تفسير سورة سورة العلق من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة العلق
مكية، وهي تسع عشرة آية.
روى البغوي بسنده عن عائشة قالت : أول سورة نزلت ( إقرأ باسم ربك ) وعليه أكثر المفسرين، وأول ما نزل خمس الآيات من أولها إلى قوله تعالى :( ما لم يعلم ). عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت :( أول ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه –وهو تعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في حراء، فجاءه الملك فقال : اقرأ، فقلت : ما أنا بقارئ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ، فقلت : ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ. قلت : ما أنا بقارئ. قال : فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ١ خلق الإنسان من علق ٢ اقرأ وربك الأكرم ٣ الذي علَّم بالقلم ٤ علَّم الإنسان ما لم يعلم ٥ ﴾ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر، وقال : لقد خشيت على نفسي، فقالت : كلا والله ما يحزنك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسيد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان أمرًا تنصر بالجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعا، يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجي هم ؟ قال : نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي متفق عليه. وقيل : المدثر أول القرآن نزولا، وقد ذكرنا هناك، وقيل : أول ما أنزل سورة الفاتحة لما روى البيهقي في الدلائل أن خديجة قالت لأبي بكر : يا عتيق اذهب به إلى ورقة، فأخذه أبو بكر فقص عليه ما رأى، فقال عليه السلام : إذا خلوت وحدي سمعت نداء يقول : يا محمد يا محمد، فانطلق هاربا فقال : لا تفعل، إذا قال فاثبت حتى تسمع ثم انتهى فأخبرني، فلما خلا فناداه محمد فثبت فقال قل :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ١ الحمد لله رب العالمين ٢ ﴾ إلى آخرها، ثم قال : قل لا إله إلا الله الحديث، والصحيح هو الأول. قال البغوي : وهو الصواب الذي عليه جماهير الخلف والسلف، وما قيل : إنه ما أنزل فيها :﴿ يا أيها المدثر ١ ﴾ فمحمول على أنه أول ما نزل بعد فترة الوحي، وأول سورة نزلت بكمالها الفاتحة، أو يقال : أوليتها إضافية أول أكثر القرآن بعد اقرأ والمدثر. واختلفوا في مدة الخلو بغار حراء ؟ وفي الصحيحين جاورت بحراء شهرا، وهو شهر رمضان، كما رواه ابن إسحاق في السيرة، وأفاد الزرقاوي أنه لم يصح أكثر منه، وروى مسوار بن مصعب : أربعون يوما ؛ لكنه متروك الحديث، قاله الحاكم وغيره، ورجح بعد العلماء هذا قياما على ميقات موسى عليه السلام، واستدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم :( من أخلص لله أربعين يوما ظهر ينابيع الحكمة من قلبه إلى لسانه ) رواه أبو نعيم في الحلية عن أيوب ؛ لكن الحديث ضعيف، وكذا القياس ؛ لأن موسى كان ثلاثين ليلة فأتمها الله أربعين بعارضة قال الله تعالى :﴿ ووعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتمَّ ميقات ربه أربعين ليلة ﴾ واختلفوا في كيفية تعبده ؟ فقيل : بشرع نوح وإبراهيم وعيسى وليس بشيء لكونه أميا، والصحيح أنه كان يتعبد بالانقطاع عن الخلق والميل إلى الحق والتفكر، قال القسطلاني : ولم تكن الرجفة المذكورة في الحديث خوفا من جبرائيل عليه السلام، فإنه صلى الله عليه وسلم أجل من ذلك، وأثبت جنانا ؛ بل خشية أن يشتغل بغير الله عنه تعالى. قيل : خاف من ثقل أعباء النبوة، وروى أبو نعيم أن جبرائيل وميكائيل شقا صدره هنا وغسلاه ثم قالا : اقرأ باسم ربك الآيات.
مسألة :
وهذه القصة تدل على أن التسمية ليست جزء من كل سورة، لكن روى ابن جرير عن ابن عباس قال : أول ما نزل جبرائيل على محمد صلى الله عليه وسلم قال : يا محمد استعذ، قال : أستعيذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم قال : بسم الله الرحمان الرحيم، ثم قال : اقرأ باسم ربك الذي خلق، وهذه الرواية شاذة في مقابلة الصحاح.
