مكية في قول جميعهم. وهي أربع وثلاثون آية، وقيل خمس.
الْمَقْدُورُ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ." وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا" خوفوه" مُعْرِضُونَ" مولون لا هون غير مستعدين له. ويجوز أَنْ تَكُونَ" مَا" مَصْدَرِيَّةً، أَيْ عَنْ إِنْذَارِهِمْ ذلك اليوم.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" أَيْ مَا تَعْبُدُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ مِنْ دُونِ اللَّهِ." أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ" أَيْ هَلْ خَلَقُوا شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ" أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ" أَيْ نَصِيبٌ" فِي السَّماواتِ" أَيْ في خلق السموات مَعَ اللَّهِ." ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا" أَيْ مِنْ قَبْلِ هَذَا الْقُرْآنِ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ". قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَوْ أَثَارَةٍ" بِأَلِفٍ بَعْدَ الثَّاءِ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] هُوَ خَطٌّ كَانَتْ تَخُطُّهُ الْعَرَبُ فِي الْأَرْضِ [، ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَلَمْ يَصِحْ. وَفِي مَشْهُورِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ [وَلَمْ يَصِحْ أَيْضًا. قُلْتُ: هُوَ ثَابِتٌ مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. وَأَسْنَدَ النَّحَّاسُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ (يُعْرَفُ بِالْجَرَايِجِيِّ)
«١» قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بُنْدَارٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" قَالَ] الْخَطُّ [وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَاخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: جَاءَ لِإِبَاحَةِ الضَّرْبِ، لِأَنَّ بَعْضَ الأنبياء كان يفعله.
179
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ جَاءَ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:] فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ [وَلَا سَبِيلَ إِلَى مَعْرِفَةِ طَرِيقِ النبي الْمُتَقَدِّمِ فِيهِ، فَإِذًا لَا سَبِيلَ إِلَى الْعَمَلِ بِهِ. قَالَ:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَا | وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ «١» |
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ أَرْبَابِهِ تَرْجِعُ إِلَى صُوَرِ الْكَوَاكِبِ، فَيَدُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا عَلَى مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ تِلْكَ الْكَوَاكِبُ مِنْ سَعْدٍ أَوْ نَحْسٍ يَحِلُّ بِهِمْ، فَصَارَ ظَنًّا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنٍّ، وَتَعَلُّقًا بِأَمْرٍ غَائِبٍ قَدْ دُرِسَتْ طَرِيقُهُ وَفَاتَ تَحْقِيقُهُ، وَقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَصَّ اللَّهُ بِهِ، وَقَطَعَهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُونَ بِهَا فِي دَرْكِ الْأَشْيَاءِ الْمُغَيَّبَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ قد رفع تلك الأسباب وطمس تيك الْأَبْوَابَ وَأَفْرَدَ نَفْسَهُ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، فَلَا يَجُوزُ مُزَاحَمَتُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ دَعْوَاهُ. وَطَلَبَهُ عَنَاءٌ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَهْيٌ، فَإِذْ وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ فَطَلَبُهُ مَعْصِيَةٌ أَوْ كُفْرٌ بِحَسْبِ قَصْدِ الطَّالِبِ. قُلْتُ: مَا اخْتَارَهُ هُوَ قَوْلُ الْخَطَّابِيِّ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«٢» [فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ [هَذَا يَحْتَمِلُ الزَّجْرَ إِذْ كَانَ ذَلِكَ عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ وَقَدِ انْقَطَعَتْ، فَنُهِينَا عَنِ التَّعَاطِي لِذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: الْأَظْهَرُ مِنَ اللَّفْظِ خِلَافُ هَذَا، وَتَصْوِيبُ خَطِّ مَنْ يُوَافِقُ خَطَّهُ، لَكِنْ مِنْ أَيْنَ تُعْلَمُ الْمُوَافَقَةُ وَالشَّرْعُ مَنَعَ مِنْ التَّخَرُّصِ وَادِّعَاءِ الْغَيْبِ جُمْلَةً- فَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ الَّذِي يَجِدُونَ إِصَابَتَهُ، لَا أَنَّهُ يُرِيدُ إِبَاحَةَ ذَلِكَ لِفَاعِلِهِ عَلَى مَا تَأَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ. وَحَكَى مَكِّيٌّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:] كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ يَخُطُّ [أَنَّهُ كَانَ يَخُطُّ
«٣» بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى فِي الرَّمْلِ ثُمَّ يَزْجُرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ] وَمِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ [: هُوَ الْخَطُّ الَّذِي يَخُطُّهُ الْحَازِي»
فَيُعْطَى حُلْوَانًا فَيَقُولُ: اقْعُدْ حَتَّى أَخُطَّ لَكَ، وَبَيْنَ يَدَيِ الْحَازِي غُلَامٌ مَعَهُ مِيلٌ ثُمَّ يَأْتِي إِلَى أَرْضٍ رِخْوَةٍ فَيَخُطُّ الْأُسْتَاذُ خُطُوطًا مُعَجَّلَةً لِئَلَّا يَلْحَقَهَا الْعَدَدُ، ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَمْحُو عَلَى مَهَلٍ خَطَّيْنِ خَطَّيْنِ، فَإِنْ بَقِيَ خَطَّانِ فَهُوَ عَلَامَةُ النَّجْحِ، وَإِنْ بَقِيَ خَطٌّ فَهُوَ عَلَامَةُ الْخَيْبَةِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ الْأَسْحَمَ وَهُوَ مَشْئُومٌ عندهم.
180
الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبْقِ مِنَ الْأَسْبَابِ الدَّالَّةِ عَلَى الْغَيْبِ الَّتِي أَذِنَ فِي التَّعَلُّقِ بِهَا وَالِاسْتِدْلَالِ مِنْهَا إِلَّا الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ أَذِنَ فِيهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنَ النُّبُوَّةِ وَكَذَلِكَ الْفَأْلُ، وَأَمَّا الطِّيَرَةُ وَالزَّجْرُ فَإِنَّهُ نَهَى عَنْهُمَا. وَالْفَأْلُ: هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِمَا يَسْمَعُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُرِيدُ من الامر إذا كان حسنا، فإن سَمِعَ مَكْرُوهًا فَهُوَ تَطَيُّرٌ، أَمَرَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ يَفْرَحَ بِالْفَأْلِ وَيَمْضِيَ عَلَى أَمْرِهِ مَسْرُورًا. وَإِذَا سَمِعَ الْمَكْرُوهَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَلَمْ يَرْجِعْ لِأَجْلِهِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] اللَّهُمَّ لَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ وَلَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ [. وَقَدْ رَوَى بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
الْفَأْلُ وَالزَّجْرُ وَالْكُهَّانُ كُلُّهُمُ | مُضَلِّلُونَ وَدُونَ الْغَيْبِ أَقْفَالُ |
وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ، إِلَّا فِي الْفَأْلِ فَإِنَّ الشَّرْعَ اسْتَثْنَاهُ وَأَمَرَ بِهِ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ هَذَا الشَّاعِرِ مَا نَظَمَهُ فِيهِ، فَإِنَّهُ تَكَلَّمَ بِجَهْلٍ، وَصَاحِبُ الشَّرْعِ أَصْدَقُ وَأَعْلَمُ وَأَحْكَمُ. قُلْتُ: قَدْ مَضَى فِي الطِّيَرَةِ وَالْفَأْلِ وَفِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا مَا يَكْفِي فِي (الْمَائِدَةِ)
«١» وَغَيْرِهَا. وَمَضَى فِي (الْأَنْعَامِ)
«٢» أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُنْفَرِدٌ بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَأَنَّ أَحَدًا لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا مَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ، أَوْ يَجْعَلُ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً عَادِيَّةً يُعْلَمُ بِهَا مَا يَكُونُ عَلَى جَرْيِ الْعَادَةِ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ. مِثَالُهُ إِذَا رَأَى نَخْلَةً قَدْ أَطْلَعَتْ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَتُثْمِرُ، وَإِذَا رَآهَا قَدْ تَنَاثَرَ طَلْعُهَا عَلِمَ أَنَّهَا لَا تُثْمِرُ. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهَا آفَةٌ تُهْلِكُ ثَمَرَهَا فَلَا تُثْمِرُ، كَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ تَكُونَ النَّخْلَةُ الَّتِي تَنَاثَرَ طَلْعُهَا يُطْلِعُ اللَّهُ فِيهَا طَلْعًا ثَانِيًا فَتُثْمِرُ. وَكَمَا أَنَّهُ جَائِزٌ أَيْضًا أَلَّا يَلِيَ شَهْرَهُ شَهْرٌ وَلَا يَوْمَهُ يَوْمٌ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ إِفْنَاءَ الْعَالَمِ ذَلِكَ الْوَقْتَ. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي (الْأَنْعَامِ) بَيَانُهُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادَ: قَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" يُرِيدُ الْخَطَّ. وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكُمُ بِالْخَطِّ إِذَا عَرَفَ الشَّاهِدُ خَطَّهُ. وَإِذَا عَرَفَ الْحَاكِمُ خَطَّهُ أَوْ خَطَّ مَنْ كَتَبَ إِلَيْهِ حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ فِي النَّاسِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّزْوِيرِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:] يُحْدِثُ النَّاسُ فُجُورًا فَتَحْدُثُ لَهُمْ أَقْضِيَةٌ [. فَأَمَّا إِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَطِّ الْمَحْكُومِ بِهِ، مِثْلُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ هَذَا خَطُّ الْحَاكِمِ وَكِتَابُهُ، أَشْهَدَنَا عَلَى
181
مَا فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِي الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ أَوْ خَطُّ الرَّجُلِ بِاعْتِرَافِهِ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ- فلا يختلف مذهبه أنه يَحْكُمَ بِهِ. وَقِيلَ:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" أَوْ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ وَغَيْرُهُمْ. وَفِي الصِّحَاحِ" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" بَقِيَّةٍ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْأَثَرَةُ (بِالتَّحْرِيكِ). وَيُقَالُ: سَمِنَتِ الْإِبِلُ عَلَى أَثَارَةٍ، أَيْ بَقِيَّةُ شَحْمٍ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ. وَأَنْشَدَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ قَوْلَ الرَّاعِي:
وَذَاتَ أَثَارَةٍ أَكَلَتْ عَلَيْهَا | نَبَاتًا فِي أَكِمَّتِهِ فَفَارَا |
وَقَالَ الْهَرَوِيُّ: وَالْأَثَارَةُ وَالْأَثَرُ: الْبَقِيَّةُ، يُقَالُ: مَا ثَمَّ عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَقَتَادَةُ:" أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" خَاصَّةً مِنْ عِلْمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رِوَايَةٌ تَأْثُرُونَهَا عَمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: رِوَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هُوَ الْإِسْنَادُ. الْحَسَنُ: الْمَعْنَى شَيْءٌ يُثَارُ أَوْ يُسْتَخْرَجُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" أَوْ أَثارَةٍ" أَيْ عَلَامَةٍ. وَالْأَثَارَةُ مَصْدَرٌ كَالسَّمَاحَةِ وَالشَّجَاعَةِ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَثَرِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ، يُقَالُ: أَثَرْتُ الْحَدِيثَ آثُرُهُ أَثْرًا وَأَثَارَةً وَأُثْرَةً فَأَنَا آثِرٌ، إِذَا ذَكَرْتُهُ عَنْ غَيْرِكَ. وَمِنْهُ قِيلَ: حَدِيثٌ مَأْثُورٌ، أَيْ نَقَلَهُ خَلَفٌ عَنْ سَلَفٍ. قَالَ الْأَعْشَى:
إِنَّ الَّذِي فِيهِ تَمَارَيْتُمَا | بُيِّنَ لِلسَّامِعِ وَالْآثِرِ |
وَيُرْوَى" بين" وقرى" أَوْ أُثْرَةٍ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بَقِيَّةٍ مِنْ عِلْمٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ شَيْئًا مَأْثُورًا مِنْ كُتُبِ الْأَوَّلِينَ. وَالْمَأْثُورُ: مَا يُتَحَدَّثُ بِهِ مِمَّا صَحَّ سَنَدُهُ عَمَّنْ تُحَدِّثُ بِهِ عَنْهُ
