ﰡ
وهي سورة مكية على الصحيح، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية وتشتمل كغيرها من السور المكية على إثبات التوحيد ونفى الشركاء، وإثبات النبوة وصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعاه عن ربه، ورد شبهاتهم في القرآن والنبوة، ثم تسلية النبي ببيان موقف الأولاد من آبائهم. وضرب الأمثال للمشركين بقوم هود وغيرهم، ثم بيان انقياد الجن له حتى يطمئن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعد ذلك أثبت المعاد والبعث، وختم السورة بالنصيحة الغالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يقوم بالدعوة إلى الله.
إثبات الوحدانية لله ونفى الشركاء [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
وَأَجَلٍ مُسَمًّى المراد به: يوم القيامة. شِرْكٌ: شركة. أَوْ أَثارَةٍ أى: بقية من علم يؤثر ويروى، وفي كتب اللغة: أثر الحديث: ذكره عن غيره، ومنه حديث مأثور، وقولهم: جاء في الأثر. يَدْعُوا الدعاء: العبادة.
المعنى:
حم. تنزيل الكتاب- الكامل في كل شيء وهو القرآن- من الله العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه، وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالقرآن على أنه من عند الله، وصدقوا بكل ما فيه، وآمنوا بأن محمدا نبي من عند الله وصادق في كل ما يدعيه من توحيد خالص، وإثبات للبعث والجزاء، ودعوة إلى الخلق الكامل والمثل العليا.
ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف الخلق التي لا يعلمها إلا خالقها ما خلقنا هما في حال من الأحوال إلا في حال ملتبسة بالحق والحكمة والغرض الصحيح فلم تخلق هذه الدنيا العريضة عبثا، وليس من المعقول أبدا أن يترك هذا الخلق بلا حياة ثانية يجازى فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب فيها المسيء على إساءته، إذ ليست الدنيا دار جزاء بل هي دار عمل، والله خلق السموات والأرض بالحق والحكمة، ومن الحق والعدل ومن مقتضيات الحكمة أن تكون هناك دار للجزاء وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية ٢٢].
وما خلقهما ربك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى عنده وهو يوم القيامة، والحال أن الذين كفروا عما أنذروا به من هول ذلك اليوم وشدائده، الذي لا بد من الانتهاء إليه، والذين كفروا عما أنذروا به معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون ولا يعملون لأجله.
بل ألهم شركاء في السموات مع الله؟! لم يكن لهم شركاء في السماء، ولم يخلقوا شيئا مما في الأرض على اتساعها فكيف تعبدونهم من دون الله؟! أمعكم دليل عقلي واحد على خلقهم لشيء أو لشركتهم مع الله في شيء؟ الجواب:
لا وإذا لم يكن دليل عقلي، فهاتوا دليلا نقليا أو ائتوني بكتاب أنزل من قبل هذا القرآن الذي يدعو إلى التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك، ائتوني بكتاب من قبل القرآن نزل مؤيدا لما تدعون من وجود الشركاء لله أو ائتوني ببقية من علم أثر وروى لكم، يؤيد ما تذهبون إليه، إن كنتم صادقين! وهذا تحد سافر لهم مبطل لدعواهم الشركة مع الله.
وهل هناك أحد أكثر ضلالا ممن يدعو من دون الله مالا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لدعواه؟ لا أحد أضل منكم يا من تدعون وتعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لكم إلى يوم القيامة وهم- أى: الآلهة- عن دعاء الكفرة غافلون فلا يسمعون ولا يجيبون، لأنهم إن كانوا حجارة فهم لا يسمعون، وإن كانوا عقلاء كعيسى مثلا فهم مشغولون عنهم لا يلتفتون إلى باطلهم.
لا أحد أكثر ضلالا من عبدة الأصنام حيث يتركون السميع البصير المجيب القادر على تحصيل كل بغية وطلب، ويدعون من دونه الجماد الذي لا يستجيب، ولا قدرة له على الاستجابة، ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس وبدا الصبح لذي عينين، وتفرد الواحد الأحد وقال: لمن الملك اليوم؟ فأجيب: لله الواحد القاهر! إذا حشر الناس كان الأصنام ومن عبد من دون الله أعداء للمشركين، وكانوا بعبادتهم كافرين وجاحدين، وتبرأوا منهم، ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه، وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
بَيِّناتٍ: واضحات كالشمس. لِلْحَقِّ أى: لأجل الحق. أَمْ المراد: بل أيقولون. افْتَراهُ: اختلقه من عنده. تُفِيضُونَ: تأخذون فيه وتندفعون إليه كاندفاع السيل. بِدْعاً البدع: الأول وقرئ بدعا جمع بدعة، وشيء بدع أى: مبتدع ليس له مثال. إِفْكٌ قَدِيمٌ أى: كذب قديم.