فائدة :
ومدة فترة الوحي ذكر السهيلي أن الفترة كانت سنتين ونصفا، ووقع في التاريخ الإمام أحمد عن الشعبي أنزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين، فقرن نبوته إسرافيل ثلاث سنين، فكان يعلمه الكلمة والشيء، ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن نبوته جبرائيل، فينزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة، وقد ذكرنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الفترة في سورة الضحى.
ﰡ
قوله تعالى :﴿ اقرأ باسم ربك الذي خلق ١ ﴾ أمر بالقراءة، والمفعول محذوف، أي اقرأ القرآن مفتتحا أو متبركا باسم ربك، فهو منصوب على الحال، يعني قل : باسم الله ثم اقرأ القرآن، ويحتمل أن يكون باسم ربك في محل النصب على المفعولية والباء زائدة، يعني : اقرأ اسم ربك، ولم يقل اسم الله ؛ لأن الله علم لذات الواجب ولا سبيل إلى معرفة الذات إلا بالتفكير في الآثار والصفات، وأظهر الصفات بالنسبة إلينا صفة الخلق والتربية التي تنبه على التحول أحوال الممكنات الدال على حدوث العالم الموصل إلى العلم بالمحدث القديم المنزه عن شوائب النقص والزوال، واحتمال التحول عن حال إلى حال، وفيه إشارة إلى أن الصوفي يلتزم أولا على ذكر الاسم لكي يهتدي به إلى المسمى، لكن الصوفية اختاروا من الأسماء اسم الذات لأن سلوك الطريقة يكون بعد الإيمان المجازي بذات الواجب، فالأول في حقه اسم الذات لاستجماعه في الدلالة على الصفات كلها ولو إجمالا، ولكونه أقرب من الذات والمقصود هو الذات، وقال الطيبي : هذا أمر بإيجاد القراءة مطلقا، وهو لا يختص بمفرد دون مفرد، فهو بمنزلة اللام، والباء للاستعانة، والجملة في جواب قوله صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ، والمعنى قاريا لا بقوتك ومعرفتك بل بإعانة ربك وقوته، لفظة اسم على هذا مقحم كما في قوله تعالى :﴿ سبِّح باسم ربك ﴾ ﴿ الذي خلق ﴾ صفة موضحة للرب فإن الربوبية يقتضي الخلق والتربية من النقصان إلى الكمال، وحذف مفعول خلق للدلالة على التعميم، أي خلق كل شيء ومن جملة ما خلق القدرة على القراءة، ونزل خلق منزلة اللازم يعني الذي له صفة الخلق والتكوين، ولا يمكن اتصاف أحد غيره بتلك الصفة ﴿ خلق الإنسان ﴾ الظاهر أنه جملة مستأنفة كأنه في جواب سؤال ما خلق ؟ وإنما خص الإنسان بالذكر بوجوه : أحدها أنه أشمل المخلوقات أجزاء، فإن كل ما هو في العالم الكبير فهو ثابت فيه، ولذا سمي عالما صغيرا، فالحكم بأنه خلق الإنسان حكم بخلق كل شيء من عوامل الخلق والأمر. ثانيها أنه أشرف المخلوقات، مستعد لتجليات الصفات والذات، أولي بالمعرفة التي هي المقصود بخلق الكائنات قال الله تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ﴾ أي ليعرفون، وفي الحديث القدسي ( لولاك لما خلقت الأفلاك ) ولما أظهرت الربوبية خص النبي صلى الله عليه وسلم ههنا بالذكر لكونه أكمل أفراد الناس معرفة، وفي الحديث ( كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ) فخص الإنسان في هذه الآية بالذكر إظهارا لشرفه، وبيانا لأن المقصود بالخلق، وثالثها أنه هو المخاطب بالشرائع والمكلف بالتكليفات الشرعية أولا، وأنه أعرف بحاله من حال غيره، فاستدلاله على الصانع بانقلابات أحواله أولى وأقرب لحصول المعرفة، ويجوز أن يكون المحذوف من الجملة الأولى كاف الخطاب، أي الذي خلقك، الجملة الثانية مستأنفة في جواب سؤال مقدر وهو من أي شيء خلقه ؟ قال الله تعالى :﴿ خلق الإنسان ﴾.
