقتم من شيء فهو يعوضه، وهو - سبحانه - خير الرازقين.
٤٠- واذكر - أيها النبي - يوم يحشرهم الله جميعاً. ثم يقول - سبحانه - للملائكة أمام من كانوا يعبدونهم : أهؤلاء خصُّوكم بالعبادة دوني ؟ !
٤١- قالت الملائكة : نُنزهك - تنزيها - عن أن يكون لك شريك، أنت الذي نواليه من دونهم، وهم واهمون في زعمهم أنهم كانوا يعبدوننا، بل كانوا خاضعين لتأثير الشياطين الذين زينوا لهم الشرك أكثرهم بهم مصدقون.
٤٢- فيوم الحشر لا يملك بعضكم لبعض جلب نفع ولا دفع ضر، ونقول للظالمين أنفسهم : ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها في الدنيا تكذبون.
٤٣- وإذا تتلى على الكفار آياتنا واضحات الدلالة على الحق، قال الكافرون : ما هذا إلا رجل يُريد أن يمنعكم عمَّا كان يعبد آباؤكم، وقالوا : ما هذا القرآن إلا كذب مختلق، وقال الذين كفروا للقرآن لمَّا جاءهم : ما هذا إلا سحر واضح.
٤٤- وما أنزل الله على العرب من كتب سماوية يدرسونها، وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير يخوفهم عاقبة جحودهم.
٤٥- وكَذَّب الذين سبقوا من الأمم أنبياءهم، وما بلغ مشركو قومك عُشْر ما آتينا هؤلاء السابقين من قوة وتمكين، فكذَّبوا رسلي، فكيف كان إنكاري عليهم بعقابي لهم ؟.
٤٦- قل لهم : إنما آمركم بخصلة واحدة هي : أن تقوموا - مخلصين لله بعيدين عن التقليد - في البحث بإخلاص لله، ومتفرقين اثنين اثنين ليتعاونا في التأمل، وواحداً واحداً ينظر بعدل وإنصاف، ثم تتفكروا في أمر صاحبكم - محمد - الذي عاشرتموه وعرفتم سلامة عقله. ما به من جنون حين تصدى لهذا الأمر. إن هو إلا نذير لكم بعذاب شديد مقبل أمامكم.
٤٧- قل للكفار : أي شيء من أجر طلبته منكم على تبليغ الرسالة فهو لكم، ما أجرى الذي انتظره إلا على الله، وهو على كل شيء رقيب مطلع.
٤٨- قل لهم : إن ربى يرمى بالحق في وجه الباطل فيمحقه، وهو علام الغيوب لا يخفي عليه سر.
٤٩- قل لهم : ظهر الإسلام، وما يصلح الباطل أن يكون وسيلة لدفع الحق، ولا أن يفيد وسائله السابقة.
٥٠- قل لهم : إن انحرفتُ عن الحق فإنما ضرر ذلك عائد على نفسي، وإن اهتديت فبإرشاد ربى، إنه سميع لقولي وقولكم، قريب منى ومنكم.
٥١- ولو ترى - أيها المبصر - حين فزع الكفار عند ظهور الحق فلا مهرب لهم، وأخذوا إلى النار من مكان قريب.
٥٢- وقالوا - عندما شاهدوا العذاب :- آمنا بالحق، وكيف يكون لهم تناول الإيمان بسهولة من مكان بعيد هو الدنيا التي انقضى وقتها ؟
٥٣- وقد كفروا بالحق من قبل هذا اليوم، ويرجمون بالظن الباطل من مكان بعيد عن الصواب.
٥٤- وحيل بينهم وبين ما يشتهون من إيمان ينفعهم، كما فعلَ بأشياعهم من قبل عندما آمنوا بعد فوات الوقت، لأنهم - جميعاً - كانوا في شك من الحق.