تفسير سورة الأحقاف

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٦) [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
التفسير:
قوله تعالى:
«حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ».. مضى تفسير هاتين الآيتين فى أول السورة السابقة: (الجاثية).
قوله تعالى:
«ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ».
أي أن خلق السموات والأرض وما بينهما، كان خلقا قائما على الحق،
259
متلبسا به، فما خلق شىء فى هذا الوجود إلا بحكمة وتقد. وما خلق شىء عبثا أو لهوا، كما يقول سبحانه: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ».. فكل ذرة فى هذا الوجود، لها مكانها فيه، ولها وظيفتها التي تؤديها لانتظام نظامه، واتساق حركته: «ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ» (٣: الملك).
وقوله تعالى: «وَأَجَلٍ مُسَمًّى» معطوف على قوله تعالى: «بِالْحَقِّ» أي ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وبتقدير أجل مسمّى لكل مخلوق خلق.. فكل مخلوق خلق لغاية، وحكمة.. وكل مخلوق له أجل ينتهى به دوره، كما يقول سبحانه وتعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ» (٤٩: يونس) وكما يقول سبحانه: «لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ» (٣٨: الرعد).
وقوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ».. جملة حالية، تكشف عن موقف بعض مخلوقات الله التي خرجت عن سنن الحق الذي قام عليه الوجود كله.. فهؤلاء الذين كفروا، لم يقفوا عند حدّ كفرهم، وانحرافهم عن جادة الطريق، بل إنهم- مع كفرهم وضلالهم- لم يقبلوا دعوة الهدى، ولم يستمعوا إلى هذا النذير، الذي جاء ينذرهم ويحذرهم عاقبة كفرهم وضلالهم..
وفى الجمع بين كتاب الله المنزّل من الله العزيز الحكيم، وبين السموات والأرض والحق الذي خلقا به- فى هذا الجمع، إشارة إلى أن آيات الله القرآنية، وآياته الكونية، على سواء، فى أنها جميعا من الحق، وأن ما يتلوه أصحاب الألباب من صحف الكون، هو شبيه بما يتلونه من كتاب الله، وآياته.. فمن لم تنفذ العبرة والعظة إلى قلبه عن طريق السمع، بما يتلى عليه من
260
آيات الله وكلماته كان له من نظره فى آيات الله الكونية، ما يفتح له الطريق إلى الله.. أما من أغمض عينيه عن آيات الله الكونية، وأصم أذنيه، عن آيات الله القرآنية فهيهات أن تنفذ إلى قلبه شعاعة من هدى، أو قبسة من نور..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»..
المراد بالاستفهام فى قوله تعالى: «قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟» هو إلفات المشركين إلى هؤلاء المعبودين الذين يعبدونهم من دون الله، وإعادة النظر إليهم، نظرا فاحصا محقّقا، وذلك ليجيبوا على ما يسألون عنه فى شأن هؤلاء المعبودين.. وفى هذا إشارة إلى أن هؤلاء المشركين، كانوا فى غفلة عن معبوداتهم تلك، وأنهم إنما يعبدونها عن تقليد، بلا وعى أو تفكير.. ولهذا طلب إليهم أن يعيدوا النظر فى معبوداتهم تلك، وأن يتحققوا من صفاتها، وما تملك بين أيديها من قوّى..
وقوله تعالى: «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ»..
هو السؤال الذي يطلب إلى المشركين الإجابة عليه، بعد أن استعدوا لهذا الامتحان، بالنظر إلى معبوداتهم، والكشف عن حقيقتها..
والسؤال هو: «ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ» ؟ أي ماذا لهؤلاء المعبودين من مخلوقات فى الأرض؟ وأىّ شىء خلقوه منها؟ «أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ؟» إنه لا شىء لهم فيما على هذه الأرض من مخلوقات، كبر شأنها أم
261
صغر.. إنهم لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له.. كما يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ». (٧٣: الحج)..
وقوله تعالى: «أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ» هو إضراب عن السؤال السابق، بعد أن عرف الجواب عنه، وهو الصمت والوجوم.. وإنشاء لسؤال آخر، فربما وجد المشركون جوابا له، بعد أن عجزوا عن الإجابة عن السؤال الأول..
«أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟» أي إذا لم يكن لهؤلاء المعبودين شىء مما خلق الله سبحانه وتعالى فى الأرض من مخلوقات.. فهل لهم شركة مع الله فيما خلق فى السموات؟ وإنه لا جواب على هذا إلا العجز الصامت، والوجوم المطبق!..
فإن كان هناك من يكابر، ويأبى إلا أن يجعل لهذه المعبودات سلطانا فى السموات أو فى الأرض، فليأت بكتاب من عند الله من الكتب التي سبقت القرآن الكريم، وتقدمت نزوله.. فإن لم يكن كتاب فليكن «أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ» أي أثر ولو قليل من علم، مصدره أهل الذكر والعلم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ»
(٨: الحج)..
وفى السؤال عما للمعبودين فى الأرض بلفظ «الخلق» وعما لهم فى السموات بلفظ «الشرك» - فى هذا مراعاة لمقتضى الحال التي عليها المشركون مع آلهتهم.. حيث يبدو لهم من معبوداتهم أن لها تدبيرا وتصريفا مستقلا فى شئون الحياة.. كما كان فرعون يدّعى أنه بألوهيته، هو الذي يمد قومه بأسباب الحياة، وما ينزل عليهم من مطر، أو ينبت من نبات.. وكما كان
262
يدهى «النمرود» أنه يحيى ويميت، وفى هذا يقول الله تعالى: «إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ» (٢٥٨: البقرة).
أما العالم العلوي، فإن دعوى خلق شىء من عوالمه، أكبر من أن يتسع لها ادعاء، على حين يمكن أن تدّعى الشركة، وأن ينسج لها ثوب ملفق من الوهم والخيال.. حيث لا يطالب الشريك بالتصريف فى شىء، منفردا عن شريكه..
قوله تعالى:
«وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ»..
هو تعقيب على هذا الموقف الذي وقف منه المشركون مع معبوداتهم، موقف امتحان وابتلاء.. وقد تكشف لهم من هذا الامتحان أن معبوداتهم تلك، لا تملك شيئا من هذا الوجود فى أرضه أو سمواته.. وإذن فما أضل من يعبدها، ويرجو العون منها.. إنها لا تستجيب لمن يدعوها، ولو امتد دعاؤه، وطال وقوفه بين يديها إلى يوم القيامة.. إنها لا تملك شيئا، ولن تملكه، حالا أو مستقبلا.. وطلب شىء ممن لا يملك شيئا، هو السفه الجهول، والضلال المبين..
وقوله تعالى: «وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ» جملة حالية، تكشف عن غفلة هذه المعبودات، عن دعاء من يدعونها.. إنها لا تسمع، ولو سمعت ما استجابت، لأنها فى قيد العجز المطلق، الذي لا تملك معه من أمر الله فى عباده شيئا.. وفى هذا يقول الله تعالى: «قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا» (٥٦: الإسراء) ويقول سبحانه:
263
«إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (١٤: فاطر).
وفى التعبير عن عدم الاستجابة بالغفلة، إشارة إلى استخفاف هذه المعبودات بعابديها، وأنها لا تلتفت إليهم، ولا تأبه لدعائهم، حتى ولو كان من شأنها أن تسمع وتعقل.
قوله تعالى:
«وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ».
أي وليس هذا الذي تلقى به هذه المعبودات عابديها، من استخفاف بهم، وشغل عنهم- ليس هذا كل ما هنالك.. بل إن لهذا الحساب بقية فى الآخرة، حيث تنتظر هذه المعبودات من عبدوها فى موقف الحساب والجزاء، وهناك تقف منهم موقف العداوة والخصومة، حيث تشهد عليهم بأنهم كانوا كافرين بالله، مفترين عليها بتأليهها، وعبادتها، وجعلها أندادا لله سبحانه.. وهذه جريمة شنيعة، ألصقها هؤلاء المشركون بتلك المعبودات، وإن من حق هذه المعبودات أن تطلب القصاص من عابديها، الذين عرضوها فى معرض البهتان والضلال..
الآيات: (٧- ١٤) [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
264
التفسير:
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ».