«١». وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالثَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، أَيْ خَاصَّةً مِنْ عِلْمٍ أُوتِيتُمُوهَا أَوْ أُوثِرْتُمْ بِهَا عَلَى غَيْرِكُمْ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَطَائِفَةٍ" أَثْرَةٍ" مَفْتُوحَةُ الْأَلِفِ سَاكِنَةُ الثَّاءِ، ذَكَرَ الْأُولَى الثَّعْلَبِيُّ وَالثَّانِيَةُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَحَكَى الثَّعْلَبِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ: أَوْ مِيرَاثٍ مِنْ عِلْمٍ." إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ". الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ" فِيهِ بَيَانُ مَسَالِكَ الْأَدِلَّةِ بِأَسْرِهَا، فَأَوَّلُهَا المعقول، وهو قوله تعالى:"
182
وَأَفَاضَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتَ إِلَى مِنًى أَيْ دُفِعُوا، وَكُلُّ دَفْعَةٍ إِفَاضَةٌ." كَفى بِهِ شَهِيداً" نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ." بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ" أَيْ هُوَ يَعْلَمُ صِدْقِي وَأَنَّكُمْ مُبْطِلُونَ." وَهُوَ الْغَفُورُ" لِمَنْ تاب" الرَّحِيمُ" بعباده المؤمنين.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٩]
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ" أَيْ أَوَّلُ مَنْ أُرْسِلَ، قَدْ كَانَ قَبْلِي رُسُلٌ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. وَالْبِدْعُ: الْأَوَّلُ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ" بِدَعًا" بِفَتْحِ الدَّالِ، عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ، وَالْمَعْنَى: مَا كُنْتُ صَاحِبَ بِدَعٍ. وَقِيلَ: بِدْعٌ وَبَدِيعٌ بِمَعْنًى، مِثْلُ نِصْفٍ وَنَصِيفٍ. وَأَبْدَعَ الشَّاعِرُ: جاء بالبديع. وشئ بِدْعٌ (بِالْكَسْرِ) أَيْ مُبْتَدَعٌ. وَفُلَانٌ بِدْعٌ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَيْ بَدِيعٌ. وَقَوْمٌ أَبْدَاعٌ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَأَنْشَدَ قُطْرُبٌ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ:
فَلَا أَنَا بِدْعٌ مِنْ حَوَادِثَ تَعْتَرِي | رِجَالًا غدت من بعد بؤسى بأسعد «١» |
" وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" يُرِيدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَمَّا نَزَلَتْ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: كَيْفَ نَتَّبِعُ نَبِيًّا لَا يَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ وَلَا بِنَا، وَأَنَّهُ لَا فَضْلَ لَهُ عَلَيْنَا، وَلَوْلَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ الَّذِي يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يَفْعَلُ بِهِ، فَنَزَلَتْ" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ"
«٢» [الفتح: ٢] فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَ الْكُفَّارِ. وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَيْتَ شِعْرَنَا مَا هُوَ فَاعِلٌ بِنَا؟ فَنَزَلَتْ" لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ"
«٣» [الفتح: ٥] الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ" وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً"
«٤» [الأحزاب: ٤٧]. قَالَهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: اقتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان
185
ابن مَظْعُونِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ أَبْيَاتَنَا فَتُوُفِّيَ، فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ! إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ [؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَمَنْ؟ قَالَ:] أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَمَا رَأَيْنَا إِلَّا خَيْرًا فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْجَنَّةَ وَوَاللَّهِ إِنِّي لَرَسُولُ اللَّهِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ [. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ لَا أُزَكِّي بَعْدَهُ أَحَدًا أَبَدًا. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ، وَقَالَ: وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ لَمْ يَعْلَمْ بِغُفْرَانِ ذَنْبِهِ، وَإِنَّمَا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذَنْبَهُ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِ سِنِينَ. قُلْتُ: حَدِيثُ أُمِّ الْعَلَاءِ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَرِوَايَتِي فِيهِ:" وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِهِ" لَيْسَ فِيهِ" بِي وَلا بِكُمْ" وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَالْآيَةُ ليست بمنسوخة، لِأَنَّهَا خَبَرٌ. قَالَ النَّحَّاسُ: مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ فِي هَذَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ مِنْ جِهَتَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ خَبَرٌ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا أَيْضًا خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُشْرِكِينَ" مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَزَلْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ مَبْعَثِهِ إِلَى مَمَاتِهِ يُخْبِرُ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَاتَّبَعَهُ وَأَطَاعَهُ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، فَقَدْ رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُفْعَلُ بِهِ وَبِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، فَيَقُولُونَ كَيْفَ نَتَّبِعُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي أَتَصِيرُ إِلَى خَفْضٍ وَدَعَةٍ أَمْ إِلَى عَذَابٍ وَعِقَابٍ. وَالصَّحِيحُ فِي الْآيَةِ قَوْلُ الْحَسَنِ، كَمَا قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ عَنِ الْحَسَنَ" وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا" قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلٍ وَأَحْسَنُهُ، لَا يَدْرِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَلْحَقُهُ وَإِيَّاهُمْ مِنْ مَرَضٍ وَصِحَّةٍ وَرُخْصٍ وَغَلَاءٍ وَغِنًى وَفَقْرٍ. وَمِثْلُهُ" وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ"
«١» [الأعراف: ١٨٨]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح عن
186
ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّهُ يُهَاجِرُ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ وَشَجَرٍ وَمَاءٍ، فَقَصَّهَا عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِذَلِكَ، وَرَأَوْا فِيهَا فَرَجًا مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ مَكَثُوا بُرْهَةً لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى نُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رَأَيْتَ؟ فَسَكَتَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ لَا أَدْرِي أَأَخْرُجُ إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي أَمْ لَا. ثُمَّ قَالَ:] إِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ رَأَيْتُهُ فِي مَنَامِي مَا أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [أَيْ لَمْ يُوحَ إِلَيَّ مَا أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا لَا نَسْخَ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَا أَدْرِي مَا يُفْرَضُ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: مَا أَدْرِي مَا يَصِيرُ إِلَيْهِ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَتُؤْمِنُونَ أَمْ تَكْفُرُونَ، أَمْ تُعَاجَلُونَ بِالْعَذَابِ أَمْ تُؤَخَّرُونَ. قُلْتُ: وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ وَغَيْرِهِمَا. قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَمَعَاذَ اللَّهِ! قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حِينَ أَخَذَ مِيثَاقَهُ فِي الرُّسُلِ، وَلَكِنْ قَالَ
«١» مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي فِي الدُّنْيَا أَأَخْرُجُ كَمَا أُخْرِجَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي، أَوْ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلِي، وَلَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِكُمْ، أَأُمَّتِي الْمُصَدِّقَةُ أَمِ الْمُكَذِّبَةُ، أَمْ أُمَّتِي الْمَرْمِيَّةُ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ قَذْفًا، أَوْ مَخْسُوفٌ بِهَا خَسْفًا، ثُمَّ نَزَلَتْ" هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ"
«٢» [التوبة: ٣٣]. يَقُولُ: سَيُظْهِرُ دِينُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ. ثُمَّ قَالَ فِي أُمَّتِهِ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ"
«٣» [الأنفال: ٣٣] فَأَخْبَرَهُ تَعَالَى بِمَا يَصْنَعُ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ، وَلَا نَسْخَ عَلَى هَذَا كُلِّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا:" مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ" أَيْ مَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقُولَ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فِي الْقِيَامَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:" لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ" [الفتح: ٢] وَبَيَّنَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ بَيَّنَ حَالَ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: وَهَذَا مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، إِلَّا أَنَّهُ أُطْلِقَ فِيهِ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْبَيَانِ، وَأَنَّهُ أُمِرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ لِلْمُؤْمِنِينَ، والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و" ما" في" ما يُفْعَلُ" يجوز أن
187
الثَّالِثُ- أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هُمْ بَنُو عَامِرٍ وَغَطَفَانُ وَتَمِيمٌ وَأَسَدٌ وَحَنْظَلَةُ وَأَشْجَعُ، قَالُوا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ غِفَارٍ وَأَسْلَمَ وَجُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ وَخُزَاعَةَ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ رُعَاةُ الْبُهْمِ إِذْ نَحْنُ أَعَزُّ مِنْهُمْ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَالزَّجَّاجُ، وَحَكَاهُ الْقُشَيْرِيُّ عن ابن عباس. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ بِلَالٌ وَصُهَيْبٌ وَعَمَّارٌ وَفُلَانٌ وفلان. وهو القول الرابع. القول الْخَامِسُ- أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ: لَوْ كَانَ دِينُ مُحَمَّدٍ حَقًّا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: إِنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقَتْنَا إِلَيْهِ الْيَهُودُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَهَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مِنَ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ مِنْ أَكْبَرِ الْمُعَارَضَاتِ بِانْقِلَابِهَا عَلَيْهِمْ لِكُلِّ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يُقَالَ لَهُمْ: لَوْ كَانَ مَا أَنْتُمْ عليه خيرا ما عدلنا عنه، لو كَانَ تَكْذِيبُكُمْ لِلرَّسُولِ
«١» خَيْرًا مَا سَبَقْتُمُونَا إِلَيْهِ، ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ. ثُمَّ قِيلَ: قَوْلُهُ" مَا سَبَقُونا إِلَيْهِ" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى" حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ"
«٢» [يونس: ٢٢]." وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ" يَعْنِي الْإِيمَانَ. وَقِيلَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ" أَيْ لَمَّا لَمْ يُصِيبُوا الْهُدَى بِالْقُرْآنِ وَلَا بِمَنْ جَاءَ بِهِ عَادَوْهُ وَنَسَبُوهُ إِلَى الْكَذِبِ، وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ، كَمَا قَالُوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ: هَلْ فِي الْقُرْآنِ: مَنْ جَهِلَ شَيْئًا عَادَاهُ؟ فَقَالَ نَعَمْ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ" وَمِثْلُهُ" بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ"
«٣» [يونس: ٣٩].