إِماماً: يقتدى به.
بعد أن عاب عليهم اتخاذ شركاء لله وعبادة الأوثان، أراد أن يبين شبههم الواهية في أن القرآن من عند محمد وليس من عند الله، وفي صدق محمد فيما يدعيه.
المعنى:
وإذا تتلى على المشركين آياتنا البينات، ومعجزاتنا الواضحات التي هي أوضح من الشمس وأقوى من فعل السحر قالوا لأجل الآيات التي هي الحق من عند الله: هذا سحر بين ظاهر فإنها تعمل عمل السحر، وتفرق بين المرء وما يحبه ويهواه، وتخلق من المسلم رجلا آخر، لما يروا هذا يقولون: إن محمدا ساحر، وما يأتيه سحر مبين.
أم يقولون افترى القرآن؟ «١» أى: بل أيقولون افتراه واختلقه من عند نفسه ونسبه إلى الله؟ وهذه شبهة ثانية، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم الذي ينكره كل عاقل، قولهم العجيب الذي يدعو إلى العجب العجاب فإن افتراء محمد للقرآن، مع تحديه لكم أن تأتوا بمثله مجتمعين، ثم أنتم تعجزون عن ذلك، إن قدرة محمد على اختلاق القرآن وحده فرضا مع عجزكم عنه لدليل على أن هذه القدرة من عند الله، ومعجزة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديق من الله له، والعزيز الحكيم لا يصدق الكاذب! قل لهم يا محمد: إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بالعقوبة على الكذب وأنتم لا تقدرون على كفه، ومنعى من وقوع العذاب على فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب لا يملك أحد شيئا يمنعني به من عذاب الله؟!
وما لكم تكذبونني في دعوى الرسالة عن الله، وتكفرون بما جئت به من التوحيد وإثبات البعث؟ هل أنا وحدي في ذلك؟ هل أنا أول رسول أرسل للبشر؟ لا.
ما كنت بدعا من الرسل، ولم أكن أولهم بل سبقني إبراهيم وموسى وعيسى- عليهم جميعا الصلاة والسلام-.
ولست أدرى ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا فالأمر مفوض إليه، وإن كان وعد المؤمنين بالنصر والخير وأوعد الكافرين بالخذلان والشر. ومن أصدق من الله حديثا؟! أما في الآخرة فالله قد أكد بأن أولياءه لا خوف عليهم فيها ولا هم يحزنون... وكانوا يطلبون من النبي آيات للتعجيز، فيقول الله لهم على لسان رسوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ، وما أنا إلا نذير. إن علىّ إلا البلاغ وعلى الله وحده الحساب.
قل لهم: أرأيتم- أخبرونى- إن كان هذا القرآن من عند الله وليس معجزا ولا مختلقا كما تزعمون والحال أنكم كفرتم به، وشهد شاهد من بنى إسرائيل، أى:
رجل منصف بعيد عن الشبهة عارف بالتوراة ملم بها فليس المراد به شخصا بعينه كعبد الله بن سلام أو موسى- عليه السلام- كما قال بعضهم، وشهد رجل من بنى إسرائيل على مثل الذي في القرآن من الدعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على الخير فآمن هذا الرجل واستكبرتم أنتم عن الإيمان وكفرتم بالقرآن. أخبرونى ماذا أنتم فاعلون! أرأيتم حالكم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به... إلخ فقد ظلمتم أنفسكم «١» ألستم ظالمين؟ والله لا يهدى القوم الظالمين.
وهناك حكاية أخرى لبعض مفترياتهم: وقال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا وفي شأنهم: لو كان هذا الدين حقّا والقرآن خيرا ما سبقنا إليه الضعفاء والفقراء والعبيد
وكيف ذلك؟ ومن قبله كتاب موسى وهو التوراة حالة كونه إماما يقتدى به في دعوة الناس إلى التوحيد والحكم بكتاب الله والحث على الفضائل، وحالة كونه أنزل رحمة للناس، وهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه، وهو يهدى للتي هي أقوم حالة كونه لسانا عربيا مبينا نزل بلسان قريش ليفهموه ويتدبروه وإنما يتذكر أولو الألباب.