أي أن هؤلاء المشركين الذين انكشف لهم ما عليه آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، من ضعف وعجز عن أن تملك لهم ضرا أو نفعا- لم يكن لهم من العقل والرأى ما يحولهم عن موقفهم هذا الذي جمدوا عليه مع آلهتهم، وحتى إنهم إذا تليت عليهم آيات الله بينة بيان الصبح، مشرقة إشراق الضّحى، خدعوا أنفسهم عنها، وقالوا هذا سحر
265
مبين.. إذ لم يستطيعوا أن ينكروا سلطان هذه الآيات، أو يدفعوا حجتها القائمة عليهم، إذ كان سلطانها أكبر من أن يدفع، وكانت حجتها أقوى من أن ترد- فكان هروبهم منها وفرارهم من بين يديها، مستندا إلى هذا الادعاء الباطل، بأن هذه الآيات من السحر المبين، الذي يملك «محمد» من أعاجيبه وحيله، مالا يملكون..
وفى إظهار الضمير فى «عليهم» «وآياتنا» كشف للحقيقة المنطوية فيهما.. فضمير المشركين، يطوى تحت كيانه وجها منكرا من وجوه الناس، هم «الَّذِينَ كَفَرُوا».. وضمير الآيات البينات، يضم تحت جناحيه، الحق المبين..
وفى قوله تعالى: «قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ» - إشارة إلى أن هذا الحق الذي طلع على المشركين من تلك الآيات البينات التي تليت عليهم- كان من الظهور والبيان بحيث يرونه رأى العين، حتى إنه ليتمثل لهم منه كائن شخصى، عاقل، يجىء إليهم، ويخاطبونه، ويشيرون إليه قائلين «هذا سِحْرٌ مُبِينٌ».
قوله تعالى:
«أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ.. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
هو إضراب عن مقولتهم عن القرآن، هذا سحر مبين» وعدول عن هذا القول إلى قول آخر، إذ لم يطمئنوا إلى هذا القول فى القرآن.. فهو آيات بينة المعنى، واضحة القصد، وكلمات محددة الدلالة، صريحة المعنى، فمن أين يكون بينها وبين السحر جامعة تجمعها به، والعهد بالسحر، أنه
266
خفايا وأسرار، تطلع من وراء ستر محجبة، لا يعرف الطريق إليها إلا أصحابها، الذين يخيّلون للناس منها ما يخيلون..
فالقول بأن هذا القرآن مفترى على الله أقرب إلى القبول فى باب الجدل والمراء من القول بأنه سحر.. ولكن هذا القول لا يلبث أن ينكشف زيفه وبطلانه إذا وضع موضع الاختيار، إذا قيل لقائليه: ما لكم لا تأتون بعشر سور مثله مفتريات، أو بسورة واحدة مفتراة؟ وماذا يحول بينكم وبين الافتراء، والمجال فيه متسع فسيح لمن يشاء أن يرد موارده؟.
وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على مقولتهم تلك، فى غير هذا الموضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» (١٣: هود)..
وهنا، فى هذا الموقف يلقاهم، رد آخر فى قوله تعالى: «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً».. وهذا الرد يتجه إلى الافتراء من حيث هو كذب على الله، وعدوان عليه سبحانه وتعالى، وأن من افترى على الله فقد تعرض لسخطه ونقمته، وأنه لا أحد يدفع عن المفترى على الله سخط الله، وعذاب الله! فلم يفترى النبي على الله، ولم يعرض نفسه لهذا البلاء؟
وما الثمن الذي أخذه من وراء هذه المجازفة؟.
وقوله تعالى: «هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ» هو تهديد للمشركين بقولهم هذا الذي يقولونه فى كلمات الله وآياته..
وأفاض فى الحديث: توسع فيه، وأكثر منه.. حتى يجاوز الحدود، ويخرج عنها، كما يفيض السائل من الإناء، ويسيل فى كل مسيل..
وإفاضة القوم فى القرآن، هو مقولاتهم الكثيرة فيه، وهى مقولات
267
باطلة لا حدود لها، وهذا يعنى أن مقولاتهم فى القرآن مقولات باطلة، تتسع لكل قول.. ولو أنهم قالوا قولا حقا، لما كان لهم إلا قولة واحدة، هى أن هذا القرآن من عند الله، وأنه الحق من ربهم..
وقوله تعالى: «كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ».. تهديد ووعيد آخر للمشركين، وأنهم فى موضع الحساب والمسألة من الله تعالى، وأنهم مأخوذون بما يقولون من مفتريات على آيات الله، وعلى رسول الله.
وقوله تعالى: «وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» - دعوة إلى هؤلاء المشركين أن ينظروا إلى أنفسهم، وأن يطلبوا النجاة من هذا الموقف المهلك الذي هم فيه، وأن يفرّوا إلى الله، وأن يطلبوا المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم..
وفى هذه الدعوة- إشارة إلى أن الرسول الكريم، إنما جاء رحمة للناس من ربه، وأنّ ربه غفور رحيم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.. وأن هؤلاء المشركين فى معرض المغفرة والرحمة، إذا هم طلبوا مغفرة الله ورحمته..
قوله تعالى:
«قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ»..
هو دعوة أخرى إلى هؤلاء المشركين، أن يعيدوا النظر فى هذا النبىّ، وفيما يدعوهم إليه.. إنه بشر مثلهم، شأنه فى هذا شأن المرسلين من قبله إلى أقوامهم.. وهو إنما يبلغ ما يتلقاه من ربه، شأنه فى هذا أيضا شأن كل رسول قبله.. فهو ليس بدعا من الرسل، أي ليس على صورة غريبة، خارجة عما
268
جاء عليه الرسل من قبله، سواء فى شخصه، أو فى مضمون ما أرسل به.. فماذا ينكر القوم منه؟
وفى قوله تعالى: «وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ».. هو تقرير لبشرية الرسول، وأنه ليس إلا عبدا من عباد الله، لا يعلم الغيب، ولا يملك لنفسه، ولا لأحد ضرّا ولا نفعا، إلا ما شاء الله..
«قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» (١٨٨: الأعراف)..
قوله تعالى:
«قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»..
هو تحريض للمشركين من قريش على أن يسبقوا إلى هذا الخير الذي يدعوهم النبىّ إليه، وأن يسارعوا إلى أخذ حظهم منه، قبل أن يسبقهم إليه غيرهم من أهل الكتاب الذين يعرفون أنه الحقّ من ربهم، وأن بعضا منهم- ممن لا يستبد به الحسد، ولا تغلبه شقوته- سيؤمن بهذا القرآن، ويهتدى بهديه..
وتحرير معنى الآية.. ماذا يكون موقفكم أيها المشركون، إذا كان هذا القرآن من عند الله، وقد كفرتم به، على حين أن بعضا من اليهود قد عرف وجه الحق فيه، ورأى من آيات الحقّ منه، مثل ما رأى فى الكتاب الذي معه، فآمن بالله، وصدق بهذا القرآن واستكبرتم أنتم حين عرفتم الحقّ ولم تؤمنوا- ماذا يكون موقفكم، وقد فاتكم هذا الخير الذي أعطيتموه ظهركم؟
269
ألا يكون منكم إلّا الانطلاق فى هذا الضلال الذي أنتم فيه إلى غاياته؟ إن ذلك عدوان منكم على الحق، وظلم مبين منكم لأنفسكم، والله لا يهدى القوم الظالمين، الذين يرون الحقّ، ويأبون أن يأخذوا طريقهم معه! هذا، وقد كاد يكون إجماع من المفسرين على أن هذه الآية قد نزلت فى عبد الله ابن سلام، وهو من اليهود الذين دخلوا فى الإسلام، ويأتون على هذا بأخبار ومرويات من الأحاديث فى كتب الصحاح كالبخارى ومسلم، وغيرهما..
والسورة مكية، وليس هناك شاهد قوىّ يشهد بأن هذه الآية مدنية- كما يقول بذلك الذين يذكرون سبب نزولها- بل إن هناك أكثر من شاهد بأنها مكية..
فأولا: أن السياق متصل، بحيث يجعل الآية فى مواجهة هؤلاء المشركين الذين يخاجون النبىّ ويرمونه بالكذب والافتراء وفى هذه المواجهة يرى المشركون أن موقفهم من الرسول، ومن القرآن، سينتهى بهم إلى أن يسبقهم أهل الكتاب إلى هذا الرسول الذي كانوا يتمنون على لله أن يكون لهم كتاب مثل أهل الكتاب.. وكانوا يقولون ما حكاه القرآن عنهم: «لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ» (١٥٧: الأنعام) وها هم أولاء قد جاءهم الكتاب، ويوشك أن يفلت من أيديهم وثانيا: أن فى هذه لآية المكية، دعوة غير مباشرة إلى أهل الكتاب أن يؤمنوا بهذا الرسول، وبالكتاب الذي أنزل إليه من ربه وفى هذه الدعوة إرهاص بالمواجهة التي سيواجه فيها الرسول والقرآن أهل الكتاب، فيما بعد، وهذا أسلوب من أساليب القرآن فى دعوة أهل الكتاب إليه، وهو فى الطريق إليهم، قبل أن يلقاهم لقاء مباشرا
270
وإذن فليس هناك داعية إلى القول بأن هذه الآية مدنية، وبالتالى أنها نزلت فى عبد الله بن سلام أو غيره.. وإن الذي ينظر فى الأحاديث والمرويات، التي ذكرت فى هذا المقام، يرى فيها اختلافا، وتضاربا، بحيث ينقض بعضها بعضها، ويهدم بعضها بعضا مما يجعل مجاوزتها والعدول عنها، أولى من الوقوف عندها، وأخذ شىء منها..
قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ»..
أي ومن الشّبه والضلالات التي أضلت المشركين عن الإيمان بالله والاستجابة للرسول- أن كثيرا من الذين سبقوهم إلى الإيمان بالله، والاستجابة للرسول، كانوا من الفقراء، والمستضعفين، كبلال، وعمار، وصهيب، وغيرهم ممن سبقوا إلى الإسلام.. وهذا عند المشركين من الأدلة الناطقة بأن هذا الذي يدعو إليه محمد، ليس مما تهفو إليه نفوس أصحاب الجاه، والمنزلة.. فى الناس، وأنه لو كان كذلك لما سبق إليه الأرقاء والمستضعفون فيهم وكيف.. وهم السابقون إلى عايات السيادة والمجد، يسبقهم عبيدهم وإماؤهم إلى أمر، ثم يكونون هم وراءهم، يأخذون مكانهم فى الصفوف المتأخرة فيه؟ وإذن فهذا الذي يدعو إليه محمد ليس إلا إفكا مفترى، ولهذا كان المنخدعون به، هم أولئك الأرقاء والأدلاء من بينهم وهكذا تأمرهم أحلامهم، وتسوّل لهم أنفسهم!! قوله تعالى:
«وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ»..
271
هو رد على مقولة المشركين فى القرآن بأنه إفك قديم. أي أن هذا القرآن ليس إفكا قديما كما يدعون.. فلقد سبقه كتاب موسى، الذي هو إمام أي هدى يهتدى به الناس، ورحمة من الله إليهم.. وهذا القرآن هو مصدق لما فى كتاب موسى، لينذر هؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالإعراض عنه، ويبشر المحسنين، الذين أحسنوا إلى أنفسهم بهذا الخير الذي ساقوه إليها من هذا الكتاب..
وفى قوله تعالى: «لِساناً عَرَبِيًّا» مقابلة لقوله تعالى عن كتاب موسى «إِماماً وَرَحْمَةً».. أي أنه إذا كان كتاب موسى إماما ورحمة، فإن هذا للكتاب لسان عربى، ومن هذا اللسان العربي يتفجر ينابيع الهدى والرحمة..
وفى هذا تنويه باللسان العربي، من حيث هو لغة، فكيف إذا كان هذا اللسان يحمل آيات الله البينة، وكلمات الله المعجزة؟
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»..
هو بيان للمحسنين، ولما يحمل إليهم القرآن الكريم من بشريات..
وقد جاء هذا البيان على تلك الصورة التقديرية المؤكدة، إظهارا لمزيد الاعتناء بهم والتنويه بشأنهم، وبشأن الجزاء الكريم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لهم.. فالمحسنون، هم الذين قالوا ربنا الله، أي آمنوا به، ثم استقاموا على شريعة الله، فامتثلوا أوامره، واجتنبوا نواهيه.. فهؤلاء هم المحسنون، وهم الذين لا خوف عليهم مما يخيف أهل الشرك والضلال يوم القيامة، وهم الذين لا يحزنون يوم تمتلىء قلوب أهل الشرك والضلال حزنا وكمدا على ما فرطوا
272
فى جنب الله.. إنهم أصحاب الجنة لهم فيها دار الخلد، فلا يتحولون عنها أبدا، جزاء ما عملوا فى دنياهم من طيبات..
الآيات: (١٥- ٢٠) [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٥ الى ٢٠]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
التفسير:
قوله تعالى:
273
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ، وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ».
فى هاتين الآيتين مباحث:
أولا: مناسبتهما لما قبلهما:
وتبدو هذه المناسبة فيما تضمنته الآيات السابقة من الإشارة إلى القرآن الكريم، وأنه يحمل النذير بالعذاب إلى الذين ظلموا، والبشرى بالجنة والرضوان للذين آمنوا وأحسنوا.. ثم ما جاء بعد ذلك من تعقيب بقوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا... » وما فى هذا التعقيب من بيان لما أعد الله للذين آمنوا واستقاموا من جزاء كريم فى الآخرة، وأنهم أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ»... ثم كان قوله تعالى:
«وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً..» دعوة مرافقة للدعوة إلى الإيمان بالله، وإحسان العمل فى سبيل مرضاته، وأن من الإحسان، الإحسان إلى الوالدين، فلن يكون الإنسان من المحسنين، إذا فاته الإحسان إلى أبويه..
وفى أكثر من موضع من القرآن الكريم، اقترن الأمر بطاعة الله، بطاعة الوالدين، والإحسان إليهما: «وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً» (٢٣: الإسراء).. «وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ» (١٣- ١٤ لقمان).
274
وثانيا: المراد بالإنسان فى قوله تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً» أهو مطلق الإنسان أم هو إنسان بالذات؟..
أكثر المفسرين على أن هذه الآية نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه، وأنه هو الإنسان المقصود هنا. ومستندهم فى هذا، أن أبا بكر رضى الله عنه، هو الذي آمن، وآمن معه والداه، أول الدعوة الإسلامية، وأنه- رضى الله عنه- كان فى أول الدعوة الإسلامية فى الأربعين من عمره، إذ كان- كما يقولون- أصغر سنّا من النبي- صلى الله عليه وسلم- بنحو عامين..
والذي نراه- ونرجو أن يكون صوابا- هو أن المراد بالإنسان، هو مطلق هذا الإنسان، الذي وصاه الله بوالديه إحسانا.. فهذه الوصاة بالإحسان إلى الوالدين موجهة إلى كل إنسان.. ولكن كما يتردد بعض الناس فى قبول دعوة إلى الله إلى الإيمان به، أو يرفض هذه الدعوة- كذلك يتردد بعض الناس فى امتثال أمر الله بالإحسان إلى الوالدين، أو لا يستجيب لهذه الدعوة أبدا.. وكما يتوب الله سبحانه وتعالى على العصاة ويتجاوز عن سيئاتهم، ويقبلهم فى أهل الإيمان والإحسان، كذلك يقبل الله سبحانه من يراجع نفسه، ويقبل بالإحسان إلى والديه بعد أن فرّط وقصر..
ففى قوله تعالى: «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ... » فى هذا ما يشير إلى شىء من التقصير فى حق الوالدين، وإلى مطاولة الزمن وعدم المبادرة بالإحسان إليهما منذ مطلع الصبا والشباب، حتى امتدّ هذا التفريط والتقصير إلى أن بلغ هذا الإنسان أشده، وبلغ أربعين سنة، حيث استوفى غاية ما يمكن أن
275
يبلغه من سلامة إدراك، وحسن تقدير.. وعندها ثاب إلى رشده، وأقبل على والديه، يصلح من أمره معهما ما أفسده بتقصيره وتفريطه.. ثم هو فى هذا الموقف، وقد بلغ من العمر أربعين سنة، ينظر إلى ذريته نظرة أبويه إليه، فيذكر فضلهما عليه، وإحسانهما إليه، وما يؤثرانه به من خير وبرّ، كما يؤثر هو ذريته من خيره وبره.. وهذا من شأنه أن يحرك عاطفته الجامدة نحو أبويه، ويؤدى ما قصر فيه من حقهما، كما يود أن يؤدى له أبناؤه ما يجب عليهما له من طاعة وولاء..
فالإنسان هنا، هو الإنسان الذي قصر فى حق والديه، ثم عاد فأحسن صحبتهما، وأدى ما يجب عليه نحوهما.. وبهذا تقبل الله عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عما كان منه من تقصير.. «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ»..
ثالثا: فى قوله تعالى: «أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا..
الآية»
ما يدل على أن الآية السابقة ليست خيرا عن إنسان واحد بعينه، وإنما هى خبر عن كل إنسان كان على هذا الوصف من أبويه.. فرّط فى حقهما، وقصر فى الإحسان إليهما، ثم كانت منه توبة إلى الله، وإحسان إليهما.. وهذا مثل قوله تعالى: «إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً» (٧٠: الفرقان).