﴿ خلق الإنسان ﴾ بلفظ الجنس لاشتراك أفراد الإنسان فيه اختصاص ما منه الخلق بالمخاطب، ويحتمل أن يكون المفعول المحذوف من الجملة الأولى هو الإنسان، والجملة الثانية تأكيد لها فسر بعد الإبهام تفخيما لخلقه، وليكون أوقع في النفس، ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان هو النبي صلى الله عليه وسلم خص بالذكر إظهارا لشرفه، ولأنه هو المخاطب به. ﴿ من علق ﴾ جمع علقة، أورد صيغة جمع ؛ لأن الإنسان جنس في معنى الجمع، ولعل العدول من قوله خلق الإنسان من نطفة أو من تراب لمراعاة الفواصل، والإشارة إلى جميع أطوار خلقه حيث أشار إلى ما توسط منها، فإن هذا خلقه من الطين، ثم من الأغذية التي تصير بعد تحويلات منيا، ثم تصير المني علقة، ثم العلقة مضغة، ثم المضغة عظاما، ثم تكسى العظام لحما، ثم ينفخ فيه الروح، فذكر المتوسط يشعر بما سبقه وما لحقه من الأطوار.
﴿ اقرأ ﴾ تكرير للتأكيد وللمبالغة، والأول مطلق والثاني للتبليغ أو في الصلاة، وجاز أن يكون باسم ربك متعلقا بهذا، ويكون الأول نازلا منزلة اللازم، والثاني مستأنفة، تقديره اقرأ أي صر قارئا، فكأنه قال : ما أقرأ ؟ وكيف أقرأ ؟ فقال الله تعالى : اسم ربك اقرأ، وباسم ربك إقرأ القرآن، وعلى هذا يحتمل أن يكون ما في قوله صلى الله عليه وسلم :" ما أنا بقارئ " في جواب قول جبرائيل : اقرأ، استفهامية والباء في الخبر زائدة على لغة أهل المصر، ويمكن أن يقال : ما في المرتبة الأولى نافية، وبعد ما غطه جبرائيل كانت استفهامية ﴿ وربك ﴾ مبتدأ والواو للحال. ﴿ الأكرم ﴾ صفة للمبتدأ، أو خبر له، الزائد في الكرم على كل كريم، فرض وجوده حيث ينعم بلا غرض ما لا يمكن إحصاؤه كماً وكيفاً ومورداً، ويحلم عن جهل العباد، فإما أن يعفو أو لا يعجل في العقوبة مع العلم وكمال القدرة على الانتقام فوراً، فالأفضلية على سبيل الفرض، ولو كان المفروض محالاً أو في الحقيقة هو الكريم وحده لا شريك له في الذات ولا في صفة من الصفات، ولذا قالوا : أفعل وفعيل في صفات الله تعالى بمعنى واحد، فإطلاق لفظ الكريم أو الرحيم أو السميع أو البصير ونحو ذلك على غيره تعالى كأنه بالمجاز، لكونه مرآة لصفة كرمه ورحمته وغير ذلك.
﴿ الذي علَّم بالقلم ٤ ﴾ قيل : بالقلم متعلق بمفعول محذوف بعلم، تقديره : علم الخط بالقلم ليفيد به العلوم والكتب المنزلة، فيبقى بعد مضي الدهور، ويعلم به البعيد، وإنما خص علم الخط أولاً بذكر إظهارا لشرفه، فإن الغرض من التعلم الحفظ وتبقية العلوم وحفظها غالبا لكتابة عادة. قيل : أول من خط إدريس عليه السلام، قلت : والظاهر أن قوله : بالقلم متعلق بعلم معنى العلوم بتوسط القلم، وإنما قدمه في الذكر لكون التعليم بالقلم أسبق التعليمات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن أول ما خلق الله القلم ) الحديث، وقد مر في سورة ( ن والقلم ). والموصول مع الصلة خبر للمبتدأ أولاً أو بعد خبر أو صفة بعد صفة كاشفة للتكريم، فإن من كمال كرمه تعليم العلوم وتعليم ما يفيد به العلوم.