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ١٢]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
190
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمِنْ قَبْلِهِ" أَيْ وَمِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ" كِتابُ مُوسى " أَيِ التَّوْرَاةَ" إِماماً" يُقْتَدَى بما فيه و" وَرَحْمَةً" من الله. وفي الكلام حذف، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والايمان به فتركوا ذلك. و" إِماماً" نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَتَقَدَّمَهُ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا." وَرَحْمَةً" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ أَنْزَلْنَاهُ إِمَامًا وَرَحْمَةً. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: عَلَى الْقَطْعِ، لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى مَعْرِفَةٌ بِالْإِضَافَةِ، لِأَنَّ النَّكِرَةَ إِذَا أُعِيدَتْ أَوْ أُضِيفَتْ أَوْ أُدْخِلَ عَلَيْهَا أَلِفٌ وَلَامٌ صَارَتْ مَعْرِفَةً
«١»." وَهذا كِتابٌ" يَعْنِي الْقُرْآنَ" مُصَدِّقٌ" يَعْنِي لِلتَّوْرَاةِ وَلِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ. وَقِيلَ: مُصَدِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ." لِساناً عَرَبِيًّا" مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ، أَيْ مُصَدِّقٌ لِمَا قَبْلَهُ عَرَبِيًّا، و" لِساناً" تَوْطِئَةٌ لِلْحَالِ أَيْ تَأْكِيدٌ، كَقَوْلِهِمْ: جَاءَنِي زَيْدٌ رَجُلًا صَالِحًا، فَتَذْكُرُ رَجُلًا تَوْكِيدًا. وَقِيلَ: نُصِبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ أَعْنِي لِسَانًا عَرَبِيًّا. وَقِيلَ: نُصِبَ بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْخَفْضِ تَقْدِيرُهُ: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ. وَقِيلَ: إِنَّ لِسَانًا مَفْعُولٌ وَالْمُرَادُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مُعْجِزَتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: مُصَدِّقٌ ذَا لِسَانٍ عَرَبِيٍّ. فَاللِّسَانُ مَنْصُوبٌ بِمُصَدِّقٍ، وَهُوَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ اللِّسَانُ الْقُرْآنَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى يَكُونُ يُصَدِّقُ نَفْسَهُ." لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" لِيُنْذِرَ" بِالْيَاءِ خبرا عَنِ الْكِتَابِ، أَيْ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ: هُوَ خَبَرٌ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْبَزِّيُّ بِالتَّاءِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ، عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ"
«٢» [الرعد: ٧]." وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ"" بُشْرى " فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، أَيْ وَهُوَ بُشْرَى. وَقِيلَ: عَطْفًا عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ وَبُشْرَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِإِسْقَاطِ حَرْفِ الْخَفْضِ، أَيْ لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَلِلْبُشْرَى، فَلَمَّا حُذِفَ الْخَافِضُ نُصِبَ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَتُبَشِّرُ الْمُحْسِنِينَ بُشْرَى، فَلَمَّا جُعِلَ مَكَانٌ وَتُبَشِّرُ بُشْرَى أَوْ بِشَارَةً نُصِبَ، كَمَا تَقُولُ: أَتَيْتُكَ لِأَزُورَكَ، وَكَرَامَةً لَكَ وَقَضَاءً لِحَقِّكَ، يَعْنِي لِأَزُورَكَ وَأُكْرِمَكَ وَأَقْضِيَ حَقَّكَ، فَنَصَبَ الكرامة بفعل مضمر
191
[سورة الأحقاف (٤٦): الآيات ١٣ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا" الْآيَةَ تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا
«١». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. والآية تعم." جزاء" نصب على المصدر.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً" بَيَّنَ اخْتِلَافَ حَالِ الْإِنْسَانِ مَعَ أَبَوَيْهِ، فَقَدْ يُطِيعُهُمَا وَقَدْ يُخَالِفُهُمَا، أَيْ فَلَا يَبْعُدُ مِثْلُ هَذَا فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَوْمِهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَهُ الْبَعْضُ وَيَكْفُرَ الْبَعْضُ. فَهَذَا وَجْهُ اتِّصَالِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، قَالَهُ القشيري. الثانية- قوله تعالى:" حسنا" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" حُسْنًا" وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَصْرَةِ وَالشَّامِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكُوفِيُّونَ" إِحْساناً" وَحُجَّتُهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ (الانعام وبني إسرائيل):" وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً"
«٢» [الانعام: ١٥١] وَكَذَا هُوَ فِي مَصَاحِفِ الْكُوفَةِ. وَحُجَّةُ الْقِرَاءَةِ الاولى قول تَعَالَى فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً"
«٣» [العنكبوت: ٨]
192
وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهَا. وَالْحُسْنُ خِلَافُ الْقُبْحِ. وَالْإِحْسَانُ خِلَافُ الْإِسَاءَةِ. وَالتَّوْصِيَةُ الْأَمْرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي هَذَا وَفِيمَنْ نَزَلَتْ
«١». الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً" أَيْ بِكُرْهٍ وَمَشَقَّةٍ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِفَتْحِ الْكَافِ. وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، قَالَ: وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْكَرْهِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ بِالْفَتْحِ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ" كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ"
«٢» [البقرة: ٢١٦] لِأَنَّ ذَلِكَ اسْمٌ وَهَذِهِ كُلُّهَا مَصَادِرُ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ" كُرْهًا" بِالضَّمِّ. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الضُّعْفِ وَالضَّعْفِ وَالشُّهْدُ وَالشَّهْدُ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَصْرِيِّينَ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ أَيْضًا وَالْفَرَّاءُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا: إِنَّ الْكُرْهَ (بِالضَّمِّ) مَا حَمَلَ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ، وَبِالْفَتْحِ مَا حمل على غيره، أي قهرا وغصبا، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّ كَرْهًا (بِفَتْحِ الْكَافِ) لَحْنٌ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا حَمَلَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا، وَإِنْ حَمَلَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ أَرْضَعَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ أُتِيَ بِامْرَأَةٍ قَدْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا بِالْحَدِّ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً" وَقَالَ تَعَالَى:" وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ" [البقرة: ٢٣٣] فَالرَّضَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ شَهْرًا وَالْحَمْلُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَرَجَعَ عُثْمَانُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَمْ يَحُدَّهَا. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ"
«٣». وَقِيلَ: لَمْ يَعُدَّ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي ابْتِدَاءِ الْحَمْلِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ فِيهَا نُطْفَةٌ وَعَلَقَةٌ وَمُضْغَةٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ ثِقَلٌ يُحَسُّ بِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً فَمَرَّتْ
«٤» بِهِ" [الأعراف: ١٨٩]. وَالْفِصَالُ الْفِطَامُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" لُقْمَانَ"
«٥» الْكَلَامُ فِيهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَعْقُوبُ وَغَيْرُهُمَا" وَفَصْلُهُ" بِفَتْحِ الْفَاءِ وَسُكُونِ الصَّادِ. وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَكَانَ حَمْلُهُ وَفِصَالُهُ فِي ثَلَاثِينَ شَهْرًا، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَأَرْضَعَتْهُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ شَهْرًا. وَفِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ،
193
أَيْ وَمُدَّةُ حَمْلِهِ وَمُدَّةُ فِصَالِهِ ثَلَاثُونَ شَهْرًا، وَلَوْلَا هَذَا الْإِضْمَارُ لَنُصِبَ ثَلَاثُونَ عَلَى الظَّرْفِ وَتَغَيَّرَ الْمَعْنَى. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ" قال ابن عباس: ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَحِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُمْ يُرِيدُونَ الشَّامَ لِلتِّجَارَةِ، فَنَزَلُوا مَنْزِلًا فِيهِ سِدْرَةٌ، فَقَعَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ظِلِّهَا، وَمَضَى أَبُو بَكْرٍ إِلَى رَاهِبٍ هُنَاكَ فَسَأَلَهُ عَنِ الدِّينِ. فَقَالَ الرَّاهِبُ: مَنِ الرَّجُلَ الَّذِي فِي ظِلِّ الشَّجَرَةِ؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ نَبِيٌّ، وَمَا اسْتَظَلَّ أَحَدٌ تَحْتَهَا بَعْدَ عِيسَى. فَوَقَعَ فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ الْيَقِينُ وَالتَّصْدِيقُ، وَكَانَ لَا يَكَادُ يُفَارِقُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَسْفَارِهِ وَحَضَرِهِ. فَلَمَّا نُبِّئَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، صَدَّقَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً. فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ:" رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ" الْآيَةَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: الْأَشُدُّ الْحُلُمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ بُلُوغُ الْأَرْبَعِينَ. وَعَنْهُ قِيَامُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْأَنْعَامِ" الْكَلَامُ
«١» فِي الْآيَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ»
. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ مُرْسَلَةٌ نُزِلَتْ عَلَى الْعُمُومِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي" أَيْ أَلْهِمْنِي." أَنْ أَشْكُرَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ شُكْرَ نِعْمَتِكَ" عَلَيَّ" أَيْ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيَّ مِنَ الْهِدَايَةِ" وَعَلى والِدَيَّ" بِالتَّحَنُّنِ وَالشَّفَقَةِ حَتَّى رَبَّيَانِي صَغِيرًا. وَقِيلَ: أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ وَعَلَى وَالِدَيَّ بِالْغِنَى وَالثَّرْوَةِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ! أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ أَسْلَمَ
«٣» أَبَوَاهُ غَيْرُهُ، فَأَوْصَاهُ اللَّهُ بِهِمَا وَلَزِمَ ذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُ. وَوَالِدُهُ هو أبو قُحَافَةُ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ. وأمه
194
قَوْلُهُ تَعَالَى:" أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ" قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بضم الياء فيهما. وقرى" يَتَقَبَّلُ، وَيَتَجَاوَزُ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالضَّمِيرُ فِيهِمَا يَرْجِعُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَرَأَ حَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" نَتَقَبَّلُ، وَنَتَجَاوَزُ" النُّونُ فِيهِمَا، أَيْ نَغْفِرُهَا وَنَصْفَحُ عَنْهَا. وَالتَّجَاوُزُ أَصْلُهُ مِنْ جُزْتُ الشَّيْءَ إِذَا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي قَبْلَهَا" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ" إِلَى آخِرِهَا مُرْسَلَةٌ نَزَلَتْ عَلَى الْعُمُومِ. وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ. وَمَعْنَى" نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ" أَيْ نَتَقَبَّلُ مِنْهُمُ الْحَسَنَاتِ وَنَتَجَاوَزُ عَنِ السَّيِّئَاتِ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ- وَيَحْكِيهِ مَرْفُوعًا-: إِنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا قُبِلَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَغُفِرَتْ سَيِّئَاتُهُمْ. وَقِيلَ: الْأَحْسَنُ مَا يَقْتَضِي الثَّوَابَ مِنَ الطَّاعَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْحَسَنِ الْمُبَاحِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى." فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ"" فِي" بِمَعْنَى مَعَ، أَيْ مَعَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، تَقُولُ: أَكْرَمَكَ وَأَحْسَنَ إِلَيْكَ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْبَلَدِ، أَيْ مَعَ جَمِيعِهِمْ." وَعْدَ الصِّدْقِ" نُصِبَ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِمَا قَبْلَهُ، أَيْ وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَقَبَّلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ وَعْدَ الصِّدْقِ. وَهُوَ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الصِّدْقَ هُوَ ذَلِكَ الْوَعْدُ الَّذِي وَعَدَهُ الله، وهو كقوله تعالى:" حَقُّ الْيَقِينِ"
«١» [الواقعة: ٩٥]. وَهَذَا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ، فَأَمَّا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ فَتَقْدِيرُهُ: وَعْدُ الْكَلَامِ الصِّدْقِ أَوِ الْكِتَابُ الصِّدْقِ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ. وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
«٢»." الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ" فِي الدُّنْيَا عَلَى أَلْسِنَةِ الرسل، وذلك الجنة.
[سورة الأحقاف (٤٦): الآيات ١٧ الى ١٨]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
196
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ" أَيْ أَنْ أُبْعَثَ." وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي" قِرَاءَةُ نَافِعٍ وَحَفْصٍ وَغَيْرِهِمَا" أُفٍّ" مَكْسُورٌ مُنَوَّنٌ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ" أُفٍّ" بِالْفَتْحِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِينٍ. الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ غَيْرِ مُنَوَّنٍ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ، وَقَدْ مَضَى فِي" بَنِي إِسْرَائِيلَ"