أنزله ربك لينذر به الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالشرك، وهو هدى وبشرى للمحسنين فكيف يقولون بعد هذا: إن هذا القرآن إفك قديم؟ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على الطريقة المثلى وساروا عليها مخلصين مؤمنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك هم أصحاب الجنة خالدين فيها وذلك الجزاء بما كانوا يعملون، والله ذو الفضل العظيم..
الإنسان بين خالقه ووالديه [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
وَوَصَّيْنَا التوصية: الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بأن المأمور به محل اعتناء.
كُرْهاً الكره: المشقة. فِصالُهُ: فطامه، وهو الرضاع المنتهى بالفطام ولذا عبر بالفصال عن الرضاع. بَلَغَ أَشُدَّهُ: كمل عقله ورأيه واشتد ساعده.
أَوْزِعْنِي: رغبني ووفقني إليه حتى أكون راغبا فيه. أُفٍّ: هو صوت يظهر عند الضجر. أُخْرَجَ المراد: أبعث من القبر خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي:
مضت القرون. يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان الغوث من الله. وَيْلَكَ الويل: دعاء بالثبور والهلاك، أو هو واد في جهنم. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، والمراد أباطيلهم التي سطورها في الكتب. دَرَجاتٌ المراد: منازل، فإن كانت في العلو فهي درجات، وإن كانت في الانخفاض فهي دركات.
هذه الآيات الكريمة سيقت لبيان جانب من جوانب نعم الله على الإنسان وفضله عليه حيث تعهده في الصغر، ووضع في قلب والديه- وخاصة الأم- غريزة حبه والعطف عليه حتى يكتمل، وبعد بلوغ عقله وكماله كان منه من وفق إلى الخير واهتدى ورد
المعنى:
ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن لهما إحسانا، وألزمناه إحسانا إليهما فهما أحق الناس به، والأمر بالإحسان إليهما محل اعتناء من الله، فكان وصية لا أمرا إذ هما قد توليا إيجاده ظاهرا، والله تولى خلقه خفية وباطنا، والأم أحق بذلك من الأب فهي حملته على كره وتعب، ووضعته بمشقة وألم، ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا، وقد مضى أن مدة الرضاع لمن أراد إتمامه سنتان وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بقيت مدة الحمل وهي ستة أشهر ولحظتان، وهذه أقل مدة يمكن نسبة الولد فيها إلى أبيه، إن أقل الحمل ذلك، وأما أكثره فلم ينص عليه القرآن، والفقهاء قالوا: أقصاه سنتان، وقيل: أربع، والغالب أن مدة الحمل حول تسعة أشهر.
ومدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا والولد فيها حمل على أمه، فبطنها وعاء له، وثديها سقاء له، وهي فوق ذلك تسهر وتتعب، وتشقى ليسعد، فمن باب الذوق ورد الجميل الإحسان إلى الوالدين وخاصة الأم.
فإذا عاش الرضيع ودرج كما يدرج الصبيان، وأيفع مع الشبان، حتى إذا بلغ أشده واستحكم عقله واستوت قوته، وبلغ أربعين سنة. قال: رب أوزعنى ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي حيث وضعت في قلوبهما العطف علىّ، وخلقتني بسببهما على أتم صورة ورعيتنى في الصغر وربيتني وحفظتني وأنعمت علىّ نعما لا تحصى، ويظهر- والله أعلم- أن قول الإنسان هذا عند بلوغ الأشد واكتمال العقل وبلوغ الأربعين، قوله هذا من حيث هو إنسان فقط بقطع النظر عن الإرشادات والتعاليم التي تأتى على ألسنة الزمان. وتجعل الطفل عند البلوغ أو الاحتلام مكلفا بكل فروع الشريعة إذ طلب الإنسان من ربه أن يوفقه إلى العمل وأن يهديه إلى الشكر ورد الجميل ليس موقوفا على بلوغ الأربعين وكمال الرشد.