رابعا: من العبارات التي تحتاج إلى شرح:
قوله تعالى: «حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً» أي حملته واجدة ما تكره من آلام الحمل والولادة، لا ما تكره من الحمل نفسه، فهى- مع هذه
276
الآلام التي تجدها- حريصة على أن تحمل جنينها، وأن تتحمل هذه المكاره فى سبيله.. فهى بهذا إنما ترضى طبيعة الأنثى فيها، وإن كانت تقاسى ما تقاسى من آلام فى الحمل، وفى الوضع..
وقوله تعالى: «وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً» أي مدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا.. وقد جمع بين مدة الحمل ومدة الفطام معا، للإشارة إلى أن الأمّ تعالى من المشقات وتتحمل من الآلام فى مدة الرضاع والقيام على شئون وليدها، نفس المشقات والآلام التي كانت تعانيها وتحتملها أثناء الحمل والولادة، وإن اختلفت طعومها وألوانها..
قوله تعالى:
«وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ»..
فى هذه الآية بيان للصنف الثاني من الأبناء، وهم الذين مضوا فى عقوقهم لأبويهم إلى آخر أيام حياتهم، فلم يكن لهم عند بلوغهم غاية ما يبلغه الإنسان من كمال عقلى، وتوازن شعورى، بعد أن يبلغ أشده، وتذهب فورة الشباب، ويسكن جنون الصبا- لم يكن لهم عند هذا واعظ من أنفسهم، يعظهم، ويقيم وجوههم على الطريق القويم..
ثم إنه ليس الذي كان من عقوق هنا هو مجرّد التقصير فى حق الأبوين، بل تجاوز هذا إلى العدوان عليهما، إذ يدعوانه إلى الخير، ويمدان إليه أيديهما بالإحسان، حين يطلبان إليه أن يؤمن بالله، وأن يخرج من هذا الضلال الذي اشتمل عليه، وقاده إلى عذاب جهنم، فيلقاهما بهذا الردع
277
والزجر، ويرمى فى وجهيهما بهذه القولة الآثمة: «أُفٍّ لَكُما» !! وفى قوله تعالى: «أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي» - استفهام إنكارى، ينكر به هذا الابن الضال العاق، على والديه أن يدعواه إلى الإيمان بالله، وأن يحدثاه عن البعث والحياة بعد الموت، وأن هذا أمر لا يصدقه عقل، وقد مضت القرون، ولم يبعث الموتى من قبورهم..
فكيف يكون هناك بعث؟ ولو كان ذلك أمرا كائنا لبعث الذين ماتوا من آلاف السنين.. هذا هو منطق الضالّين الأغبياء! وقوله تعالى: «وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ.. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ»..
إشارة إلى ما فى قلب الوالدين من حرص على نجاة هذا الولد العاق، وإن رماهما بما يسوء من منكر القول.. إنه يقول لهما: «أُفٍّ لَكُما» وهما يستغيثان الله من أجله، ويطلبان من الله أن يهديه ويصلح أمره!.
قوله تعالى:
«أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ»..
أي أن هذا الصف من الذين عقّوا آباءهم، وخرجوا عن طاعتهم، كما أنهم حادّوا الله، وحادوا عن طريق الهدى- هؤلاء قد حق عليهم القول، ووقعوا تحت حكم الله على أهل الضلال والكفر فى الأمم السابقة من الجن والإنس.. وأولئك هم الخاسرون، الذين خسروا أنفسهم، فكانوا من أصحاب الجحيم..
هذا، ويقال إن هاتين الآيتين، نزلتا فى عبد الرحمن بن أبى بكر،
278
كما نزلت الآيتان السابقتان عليهما، فى أبى بكر رضى الله عنه..
وهذا مردود لما يأنى:
أولا: لأن عبد الرحمن بن أبى بكر قد أسلم، وأنه لو صحّ منه هذا الموقف قبل إسلامه، لكان إسلامه دافعا عنه هذا الحكم الذي تضمنته الآية، والذي سلك أهله فى سلك الفاسقين الذين حق عليهم القول، ولكان ثوب الإسلام الذي لبسه، ساترا له، إلى أن يلقى ربه بما هو عليه من عمل..
وثانيا: لأن أبا بكر- الذي قيل إن الآيتين السابقتين نزلتا فيه- قد كان من دعائه قوله: «وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي».. فكيف يكون من أبى بكر هذا الدعاء، ثم يكون من ذريته من يفضحه الله بهذا الخزي على الملأ، ويلبسه ثوب جهنم فى الدنيا؟ أيتفق هذا وما لأبى بكر عند الله من هذا المقام الكريم الذي سجله القرآن فى أكثر من موضع؟
قوله تعالى:
«وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ».
أي ولكل من هذين الصنفين من الأبناء، درجاتهم ومنازلهم عند الله، بحسب أعمالهم، التي يوفون جزاءها بالحق، فيجزى أهل الإحسان بالإحسان، وأهل الإساءة بالإساءة،.. ولا يظلم ربك أحدا..
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ»..
279
هو عرض لمشهد من مشاهد القيامة، يرى فيه الكافرون وقد وقفوا موقف الحساب، والمساءلة، على ما كان منهم فى حياتهم الدنيا، من بغى، واستكبار فى الأرض بغير الحق.
إن الكافرين والضالين، إذ يعرضون على النار فى هذا اليوم، ويساقون إلى العذاب الأليم فيها، يقال لهم وهم على شفيرها: هذا جزاؤكم، فلقد أذهبتم طيباتكم فى حياتكم الدنيا، واستمتعتم بها، ولم تدخروا منها شيئا لهذا اليوم..
لقد كانت معكم عقول تعقلون بها، وآذان تسمعون بها، وأعين تبصرون بها، فما استعملتم شيئا من هذا فى سبيل التعرف على الله، والاهتداء إليه، بل صرفتم هذا كله إلى مواقع الكفر والضلال: «فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ» الذي تهدر فيه آدميتكم، وتذهب كرامتكم، فلا يكون لكم إلا الهوان والإذلال، إذ كنتم ولا عقل معكم، ولا سمع، ولا بصر! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى هذه السورة: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» (الآية: ٢٦).
فالطيبات التي أذهبها الكافرون فى حياتهم الدنيا، هى تلك القوى التي أودعها الله سبحانه وتعالى فيهم، من عقل، وسمع، وبصر، ونحوها مما يكون به الإنسان إنسانا، والتي يكشف بها مواقع الهدى والخير.. وقد عطل الكافرون هذه القوى، وأفسدوها حين صرفوها فى وجوه الفساد، وفى اصطياد اللذات وجلب الشهوات..
280
الآيات: (٢١- ٢٨) [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢١ الى ٢٨]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
281
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ»
..
كانت الآية السابقة مواجهة للمشركين، بما يلقى الكافرون من عذاب وبلاء فى الآخرة.. وهنا فى هذه القصة مواجهة لهم بما لقى الكافرون المكذبون بآيات الله ورسله من بلاء ونكال فى الدنيا.. فإذا لم يصدّق المشركون بالآخرة وبما ينتظرهم عندها من عذاب جهنّم، فإنه لا مفر لهم من أن يصدقوا بهذا الواقع الذي يرونه بين أيديهم من مصارع الضالين، وما رماهم الله سبحانه وتعالى به من مهلكات فى هذه الدنيا.
وأخو عاد، هو «هود» عليه السلام، وعاد هم قومه، وسمّى أخاهم، لأنه منهم، وليس غريبا عنهم..
والأحقاف، جمع حقف، وهو الكثيب من الرمل، يستطيل، ويمتد فى غير استقامة..
وقد كانت منازل عاد على مثل هذه الأماكن، وهى فى جنوب اليمن، وفيها إرم، ذات العماد..
وقوله تعالى: «وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ» أي مضت النذر التي رآها القوم، أو سمعوا أخبارها من آبائهم.. فالنذر التي بين يديه هى الأحداث القريبة، والتي من خلفه، هى الأحداث البعيدة.. كما يقول الله سبحانه على لسان هود مذكرا قومه بما حدث لقوم نوح: «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً» (٦٩: الأعراف).
وقوله تعالى: «أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» هو النذير الذي أنذر به هود قومه، وهو تحذيرهم من أن يعبدوا غير الله.. فإنهم لو عبدوا غير الله لساءت عاقبتهم، ولحل بهم العذاب الأليم فى الدنيا والآخرة جميعا..
282
قوله تعالى:
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ»..
هذا هو رد القوم على دعوة رسولهم لهم، وتحذيرهم من الخطر الداهم الذي سيقع بهم، إذا هم أمسكوا بكفرهم وضلالهم، ولم يخلصوا دينهم لربهم..
«قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا»..