«١». وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" أَتَعِدانِنِي" بِنُونَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ. وَفَتَحَ يَاءَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ. وَأَسْكَنَ الْبَاقُونَ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَالْمُغِيرَةُ وَهِشَامٌ" أَتَعِدَانِّي" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ. وَالْعَامَّةُ عَلَى ضَمِّ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الرَّاءِ مِنْ" أَنْ أُخْرَجَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو مَعْمَرٍ بِفَتْحِ الْأَلِفِ وَضَمِّ الرَّاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَ يَدْعُوهُ أَبَوَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ فَيُجِيبُهُمَا بِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ أَيْضًا: هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، وَكَانَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ أُمُّ رُومَانَ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيَعِدَانِهِ بِالْبَعْثِ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِمَا بِمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ قَبْلَ إِسْلَامِهِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ أَيْضًا: هِيَ نَعْتُ عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: كَيْفَ يُقَالُ نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَبْلَ إِسْلَامِهِ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ" أَيِ الْعَذَابُ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ عَدَمُ الْإِيمَانِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُؤْمِنِينَ، فَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدٍ كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إلى مروان ابن الْحَكَمِ حَتَّى يُبَايِعَ النَّاسَ لِيَزِيدَ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَقَدْ جِئْتُمْ بِهَا هِرَقْلِيَّةَ
«٢»، أَتُبَايِعُونَ لِأَبْنَائِكُمْ! فَقَالَ مَرْوَانُ: هُوَ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ فِيهِ" وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما" الْآيَةَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ بِهِ. وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَعَنَ أَبَاكَ وَأَنْتَ فِي صُلْبِهِ، فَأَنْتَ فَضَضٌ
«٣» مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ جَعَلَ الْآيَةَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ" أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ"
197
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ" أَيْ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَرَاتِبٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: دَرَجَاتُ أَهْلِ النَّارِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَذْهَبُ سَفَالًا، وَدَرَجَ أَهْلُ الْجَنَّةِ عُلُوًّا." وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ" قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَعَاصِمٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالْيَاءِ لِذِكْرِ اللَّهِ قَبْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ" وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. الْبَاقُونَ بِالنُّونِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ" وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ." وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ" أَيْ لا يزاد على مسي ولا ينقص من محسن.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ يُعْرَضُ." الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ" أَيْ يُكْشَفُ الْغِطَاءُ فَيُقَرَّبُونَ مِنَ النَّارِ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا." أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أَيْ يُقَالُ لَهُمْ أَذْهَبْتُمْ، فَالْقَوْلُ مُضْمَرٌ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَنَصْرٌ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ كَثِيرٍ" أَأَذْهَبْتُمْ" بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَهِشَامٌ" آذْهَبْتُمْ" بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مُطَوَّلَةٍ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. الْبَاقُونَ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مَدٍّ عَلَى الْخَبَرِ، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ فَصِيحَةٌ وَمَعْنَاهَا التَّوْبِيخُ، وَالْعَرَبُ تُوَبِّخُ بِالِاسْتِفْهَامِ وَبِغَيْرِ الِاسْتِفْهَامِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ تَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ لِأَنَّهُ قِرَاءَةُ أَكْثَرِ أَئِمَّةِ السَّبْعَةِ نَافِعٍ وَعَاصِمٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ، مَعَ مَنْ وَافَقَهُمْ شَيْبَةُ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي شِهَابٍ وَيَحْيَى بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَغَيْرُهُمْ، فَهَذِهِ عَلَيْهَا جِلَّةُ النَّاسِ. وَتَرْكُ الِاسْتِفْهَامِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ إِثْبَاتَهُ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَنَا ظَلَمْتُكَ؟ تُرِيدُ أَنَا لَمْ أَظْلِمْكَ. وَإِثْبَاتُهُ حَسَنٌ أَيْضًا، يَقُولُ الْقَائِلُ: ذَهَبْتَ فَعَلْتَ كَذَا، يُوَبِّخُ وَيَقُولُ: أَذَهَبْتَ فَعَلْتَ! كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ. وَمَعْنَى
199
" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أَيْ تَمَتَّعْتُمْ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا وَاتَّبَعْتُمُ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ، يَعْنِي الْمَعَاصِيَ." فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أَيْ عَذَابَ الْخِزْيِ وَالْفَضِيحَةِ. قَالَ مجاهد: الهون الهوان. قتادة: بلغة قريش." بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" أي تستعجلون عَلَى أَهْلِهَا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" فِي أَفْعَالِكُمْ بَغْيًا وَظُلْمًا. وَقِيلَ:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" أَيْ أَفْنَيْتُمْ شَبَابَكُمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: الطَّيِّبَاتُ الشَّبَابُ وَالْقُوَّةُ، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: ذَهَبَ أَطْيَبَاهُ، أَيْ شَبَابُهُ وَقُوَّتُهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَوَجَدْتُ الضَّحَّاكَ قَالَهُ أَيْضًا. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، رَوَى الْحَسَنُ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَأَنَا أَعْلَمُ بِخَفْضِ الْعَيْشِ، وَلَوْ شِئْتُ لَجَعَلْتُ أَكْبَادًا وَصِلَاءً وَصِنَابًا وَصَلَائِقَ، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِيَ حَسَنَاتِي، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَصَفَ أَقْوَامًا فَقَالَ" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها" وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي حَدِيثِ عُمَرَ: لَوْ شِئْتُ لَدَعَوْتُ بِصَلَائِقَ وَصِنَابٍ وَكَرَاكِرَ وَأَسْنِمَةٍ. وَفِي بَعْضِ الْحَدِيثِ: وَأَفْلَاذٍ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَغَيْرُهُ: الصِّلَاءُ (بِالْمَدِّ وَالْكَسْرِ): الشِّوَاءُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُصْلَى بِالنَّارِ. وَالصِّلَاءُ أَيْضًا: صِلَاءُ النَّارِ، فَإِنْ فَتَحْتَ الصَّادَ قَصَرْتَ وَقُلْتَ: صَلَى النَّارَ. وَالصِّنَابُ: الْأَصْبِغَةُ الْمُتَّخَذَةُ مِنَ الْخَرْدَلِ وَالزَّبِيبِ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَلِهَذَا قِيلَ لِلْبِرْذَوْنِ: صِنَابِيٌّ، وَإِنَّمَا شُبِّهَ لَوْنُهُ بِذَلِكَ. قَالَ: وَالسَّلَائِقُ (بِالسِّينِ) هُوَ مَا يُسْلَقُ مِنَ الْبُقُولِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ غَيْرُهُ: هِيَ الصَّلَائِقُ بِالصَّادِ، قَالَ جَرِيرٍ:
تُكَلِّفُنِي مَعِيشَةَ آلِ زَيْدٍ | وَمَنْ لِي بِالصَّلَائِقِ وَالصِّنَابِ |
وَالصَّلَائِقُ: الْخُبْزُ الرِّقَاقُ الْعَرِيضُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي (الْأَعْرَافِ)
«١». وَأَمَّا الْكَرَاكِرُ فَكَرَاكِرُ الْإِبِلِ، وَاحِدَتُهَا كِرْكِرَةُ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ، هَذَا قَوْلُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَفِي الصِّحَاحِ: وَالْكِرْكِرَةُ رَحَى زَوْرِ الْبَعِيرِ، وَهِيَ إِحْدَى النِّفَثَاتِ الْخَمْسِ. وَالْكِرْكِرَةُ أَيْضًا الجماعة من
200
النَّاسِ. وَأَبُو مَالِكٍ عَمْرُو بْنُ كِرْكِرَةَ رَجُلٌ مِنْ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَأَمَّا الْأَفْلَاذُ فَإِنَّ وَاحِدَهَا فِلْذٌ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ الْكَبِدِ. قَالَ أَعْشَى بَاهِلَةَ:
تَكْفِيهِ حُزَّةُ فِلْذٍ إِنْ أَلَمَّ بِهَا | مِنَ الشِّوَاءِ وَيُرْوِي شُرْبَهُ الْغُمَرُ «١» |
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَوْ شِئْتُ كُنْتُ أَطْيَبَكُمْ طَعَامًا، وَأَلْيَنَكُمْ لِبَاسًا، وَلَكِنِّي أَسْتَبْقِي طَيِّبَاتِي لِلْآخِرَةِ. وَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ الشَّامَ صُنِعَ لَهُ طَعَامٌ لَمْ يَرَ قَطُّ مِثْلَهُ قَالَ: هَذَا لَنَا! فَمَا لِفُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ مَاتُوا وَمَا شبعوا من خبز الشعير! فقال خالد ابن الْوَلِيدِ: لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَا عُمَرَ بِالدُّمُوعِ وَقَالَ: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا مِنَ الدُّنْيَا هَذَا الْحُطَامَ، وَذَهَبُوا هُمْ فِي حَظِّهِمْ بِالْجَنَّةِ فَلَقَدْ بَايَنُونَا بَوْنًا بَعِيدًا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَشْرُبَتِهِ
«٢» حِينَ هَجَرَ نِسَاءَهُ قَالَ: فَالْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أُهُبًا
«٣» جُلُودًا مَعْطُونَةً قَدْ سَطَعَ رِيحُهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخِيَرَتُهُ، وَهَذَا كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ؟ قَالَ: فَاسْتَوَى جَالِسًا وقال: (أفي شك أنت يا بن الْخَطَّابِ. أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا) فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي! فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ). وَقَالَ حَفْصُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ: كُنْتُ أَتَغَدَّى عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخُبْزَ وَالزَّيْتَ، وَالْخُبْزَ وَالْخَلَّ، وَالْخُبْزَ وَاللَّبَنَ، وَالْخُبْزَ وَالْقَدِيدَ، وَأَقَلَّ ذَلِكَ اللَّحْمَ الْغَرِيضَ
«٤». وَكَانَ يَقُولُ: لَا تَنْخُلُوا الدَّقِيقَ فَإِنَّهُ طَعَامٌ كله، فجئ بِخُبْزٍ مُتَفَلِّعٍ
«٥» غَلِيظٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ: كُلُوا، فَجَعَلْنَا لَا نَأْكُلُ، فَقَالَ: مَا لَكُمْ لَا تَأْكُلُونَ؟ فَقُلْنَا: وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَرْجِعُ إِلَى طَعَامٍ أَلْيَنَ مِنْ طَعَامِكَ هَذَا، فَقَالَ: يا بن أَبِي الْعَاصِ أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ أَنْ لَوْ أَمَرْتُ بِعَنَاقٍ
«٦» سَمِينَةٍ فَيُلْقَى عَنْهَا شَعْرُهَا ثم تخرج مصلية
«٧» كأنها كذا وكذا،
201
أَمَا تَرَى بِأَنِّي عَالِمٌ أَنْ لَوْ أَمَرْتُ بِصَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ زَبِيبٍ فَأَجْعَلُهُ فِي سِقَاءٍ ثُمَّ أَشُنُّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ فَيُصْبِحُ كَأَنَّهُ دَمُ غَزَالٍ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَجَلْ
«١»! مَا تَنْعَتُ الْعَيْشَ، قَالَ: أَجَلْ! وَاللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَوْلَا أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَنْقُصَ حَسَنَاتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَشَارَكْنَاكُمْ فِي الْعَيْشِ! وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِأَقْوَامٍ: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها"." فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ" أَيِ الْهَوَانُ." بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ" أَيْ تَتَعَظَّمُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ." وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ" تَخْرُجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ جَابِرٌ: اشْتَهَى أَهْلِي لَحْمًا فَاشْتَرَيْتُهُ لَهُمْ فَمَرَرْتُ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: أو كلما اشْتَهَى أَحَدُكُمْ شَيْئًا جَعَلَهُ فِي بَطْنِهِ! أَمَا يَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ:" أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ" الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا عِتَابٌ مِنْهُ لَهُ عَلَى التَّوَسُّعِ بِابْتِيَاعِ اللَّحْمِ وَالْخُرُوجِ عَنْ جِلْفِ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ، فَإِنَّ تَعَاطِيَ الطَّيِّبَاتِ مِنَ الْحَلَالِ تَسْتَشْرِهُ لَهَا الطِّبَاعُ وَتَسْتَمْرِئُهَا الْعَادَةُ فَإِذَا فَقَدَتْهَا اسْتَسْهَلْتَ فِي تَحْصِيلِهَا بِالشُّبُهَاتِ حَتَّى تَقَعَ فِي الْحَرَامِ الْمَحْضِ بِغَلَبَةِ الْعَادَةِ وَاسْتِشْرَاهِ الْهَوَى عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَأَخَذَ عُمَرُ الْأَمْرَ مِنْ أَوَّلِهِ وَحَمَاهُ مِنَ ابْتِدَائِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ مِثْلُهُ. وَالَّذِي يَضْبِطُ هَذَا الْبَابَ وَيَحْفَظُ قَانُونَهُ: عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَأْكُلَ مَا وَجَدَ، طَيِّبًا كَانَ أَوْ قَفَارًا
«٢»، وَلَا يَتَكَلَّفُ الطَّيِّبَ وَيَتَّخِذُهُ عَادَةً، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْبَعُ إِذَا وَجَدَ، وَيَصْبِرُ إِذَا عَدِمَ، وَيَأْكُلُ الْحَلْوَى إِذَا قَدَرَ عَلَيْهَا، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ إِذَا اتَّفَقَ لَهُ، وَيَأْكُلُ اللَّحْمَ إذا تيسر، ولا يعتمده أَصْلًا، وَلَا يَجْعَلُهُ دَيْدَنًا. وَمَعِيشَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ، وَطَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ مَنْقُولَةٌ، فَأَمَّا الْيَوْمُ عِنْدَ اسْتِيلَاءِ الْحَرَامِ وَفَسَادِ الْحُطَامِ فَالْخَلَاصُ عَسِيرٌ، وَاللَّهُ يَهَبُ الْإِخْلَاصَ، وَيُعِينُ عَلَى الْخَلَاصِ بِرَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ التَّوْبِيخَ وَاقِعٌ عَلَى تَرْكِ الشُّكْرِ لَا عَلَى تَنَاوُلِ الطَّيِّبَاتِ الْمُحَلَّلَةِ، وهو حسن، فإن
202
تَنَاوُلَ الطَّيِّبِ الْحَلَالِ مَأْذُونٌ فِيهِ، فَإِذَا تَرَكَ الشُّكْرَ عَلَيْهِ وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا لَا يحل له فقد أذهبه. والله أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَاذْكُرْ أَخا عادٍ" هُوَ هُودُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ." إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ" أَيِ اذْكُرْ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ قِصَّةَ عَادٍ لِيَعْتَبِرُوا بِهَا. وَقِيلَ: أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَذَكَّرَ فِي نَفْسِهِ قِصَّةَ هُودٍ لِيَقْتَدِيَ بِهِ، وَيُهَوِّنَ عَلَيْهِ تَكْذِيبَ قَوْمِهِ لَهُ. وَالْأَحْقَافُ: دِيَارُ عَادٍ. وَهِيَ الرِّمَالُ الْعِظَامُ، فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ وَغَيْرِهِ. وَكَانُوا قَهَرُوا أَهْلَ الْأَرْضِ بِفَضْلِ قُوَّتِهِمْ. وَالْأَحْقَافُ جَمْعُ حِقْفٍ، وَهُوَ مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ الْعَظِيمِ وَاعْوَجَّ وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ جَبَلًا، وَالْجَمْعُ حِقَافٌ وَأَحْقَافٌ] وَحُقُوفٌ [. وَاحْقَوْقَفَ الرَّمْلُ وَالْهِلَالُ أَيِ اعْوَجَّ. وَقِيلَ: الْحِقْفُ جَمَعُ حِقَافٌ. وَالْأَحْقَافُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَيُقَالُ: حِقْفٌ أَحْقَفُ. قَالَ الْأَعْشَى:
