تفسير سورة سبأ

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ الآية هذه السورة مكية وقيل فيها غير مكي وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار قريش لما سمعوا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات محمد يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبداً ولا نبعث فقال الله تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن وباقي السورة تهديد لهم وتخويف * ومن ذكر هذا السبب ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها والحمد لله مستغرق لجميع المحامد كلها.﴿ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ ظاهره الاستغراق ولما كانت نعم الآخرة مخبر أنها غير مرئية لنا في الدنيا ذكرها لتقاس نعمها بنعم الدنيا قياس الغائب على الشاهد وإن اختلفتا في الفضيلة والديمومة.﴿ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي من المياه.﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ أي من النبات.﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ أي من المطر وغير ذلك.﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ من أعمال الخلق وبلى جواب للنفي السابق من قولهم لا تأتينا الساعة أي بلى لتأتينكم واتبع القسم بقوله: عالم الغيب وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي انفرد به تعالى وجاء القول بقوله: وروي مضافاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم إذا لم يأت به في الإِسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة وهو لفظ الله تعالى:﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم قريش قال بعضهم لبعض على سبيل التعجيب والاستهزاء كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه هل أدلك على قصة غريبة نادرة لما كان البعث عندهم من المحال جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه وأتوا باسمه عليه السلام نكرة في قولهم هل ندلكم على رجل واسمه أشهر علم في قريش في الدنيا واخباره بالبعث أشهر خبر لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية فلذلك نكروا اسمه وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها وقد بيناه في شرح التسهيل فإِن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق ثم أكد ذلك بقوله: إنكم لفي خلق جديد ويحتمل أن يكون انكم لفي خلق جديد معمولاً لينبئكم وينبئكم معلق ولولا اللام في خبر ان لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوازه وقال الشاعر: حذار فقد نبئت أنك للذي   ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقىوممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول على القياس في إسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة والظاهر أن قوله افترى من قول بعضهم لبعض أي أهو مفتر على الله كذباً فيما ينسب إليه من أمر البعث أم به جنون يوهم ذلك ويلقيه على لسانه عادلوا بين الافتراء والجنون لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين لأنه إن كان يعتقد خلاف ما أنبأ به فهو مفتر وإن كان لا يعتقده فهو مجنون فأضرب تعالى عن مقالتهم والمعنى ليس الرسول صلى الله عليه وسلم كما نسبتم إليه بل أنتم في عذاب النار أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق وإطفاء نور الله وهو يتم * ولما كان الكلام في البعث قال: بل الذين لا يؤمنون بالآخرة فرتب العذاب على إنكار البعث وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ومعنى بعده أنه لا يقتضي خبره الملتبس به.﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة.﴿ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي حيث ما تصرفوا فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما.﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ ﴾ كما فعلنا بقارون.﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ كما فعلنا بأصحاب الظلة.﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ ﴾ أي في النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله تعالى.﴿ لآيَةً ﴾ لعلامة ودلالة.﴿ لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ راجع إلى ربه مطيع له لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله تعالى على أنه قادر على كل شىء من البعث ومن عقاب من يكفر به.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ﴾ مناسبة قصة داود وسليمان لما قبلهما هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم ونطقت به شعراؤهم على ما يأتي ذكره من تأويب الجبال والطير مع داود والإِنة الحديد وهو الجرم المستعصي وتسخير الريح لسليمان واسالة النحاس له كما ألان الحديد لأبيه وتسخير الجن في ما شاء من الأعمال الشاقة وغير ذلك * أوبي معه أي سبحي قاله ابن عباس وقرىء: والطير بالنصب عطفاً على موضع يا جبال وبالرفع عطفاً على لفظ يا جبال * والانة الحديد قال ابن عباس: حتى صار كالشمع وروي أن داود عليه السلام كان يتنكر فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال: نعم العبد لولا خلة فيه فقال: وما هي قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لنمت فضائله فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع الان له الحديد فاثرى وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين.﴿ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ ﴾ قال ابن زيد هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها.﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ ﴾ أبدله الله تعالى من الخيل الريح تجري بأمره.﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ ﴾ الظاهر أنه جعله أي النحاس له عليه السلام في معدنه عيناً تسيل كعيون الماء دلالة على نبوته يستعملها فيما يريد وعن ابن عباس أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن قال مجاهد: سالت من صنعاء ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله وكان لا يذوب.﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ أي بأمر ربه لقوله:﴿ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرىء: يزغ مضارع زاغ وقرىء: بالضم من أزاغ أي ومن يمل وعذاب السعير عذاب الآخرة قاله ابن عباس * والمحاريب قال مجاهد المساجد والتماثيل الصور والجفان جمع جفنة وهي معروفة والجوابي الحياض العظام واحدها جابية لأنه يجبى فيها الماء أي يجتمع قال الأعشى * نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية المسيح العراقي تفهق * والراسيات الثابتات على الأثافي فلا تنقل ولا تحمل لعظمها وقدّمت المحاريب على التماثيل لأن النفوس تكون في الأبنية وقدم الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها والقدور لا يكون فيها ولا تحضر هناك ولهذا قال راسيات ولما بين حال الجفان سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيها فذكر القدور للمناسبة وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال أعدائه وفي حق سليمان من المحاريب في التماثيل لأنه كان ملكاً ابن ملك قد وطد له أبوه الملك أي مهده له فكانت حاله حالة سلم إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته وقال عقب أن أعمل سابغات اعملوا صالحاً وعقب ما يعمله الجن.﴿ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ عقب كل جملة بما يناسبها وروي أن مصلى داود عليه السلام لم يخل قط من قائم يصلي ليلاً أو نهاراً وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السلام يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار والمساكين الدرمك وما شبع قط وقيل له في ذلك فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع والشكور صيغة مبالغة وأريد به من الجنس.﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ ﴾ أي أنفذنا عليه ما قضينا في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود والضمير في دلهم عائد على الجن الذين كانوا يعملون له وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح فبنوه ودخل فيه تخلياً ليصفو له يوم واحد من الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت من غير استئذان فقال: إنما دخلت بإِذن قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح فعلم سليمان عليه السلام أنه ملك الموت أتى لقبض روحه، فقال سليمان: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء، فقال له: طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الإِتكاء على العصا فقبض روحه وبقيت الجن تعمل على عادتها وكان سليمان قصد تعمية موته لأنه كان قد بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة فسأل الله تعالى تمامها على يد الإِنس والجن وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون: يتحنث أي يتعبد وقيل ان ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة فدعا الجن فبنوا الصرح وقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق فخر واحد منهم فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يعلم فنظر فإِذا هو خر ميتاً وكان عمره ثلاثاً وخمسين سنة ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه ووصى به إلى ابنه فأمر الشياطين بإِتمامه ومات قبل تمامه ودابة الأرض هي سوسة الخشب وهي الأرضة وقيل غير ذلك والمنسأة العصا وكانت فيما رووا من خرنوب وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع وتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل فلما قرب موته نبتت له شجرة وسألها فقالت انا الخرنوب خرجت لخراب ملكك فعرف أنه حضر أجله فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل.﴿ مِنسَأَتَهُ ﴾ على وزن مفعلة كمطرقة وهي العصا سميت بذلك لأنها ينسأ بها الأشياء أي تؤخر وقرىء: منسأته على وزن مفعلة بهمزة مفتوحة بعد السين وبإِبدالها ألفاً على غير قياس وبإِسكانها على غير قياس والأصل فتحها لأنها لام الكلمة.﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ الضمير عائد على سليمان عليه السلام أي سقط عن العصا ميتاً وقرىء تبينت مبنياً للفاعل ومبنياً للمفعول وإن هي المخففة من الثقيلة وينسبك منها مصدر أي تبينت الجن جهلها أي جهل الخبر والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفي عليها موت سليمان وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والصنعة.