والاستفهام إنكارى، إذ ينكرون على هود هذه الدعوة التي يدعوهم إليها، ويتهمونه بأنه إنما جاء ليضلهم عن آلهتهم، ويصرفهم عنها، ويفسد ما بينهم وبينها..
وقوله تعالى: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» هو تحدّ لرسولهم، مع تكذيبهم له، واتهامهم إياه، وبأنه إنما جاء ليفسد عليهم دينهم الذي ارتضوه.. وأنه إذا كان صادقا فيما يهددهم به من عذاب الله، فليأت به! قوله تعالى:
«قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ»..
هو ردّ «هود» على هذا التحذير.. إنه لا يعلم ما سيطلع عليهم فى غدهم من خير وشر، فذلك علمه عند الله، وإنما هو رسول يبلغ رسالة ربه إليهم..
وإن كان الذي يتوقعه فيهم، هو أن يحل بهم العذاب، لأنهم فى جهل مطبق، لا يرون معه طريق الحق أبدا.. ومن كان هذا شأنه، فهو فى معرض البلاء والنقمة من الله سبحانه..
283
قوله تعالى:
«فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا.. بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ»..
العارض: السحاب الذي اعترض فى الأفق فسدّه.
والضمير فى قوله تعالى: «رَأَوْهُ» يعود إلى العذاب الذي أنذروا به، وقد جاءهم فى صورة رحمة، وهو السحاب المطر، وذلك ليكون العذاب أشد وقعا حيث يجيئهم على حال كانوا يتوقعون فيها الخير والعافية من جهته..
«فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ» أي فلما رأوا السحاب مقبلا نحو أوديتهم فرحوا واستبشروا، وقالوا هذا عارض ممطرنا..!!
وقوله تعالى: «بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ» هو رد على قولهم هذا عارض ممطرنا، وهو بلسان الحال والواقع.. إنه ليس سحابا ممطرا بل إن الذي ترونه هو ريح عاصفة، محملة بالأتربة والرمال، حتى ليخيّل إليكم منها أنها سحاب مقبل بالغيث، وهى فى الحقيقة مرسلة إليكم بالعذاب الأليم..
وقوله تعالى:
«تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ»..
أي أن هذه الريح لا تمر على شىء إلا دمرته، وذهبت بمعالم الحياة والخير فيه.. إنها آية من عند الله، مسلطة على أعداء الله، ترميهم بالهلاك والدمار..
284
كما يقول الله سبحانه وتعالى فى وصف هذه الريح فى آية أخرى: «ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ» (٤٢: الذاريات) وفيها يقول سبحانه أيضا:
«وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» (٦- ٨: الحاقة)..
وفى قوله تعالى: «كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ» وعيد وتهديد للمشركين، الذين يأخذون موقف قوم عاد، من التكذيب للرسول، والتحدي له.. وقد عرفوا ورأوا بأعينهم مساكن قوم عاد، وقد أصبحت معلما من معالم الخراب، وإن الذي حلّ بقوم عاد لموشك أن يحل بهم، إن لم يتحولوا عن موقفهم هذا الذي هم فيه..
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ»..
الضمير فى «مَكَّنَّاهُمْ» يراد به قوم هود، وأما ضمير المخاطب فى «مَكَّنَّاكُمْ» فيراد به المشركون من قريش.. «وإن» هنا للنفى بمعنى «ما» أي ما مكناكم فيه.. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد مكن لقوم عاد فى الأرض، وأمدهم بأنعام وبنين، وكانوا على حال من الأمن والكفاية أكثر مما عليه هؤلاء المشركون..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى موضع آخر: «مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ
285
نُمَكِّنْ لَكُمْ»
(٦: الأنعام» ومع هذا فلم يغن عنهم ذلك شيئا، ولم يردّ عنهم بأس الله إذ جاءهم.. فهل يغنى ما مع المشركين- وهو قليل إلى جانب ما كان بين يدى قوم عاد- هل يغنى عنهم ما معهم شيئا من عذاب الله؟..
ثم إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لقوم عاد، سمعا، وأبصارا، وأفئدة، وهى نعم من نعم الله، كان من الخير لهم أن يفيدوا منها، وأن يرسلوها فى آفاق الوجود، فتجىء إليهم بالهدى يكشف لهم معالم الطريق إلى كل خير.. ولكنهم عطلوا حواسهم تلك، أو وجهوها إلى وجوه الشر والفساد، فلم يجئهم منها إلا ما هو شر وفساد..
وقوله تعالى: «إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ» - بيان العلة التي كان بسببها تعطيل هذه الحواس، وتلك المدركات، فلم تغن عن أصحابها شيئا، ولم تجلب لهم أي نفع، وهذه العلة هى ما كان فى كيان القوم من فساد، بحيث أفسد كل شىء كانوا يستقبلونه من حواسهم ومدركاتهم.. إنهم كانوا على إصرار لما حملوا من كفر وضلال.. ولهذا كانوا كلما تأتيهم آية من آيات الله، عن طريق سمعهم أو أبصارهم أو أفئدتهم- تغيرت معالمها، وانقلبت حقيقتها فى كيانهم، فرأوا النور ظلاما، والهدى ضلالا، والخير شرّا.. وهكذا النفوس الخبيثة، يخبث فيها كل طيب، ويعوّج على صفحتها كل مستقيم.. شأن المرايا المحدّبة، أو المقعرة، تتغير على صفحتها الصور الواقعة عليها، وتتبدل حقائقها..
وقوله تعالى: «وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» أي وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به، ويستعجلون وقوعه، ويقولون لرسولهم فى استهزاء واستخفاف، وتحدّ: «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».
286
قوله تعالى:
«وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» الخطاب للمشركين، وهو تهديد ووعيد لهم بأن يصيروا إلى هذا المصير الذي حلّ بالقرى التي حولهم، كفرى عاد، وثمود، وقوم لوط..
وقوله تعالى: «وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ».. هو حديث عن أهل هذه القرى التي أهلكها الله.. فما أهلك الله سبحانه أهل هذه القرى حتى بعث إليها رسلا منهم، يبلغونهم رسالة ربهم، وينذرونهم بأسه وعذابه، إن لم يؤمنوا بربهم، ويستقيموا على طريقه المستقيم..
وتصريف الآيات، تنويعها، واختلاف وجوهها، وتباين معارضها، حتى تتوارد أنظارهم على هذه الآيات، فيكون لهم مع كل آية نظر، ويكون لهم من كل نظر عبرة ومزدجر..
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» - إشارة إلى أن تصريف هذه الآيات وتنويعها، إنما كانت غايته أن تتيح للقوم أكثر من فرصة للتأمل والنظر، لعلهم ينتفعون بهذا، ويرجعون عما هم فيه من كفر وضلال..
ولكنهم لم ينتفعوا، ولم يرجعوا، فحق عليهم القول بما ظلموا، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون..
والترجّى- كما أشرنا فى أكثر من موضع- إنما هو منظور فيه إلى الناس، وإلى أن هذا الذي يساق إليهم من آيات مختلفة الأشكال والألوان، كان يمكن أن يناط به الرجاء، وتتعلق به الآمال فى إصلاح القوم، ولكنهم قطعوا بأيديهم حبل الرجاء الممتد إليهم من تلك الآيات!..
287
قوله تعالى:
«فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ»..
لولا، حرف تحضيض، بمعنى هلّا، وفى هذا استدعاء لآلهتهم التي عبدوها من دون الله، وحثّ لها على أن تخفّ لنجدتهم، واستنقاذهم مما رماهم الله به من عذاب، وما صب عليهم من بلاء!.
فأين آلهتكم تلك؟ وهل هناك حال أدعى من هذه الحال لمدّ يد العون إليهم، وانتشالهم من بين هذه الأمواج المطبقة عليهم؟.
وقوله تعالى: «قُرْباناً آلِهَةً» أي اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله، كما يقول الله تعالى عن المشركين: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر)..
وفى تقديم القربان على الآلهة، إشارة إلى أنهم لم يكونوا ينظرون إلى هذه المعبودات أول الأمر على أنها آلهة، وإنما كان نظرهم إليها على أنها وسائل يتوسلون بها إلى الله، ويتقربون بها إليه، ويقولون فيما يقولون:
«هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ» (١٨: يونس).. ولكن ما إن يمضى الزمن بهم حتى تتحول هذه الوسائل إلى آلهة تعبد من دون الله، وتصبح مستأثرة بمشاعرهم، مستولية على عقولهم.. وليس لله سبحانه مكان فى شعورهم، أو موضع فى قلوبهم..
قوله تعالى: «بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ» - هو إضراب عن دعوة هذه المعبودات إلى نصرة عابديها.. إنهم لن ينصروهم، ولن يجدوا لهم
288
ظلّا فى هذا الموقف.. فقد ضلوا عنهم، وتاهوا فى زحمة هذا الكرب العظيم..