بَاتَ إِلَى أَرْطَاةَ حِقْفٌ أَحْقَفَا
«١»
أَيْ رَمْلٌ مُسْتَطِيلٌ مُشْرِفٌ. وَالْفِعْلُ مِنْهُ احْقَوْقَفَ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
طَيُّ اللَّيَالِي زُلَفًا فَزُلَفًا | سَمَاوَةُ الْهِلَالِ حَتَّى احْقَوْقَفَا |
أَيْ انْحَنَى وَاسْتَدَارَ. وَقَالَ امْرُؤٌ الْقَيْسُ:
كَحِقْفٍ النَّقَا «٢» يَمْشِي الْوَلِيدَانِ فَوْقَهُ | بِمَا احْتَسَبَا مِنْ لين مس وتسهال |
وفيما أريد بالأحقاف ها هنا مُخْتَلَفٌ فِيهِ. فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ رِمَالٌ مُشْرِفَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ كَهَيْئَةِ الْجِبَالِ، وَلَمْ تَبْلُغْ أَنْ تَكُونَ جِبَالًا، وَشَاهِدُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هي جبال
مُشْرِفَةٌ بِالشِّحْرِ، وَالشِّحْرُ قَرِيبٌ مِنْ عَدَنَ، يُقَالُ: شِحْرُ عُمَانَ وَشِحْرُ عَمَّانَ، وَهُوَ سَاحِلُ الْبَحْرِ بَيْنَ عُمَانَ وَعَدَنَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا أَحْيَاءَ بِالْيَمَنِ، أَهْلُ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: الشِّحْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ أَرْضٌ مِنْ حِسْمَى تُسَمَّى بِالْأَحْقَافِ. وَحِسْمَى (بِكَسْرِ الْحَاءِ) اسْمُ أَرْضٍ بِالْبَادِيَةِ فِيهَا جِبَالٌ شَوَاهِقُ مُلْسُ الْجَوَانِبِ لَا يَكَادُ الْقَتَامُ يُفَارِقُهَا. قَالَ النَّابِغَةُ:
فَأَصْبَحَ عَاقِلًا بِجِبَالِ حِسْمَى | دُقَاقَ التُّرْبِ مُحْتَزِمَ الْقَتَامِ «١» |
قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الْأَحْقَافُ جَبَلٌ بِالشَّامِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِالْيَمَنِ فِي حَضْرَمَوْتَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ مَهْرَةُ، وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْإِبِلُ
«٢» الْمَهْرِيَّةُ، فَيُقَالُ: إِبِلٌ مَهْرِيَّةٌ وَمَهَارِيٌّ. وَكَانُوا أَهْلَ عُمَدٍ سَيَّارَةٍ فِي الرَّبِيعِ فَإِذَا هَاجَ
«٣» الْعُودُ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبِيلَةِ إِرَمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَحْقَافُ الْجَبَلِ مَا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ زَمَانَ الْغَرَقِ، كَانَ يَنْضُبُ الْمَاءُ مِنَ الْأَرْضِ وَيَبْقَى أَثَرُهُ. وَرَوَى الطُّفَيْلُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ وَادٍ بِمَكَّةَ وَوَادٍ نَزَلَ بِهِ آدَمُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ. وَشَرُّ وَادِيَيْنِ فِي النَّاسِ وَادٍ بِالْأَحْقَافِ وَوَادٍ بِحَضْرَمَوْتَ يُدْعَى بَرَهُوتُ تُلْقَى فِيهِ أَرْوَاحُ الْكُفَّارِ. وَخَيْرُ بِئْرٍ فِي النَّاسِ بِئْرُ زَمْزَمَ. وَشَرُّ بِئْرٍ فِي النَّاسِ بِئْرُ بَرَهُوتَ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي الَّذِي بِحَضْرَمَوْتَ." وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ" أَيْ مَضَتِ الرُّسُلُ." مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ" أَيْ مِنْ قَبْلِ هُودٍ." وَمِنْ خَلْفِهِ" أَيْ وَمِنْ بَعْدِهِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ" مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ بَعْدِهِ"." أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمُرْسَلِ، فَهُوَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ. ثُمَّ قَالَ هُودٌ" إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ" وَقِيلَ" أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ" مِنْ كَلَامِ هُودٍ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦): الآيات ٢٢ الى ٢٥]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
204
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا" فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا- لِتُزِيلَنَا عَنْ عِبَادَتِهَا بِالْإِفْكِ. الثَّانِي- لِتَصْرِفَنَا عَنْ آلِهَتِنَا بِالْمَنْعِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ. قَالَ عُرْوَةُ بْنُ أُذَيْنَةَ:
إِنْ تَكُ عَنْ أحسن الصنيعة مأ | فوكا ففي آخرين قد أُفِكُوا |
يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُوَفَّقْ لِلْإِحْسَانِ فَأَنْتَ فِي قَوْمٍ قَدْ صُرِفُوا." فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ قَدْ يُوضَعُ مَوْضِعُ الْوَعِيدِ." إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ" أَنَّكَ نَبِيٌّ" قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ" بِوَقْتِ مَجِيءِ الْعَذَابِ." عِنْدَ اللَّهِ" لَا عِنْدِي." وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ" عَنْ رَبِّكُمْ." وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ" فِي سُؤَالِكُمُ اسْتِعْجَالُ الْعَذَابِ." فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً" قَالَ الْمُبَرِّدُ: الضَّمِيرُ فِي" رَأَوْهُ" يَعُودُ إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ، وَبَيَّنَهُ قَوْلُهُ:" عارِضاً" فَالضَّمِيرُ يَعُودُ إِلَى السَّحَابِ، أَيْ فَلَمَّا رَأَوُا السَّحَابَ عَارِضًا. ف" عارِضاً" نُصِبَ عَلَى التَّكْرِيرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَبْدُو فِي عُرْضِ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: نُصِبَ عَلَى الْحَالِ. وَقِيلَ: يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى قَوْلِهِ:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" فَلَمَّا رَأَوْهُ حَسِبُوهُ سَحَابًا يُمْطِرُهُمْ، وَكَانَ الْمَطَرُ قَدْ أَبْطَأَ عَنْهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْهُ" مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ" اسْتَبْشَرُوا. وَكَانَ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْ وَادٍ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَا جَاءَ مِنْهُ يَكُونُ غَيْثًا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْعَارِضُ السَّحَابُ يَعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا" أَيْ مُمْطِرٌ لَنَا، لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعَارِضٍ وَهُوَ نَكِرَةٌ. وَالْعَرَبُ إِنَّمَا تَفْعَلُ مِثْلَ هَذَا فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ مِنَ الْأَفْعَالِ دُونَ غَيْرِهَا. قَالَ جَرِيرٌ:
يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ | لَاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وَحِرْمَانًا |
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: هَذَا رَجُلُ غُلَامِنَا. وَقَالَ أَعْرَابِيٌّ بَعْدَ الْفِطْرِ: رُبَّ صَائِمَةٍ لَنْ تَصُومَهُ وَقَائِمَةٌ لَنْ تَقُومَهُ، فَجَعَلَهُ نَعْتًا لِلنَّكِرَةِ وَأَضَافَهُ إلى المعرفة.
205
قُلْتُ: قَوْلُهُ: (لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِعَارِضٍ) خِلَافُ قَوْلِ النَّحْوِيِّينَ، وَالْإِضَافَةُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ، فَهِيَ إِضَافَةٌ لَفْظِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تَفِدِ الْأَوَّلَ تَعْرِيفًا، بَلِ الِاسْمُ نَكِرَةٌ عَلَى حَالِهِ، فَلِذَلِكَ جَرَى نَعْتًا عَلَى النَّكِرَةِ. هَذَا قَوْلُ النَّحْوِيِّينَ فِي الْآيَةِ وَالْبَيْتِ. وَنَعْتُ النَّكِرَةِ نَكِرَةٌ. وَ" رُبَّ" لَا تَدْخُلُ إِلَّا عَلَى النَّكِرَةِ." بَلْ هُوَ" أَيْ قَالَ هُودٌ لَهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ" قَالَ هود بل هو" وقرى" قُلْ بَلْ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ هِيَ رِيحٌ" أَيْ قَالَ اللَّهُ قُلْ بَلْ هُوَ مَا استعجلتم به، يعني قولهم:" فَأْتِنا بِما تَعِدُنا" ثم بين ما هو فقال:" رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ" وَالرِّيحُ الَّتِي عُذِّبُوا بِهَا نَشَأَتْ مِنْ ذَلِكَ السَّحَابُ الَّذِي رَأَوْهُ، وَخَرَجَ هُودٌ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، فَجَعَلَتْ تَحْمِلُ الْفَسَاطِيطَ وَتَحْمِلُ الظَّعِينَةَ
«١» فَتَرْفَعُهَا كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ، ثُمَّ تَضْرِبُ بِهَا الصُّخُورَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ ما راو الْعَارِضَ قَامُوا فَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ، فَأَوَّلُ مَا عَرَفُوا أَنَّهُ عَذَابٌ رَأَوْا مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ دِيَارِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِثْلَ الرِّيشِ، فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ، فَقَلَعَتِ الرِّيحُ الْأَبْوَابَ وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَأَمَالَتْ عَلَيْهِمُ الرِّمَالَ، فَكَانُوا تَحْتَ الرِّمَالِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا
«٢»، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عَنْهُمُ الرِّمَالَ وَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْهُمْ فِي الْبَحْرِ، فَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا:" تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها" أَيْ كُلُّ شَيْءٍ مَرَّتْ عَلَيْهِ مِنْ رِجَالِ عَادٍ وَأَمْوَالِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ كُلُّ شَيْءٍ بُعِثَتْ إِلَيْهِ. وَالتَّدْمِيرُ: الهلاك. وكذلك الدمار. وقرى" يدمر كل شي" مِنْ دَمَرَ دَمَارًا. يُقَالُ: دَمَّرَهُ تَدْمِيرًا وَدَمَارًا وَدَمَّرَ عَلَيْهِ بِمَعْنًى. وَدَمَرَ يَدْمُرُ دُمُورًا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ. وَفِي الْحَدِيثِ:] مَنْ سَبَقَ طَرْفُهُ اسْتِئْذَانَهُ فَقَدْ دَمَرَ [مُخَفَّفُ الْمِيمِ. وَتَدْمُرُ: بَلَدٌ بِالشَّامِ. وَيَرْبُوعٌ تُدْمُرِيٌّ إِذَا كَانَ صَغِيرًا قَصِيرًا." بِأَمْرِ رَبِّها" بِإِذْنِ رَبِّهَا. وَفَى الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتَهُ
«٣» إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. قَالَتْ: وكان إذا رأى غيما أو ريحا
206
عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ:] يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرنَا [خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:] نُصِرْتُ بِالصَّبَا
«١» وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ [. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّ الْقَائِلَ" هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا" مِنْ قَوْمِ عَادٍ: بَكْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ، وَلَمَّا رَأَى السَّحَابَ قَالَ: إِنِّي لَأَرَى سَحَابًا مُرَمَّدًا، لَا تَدَعُ مِنْ عَادٍ أَحَدًا
«٢». فَذَكَرَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِمْ بِالرَّجُلِ الْغَائِبِ حَتَّى تَقْذِفَهُ فِي نَادِيهِمْ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاعْتَزَلَ هُودٌ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي حَظِيرَةٍ، مَا يُصِيبُهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْهَا إِلَّا مَا يُلِينُ أَعْلَى ثِيَابِهِمْ. وَتَلْتَذُّ الْأَنْفُسُ بِهِ، وَإِنَّهَا لَتَمُرُّ مِنْ عَادٍ بِالظَّعْنِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَتَدْمَغُهُمْ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى هَلَكُوا. وَحَكَى الْكَلْبِيُّ أَنَّ شَاعِرَهُمْ قَالَ فِي ذَلِكَ:
فَدَعَا هُودٌ عَلَيْهِمْ | دَعْوَةً أَضْحَوْا هُمُودًا |
عَصَفَتْ رِيحٌ عَلَيْهِمْ | تَرَكَتْ عَادًا خُمُودًا |
سُخِّرَتْ سَبْعَ لَيَالٍ | لَمْ تَدَعْ فِي الْأَرْضِ عُودًا |
وَعَمَّرَ هُودٌ فِي قَوْمِهِ بَعْدِهِمْ مِائَةً وَخَمْسِينَ سَنَةً." فَأَصْبَحُوا لَا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ" قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ" لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ" بِالْيَاءِ غَيْرَ مُسَمِّي الْفَاعِلَ. وَكَذَلِكَ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ قَرَأَ" تُرَى" بِالتَّاءِ. وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ. الْبَاقُونَ" تَرَى" بِتَاءٍ مَفْتُوحَةٍ." مَساكِنُهُمْ" بِالنَّصْبِ، أَيْ لَا تَرَى يَا مُحَمَّدُ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ. قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّاءِ غَيْرَ مُسَمِّي الْفَاعِلَ فَعَلَى لَفْظِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الْمَسَاكِنُ الْمُؤَنَّثَةُ، وَهُوَ قَلِيلٌ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي اللُّغَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا إِضْمَارٌ، كَمَا تَقُولُ فِي الْكَلَامِ أَلَا تُرَى النِّسَاءُ إِلَّا زَيْنَبُ. وَلَا يَجُوزُ لَا تُرَى إِلَّا زَيْنَبُ.
207
وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: مَعْنَاهُ لَا تَرَى أَشْخَاصُهُمْ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ قِرَاءَةَ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، كَمَا تَقُولُ: مَا قَامَ إِلَّا هِنْدٌ، وَالْمَعْنَى مَا قَامَ أَحَدٌ إِلَّا هِنْدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يُرَى النَّاسُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ الرَّمْلِ، وَإِنَّمَا تُرَى مَسَاكِنُهُمْ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ." كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ" أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ نُعَاقِبُ بها المشركين.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ" قِيلَ: إِنْ" إِنْ" زَائِدَةٌ، تَقْدِيرُهُ وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ الْقُتَبِيِّ. وَأَنْشَدَ الْأَخْفَشُ:
يُرَجِّي الْمَرْءُ مَا إِنْ لَا يَرَاهُ | وتعرض دون أدناه الخطوب |
وقال آخر:فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنَ وَلَكِنْ | مَنَايَانَا وَدَوْلَةُ آخرينا «١» |
وقيل: إن" ما" بمعنى الذي. و" إن" بِمَعْنَى مَا، وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. وَقِيلَ: شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُهَا مُضْمَرٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي مَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ كَانَ بَغْيُكُمْ أَكْثَرَ وَعِنَادُكُمْ أَشَدَّ، وَتَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:" وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً" يَعْنِي قُلُوبًا يَفْقَهُونَ بِهَا." فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ" مِنْ عَذَابِ اللَّهِ." إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ" يَكْفُرُونَ" بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ" أَحَاطَ بِهِمْ." مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ".