﴿ علَّم الإنسان ما لم يعلم ٥ ﴾ بخلق العقل والقوى، ونصب الدلائل والوحي والإلهام، وخلق العلم الضروري في الأذهان، وإنزال الكتب، وإرسال الرسل، وتواتر الأخبار، وغير ذلك، هذه الجملة خبر للمبتدأ إن كان ما سبق صفات، وبدل اشتمال من ( علم بالقلم ) إن كان الموصول خبر المبتدأ، تقييد العلم أولاً بالقلم مع حذف المفعول الأول على التعميم، وعدم تقييده به ثانيا مع تقييده بالإنسان دليل على أن علوم العالمين بعض علم الإنسان وأخض ولو من وجه، فإن علوم الملائكة مثلا بتوسط القلم، وقد أحاط بها اللوح المحفوظ الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ولا رطب ولا يابس إلا فيه، وأما علم الإنسان فمنها ما هو اللوح مكتوب بالقلم، ومنها ما لا يحيط به الكتاب، ولا يتصد به القلم، يدل عليه قوله تعالى :﴿ وعلًّم آدم الأسماء كلُّها ﴾ الآية، وذلك لأن العلم بكنه ذات الله تعالى ليس من قبيل العلم الحصولي حتى يتسعه اللوح ويكتبه القلم ؛ بل هو من قبيل العلم الحضوري ؛ بل وراء العالمين يحصل للإنسان بعد ماهية الله تعالى ذاتاً موهوماً، ومن ها هنا قال قائل :
فإن من جودك الدنيا وخرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وجملة ( وربك الأكرم ) حال من فاعل ( اقرأ ) فإنه لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : اقرأ، فقال : ما أنا بقارئ، قيل له :( اقرأ وربك الأكرم الذي علَّم بالقلم علَّم الإنسان ) يعني آدم عليه السلام، أو جنس الإنسان الشامل لجميع الأنبياء ما لم يعلم، فيعلمك القرآن وإن لم يكن قارئا، ويحتمل أن يكون المراد بالإنسان محمد صلى الله عليه وسلم، فلعله قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنا بقارئ، فأخذه جبرائيل فغطه ثلاثا حتى بلغ منه الجهد، وأفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، فالله سبحانه علَّم نبيه صلى الله عليه وسلم بتلك اللفظات الثلاث علوم الأولين والآخرين، ثم عد نعمه عليه فقال :( علَّم الإنسان ما لم يعلم ) وقال في موضع آخر " ﴿ وعلَّمك ما لم تكن تعلم ﴾ فإن قيل : أي فائدة في إيراد قوله :﴿ ما لم يعلم ﴾ مع أن التعليم لا يتصور إلا فيما لا يعلم ؟ قلنا : فائدته التصريح بعجز الإنسان التعرف بجهله من قبل العلم، ويشكر على تلك النعمة العظمى، وذكر في المواهب اللدنية : روي أن جبرائيل بدا له صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة وأطيب رائحة فقال : يا محمد إن الله يقرئك السلام، ويقول لك : أنت رسول إلى الجن والإنس، فادعهم إلى قول لا إله إلا الله، ثم ضرب برجله الأرض فنبعت عين ماء فتوضأ منها جبرائيل، ثم أمره أن يتوضأ، وقام جبرائيل يصلي، وأمره أن يصلي معه، فعلَّمه الوضوء والصلاة، ثم عرج إلى السماء، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يمر بحجر ولا مدر ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليكم يا رسول الله، حتى أتى خديجة فأخبرها فغشي عليها من الفرح، ثم أمرها فتوضأ وصلى بها كما صلى له جبرائيل، فكان ذلك أول فرضها ركعتين، ثم إن الله أمرها في السفر كذلك وأتمها في الحضر، وقال ابن حجر في فتح الباري : كان صلى الله عليه وسلم قبل الإسراء يصلي قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف : هل فرض قبل الخمس شيء من الصلاة ؟ فقيل : إن الفرض كان صلاة قبل طلوع الشمس وغروبها انتهى. وقال : أول ما وجب الإنذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض من قيام الليل ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في آخرها، ثم نسخه بإيجاب الصلاة الخمس ليلة الإسراء بمكة، وأما ذكره في هذه الرواية من أن جبرائيل علَّمه الوضوء وأمره فيدل على فرضية الوضوء قبل الإسراء، والله تعالى أعلم.