وقوله تعالى: «وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ» - الإشارة إلى تلك الحال التي عليها هؤلاء الكافرون، وما أحاط بهم من بلاء لا يجدون له دفعا.. فهذا هو عاقبة كذبهم، وافترائهم على الله..
الآيات: (٢٩- ٣٥) [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٥]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
289
التفسير:
[بيعة العقبة.. وليلة الجن] قوله تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ»..
مناسبة هذه الآية وما بعدها للآيات التي سبقتها، هى أن الآيات السابقة كانت تذكيرا بدعوة نبىّ من أنبياء الله هو هود عليه السلام، وموقف قومه من هذه الدعوة، وتكذيبهم له وتحدّيهم لما ينذرهم به.. ثم كان من هذا، البلاء الذي أحاط بهم، وأتى على كل عامر فيهم- فناسب أن يذكر فى هذا المقام موقف المشركين من دعوة النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وتكذيبهم له، واستهزاؤهم به، وأخذه وأصحابه بكل ما استطاعوا من كيد وضر، حتى لقد هاجر كثير من المسلمين فرارا بدينهم، وحتى لقد ضاق صدر النبي، وغامت نفسه فى مكة، ولم يعد يحتمل لقاء المشركين، والنظر فى وجوههم المنكرة، فخرج إلى الطائف، يلتمس عند أهلها «ثقيف» شيئا من العزاء والرجاء فى تصديقه والاستجابة له.. وفى الطائف وجد النبي- صلوات الله وسلامه عليه- وحوها أشدّ ضلالا ونكرا من وجوه قريش، إذ رده القوم ردّا سفيها، ولم يكتفوا بهذا بل أغروا به صبيانهم وإماءهم وعبيدهم يرجمونه بأفواههم وبأيديهم..
وبين الطائف ومكة نزل الرسول الكريم منزلا يبيت فيه، عند موضع يقال له «نخلة» وكان معه غلامه زيد بن حارثة الذي صحبه فى رحلته إلى
290
الطائف.. وفى هذا المنزل بات النبي- صلوات الله وسلامه عليه- مع آيات ربه، يرتّلها، ويتلقى منها أمداد الصبر، والعزم، بما يتلو من قصص الأنبياء السابقين، وما احتملوا فى سبيل الدعوة إلى الله من سفهاء قومهم وشياطينهم..
وما يكاد النبىّ تختم تلاوته، ويفرغ من صلاة الصبح، حتى يستقبل مع أضواء الفجر، سفير السماء إليه من ربه، يحمل إليه قرآنا ينبئه بما كان فى ليلته تلك، وأنه لم يكن وحده فى هذا المنقطع من الأرض، وأنه إذا كان قد وجد من الناس إعراضا عنه، وزهدا فيما بين يديه وعلى فمه من آيات الله- فإن لله سبحانه جنودا غير الناس، يعمر بها كل قفر.. فهاهم أولاء جند من جنود الله، قد جاءوا إليه يستمعون القرآن، ويحسنون الاستماع إليه، وينتفعون بما استمعوا منه، فيؤمنون برسول الله، ويصدقونه، ثم لا يقفون عند هذا، بل يصبحون دعاة يدعون بدعوته، ويبلغون رسالته إلى من لم تبلغه من قومهم..
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ».
وإذن، فالنبى- صلوات الله وسلامه عليه- لم يكن وهو فى هذا المكان المنعزل، بعيدا عن موقع الدعوة، بل إنه قائم عليها، حيث تجد آذانا تسمع، وعقولا تعقل، وقلوبا تؤمن.. وأنه إذا لم يكن الرسول هو الذي يسعى إلى من يدعوهم إلى رسالته، فإن طالبى الهدى قد سمعوا هم إليه، حين آنسوا بشائر النور، واستشعروا ريح الخير.. وهكذا شأن أهل الخير، وطلاب الكمال الإنسانى، ينشدون الهدى، ويرتادون مواقعه،
291
ويستنبئون أنباءه، حتى إذا لا حت لهم بشائره، ولمعت بروق غيوته- أقبلوا عليه مسرعين، فى لهفة وشوق، لا يثيهم عن وجهتهم إليه بعد الشقة، ولا قلة الزاد، ولا تربص الأعداء.. وكما يسعى الكائن الحي إلى رزقه، ويطرق من أجله كل باب يخيل إليه أن وراءه شيئا يشبع جوعه، أو يطفىء ظمأه- كذلك يفعل الراشدون والعقلاء من الناس، حيث يسعون فى طلب غذائهم الروحي، والعقلي، كما يسعون فى طلب حاجة الجسد، وما يكفل له الحياة الهنيئة الطيبة..
وإذا كان النبي- صلوات الله وسلامه عليه- قد وجد فى هذا الخبر السماوي الذي يحمل له أنباء هذا الوفد الكريم، الذي بات فى ضيافته، يتلقى أكرم وأطيب ما يتلقاه ضيف من مضيفه، من بر وإحسان.. حيث قضى هذا الضيف ليلة مباركة يستمع فيها إلى ما يتلو الرسول من آيات الله، ويتلقى من أنوار هذه الآيات ونفحاتها حياة مجددة للأرواح، مطهرة للقلوب، مزكية للنفوس- وإذا كان النبي الكريم، قد وجد فى هذا الخبر السماوي ما آنس وحشته، وثبت فؤاده، وآسى جراح نفسه مما أصابه من يد السفهاء وأفواههم من رميات عمياء حمقاء- فإنه- صلوات الله وسلامه عليه- رأى فى نور هذه الآيات، ومضات مشرقة واضحة على طريق دعوته..
أن هذه الدعوة ستأخذ لها مطلعا جديدا تطلع منه، وأنها ستلتقى بوجوه أخرى لم يكن فى حساب الدعوة أن تلتقى بها فى هذه المرحلة من مسيرتها.. وأنه كما صرف الله إلى النبىّ نفرا من الجن يستمعون القرآن، ويؤمنون به، ويحملون دعوته إلى قومهم، كذلك سيصرف إليه نفرا من الناس، يجلسون إليه، ويستمعون إلى ما يكون من آيات الله، ويؤمنون بما يتلى عليهم، ثم ينقلبون
292
إلى قومهم منذرين، داعين إلى الله، فاتحين الطريق إلى تلك الدعوة لتأخذ مكانها بين من يؤمنون بها، ويدافعون عنها..
وفى بيعة العقبة الأولى، نرى هذا النفر الكريم من الأنصار، وقد انفرد برسول الله ﷺ فى مكان منعزل خارج مكة، بعيد عن أهل الموسم الذين امتلأت بهم شعاب مكة وساحاتها، وعلى خوف من قريش، وعيونها الراصدة لحركات النبي، ولكل من يطلب لقاءه، أو ينشد أخباره من أهل الموسم.. ثم جلسوا بين يديه يستمعون فى رهبة وخشوع إلى آيات الله، التي كان قد وقع فى آذانهم بشىء منها، فيما كانت تتناقله الركبان، وتردده الألسنة.. ثم ما أن انتهى النبىّ من تلاوة ما تيسر من آيات الله، حتى وجدت الجماعة نور الإيمان يملأ قلبها، وبرد اليقين يثلج صدرها.. فمدوا أيديهم إلى الرسول الكريم، يبايعونه على الإيمان بالله، والدعوة إلى الله، والنصرة لدين الله..
ويحدث التاريخ أن رجال العقبة الأولى كانوا اثنى عشر رجلا، يذكرون بأسمائهم.. وأنهم كتموا أمرهم عمن شهدوا الموسم من قومهم، فلما انتهى موسم الحج، ورجعوا إلى المدينة، ذاع أمرهم، وكثر أعداد الداخلين فى الإسلام من أهل المدينة، من الأوس والخزرج..
ثم إنه لما كان الموسم التالي، جاء كثير من المسلمين إلى مكة ولم يكن همهم أن يشهدوا الموسم بقدر ما كان من همهم أن يلتقوا برسول الله، وأن يبايعوه، ويتلقوا هدى السماء منه..
وفى ليلة من ليالى الموسم كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه على موعد للقاء القوم عند العقبة، على نحو ما كان من لقائه إخوانهم فى الموسم السابق..
293
وهناك فى أخريات الليل، توافد القوم أفرادا على هذا المكان، حتى إذا اكتمل جمعهم، وكانوا ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين- كما يقول ابن إسحاق- تحدث إليهم الرسول الكريم، وتلا عليهم ما تيسر من آيات الله، ثم أقبلوا يبايعون رسول الله، على الإيمان بالله، والسمع والطاعة فى المكره والمنشط، والجهاد فى سبيل الله، وأن يمنعوا رسول الله يمنعون منه أنفسهم وأهليهم..