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢٧]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَلَقَدْ أَهْلَكْنا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى " يُرِيدُ حِجْرَ ثَمُودَ وَقُرَى لُوطٍ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا كَانَ يُجَاوِرُ بِلَادَ الْحِجَازِ، وَكَانَتْ أَخْبَارُهُمْ مُتَوَاتِرَةً عِنْدَهُمْ." وَصَرَّفْنَا الْآياتِ" يَعْنِي الْحُجَجَ وَالدَّلَالَاتِ وَأَنْوَاعَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعِظَاتِ، أَيْ بَيَّنَّاهَا لِأَهْلِ تِلْكَ الْقُرَى." لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ" فَلَمْ يَرْجِعُوا. وَقِيلَ: أَيْ صَرَّفْنَا آيَاتِ الْقُرْآنِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْقَصَصِ وَالْإِعْجَازِ لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ يرجعون.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
قوله تعالى:" فَلَوْلا نَصَرَهُمُ"" فَلَوْلا" بِمَعْنَى هَلَّا، أَيْ هَلَّا نَصَرَهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي تَقَرَّبُوا بِهَا بِزَعْمِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِتَشْفَعَ لَهُمْ حيث قالوا:" هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ"
«١» [يونس: ١٨] وَمَنَعَتْهُمْ مِنَ الْهَلَاكِ الْوَاقِعِ بِهِمْ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: الْقُرْبَانُ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ طَاعَةٍ وَنَسِيكَةٍ، وَالْجَمْعُ قَرَابِينَ، كَالرُّهْبَانِ وَالرَّهَابِينَ. وَأَحَدُ مَفْعُولَيِ اتَّخَذَ الرَّاجِعُ
«٢» إِلَى الَّذِينَ المحذوف، والثاني" آلِهَةً". و" قُرْباناً" حَالٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ" قُرْباناً" مَفْعُولًا ثانيا. و" آلِهَةً" بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري. وقرى" قُرُبَانًا" بِضَمِّ الرَّاءِ." بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أَيْ هَلَكُوا عَنْهُمْ. وَقِيلَ:" بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ" أَيْ ضَلَّتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ لِأَنَّهَا لَمْ يُصِبْهَا مَا أَصَابَهُمْ، إِذْ هِيَ جَمَادٌ. وَقِيلَ: ضَلُّوا عَنْهُمْ، أَيْ تَرَكُوا الْأَصْنَامَ وَتَبَرَّءُوا مِنْهَا." وَذلِكَ إِفْكُهُمْ" أَيْ وَالْآلِهَةُ الَّتِي ضَلَّتْ عَنْهُمْ هِيَ إِفْكُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" إِفْكُهُمْ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْفَاءِ، أَيْ كَذِبُهُمْ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ، وَكَذَلِكَ الْأَفِيكَةُ، وَالْجَمْعُ الْأَفَائِكُ. وَرَجُلٌ أَفَّاكٌ أَيْ كَذَّابٌ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ الزُّبَيْرِ" وَذَلِكَ أَفَكَهُمْ" بِفَتْحِ الهمزة
وَالْفَاءِ وَالْكَافِ، عَلَى الْفِعْلِ، أَيْ ذَلِكَ الْقَوْلُ صَرَفَهُمْ عَنِ التَّوْحِيدِ. وَالْأَفْكُ" بِالْفَتْحِ" مَصْدَرُ قَوْلِكَ: أَفَكَهُ يَأْفِكُهُ أَفْكًا، أَيْ قَلَبَهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الشَّيْءِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ" أَفَّكَهُمْ" بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ عَلَى التَّأْكِيدِ وَالتَّكْثِيرِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: يَعْنِي قَلَبَهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ النَّعِيمِ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا" آفِكَهُمْ" بِالْمَدِّ وَكَسْرِ الْفَاءِ، بِمَعْنَى صَارِفَهُمْ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِاخْتِلَافٍ عَنْهُ" آفَكَهُمْ" بِالْمَدِّ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ أَفْعَلَهُمْ، أَيْ أَصَارَهُمْ إِلَى الْإِفْكِ. وَجَازَ أَنْ يَكُونَ فَاعَلَهُمْ كَخَادَعَهُمْ. وَدَلِيلُ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ" إِفْكُهُمْ" قَوْلُهُ" وَما كانُوا يَفْتَرُونَ" أَيْ يَكْذِبُونَ. وَقِيلَ" إِفْكُهُمْ" مِثْلُ" أَفَكَهُمْ". الْإِفْكُ وَالْأَفَكُ كَالْحِذْرِ والحذر، قاله المهدوي.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٢٩]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ" هَذَا تَوْبِيخٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ، أَيْ إِنَّ الْجِنَّ سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَآمَنُوا بِهِ وَعَلِمُوا أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ مُصِرُّونَ عَلَى الْكُفْرِ. وَمَعْنَى" صَرَفْنا" وَجَّهْنَا إِلَيْكَ وَبَعَثْنَا. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ صُرِفُوا عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مِنَ السَّمَاءِ بِرُجُومِ الشُّهُبِ- عَلَى مَا يَأْتِي- وَلَمْ يَكُونُوا بَعْدَ عِيسَى قَدْ صُرِفُوا عَنْهُ إِلَّا عِنْدَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ إِلَى الطَّائِفِ يَلْتَمِسُ مِنْ ثَقِيفٍ النُّصْرَةَ فَقَصَدَ عَبْدَ يَالِيلَ وَمَسْعُودًا وَحَبِيبًا وَهُمْ إِخْوَةٌ- بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ- وَعِنْدَهُمُ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَنْصُرُوهُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هُوَ يَمْرُطُ
«١» ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ! وَقَالَ الْآخَرُ: مَا وَجَدَ اللَّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرُكَ! وَقَالَ الثَّالِثُ: وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ كَلِمَةً أَبَدًا، إِنْ كَانَ اللَّهُ أَرْسَلَكَ كَمَا تَقُولُ فَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ الْكَلَامَ، وَإِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ فَمَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلِّمَكَ. ثُمَّ أغروا به سفهاءهم
210
وَعَبِيدَهُمْ يَسُبُّونَهُ وَيَضْحَكُونَ بِهِ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إِلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ. فَقَالَ لِلْجُمَحِيَّةِ:] مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِكِ [؟ ثُمَّ قَالَ:] اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ضَعْفَ قُوَّتِي وَقِلَّةَ حِيلَتِي وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، أَنْتَ رَبُّ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَأَنْتَ رَبِّي، لِمَنْ تَكِلُنِي! إِلَى عَبْدٍ»
يَتَجَهَّمُنِي
«٢»، أَوْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي! إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنْ عَافِيَتَكَ هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوَذُ بِنُورِ وَجْهِكَ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِي غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ الْعُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ [. فَرَحِمَهُ ابْنَا رَبِيعَةَ وَقَالَا لِغُلَامٍ لَهُمَا نَصْرَانِيٍّ يُقَالُ لَهُ عَدَّاسٌ: خُذْ قِطْفًا مِنَ الْعِنَبِ وَضَعْهُ فِي هَذَا الطَّبَقِ ثُمَّ ضَعْهُ بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ، فَلَمَّا وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (بِاسْمِ اللَّهِ) ثُمَّ أَكَلَ، فَنَظَرَ عَدَّاسٌ إِلَى وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ! فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] مَنْ أَيِّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ وَمَا دِينُكَ [؟ قَالَ: أَنَا نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَمِنْ قَرْيَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسِ بْنِ مَتَّى [؟ فَقَالَ: وَمَا يدريك ما يونس ابن مَتَّى؟ قَالَ:] ذَاكَ أَخِي كَانَ نَبِيًّا وَأَنَا نَبِيٌّ [فَانْكَبَّ عَدَّاسٌ حَتَّى قَبَّلَ رَأْسَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنَا رَبِيعَةَ: لِمَ فَعَلْتَ هَكَذَا!؟ فَقَالَ: يَا سَيِّدِي مَا فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ مِنْ هَذَا، أَخْبَرَنِي بِأَمْرٍ مَا يَعْلَمُهُ إِلَّا نَبِيٌّ. ثُمَّ انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي فَمَرَّ بِهِ نَفَرٌ مِنْ جِنِّ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ، فَلَمَّا حُرِسَتِ السَّمَاءُ وَرُمُوا بِالشُّهُبِ قَالَ إِبْلِيسُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي السَّمَاءِ لَشَيْءٌ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ، فَبَعَثَ سَرَايَاهُ لِيَعْرِفَ الْخَبَرَ، أَوَّلُهُمْ رَكْبُ نَصِيبِينَ وَهُمْ أَشْرَافُ الْجِنِّ إِلَى تِهَامَةَ، فَلَمَّا بَلَغُوا بَطْنَ نَخْلَةٍ سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَيَتْلُو الْقُرْآنَ، فَاسْتَمَعُوا لَهُ وَقَالُوا: أَنْصِتُوا. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: بَلْ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ ينذر
211
الْجِنَّ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ مِنْ نِينَوَى وَجَمَعَهُمْ لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى الْجِنِّ اللَّيْلَةَ فَأَيُّكُمْ يَتَّبِعُنِي [؟ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ فَأَطْرَقُوا، ثُمَّ قَالَ الثَّالِثَةَ فَأَطْرَقُوا، فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ أَحَدٌ غَيْرِي، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَعْلَى مَكَّةَ دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِعْبًا يُقَالُ لَهُ (شِعْبُ الْحَجُونِ) وَخَطَّ لِي خَطًّا وَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِسَ فِيهِ وَقَالَ:] لَا تَخْرُجْ مِنْهُ حَتَّى أَعُودَ إِلَيْكَ [. ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فَافْتَتَحَ الْقُرْآنَ، فَجَعَلْتُ أَرَى أَمْثَالَ النُّسُورِ تَهْوِي وَتَمْشِي فِي رَفْرَفِهَا، وسمعت لغطا وغمغة حَتَّى خِفْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَشِيَتْهُ أَسْوِدَةٌ
«١» كَثِيرَةٌ حَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ حَتَّى مَا أَسْمَعُ صَوْتَهُ، ثُمَّ طَفِقُوا يَتَقَطَّعُونَ مِثْلَ قِطَعِ السَّحَابِ ذَاهِبِينَ، فَفَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْفَجْرِ فَقَالَ:] أَنِمْتَ [؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ مِرَارًا أَنْ أَسْتَغِيثَ بِالنَّاسِ حَتَّى سَمِعْتُكَ تَقْرَعُهُمْ بِعَصَاكَ تَقُولُ اجْلِسُوا، فَقَالَ:] لَوْ خَرَجْتَ لَمْ آمَنْ عَلَيْكَ أَنْ يَخْطَفَكَ بَعْضُهُمْ [ثُمَّ قَالَ:] هَلْ رَأَيْتَ شَيْئًا [؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُ رِجَالًا سُودًا مُسْتَثْفِرِي
«٢» ثِيَابًا بِيضًا، فَقَالَ:] أُولَئِكَ جِنُّ نَصِيبِينَ سَأَلُونِي الْمَتَاعَ وَالزَّادَ فَمَتَّعْتُهُمْ بِكُلِّ عَظْمٍ حَائِلٍ
«٣» وَرَوْثَةٍ وَبَعْرَةٍ [. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَقْذَرُهَا النَّاسُ عَلَيْنَا. فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالرَّوْثِ. قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَا يُغْنِي ذَلِكَ عَنْهُمْ! قَالَ:] إِنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ عَظْمًا إِلَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِلَ، وَلَا رَوْثَةَ إِلَّا وَجَدُوا فِيهَا حَبَّهَا يَوْمَ أُكِلَ [فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ سَمِعْتُ لَغَطًا شَدِيدًا؟ فَقَالَ:] إِنَّ الْجِنَّ تَدَارَأَتْ
«٤» فِي قَتِيلٍ بَيْنَهُمْ فَتَحَاكَمُوا إِلَيَّ فَقَضَيْتُ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ [. ثُمَّ تَبَرَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَتَانِي فَقَالَ:] هَلْ مَعَكَ مَاءٌ [، فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، مَعِي إِدَاوَةٌ
«٥» فِيهَا شَيْءٌ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ فَصَبَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ:] تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ وَمَاءٌ طَهُورٌ [. رَوَى مَعْنَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ وَشُعْبَةَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وليس
212
فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ ذِكْرُ نَبِيذِ التَّمْرِ. رُوِيَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ أَبْصَرَ زُطًّا
«١» فَقَالَ: مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الزُّطُّ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَبَهَهُمْ إِلَّا الْجِنَّ لَيْلَةَ الْجِنِّ فَكَانُوا مُسْتَفِزِّينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. وَذَكَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ حَنَشٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَضَّأَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ بِنَبِيذٍ فَتَوَضَّأَ بِهِ وَقَالَ:] شَرَابٌ وَطَهُورٌ [. ابْنُ لَهِيعَةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ. وَبِهَذَا السَّنَدِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أَمَعَكَ مَاءٌ يَا بْنَ مَسْعُودٍ [؟ فَقَالَ: مَعِي نَبِيذٌ فِي إِدَاوَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] صُبَّ عَلَيَّ مِنْهُ [. فَتَوَضَّأَ وَقَالَ:] هُوَ شَرَابٌ وَطَهُورٌ [تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَشْهَدْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْجِنِّ. كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلْقَمَةُ بْنُ قَيْسٍ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَغَيْرُهُمَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَا شَهِدْتُ لَيْلَةَ الْجِنِّ. حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ صَاعِدٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَشْعَثِ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ قَالَ قُلْتُ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَشَهِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ مِنْكُمْ لَيْلَةَ أَتَاهُ دَاعِي الْجِنِّ؟ قَالَ لَا. قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ لَا يُخْتَلَفُ فِي عَدَالَةِ رَاوِيهِ. وَعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ قُلْتُ لِأَبِي عُبَيْدَةَ: حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ لَيْلَةَ الْجِنِّ؟ فَقَالَ لَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الْجِنُّ سَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ فَجَعَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ. وَقَالَ زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ: كَانُوا تِسْعَةً أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنْ أَهْلِ حَرَّانَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مِنْ جَزِيرَةِ الْمَوْصِلِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ كَانُوا سَبْعَةً، ثَلَاثَةٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ نَصِيبِينَ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَذَكَرَ فِيهِ نَصِيبِينَ فَقَالَ:] رُفِعَتْ إِلَيَّ حَتَّى رَأَيْتُهَا فَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُكْثِرَ مَطَرَهَا وَيُنْضِرَ شَجَرَهَا وَأَنْ يَغْزُوَ نَهَرَهَا [. وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَيُقَالُ كَانُوا سَبْعَةً، وَكَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ قَالُوا" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَقِيلَ في أسمائهم: شاصر