وأخرج ابن المنذر عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ فقيل : نعم، فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل لأطأن على رقبته، ولأعفرن وجهه في التراب، فأنزل الله تعالى :
﴿ كلاّ إن الإنسان ليطغى ٦ أن رآه استغنى ٧ إن إلى ربك الرُّجعى ٨ أرأيت الذي ينهى ٩ عبداً إذا صلّى ١٠ أرأيت إن كان على الهدى ١١ أو أمر بالتقوى ١٢ أرأيت إن كذَّب وتولّى ١٣ ألم يعلم بأن الله يرى ١٤ كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ١٥ ناصية كاذبة خاطئة ١٦ فليدع ناديه ١٧ سندع الزبانية ١٨ كلاّ لا تطعه واسجد واقترب ١٩ ﴾
﴿ كلاّ ﴾ ردع لمن كفر بالله لطغيانه ونهى عن الصلاة وإن لم يذكر في الكلام لدلالة الكلام أو الحال عليه، أو هي بمعنى حقا تحقيقا لما بعده ﴿ إن الإنسان ﴾ أطلق لفظ الجنس باعتبار بعض أفراده يعني أبا جهل ﴿ ليطغى ﴾ ليجاوز حده في الكفر والتكبر على ربه.
﴿ أن رآه ﴾ قرأ قنبل بقصر الهمزة والباقون بالمد ﴿ استغنى ﴾ إن رأى نفسه منصوب على العلية أو على الظرفة بتقدير المضاف، أي لأن رأى، أو وقت أن رأى نفسه غيناً، استغنى مفعول ثان للرؤية فإنها من أفعال القلوب، ولو كان بمعنى الإبصار لامتنع كون الشيء الواحد مرجعا للضميرين المرفوع والمنصوب، كان أبو جهل إذا أصاب مالاً ارتفع في طعامه وثيابه ومركبه.
﴿ إن إلى ربك الرُّجعى ٨ ﴾ الرجعى مصدر كالبشرى اسم أن، والظرف خبره، والجملة مستأنفة للتهديد والتحذير، كأنه في جواب ما عاقبة الطاغي ؟ والخطاب للإنسان على سبيل الالتفات، أي رجوعك إلى ربك فيجازيك على طغيانك.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فجاءه أبو جهل فنهاه، فأنزل الله تعالى :﴿ أرأيت الذي ينهى ٩ ﴾ إلى قوله :﴿ كاذبة خاطئة ﴾ قوله تعالى :﴿ أرأيت ﴾ يا محمد استفهام عن الروية للتقرير، فهو بمعنى قد رأيت، فأقر به، أو يقال الغرض من الاستفهام الرؤية أن يخبر المخاطب عما رأى، فحاصل المعنى : أخبرني، ويستعمل في مقام التعجب، والرؤية من أفعال القلوب يتعدى إلى المفعولين وهما مبتدأ وخبر في المعنى، والغرض ها هنا تقرير نسبة بينهما والاستخبار عنها.
﴿ الذي ينهى عبداً إذا صلّى ١٠ ﴾ الظرف متعلق ب( ينهى ) والمراد بالموصول أبو جهل، وبالعبد محمد صلى الله عليه وسلم، على الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، أورد الله سبحانه لفظ العبد موقع كاف الخطاب للدلالة على كمال عبوديته، وكونه على الحق المبين، فإن مقتضى العبودية العبادة، وعلى كمال طغيان الناهي وتقبيحه، والموصول مع الصلة أحد مفعولي رأيت، ومفعول الثاني محذوف في حكم المذكور حملاً على ذكره في قوله تعالى :﴿ ليطغى ﴾ تقديره أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلّى كيف يطغى.