وهكذا تلتقى بيعة العقبة الأولى بليلة الجن فى «نخلة» ويستقبل النبىّ الكريم فى ليلة العقبة نفرا من الإنس، وقد صرفهم الله سبحانه وتعالى إليه ليستمعوا القرآن، فلما حضروه واستمعوا إليه، آمنوا به، ثم ولّوا إلى قومهم منذرين..
وكما أن النبىّ- صلوات الله وسلامه عليه- لم ير الجن. ولم يعرف وجوههم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه، لم يكد يرى شخوص هؤلاء النفر من الإنس، أو يعرف وجوههم، إذ جاءوا إليه فى ستر من الليل وفى تهامس وتخافت، أشبه بالحجاب المضروب بينهم..
ومن جهة أخرى، فإن فى قوله تعالى على لسان الجن: «يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ» - فى هذا إشارة أخرى إلى بيعة العقبة، وإلى تلك الدعوة التي حملها أهل البيعة إلى قومهم بالمدينة، حيث مجتمع اليهود، وحيث كان كتاب موسى «التوراة» هو الكتاب السماوي الذي يعرف أهل المدينة شيئا عنه، مما كان يحدث به اليهود عن كتابهم، وعن نبيهم موسى عليه السلام.. ولا شك أن حديث أصحاب البيعة إلى قومهم إنما كان يحمل إليهم مع أنباء النبي الجديد الذي ظهر فى العرب، ومعه كتاب منزل من ربه، يتلوه على الناس- كان يحمل إليهم مع هذا حديثا مقارنا لهذا
294
الكتاب والكتاب الذي بين يدى اليهود، وهو التوراة..
ولعلّ هذا هو السرّ، فى اختصاص كتاب موسى بالذكر، دون الإنجيل، وهو أقرب عهدا بالقرآن..!!
ومن عجب أننا لا نجد أحدا من المفسرين فيما بلغ علمنا- قد التفت إلى ما وراء ليلة الجن هذه، وما تومىء إليه من اتجاه مسيرة الدعوة الإسلامية، بعد تلك الليلة، وما بينها وبين بيعة العقبة من مشابه، وخاصة بعد أن أصبحت بيعة العقبة أمرا واقعا، يأخذ مكانه البارز فى حياة الدعوة الإسلامية..
من عجب ألا يلفت أحد من المفسرين إلى شىء من هذا، على حين اتسع لهم مجال القول، وانفسحت أمامهم آفاق الخيال.. فتحدثوا أحاديث عجبا عن هذا النفر من الجنّ الذين استمعوا إلى الرسول، فذكروا عددهم، وأسماءهم واحدا واحدا، والقبيلة التي ينتسبون إليها من قبائل الجنّ، والوطن الذي يعيشون فيه، وهو «نصيبين» من أرض الشام.. إلى غير ذلك من الأخبار التي تنطق الآيات القرآنية بكذبها.. فالقرآن يحدّث بأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم ير لهؤلاء الجن وجها، ولم يحس لهم ركزا، حتى جاءه خبر السماء بقوله تعالى:
«وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ..»
فهذا إخبار للنبى بأمر لم يقع منه موقع الحس والمشاهدة.. وأكثر من هذا ما نجده فى قوله تعالى: «قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً».. فهذا خبر صريح بأن النبي لم يكن يعلم من أمر هذا النفر من الجن شيئا، وأن الله سبحانه قد أوحى إليه بأن الجن قد استمعوا إليه».. فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً».. فعلم النبي عن هؤلاء الجن إنما كان بما أوحى إليه الله سبحانه وتعالى من خبرهم، وما أعلمه من أمرهم..
295
فكيف يقال- مع هذا- إن عددهم كان كذا، وأن أسماءهم هى كيت وكيت، وأن موطنهم هو كذا، وأن قبيلتهم هى كيت؟.
كيف يقال هذا، والنبي- صلوات الله وسلامه عليه- لم يحدّث بشىء منه قطعا، لأنه لا يحدث إلا بما يعلم، وهو لم يعلم من أمر هؤلاء الجنّ شيئا، حتى أعلمه الله سبحانه، أن جماعة من الجن قد استمعوا إليه، دون أن يراهم، أو يشعر بهم!.
ونعود إلى شرح ما فى الآيات من مفردات، وعبارات..
قوله تعالى: «وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ» - صرف الشيء حوله من حال إلى حال، ومن موقف إلى موقف، وصرف الشيء إلى الشيء توجيهه إليه..
ومنه تصريف الرياح، أي إطلاقها من مهابتها التي تهبّ منها إلى الجهات الموجهة إليها..
وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى، قد وجّه هؤلاء النفر من الجنّ، إلى حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم، يتلو القرآن..
النفر: الجماعة التي تصلح للنفير من ثلاثة إلى عشرة.
قوله تعالى: «فَلَمَّا حَضَرُوهُ» أي كانوا بمحضر منه، بكيانهم كلّه، حسّا ومعنى، فالحضور هنا حضور تجتمع له ملكات الحاضر كلها.. ولهذا كان من الجن هذا الإدراك السّريع، والفهم الفاقة لما استمعوا إليه من آيات الله، وإنه ما إن وقع لآذانهم شىء من القرآن، حتى خشعوا بين يديه، وقالوا بلسان واحد: «أَنْصِتُوا».. وهذا الإنصات الخاشع اليقظ، هو الذي يفتح المدركات إلى آيات الله، ويجعل للبصائر بصرا هاديا إلى مواقع العبرة والعظة منها، ولهذا جاء قوله تعالى: «وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ
296
تُرْحَمُونَ»
(٢٠٤: الأعراف).. فالرحمة إنما ترجى لمن يمتلىء قلبه بإيمان الله وخشيته، ولن يقع الإيمان والخشية إلا لمن يتلقاها من آيات الله وكلماته..
ولا يتلقى من آيات الله وكلماته شيئا إلّا من أنصت خاشعا، ونظر مفكرا، واستمع متدبّرا..
قوله تعالى:
«فَلَمَّا قُضِيَ» أي فرغ من تلاوة ما كان يتلى من القرآن..
وفى التعبير، بالفعل «قُضِيَ» بدلا من فرغ، أو انتهى، ونحوهما مما يدلّ على بلوغ الغاية- إشارة إلى أن حقّا يقضى، ومطلوبا يطلب..
فالنبى ﷺ كان يقصد بتلاوة القرآن فى ليلته تلك ذكر ربه، وإرواء قلبه، بكلمات الله ويأته.. والجنّ الذين استمعوا. قد كان مجلسهم للاستماع، إنما هو لا لنماس خير، وطلب هدى.. وقد قضى النبي الكريم مأربه، بتلاوة ما تيسر له من القرآن، كما قضى الجنّ طلبتهم فيما جاءوا له، من التماس الخير والهدى..
قوله تعالى:
«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».
عاد القرآن الكريم إلى مواجهة المشركين، بعد أن ساق إليهم هذا الخبر العجيب الذي يحدّث عن استماع الجن لهذا القرآن، الذي، كذبوا به، وسخروا من الرسول الذي يتلوه عليهم، مع أن الكتاب كتابهم، واللسان الذي ينطق به لسانهم، والرسول الذي يتلوه عليهم بشر مثلهم، وواحد من قومهم! فهل بعد هذا الضلال ضلال؟ وهل بعد هذا الخسران خسران؟
297
ففى مواجهة القرآن للمشركين بعد هذا، وفى لقائهم بما شبّه عليهم من أمر البعث، الذي كان السبب الأول فى تكذيبهم للرسول، وإنكارهم لكل ما جاءهم به- فى هذا ما يجعل هؤلاء المشركين يلقون قضية البعث لقاء مجدّدا، قد يفتح لكثير منهم الطريق إلى الحق والهدى.. فقد رأوا ما بين يدى الله من قدرة قادرة، ملك بها هذا الوجود زمانا ومكانا وخلقا وتصريفا، وأنه سبحانه الذي خلق السموات والأرض، وما عليهما، وما فيهما، وما بينهما.. فكيف ينكر عاقل على الله- وتلك بعض مظاهر قدرته- أن يحيى الموتى، ويبعثهم من قبورهم؟ «أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟» فهؤلاء الموتى لم يكونوا شيئا، فإعادتهم إلى الحياة بعد الموت، أيسر، وأقرب- فى حدود النظرة الإنسانية- من خلقهم الأول، ولم يكونوا شيئا!! وقوله تعالى:
«بَلى» أداة يجاب بها فى الإثبات للمستفهم عنه، الواقع فى حين استفهام منفىّ.. أي بلى، قادر على أن يحيى الموتى.. وهذا الجواب، هو الجواب الحق، الذي ينطق به الوجود كلّه، وهو حجة ملزمة للمشركين، سواء أنطقوا به أو لم ينطقوا..