أولئك- والإشارة للتعظيم- الذين نتقبل عنهم أحسن أعمالهم، وكلها بسبب كمال الإخلاص من أحسن الأعمال، ونتجاوز عما فرط من سيئاتهم، وعدهم ربك بذلك وعدا هو الصدق بعينه، الذي كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل، أما الصنف الثاني الذي لم يرع في الله حقا، ولم يرع لوالديه حرمة، ورد الجميل بالقبيح، وجازى الحسنة بالسيئة فهذا والداه وهما كما عرفت تعبا وسهرا لراحته وصنعاه حتى اكتمل، وأشارا عليه بما فيه خيره وسعادته ومع هذا ما زاده ذلك كله إلا استكبارا وعنادا وكفرا وجحودا.. انظر إليه وهو يقول: والذي قال لوالديه حينما أشارا عليه بالإسلام والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال لهما: أف لكما أتعداننى بالبعث وأنى سأخرج من القبر للحساب، والحال أنه قد خلت القرون من قبلي ومضت آلاف السنين ولم نر أحدا بعث، يريد بهذا إنكار البعث.
وهما يستغيثان بالله من أفعاله، ويلجئان إلى الله أن يرشده ويهديه، ويقولون له:
ويلك وهلاكك آمن مع المؤمنين، وليس مرادهم الدعاء بالويل والثبور، بل هما يحثانه على الإيمان والدخول فيه بسرعة، لأن وعد الله حق، وقد وعد المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب.
فيقول بعد هذا: ما هذا الذي تقولانه إلا أساطير الأولين وأباطيلهم! انظر يا رعاك الله: الوالدان يحبان أولادهما حبا غريزيا، وهما ينصحانهم بما هو خير لهم، وقد نصحوا بالإيمان الكامل، ولكن إذا كان الابن غير موفق لم يرع لهما حرمة، ولم يقدس لهما رأيا، ولهذا لا تأس يا محمد على كفر من كفر من قومك.
أولئك- والإشارة للتحقير- الذين حقت عليهم كلمة ربك بالعذاب وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ حالة كونهم في عداد أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس، لأنهم كانوا خاسرين.
ولكل من الفريقين: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، درجات معلومة بسبب أعمالهم التي عملوها، فريق في الجنة له درجات عليا، وفريق في السعير له دركات
واذكر يوم يعرض الذين كفروا على النار، ويعذبون بها غدوّا وعشيّا، ويقال لهم تأنيبا وتوبيخا: أنتم أذهبتم طيباتكم وملذاتكم في الحياة الدنيا، واستنفدتم حقكم فيها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فاليوم تجزون عذاب الهون والهوان، العذاب الذي جعل للمستكبرين المتغطرسين ليذل تلك الأنوف التي طالما شمخت بغير حق، ويخضع تلك الرءوس التي طالما تعالت في سبيل الشيطان، كل ذلك بسبب ما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وانظر إلى قوله: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ نعم وهل يكون التكبر والتعالي إلا في الأرض وبالمادة الحقيرة! وبسبب ما كنتم تفسقون كان جزاؤكم...
وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها وقد وضعت للنعى على الكفار الذين يعذبون بالنار مع قوله: «واستمتعتم بها» أمكننا أن نفهم أن هناك فرقا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة آية ٧٨].
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف ٣٢].
إذ الآية التي نحن بصددها تشير إلى أن الكفار تمتعوا بطيباتهم وملذاتهم واتبعوا شهواتهم وأفنوا شبابهم في الإثم والفسوق والعصيان والاعتداء وتجاوز الحدود، أما الآيات الأخرى فهي تبيح للمسلم أن يتمتع بطيبات الرزق مع عدم الاعتداء وتجاوز الحد في أى ناحية سواء كانت اقتصادية أم خلقية أم دينية، أقول هذا لأنى رأيت كثيرا من المفسرين ذكروا قصصا تفيد أن الإسلام يحارب التمتع بالرزق الحلال مستندين إلى ظاهر هذه الآية والله أعلم بكتابه.
قصة نبي الله هود مع قومه عاد [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
أَخا عادٍ عاد: قبيلة، وأخوهم هود من أشرافهم. بِالْأَحْقافِ: ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، وهي رمال باليمن كانت تسكنها قبائل عاد. خَلَتِ: مضت. لِتَأْفِكَنا: لتصرفنا عن عبادة الآلهة،
عارِضاً العارض: السحاب الذي يعترض في الأفق. تُدَمِّرُ: تهلك، والتدمير: الهلاك كالدمار. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ: بيناها لهم. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ:
هلا نصرهم. قُرْباناً القربان: كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة. إِفْكُهُمْ أى: كذبهم، وقرئ أفكهم أى: صرفهم.