«٢» وماصر ومنشي
213
وَمَاشِي وَالْأَحْقَبُ، ذَكَرَ هَؤُلَاءِ الْخَمْسَةَ ابْنُ دُرَيْدٍ. وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ، ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَّامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودَ أَنَّهُ كَانَ فِي نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إِعْصَارٌ ثُمَّ جَاءَ إِعْصَارٌ أَعْظَمُ مِنْهُ فَإِذَا حَيَّةُ قَتِيلٍ، فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنَّا إِلَى رِدَائِهِ فَشَقَّهُ وَكَفَّنَ الْحَيَّةَ بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ إِذَا امْرَأَتَانِ تَسْأَلَانِ: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ؟ فَقُلْنَا: مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ! فَقَالَتَا: إِنْ كُنْتُمُ ابْتَغَيْتُمُ الْأَجْرَ
«١» فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ، إِنَّ فَسَقَةَ الْجِنِّ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقُتِلَ عَمْرٌو، وَهُوَ الْحَيَّةُ الَّتِي رَأَيْتُمْ، وَهُوَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. وَذَكَرَ ابْنُ سَلَّامٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الَّذِي كَفَّنَهُ هُوَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ. قُلْتُ: وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الثَّعْلَبِيُّ بِنَحْوِهِ فَقَالَ: وَقَالَ ثَابِتُ بْنُ قُطْبَةَ جَاءَ أُنَاسٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالُوا: إنا كنا في سقر فَرَأَيْنَا حَيَّةً مُتَشَحِّطَةً فِي دِمَائِهَا، فَأَخَذَهَا رَجُلٌ مِنَّا فَوَارَيْنَاهَا، فَجَاءَ أُنَاسٌ فَقَالُوا: أَيُّكُمْ دَفَنَ عَمْرًا؟ قُلْنَا: وَمَا عَمْرٌو! قَالُوا الْحَيَّةُ الَّتِي دَفَنْتُمْ فِي مَكَانِ كَذَا، أَمَا إِنَّهُ كَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْجِنِّ مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ قِتَالٌ فَقُتِلَ. فَفِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمْ يَكُنْ فِي سَفَرٍ وَلَا حَضَرَ الدَّفْنَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ رَجُلٍ مِنَ التَّابِعِينَ سَمَّاهُ: أَنَّ حَيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِي خِبَائِهِ تَلْهَثُ عَطَشًا فَسَقَاهَا ثُمَّ أَنَّهَا مَاتَتْ فَدَفَنَهَا، فَأُتِيَ مِنَ اللَّيْلِ فَسُلِّمَ عَلَيْهِ وَشُكِرَ، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جِنِّ نَصِيبِينَ اسْمُهُ زَوْبَعَةُ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَبَلَغَنَا في فضائل عمر ابن عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ الْأَشْبِيلِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ يَمْشِي بِأَرْضٍ فَلَاةٍ، فَإِذَا حَيَّةٌ مَيِّتَةٌ فَكَفَّنَهَا بِفَضْلَةٍ مِنْ رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا، فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ: يَا سُرَّقُ، أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:] سَتَمُوتُ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ فَيُكَفِّنُكَ رَجُلٌ صَالِحٌ [. فَقَالَ: وَمَنْ أَنْتَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ! فَقَالَ: رَجُلٌ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا أَنَا وَسُرَّقٌ، وَهَذَا سُرَّقٌ قد مات. وقد قتلت
214
عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَيَّةً رَأَتْهَا فِي حُجْرَتِهَا تَسْتَمِعُ وَعَائِشَةُ تَقْرَأُ، فَأُتِيَتْ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكَ قَتَلْتِ رَجُلًا مُؤْمِنًا مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُؤْمِنًا مَا دَخَلَ عَلَى حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهَا: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُتَقَنِّعَةً
«١»، وَمَا جَاءَ إِلَّا لِيَسْتَمِعَ الذِّكْرَ. فَأَصْبَحَتْ عَائِشَةُ فَزِعَةً، وَاشْتَرَتْ رِقَابًا فَأَعْتَقَتْهُمْ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَسْمَاءٍ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ مَا حَضَرَنَا، فَإِنْ كَانُوا سَبْعَةً فَالْأَحْقَبُ مِنْهُمْ وَصْفٌ لِأَحَدِهِمْ، وَلَيْسَ بِاسْمِ عَلَمٍ، فَإِنَّ الْأَسْمَاءَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا ثَمَانِيَةٌ بِالْأَحْقَبِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ: هَامَّةَ بْنَ الْهَيْمِ
«٢» بْنِ الْأَقْيَسِ بْنِ إِبْلِيسَ، قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ مُؤْمِنِي الْجِنِّ وَمِمَّنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه سورة" إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ" [الواقعة: ١] و" الْمُرْسَلاتِ" [المرسلات: ١] و" عَمَّ يَتَساءَلُونَ" [النبأ: ١] و" إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ" [التكوير: ١] و" الْحَمْدُ" [الفاتحة: ١] و" المعوذتين" [الفلق: ١ - والناس: ١]. وَذُكِرَ أَنَّهُ حَضَرَ قَتْلَ هَابِيلَ وَشَرِكَ فِي دَمِهِ وَهُوَ غُلَامٌ ابْنُ أَعْوَامٍ، وَأَنَّهُ لَقِيَ نُوحًا وَتَابَ عَلَى يَدَيْهِ، وَهُودًا وَصَالِحًا وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَإِلْيَاسَ وَمُوسَى بْنَ عِمْرَانَ وَعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَقَدْ ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَسْمَاءَهُمْ عَنْ مُجَاهِدٍ فَقَالَ: حَسَّى وَمَسَّى وَمُنَشَّى وَشَاصِرٌ وَمَاصِرٌ وَالْأَرَدُ وَأَنِيَّانُ وَالْأَحْقَمُ. وَذَكَرَهَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ السَّمَّاكِ قَالَ: حدثنا محمد ابن الْبَرَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍّ يُسَمِّي جِنَّ نَصِيبِينَ الَّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ: حَسَّى ومسي وشاصر وماصر والأفخر والأرد وإنيان
«٣». قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَلَمَّا حَضَرُوهُ" أَيْ حَضَرُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. وَقِيلَ: لَمَّا حَضَرُوا الْقُرْآنَ وَاسْتِمَاعَهُ." قالُوا أَنْصِتُوا" أَيْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ اسْكُتُوا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هَبَطُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
215
وَهُوَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوهُ" قالُوا أَنْصِتُوا" قَالُوا صَهٍ. وَكَانُوا سَبْعَةً: أَحَدُهُمْ زَوْبَعَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا" الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ:" فِي ضَلالٍ مُبِينٍ" [الأحقاف: ٣٢]. وَقِيلَ:" أَنْصِتُوا" لِسَمَاعِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ." فَلَمَّا قُضِيَ" وَقَرَأَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ وَخُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ" فَلَمَّا قُضِيَ" بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، يَعْنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الصَّلَاةِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا حِينَ حُرِسَتِ السَّمَاءُ مِنَ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ لِيَسْتَخْبِرُوا مَا أَوْجَبَ ذَلِكَ؟ فَجَاءُوا وَادِي نَخْلَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَكَانُوا سَبْعَةً، فَسَمِعُوهُ وَانْصَرَفُوا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بَلْ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُنْذِرَ الْجِنَّ وَيَقْرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ، فَصَرَفَ اللَّهُ إِلَيْهِ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ لِيَسْتَمِعُوا مِنْهُ وَيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، فَلَمَّا تَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَفَرَغَ انْصَرَفُوا بِأَمْرِهِ قَاصِدِينَ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ، مُنْذِرِينَ لَهُمْ مُخَالَفَةَ الْقُرْآنِ وَمُحَذِّرِينَ إِيَّاهُمْ بَأْسَ اللَّهِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ أَرْسَلَهُمْ. وَيَدُلُّ عَلَى هذا قولهم:" يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ" [الأحقاف: ٣١] وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَنْذَرُوا قَوْمَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَهُمْ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَيْلَةُ الْجِنِّ لَيْلَتَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ"
«١» [الجن: ١]. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ مَعْنٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ
«٢» النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ- يَعْنِي ابْنُ مَسْعُودٍ- أنه آذنته بهم شجرة.
[سورة الأحقاف (٤٦): الآيات ٣٠ الى ٣١]
قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يَا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١)
216
قَوْلُهُ تَعَالَى:" قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى " أَيِ الْقُرْآنَ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ بِمُوسَى. قَالَ عَطَاءٌ: كَانُوا يَهُودًا فَأَسْلَمُوا، وَلِذَلِكَ قَالُوا:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى ". وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْجِنَّ لَمْ تَكُنْ سَمِعَتْ بِأَمْرِ عِيسَى، فَلِذَلِكَ قَالَتْ:" أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى "." مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ" يَعْنِي ما قبله من التوراة." يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ" دِينِ الْحَقِّ." وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ" دِينُ اللَّهِ القويم." يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ" يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْتُ: يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:] أُعْطِيَتْ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى كُلِّ أَحْمَرَ وَأَسْوَدَ وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ طَيِّبَةً طَهُورًا وَمَسْجِدًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ بَيْنَ يَدَيْ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَأُعْطِيَتُ الشَّفَاعَةَ [. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ" وَبُعِثْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ"." وَآمِنُوا بِهِ" أَيْ بِالدَّاعِي، وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ:" بِهِ" أَيْ بِاللَّهِ، لِقَوْلِهِ:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ سَبْعُونَ رَجُلًا، فَرَجَعُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَافَقُوهُ بِالْبَطْحَاءِ، فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ. مَسْأَلَةٌ- هَذِهِ الْآيُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ كَالْإِنْسِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ لِمُؤْمِنِي الْجِنِّ ثَوَابٌ غَيْرَ نَجَاتِهِمْ مِنَ النَّارِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ". وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ: لَيْسَ ثَوَابُ الْجِنِّ إِلَّا أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: كُونُوا تُرَابًا مِثْلَ الْبَهَائِمِ. وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُمْ كما يعاقبون
217
قوله تعالى :" أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض " الرؤية هنا بمعنى العلم. و " أن " واسمها وخبرها سدت مسد مفعولي الرؤية. " ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير " احتجاج على منكري البعث. ومعنى " لم يعي " يعجز ويضعف عن إبداعهن. يقال : عي بأمره وعيي إذا لم يهتد لوجهه، والإدغام أكثر. وتقول في الجمع عيوا، مخففا، وعيوا أيضا بالتشديد. قال
عَيُّوا بأمرهمُ كما | عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الحَمَامَهْ |
وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه. وأعياني هو. وقرأ الحسن " ولم يعي " بكسر العين وإسكان الياء، وهو قليل شاذ، لم يأت إعلال العين وتصحيح اللام إلا في أسماء قليلة، نحو غاية وآية. ولم يأت في الفعل سوى بيت أنشده الفراء، وهو قول الشاعر :
فكأنها بين النساء سَبِيكَةٌ | تمشِي بسدة بيتها فَتُعِيّ |
" بقادر " قال أبو عبيدة والأخفش : الباء زائدة للتوكيد كالباء في قوله :" وكفى بالله شهيدا " [ النساء : ١٦٦ ]، وقوله :" تنبت بالدهن " [ المؤمنون : ٢٠ ]. وقال الكسائي والفراء والزجاج : الباء فيه خلف الاستفهام والجحد في أول الكلام. قال الزجاج : والعرب تدخلها مع الجحد تقول : ما ظننت أن زيدا بقائم. ولا تقول : ظننت أن زيدا بقائم. وهو لدخول " ما " ودخول " أن " للتوكيد. والتقدير : أليس الله بقادر، كقوله تعالى :" أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر " [ يس : ٨١ ]. وقرأ ابن مسعود والأعرج والجحدري وابن أبي إسحاق ويعقوب " يقدر " واختاره أبو حاتم، لأن دخول الباء في خبر " أن " قبيح. واختار أبو عبيد قراءة العامة، لأنها في قراءة عبد الله " خلق السموات والأرض قادر " بغير باء. والله أعلم.