وقوله تعالى:
«إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» تقرير للجواب، وتأكيد له..
قوله تعالى:
«وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» :
298
ومن هذه المواجهة للمشركين بأمر البعث، وتقريره على تلك الصورة القاطعة الملزمة- ينتقل المشركون المكذبون بالبعث فى سرعة خاطفة- لا إلى البعث، بل إلى ماوراء البعث، من حساب وجزاء، وإذا هم بين يدى جهنم التي كانوا يكذبون بها، ويكفرون بيومها-: «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ»..
وقوله تعالى: «أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ».. هو سؤال تأنيب، وتقريع، وإيلام للمشركين المكذبين بيوم الدين، وبما أنذروا به من عذاب الله فى هذا اليوم..
والمشار إليه هنا، هو العذاب.. أي أليس هذا العذاب بالحق؟ إنكم لم تظلموا شيئا، فهذا جزاء ما عملتم..
وقوله تعالى: «قالُوا بَلى!» هو إقرار منهم، يدينون به أنفسهم، وبأن هذا العذاب الواقع بهم هو من صنع أنفسهم، وبما كسبت أيديهم! وقوله تعالى: «قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» هو دفع بالمشركين إلى أودية جهنم، وإطعام لهم مما فيها من ألوان العذاب والنكال.. فليذوقوه حميما وغساقا، فليس لهم اليوم هنا هنا حميم، ولا طعام إلا من غسلين..
قوله تعالى:
«فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ.. بَلاغٌ.. فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ»..
وبهذه الآية الكريمة تختم السورة بهذا التوجيه الكريم من الله سبحانه لرسوله- صلوات الله وسلامه عليه- يدعوه فيه إلى أن يصبر على ما يلقى من
299
أذى المشركين، وعنادهم، وألا يستعجل لهم العذاب فى الدنيا، فإن العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة قريب، وأنه حين يقع بهم، لا يحسبون حسابا لأيام الدنيا التي عاشوها، وقطعوا فيها أعمارهم، فإنه أيّا كانت أعمارهم تلك من الطول، فسيرونها يومئذ لم تكن غير ساعة من نهار.. وأنهم ولدوا صباح يوم، ثم أخذهم عذاب الآخرة فى ضحى هذا اليوم! فهل من يرى هذا الزمن على حقيقته يستعجل العذاب لأهل العذاب؟..
وفى قوله تعالى: «كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ» - ما يسأل عنه..
فأولا: من هم أولو العزم من الرسل؟ وهل من الرسل ما لا يتصف بهذه الصفة؟ ثم ألا يكون عدم اتصاف الرسول بتلك الصفة مما ينافى المهمة المنتدب لها من السماء؟..
اختلف المفسرون فى تحديد أولى العزم من الرسل.. والرأى على أنهم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم..
ولا شك أن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه، - وهو المقصود بهذا الأمر، كان يعرف عن يقين من هم أولو العزم من الرسل.. أما غير الرسول فإنه ليس مطالبا بأن يعرف من هم أولو العزم من الرسل، إذ لم يكن لغير الرسول شىء فى هذا الأمر الموجه إليه من ربه، إذ كان امتثال هذا الأمر، والوفاء به، هو مما يطالب به النبي وحده، لما أتاه الله من فضله، من نفس عظيمة تتسع لهذا الأمر العظيم، والله سبحانه وتعالى يقول: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» (٢٨٦: البقرة).. وإن كان هذا لا يمنع من أن يكون لنا فى رسول الله أسوة، فى مقام الصبر على ما نبتلى به من شدائد.
300
أما أن يكون هناك من الرسل من لا يتصف بهذه الصفة، فذلك ما صرح به القرآن فى قوله تعالى عن آدم عليه السلام: «وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» (١١٥: طه) وقوله تعالى عن يونس عليه السلام: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ» (٤٨: القلم)..
فالرسل- عليهم الصلاة والسلام- وإن كانوا أكمل الناس كمالا، وأكرمهم مقاما، هم- فى كمالهم ومقامهم الذي لا يساميه أحد من البشر- درجات، بعضها فوق بعض، كما يقول سبحانه: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» (٢٥٣: البقرة)..
وإذا كان فى الرسل- عليهم السلام- الفاضل والمفضول، فإن هذا- كما قلنا- لا ينقص من قدر المفضول، إذ كان- وهو فى مقامه هذا- على هامة الكمال المتاح للبشر، من غير رسل الله..
وثانيا: فى دعوة الرسول إلى أن يتشبه فى الصبر بمن سبقه من أولى العزم من الرسل- فى هذا ما يفهم منه أن غاية الرسول من الصبر هو أن يكون كأحد هؤلاء الرسل الكرام- والسؤال هنا: كيف يكون الرسول صلوات الله وسلامه عليه فى مقام من يطلب الأسوة للحاق بغيره من أولى العزم، وهو خاتم النبيين، وإمام المرسلين؟.
والجواب على هذا من وجهين:
أولا: أن الأمر بالصبر هنا يحمل تهديدا للمشركين، وأن على النبي ألا يستعجل لهم العذاب، الذي هو قريب منهم.. فالمراد بالصبر ليس صبر المعاناة والاحتمال وحسب، وإنما المراد به أوّلا، هو صبر الانتظار، والإمهال،
301
كما يقول سبحانه: «فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧: الطارق)..
وقد كان الرسل فى هذا فريقين، فريقا استعجل العذاب لقومه، بعد أن بلغهم رسالة ربه، كما يقول الله سبحانه على لسان نوح: «وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً»
(٢٦: نوح).. وكما فعل يونس، حين زايل موقفه من قومه قبل أن يؤمنوا بالله، وتركهم لمصيرهم، الذي يصير إليه الضالون المكذبون.. وفريقا صبر وانتظر، حتى جاء أمر الله فى قومه، كما فعل إبراهيم، وموسى، وعيسى، فلم يدع أحد منهم ربّه بأن يهلكهم، على كثرة ما ساقت إليهم أقوامهم من ألوان العنت والأذى..
أما النبي صلوات الله وسلامه عليه، فإنه قد جاوز هذه الغاية إلى غاية أخرى، فكان لسانه دائما داعيا إلى الله بهداية قومه، والصفح عنهم.. حتى فى أشد أحوالهم إعناتا وأذى له.. كما كان ذلك فى موقفه- صلوات الله وسلامه عليه- يوم أحد، وقد شجه المشركون، وأسالوا دمه، وكسروا رباعيته، فما زاد أن وجّه وجهه إلى السماء، وبسط يديه إلى ربه قائلا: «اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون».
وثانيا: أن فى قوله تعالى: «وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» - إشارة صريحة إلى إلى أن الصبر المطلوب هنا، هو صبر الإمهال والانتظار، لا صبر الاحتمال والمعاناة، - كما أشرنا إلى إلى ذلك من قبل- وهذا يعنى أن الأمر بالصبر الموجه إلى النبي من ربه سبحانه وتعالى، إنما يراد به تهديد المشركين بالعذاب الذي ينتظرهم، والذي يطلب إلى النبي ألا يستدعيه لهم، ولا يستعجل وقوعه بهم، فهم سائرون إليه، وسيلقونه عما قريب.. إنها ساعة من نهار، ثم يلقاهم العذاب الذي يستعجلونه..
وعلى هذا، فإن الصبر المطلوب من النبىّ، منظور فيه إلى قومه، وإلى أنهم لن يعذّبوا فى الدنيا، وإنما سيؤجل عذابهم إلى الآخرة، كما فعل بأقوام أولى العزم من الرسل..
302
٤٧- سورة محمد
نزولها: مدنية بالإجماع عدد آياتها: ثمان وثلاثون آية عدد كلماتها: خمسمائة وتسع وثلاثون كلمة عدد حروفها: ألفان وثلاثمائة وتسعة وأربعون حرفا
مناسبتها لما قبلها
ختمت سورة الأحقاف بقوله تعالى: «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ»..
وبدئت سورة «محمد» بعدها بقوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ»..
فكان هذا البدء- كما ترى- أشبه بالوصف الكاشف عن القوم الفاسقين، فهم الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله، الذين أضل الله أعمالهم..
فالسورتان، أشبه بسورة واحدة، فى تجاوب آياتها والتحام معانيها..
303
Icon