هذه القصة تذكر أهل مكة بقوم هود، وما حل بهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا فلما كفروا أرسل الله عليهم جنده فأبادهم، فهل من مدكر؟!!
المعنى:
واذكر يا محمد لأهل مكة هودا أخا عاد إذ أنذر قومه، وقد كانوا يسكنون الأحقاف فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله الذي خلقكم ورزقكم لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم هوله، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم ينذرون قومهم بهذا الإنذار وهو ألا يعبدوا إلا الله.
فماذا كان قولهم إزاء هذا؟ «١» قالوا: أجئتنا يا هود لتأفكنا عن آلهتنا وتصرفنا عن عبادتها، وقد عبدها آباؤنا ومن هم خير منك؟! وإذا أصررت على دعوتك وما تقوله لنا من إنذار فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال لهم: إنما العلم عند الله، فهو وحده الذي يعلم متى يأتى العذاب، وإنما أنا رسول فقط لا علم لي بشيء، وظيفتي البلاغ، أبلغكم ما أرسلت به إليكم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق العامة.
ظلوا على هذا الحال، ودام عنادهم حتى حقت عليهم الكلمة وحل بهم ما استعجلوه وأنكروه، فلما رأوه حالة كونه معترضا بين السماء والأرض يملأ الأفق يتهادى
جاءتهم الريح وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها- فترى القوم بعدها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟ فأصبحوا بعد هذا لا يرى من آثارهم إلا مساكنهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية ٥٢] مثل ذلك الجزاء الصارم نجزى القوم المجرمين فاحذروا يا آل مكة ما يحل بكم.
وكانت عاد قد أمدها الله بأنعام وبنين، وجنات وعيون، وكانوا يبنون بكل ريع «١» آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، وأمدهم ربك بما ترى، وجعل لهم سمعا وأبصارا وقلوبا، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، ولم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء لأنهم كانوا بآيات الله ومظاهر الكون التي تدل على وجود الله واتصافه بكل كمال، كانوا بها يكفرون، وحاق بهم حينئذ ما كانوا به يستهزئون.
يا آل مكة لقد أهلكنا ما حولكم من القرى- كحجر ثمود وقرى قوم لوط وغيرها- وكانت أخبارهم ظاهرة عندهم، وآثارهم يمرون عليها بالليل وبالنهار أفلا تعقلون؟! لقد أهلكنا ما حولكم من القرى بعد أن صرفنا لهم الآيات وبيناها لعلهم يرجعون، فهل تتذكرون بذلك وتتعظون؟! فهلا نصرهم عند نزول العذاب بهم الذين اتخذوهم من دون الله آلهة.
بل في الشدائد ضلت عنهم الآلهة، وغابت فلم تعرفهم لأنها أصنام لا تحس، وذلك كذبهم الذي كانوا به يتشدقون، وهذا جزاء ما كانوا به يفترون على الله.
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
المفردات:
صَرَفْنا: أملناهم ووجهناهم. نَفَراً النفر: الجماعة دون العشرة، وأصل النفر يطلق على الجماعة التي تنفر إلى العدو أَنْصِتُوا: اسمعوا بأدب له.
قُضِيَ: انتهى. وَلَّوْا: رجعوا.
هذا تأنيب للمشركين الذين لا يسمعون لهذا القرآن، وهم أعلم الخلق به لأنه بلغتهم، وعلى لسان رجل منهم يعرفون عنه كل شيء، تأنيب لهم حيث آمن بالقرآن الجن وهم على غير لغته ومن غير جنس صاحبه، في حين كفر به المشركون: وبهذا تشتد عزيمة النبي، وتقوى روحه، وماذا يبغى النبي بعد ذلك والجن يؤمنون به حين ينكر بعض الإنس رسالته؟
من الحقائق الثابتة في كتب التاريخ والسيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موت خديجة وموت أبى طالب الذي كان درعه الواقي، وبعد أن أسرفت قريش في إيذائه، خرج إلى الطائف موطن قبائل ثقيف لعله يجد فيهم الناصر والذائد عنه، ولكنهم ردوه ردّا غير جميل، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، بعد أن أدموا رجليه واختضبت نعلاه بالدم.