﴿ أرأيت ﴾ يا محمد ﴿ إن كان ﴾ العبد ﴿ على الهدى ﴾ حين يصلي.
﴿ أو أمر بالتقوى ١٢ ﴾ حين يدعوا الناس إلى التوحيد والصلاة، والظاهر النهي كان عن الصلاة وعن الأمر بالتقوى معاً، فاقتصر في الجملة الأولى على أحدهما اكتفاء بذكرهما في الثانية، ولأنه دعوة بالفعل، ولأن نهي العبد إذا صلّى يحتمل أن يكون لها ولغيرها، وعامة أحواله محصورة في تكميل نفسه بالعبادة، وتكميل غيره بالدعوة، وهذا شرط حذف جزاؤه بدلالة السياق، وهو كيف ينهاه أو فيهلك الناهي ويفوز العبد، والشرطية قائم مقام مفعولين لرأيت، وكذا في قوله تعالى :﴿ أرأيت ﴾ يا محمد ﴿ إن كذَّب ﴾.
﴿ أرأيت ﴾ يا محمد ﴿ إن كذَّب ﴾ الناهي ما هو الحق ﴿ وتولَّى ﴾ عن الإيمان، كيف ينجو من عذاب الله ؛ بل يهلك، والدليل على المحذوف في الجملتين قوله تعالى :﴿ ألم يعلم ﴾.
﴿ ألم يعلم ﴾استفهام إنكاري للتوبيخ والوعيد، فإن إنكار النفي إثبات تقديره وقد علم ﴿ بأن الله يرى ﴾ متعلق بيعلم قائم مقام مفعوليه، ويرى بمعنى يعلم حذف مفعولية بدلالة ما سبق، أي يرى الله الناهي ناهيا عن الهدى الآمر بالتقوى مكذباً بالحق، متولياً عن الإيمان، والعبد على الهدى والأمر بالتقوى، وعلم الله يستلزم الجزاء على حسب ما علم، فأطلق الرؤية وأريد بها الجزاء تسمية اللازم باسم الملزوم، فتقدير الكلام : وقد علم الناهي أن الله يجزي كلا من الناهي والعبد المصلي على حسب ما علم، فهذه جمل أربع، وقال صاحب البحر المواج مثل ما قلت، غير أنه قال : ألم يعلم جزاء الشرطية الثانية، وجزاء الشرطية الأولى محذوف يقدر مثل الثانية، تقديره أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى، وقيل : الخطاب في أرأيت الأولى والثالثة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثانية إلى الكافر، تقديره أرأيت يا محمد الذي ينهى إذا صليت غطى أرأيت يا أبا جهل إن كان محمد على الهدى أو أمر بالتقوى كيف نهاه، أرأيت يا محمد إن كذب أبو جهل وتولى فكيف ينجو، ألم يعلم بأن الله يرى كما أن الحاكم بين الخصمين يخاطب تارة هذا وتارة ذاك، وقال الشيخ جلال الدين المحلي : معناه وعجب منه يا مخاطب من حيث نهيه عن الصلاة، ومن حيث أن النهي على الهدى أمر بالتقوى، ومن حيث أن الناهي مكذب متول عن الإيمان، فعلى هذا أيضا الجمل أربع، وقيل : معناه أرأيت يا محمد الذي ينهى عبداً إذا صلى كيف صددناه عنك، أرأيت يا محمد إن كان أبو جهل على الهدى أو أمر بالتقوى لكان خيراً له، أرأيت يا محمد إن كذب أبو جهل وتولى لأعذبنه، ألم يعلم بأن الله يرى فيجازى على حسب ما عمل، وكرر لفظ أرأيت ثلاثا ولم يكتف على الأول، ولم يعطف الشرطيتين على الذي ينهى لغاية التعجب. وقال البيضاوي : الذي ينهى أول مفعولي أرأيت، والشرطتين مفعوله الثاني على التوزيع، وجزاء الشرطية الثانية قوله تعالى :﴿ ألم يعلم بأن الله يرى ١٤ ﴾ وجزاء الأولى محذوف اكتفاء بذكره في الثانية، وكلمة أرأيت في الآخرين لتكرير الأولى غير عاملة في ما بعدها، والمعنى أخبرني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلواته إن كان ذلك الناهي على الهدى فيما ينهى عنه، أو أمر بالتقوى فيما يأمر به من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب بالحق والتولي عن الصواب كما تقول ألم يعلم ذلك الناهي بأن الله يرى ويطلع على أحواله من هداه وضلاله، فالكل على هذا جملة واحدة. قال البغوي : تقدير النظم أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى وهو على الهدى آمر بالتقوى الناهي مكذب متول عن الإيمان فما أعجب من هذا، فالشرطتين في محل نصب على الحالية : الأولى عن مفعول ينهى، والثانية عن فاعله، وألم يعلم جملة مستأنفة للوعيد، وضمير الفاعل راجع إلى الذي ينهى.