عَيُّوا بِأَمْرِهِمْ كَمَا | عَيَّتْ بِبَيْضَتِهَا الْحَمَامَةُ «١» |
وَعَيِيتُ بِأَمْرِي إِذَا لَمْ تَهْتَدِ لِوَجْهِهِ. وَأَعْيَانِي هُوَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" وَلَمْ يَعِي" بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَهُوَ قَلِيلٌ شَاذٌّ، لَمْ يَأْتِ إِعْلَالُ الْعَيْنِ وَتَصْحِيحُ اللَّامِ إِلَّا فِي أَسْمَاءٍ قَلِيلَةٍ، نَحْوُ غَايَةٍ وَآيَةٍ. وَلَمْ يَأْتِ فِي الْفِعْلِ سِوَى بَيْتٍ أَنْشَدَهُ الْفَرَّاءُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَكَأَنَّهَا بَيْنَ النِّسَاءِ سَبِيكَةٌ | تَمْشِي بِسُدَّةِ «٢» بَيْتِهَا فَتُعِيُّ |
" بِقادِرٍ" قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ:" وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً"
«٣» [النساء: ١٦٦]، وقوله:" تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ"
«٤» [المؤمنون: ٢٠]. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: الْبَاءُ فِيهِ خَلَفَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْجَحْدِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْعَرَبُ تُدْخِلُهَا مَعَ الْجَحْدِ تَقُولُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ. وَلَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ أَنَّ زَيْدًا بِقَائِمٍ. وَهُوَ لِدُخُولِ" مَا" وَدُخُولِ" أَنَّ" لِلتَّوْكِيدِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ"
«٥» [يس: ٨١]. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْرَجُ وَالْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبُ" يَقْدِرُ" وَاخْتَارَهُ أَبُو حَاتِمٍ، لِأَنَّ دُخُولَ الْبَاءِ فِي خَبَرِ" أَنَّ" قَبِيحٌ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ، لِأَنَّهَا فِي قِرَاءَةِ عبد الله" خلق السموات والأرض قادر" بغير باء. والله أعلم.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٣٤]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ" أَيْ ذَكِّرْهُمْ يَوْمَ يُعْرَضُونَ فَيُقَالُ لَهُمْ:" أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا" فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُقَرَّرُ:" فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ" أي بكفركم.
[سورة الأحقاف (٤٦): آية ٣٥]
فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ" وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَوُو الْحَزْمِ وَالصَّبْرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ خَمْسَةٌ: نُوحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَهُمْ أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّ أُولِي الْعَزْمِ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَإِبْرَاهِيمُ. فَأَمَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْ يَكُونَ رَابِعَهُمْ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُمْ سِتَّةٌ
«١»: إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَعِيسَى، وَمُحَمَّدٌ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَقِيلَ: نُوحٌ، وَهُودٌ، وَصَالِحٌ، وَشُعَيْبُ، وَلُوطٌ، وَمُوسَى، وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سورة" الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ". وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ مُدَّةً. وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ. وَإِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ. وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ الْوَلَدِ وَذَهَابِ الْبَصَرِ. وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ. وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِنَّ مِنْهُمْ إِسْمَاعِيلَ وَيَعْقُوبَ وَأَيُّوبَ، وَلَيْسَ مِنْهُمْ يُونُسُ وَلَا سُلَيْمَانُ وَلَا آدَمُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ وَجَاهَدُوا الْكَفَرَةَ. وَقِيلَ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ" الْأَنْعَامِ"
«٢» وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ: إِبْرَاهِيمُ، وَإِسْحَاقُ، وَيَعْقُوبُ، وَنُوحٌ، وَدَاوُدُ، وَسُلَيْمَانُ، وَأَيُّوبُ، وَيُوسُفُ، وَمُوسَى، وَهَارُونُ، وَزَكَرِيَّاءُ، وَيَحْيَى، وَعِيسَى، وَإِلْيَاسُ، وَإِسْمَاعِيلُ، وَالْيَسَعُ، وَيُونُسُ، وَلُوطٌ. وَاخْتَارَهُ الْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ لِقَوْلِهِ فِي عَقِبِهِ:" أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"
«٣» [الانعام: ٩٠] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ. وَاخْتَارَهُ عَلِيُّ بْنُ مَهْدِيٍّ الطَّبَرِيُّ، قَالَ: وَإِنَّمَا دَخَلَتْ" مِنْ" لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ أَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ وَأَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ. أَيِ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الرُّسُلُ. وَقِيلَ: كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ أُولُو عَزْمٍ إِلَّا يُونُسَ بن متي، ألا ترى أن
220
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، لِخِفَّةٍ وَعَجَلَةٍ ظَهَرَتْ مِنْهُ حِينَ وَلَّى مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ بِثَلَاثٍ: سَلَّطَ عَلَيْهِ الْعَمَالِقَةَ حَتَّى أَغَارُوا عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَسَلَّطَ الذِّئْبَ عَلَى وَلَدِهِ فَأَكَلَهُ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ الحوت فابتلعه، قاله أَبُو الْقَاسِمِ الْحَكِيمُ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أُولُو الْعَزْمِ اثْنَا عَشَرَ نَبِيًّا أُرْسِلُوا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالشَّامِ فَعَصَوْهُمْ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنِّي مُرْسِلٌ عَذَابِي إِلَى عُصَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمُ اخْتَارُوا لِأَنْفُسِكُمْ، إِنْ شِئْتُمْ أَنْزَلْتُ بِكُمُ الْعَذَابَ وَأَنْجَيْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَإِنْ شِئْتُمْ نَجَّيْتُكُمْ وَأَنْزَلْتُ الْعَذَابَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، فَتَشَاوَرُوا بَيْنَهُمْ فَاجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يُنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابَ وَيُنَجِّيَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنْجَى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنْزَلَ بِأُولَئِكَ الْعَذَابَ. وَذَلِكَ أَنَّهُ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُلُوكَ الْأَرْضِ، فَمِنْهُمْ مَنْ نُشِرَ بِالْمَنَاشِيرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سُلِخَ جِلْدَةُ رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ صُلِبَ عَلَى الْخَشَبِ حَتَّى مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ حُرِّقَ بِالنَّارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُولُو الْعَزْمِ أَرْبَعَةٌ: إِبْرَاهِيمُ، وَمُوسَى، وَدَاوُدُ، وَعِيسَى، فَأَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَقِيلَ لَهُ:" أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ"
«١» [البقرة: ١٣١] ثُمَّ ابْتُلِيَ فِي مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَوَطَنِهِ وَنَفْسِهِ، فَوُجِدَ صَادِقًا وَافِيًا فِي جَمِيعِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ. وَأَمَّا مُوسَى فَعَزْمُهُ حِينَ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ:" إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ"
«٢» [الشعراء: ٦٢ - ٦١]. وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَخْطَأَ خَطِيئَتَهُ فَنُبِّهَ عَلَيْهَا، فَأَقَامَ يَبْكِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى نَبَتَتْ مِنْ دُمُوعِهِ شَجَرَةٌ، فَقَعَدَ تَحْتَ ظِلِّهَا. وَأَمَّا عِيسَى فَعَزْمُهُ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ لَبِنَةً عَلَى لَبِنَةٍ وَقَالَ:" إِنَّهَا مَعْبَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تُعَمِّرُوهَا". فَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اصْبِرْ، أَيْ كُنْ صَادِقًا فِيمَا ابْتُلِيَتَ بِهِ مِثْلُ صِدْقِ إِبْرَاهِيمَ، وَاثِقًا بِنُصْرَةِ مَوْلَاكَ مِثْلُ ثِقَةِ مُوسَى، مُهْتَمًّا بِمَا سَلَفَ مِنْ هَفَوَاتِكَ مِثْلُ اهْتِمَامِ دَاوُدَ، زَاهِدًا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ زُهْدِ عِيسَى. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ. وَقِيلَ: مُحْكَمَةٌ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ. وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى مَا أَصَابَهُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، تَسْهِيلًا عَلَيْهِ وَتَثْبِيتًا له. والله أعلم." وَلا تَسْتَعْجِلْ" قال مقاتل: بالدعاء
221
عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: فِي إِحْلَالِ الْعَذَابِ
«١» بِهِمْ، فَإِنَّ أَبْعَدَ غَايَاتِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَفْعُولُ الِاسْتِعْجَالِ مَحْذُوفٌ، وَهُوَ الْعَذَابُ." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ" قَالَ يَحْيَى: مِنَ الْعَذَابِ. النَّقَّاشُ: مِنَ الْآخِرَةِ." لَمْ يَلْبَثُوا" أَيْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ يَحْيَى. وَقَالَ النَّقَّاشُ: فِي قُبُورِهِمْ حَتَّى بُعِثُوا لِلْحِسَابِ." إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ" يَعْنِي فِي جَنْبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسَّاهُمْ هَوْلَ مَا عَايَنُوا مِنَ الْعَذَابِ طول لبثهم في الدنيا. ثم قال:" بَلاغٌ" أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ بَلَاغٌ، قَالَهُ الْحَسَنُ. ف" بَلاغٌ" رُفِعَ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَإٍ، دَلِيلُهُ قَوْلَهُ تَعَالَى:" هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ"
«٢» [إبراهيم: ٥٢]، وَقَوْلُهُ:" إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ"
«٣» [الأنبياء: ١٠٦]. وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ. وَقِيلَ: أَيْ إِنَّ ذَلِكَ اللُّبْثَ بَلَاغٌ، قَالَهُ ابْنُ عِيسَى، فَيُوقَفُ عَلَى هَذَا عَلَى" بَلَاغٍ" وَعَلَى" نَهَارٍ". وَذَكَرَ أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ بَعْضَهُمْ وَقَفَ عَلَى" وَلا تَسْتَعْجِلْ" ثُمَّ ابْتَدَأَ" لَهُمْ" عَلَى مَعْنَى لَهُمْ بَلَاغٌ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهَذَا خَطَأٌ، لِأَنَّكَ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ الْبَلَاغِ وَبَيْنَ اللَّامِ،- وَهِيَ رَافِعَةٌ- بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْهُمَا. وَيَجُوزُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: بَلَاغًا وَبَلَاغٌ، النَّصْبُ عَلَى مَعْنَى إِلَّا سَاعَةً بَلَاغًا، عَلَى الْمَصْدَرِ أَوْ عَلَى النَّعْتِ لِلسَّاعَةِ. وَالْخَفْضُ عَلَى مَعْنَى مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ. وَبِالنَّصْبِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ. وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ" بَلِّغْ" عَلَى الْأَمْرِ، فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ الْوَقْفُ عَلَى" مِنْ نَهارٍ" ثُمَّ يَبْتَدِئُ" بَلاغٌ"." فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ" أَيِ الْخَارِجُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ" عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْقَوْمِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا عَسِرَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَدُهَا تَكْتُبُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَالْكَلِمَتَيْنِ فِي صَحِيفَةٍ ثُمَّ تُغَسَّلُ وَتُسْقَى مِنْهَا، وَهِيَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، سُبْحَانَ اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَرَبُّ الْأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً
«٤» أَوْ ضُحاها" [النازعات: ٤٦]." كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ" صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ. وَعَنْ قتادة: لا يهلك الله»
إلا هالك مشرك
«٦». وَقِيلَ: هَذِهِ أَقْوَى آيَةٍ فِي الرَّجَاءِ. وَاللَّهُ أعلم.
222