وهكذا الأنبياء والمرسلون والمصلحون دائما يلقون العنت والمشقة من بنى وطنهم ولما عاد صلّى الله عليه وسلّم من الطائف بعد أن لقى من ثقيف وغلمانها ما لقى، واتجه إلى الله في تضرع وخشوع قائلا:
«اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني؟! إلى عبد يتجهمني- يلقاني بالغلظة والشدة- أو إلى عدو ملكته أمرى! إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك».
وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نازلا في موضع يسمى (نخلة) من ضواحي مكة، وبينا هو يصلى في جوف الليل يقرأ القرآن، ويناجى صاحب الملك والجبروت إذ صرف الله إليه سبعة من أشراف الجن، فاستمعوا إليه، وهو يقرأ، ولم يشعر بهم ساعة نزولهم عليه وانصرافهم إلى قومهم، ونزل قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ (الآية) نزلت تطييبا لخاطره، وشدّا لعزيمته وتقوية لروحه، وبرهانا دامغا لأولئك المشركين الضالين، وبعد ذلك ازداد يقينه بالإسراء والمعراج إلى الملأ الأعلى، ولا شك أن فيها ترفيها روحيا وسموا نفسيا واتصالا ولقاء وتسلية وعزاء.
واذكر يا محمد لقومك وقت أن صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروا القرآن وأنت تتلوه، قالوا لبعضهم: أنصتوا أدبا لهذا الحديث الذي ما سمعنا مثله أبدا، فلما قضى وانتهى النبي منه، رجعوا إلى قومهم منذرين يقولون: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، يا قومنا: إنا سمعنا كتابا
ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزه في أرضه وتحت سمائه، ولن يفلت منه بحال وليس له من دون الله أولياء تلى أموره، وتدفع عنه السوء، أولئك الذين لم يجيبوا في ضلال مبين، وأى ضلال أضل من هذا؟!
من دلائل البعث [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
المفردات:
يَعْيَ يقال: عيى يعيى بأمره: إذا لم يهتد لوجهه، والمراد يعجز ويضعف.
بَلى: نعم هو قادر على إحياء الموتى، والفرق بين (بلى) ونعم أن (بلى) جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه كما هنا، أما (نعم) فهي لتقرير ما قبلها.
ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله الذي خلق السموات والأرض بالحق، والحال أنه لم يعي بخلقهن، ولم يتعب لذلك أصلا، ولم يتحير فيه أبدا.
ألم يعلموا أن الله قادر «١» على أن يحيى الموتى؟! نعم هو قادر على ذلك، بل هو أهون عليه، إذ هو على كل شيء قدير.
ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار ويعذبون بها، يقال لهم توبيخا وتهكما:
أليس هذا العذاب الذي ترونه وتلمسونه حقّا لا شك فيه؟ قالوا: بلى وربنا إنه لحق وعدل.
قال الله لهم مشافهة أو على لسان الملائكة: إذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكفرون.
ختام السورة [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
المفردات:
أُولُوا الْعَزْمِ: أصحاب الثبات والصبر على الشدائد.
لما تقررت المبادئ الهامة في الدين الإسلامى، وهي التوحيد وإثبات النبوة والبعث يوم القيامة، ورد القرآن الشبهات، وضرب الأمثال بما يقوى العزائم، ويوهن حجج
المعنى:
إذا كان الأمر كما علمت فاصبر يا محمد كما صبر إخوانك من المرسلين، اصبر على أذى المشركين، إنا كفيناك المستهزئين، وعصمناك من كيد الظالمين، فاصبر على أذاهم الذي لا يتجاوز الماديات، وقو عزيمتك حتى يتكسر عليها باطلهم الضعيف وعنادهم الأعرج، وتذكر قول الله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة آية ٢١٤].
اصبر على البأساء فهكذا إخوانك المرسلون يبتليهم الله ويختبرهم لتقوى نفوسهم وتصفو أرواحهم حتى تتحمل الرسالة، ولا تستعجل لقومك عذابهم، فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، كأنهم يوم يرون ما يوعدون من العذاب يوم القيامة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يسيرة من النهار، كأنهم حين يشاهدون العذاب الشديد وطول مدته يرون أنهم لم يلبثوا إلا مدة من الزمن يسيرة.
هذا الذي وعظتم به أيها الناس كفاية في الموعظة وبلاغ كامل للناس فهل يهلك بعد ذلك إلا القوم الفاسقون، القوم الخارجون عن الاتعاظ والطاعة؟!!