كلاّ } ردع للناهي الذي كذب وتولى ﴿ لئن لم ينته ﴾ الذي ينهى عما هو فيه من النهي عن المعروف، وتكذيب الحق، والتولي عن الإيمان ﴿ لنسفعا ﴾ جواب للقسم لفظاً وللشرط معنى، ويكتب النون الخفيفة كتنوين المنصوب على صورة الألف، والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدة، أي لنا جذبة فلنجذبنه إلى النار ﴿ بالناصية ﴾ وهي مقدم الرأس، أي ناصية، والاكتفاء باللام عن الإضافة للعلم بأن المراد ناصية المذكور.
﴿ ناصية كاذبة خاطئة ١٦ ﴾ وصف الناصية بالكذب والخطأ وهما لصاحبها على الإسناد المجازي للمبالغة، وناصية بدل من الناصية، وإنما جاز لوصفها، وجملة لئن لم ينته مستأنفة، كأنها من جواب ما يفعل الله بالطاغي.
أخرج الترمذي وصححه وابن جرير عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال : ألم أنهك عن هذا ؟ فزجره النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو جهل : إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، ذكر البغوي بلفظ أشهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل : أشهرني، فوالله لأملأن عليك هذا الوادي خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فأنزل الله تعالى ﴿ فليدع ناديه ١٧ ﴾ النادي المكان الذي يجتمع فيه القوم، والمراد أهل النادي أي قومه وعشيرته بحذف المضاف في اللفظ، أو المجاز بالإسناد.
﴿ سندع الزبانية ١٨ ﴾ قال ابن عباس : يريد زبانية جهنم. قال الزجاج : هم الملائكة الغلاظ الشداد، والزبانية جمع زبني أو زبينة كعفرية، وفي الأصل الشرط، مأخوذ من الزبن بمعنى الدفع، قال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله عيانا، وذكر المحلي هذا الحديث مرفوعا.
﴿ كلاّ ﴾ أي حقاً ما ذكر من السفع بالناصية، ودعاء الزبانية، إن دعانا به، أو المعنى لا يستطيع أن يدعونا به ﴿ لا تطعه ﴾ في ترك الصلاة، جملة مستأنفة، كأنه في جواب إذا أصنع حين ينهى، ﴿ واسجد ﴾ عطف على لا تطعه لفظا، وتأكيد معنى ﴿ واقترب ﴾ من الله بالصلاة.
روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء )
أمال حمزة والكسائي أواخر هذه السورة من قوله عز وجل ﴿ ليطغى ﴾ إلى قوله ﴿ بأن الله يرى ﴾، وأمال أبو عمرو ﴿ يرى ﴾ وحده، وما عداه بين بين، وورش جميع ذلك بين بين، والباقون بالفتح، وقد ذكرنا بحث سجدة التلاوة في سورة انشقت، فعند أبي حنيفة رحمه الله اسجد أمر بسجدة التلاوة بدلالة فعله عليه الصلاة والسلام ( أنه صلى الله عليه وسلم سجد في " إذا السماء انشقت " و " اقرأ " ) رواه مسلم من حديث أبي هريرة، والجمهور على أنه أمر بالصلاة تسمية الكل باسم الجزء، فإنه معطوف على ﴿ لا تطعه ﴾ عطفا تفسيريا بسنية السجود، واقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم، وذا لا يقتضي الوجوب، والله تعالى أعلم.