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾ لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى لمن كفر أنعم الله تعالى وتقدم الكلام في سبأ في النمل ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم لا عقول لكم مسير ثلاث أيام فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض وبقيت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام ما سبق ذكره في النمل. وقرىء: مساكنهم ومفرداً بفتح الكاف وكسرها آية أي علامة دالة على الله تعالى وعلى قدرته ووجوب شكره وخبر كان لسبأ وآية اسمها وفي مساكنهم متعلق بما تعلق به لسبأ والتقدير لقد كانت آية كائنة في مساكنهم جنتان خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جنتان. قال ابن عطية: جنتان مبتدأ وخبره عن يمين وشمال " انتهى " لا يظهر ذلك لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا ان اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو عظيمتان عن يمين وشمال وعلى ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله وجنتان جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة. قال ابن زيد: لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا تقمل ثيابهم ولا تعيادوا بهم وكانت المراة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها المكتل فيمتلىء ثمراً من غير أن تتناول بيدها شيئاً كلوا من رزق ربكم قول الله لهم على السنة الأنبياء المبعوثين إليهم وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض.﴿ وَٱشْكُرُواْ لَهُ ﴾ على ما أنعم به عليكم.﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ أي كريمة التربة حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضار.﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ولا عذاب في الآخرة فأعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم وكانوا ثلاثة عشر نبياً دعوهم إلى الله وذكروهم نعمه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة فسلط الله تعالى عليهم الجرذ فاراً أعمى توالد فيه ويسمى الخلد فخرقه شيئاً بعد شىء وأرسل سيلاً في ذلك الوادي فحمل ذلك السد. فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين وحمل الجناب وكثيراً من الناس ممن لم يمكنهم الفرار وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات فهلكت بهذا وقال ابن عباس: العرم الشديد فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف الموصوف إلى صفته التقدير السيل العرم أو صفة لموصوف محذوف أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل أو سيل الجرذ العرم فالعرم صفة للجرذ وقيل العرم اسم الجرذ بنفسه وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل والإِضافة تكون بأدنى ملابسة ولما غرق من غرق ونجا من نجا تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ قيل والأوس والخزرج منهم وعن ابن عباس: كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به وكان سيل العرم في ملك ذي الاذعار بن حسان في الفترة التي بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وسلم ودخلت الباء في بجنتهم على الزائل وانتصب ما كان بدلاً وهو قوله: جنتين على المعهود في لسان العرب ويسمى هذا المعوض جنتين على سبيل للقابلة لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها وجاءت تثنية ذات على الأفصح في رد عينها في التثنية فقال ذواتي أكل كما جاء ذواتاً أفنان وقرىء: أكل خمط فالإِضافة على حذف مضاف أي عثر خط وقرىء: بالتنوين وخمط بدلاً من أكل وقرىء: بالنصف خمطاً ونصب ما بعدها بدلاً من قوله: جنتين قال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك والاثل شجر وهو ضرب من الطرفاء والسدر. قال الفراء: هو السمر. وقال الأزهري: السدر سدر أن سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه الغسول يشبه شجر العناب.﴿ ذَٰلِكَ ﴾ إشارة إلى إرسال السيل وتبديل الجنتين وما مصدرية والباء سببية.﴿ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ ﴾ أي بذلك الجزاء.﴿ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ الآية جاءت هذه الجملة بعد قوله: وبدلناهم وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم وذكر تبديلها بالخمط والاثل والسدر ذكر ما أنعم به عليهم من اتصال قراهم وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل وهي أنه مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها وقدر السير بأن قرب بعضها من بعض. قال ابن عطية: حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ولا يحتاج إلى حمل زاد والقرى المدن. قال الزمخشري: ولا قول ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه " انتهى ". ودخول الفاء في قوله: فكأنهم لا يجوز والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم وقرىء: ربنا على الندراء باعد فعل أمر من باعد وبعد فعل أمر من بعد وقرىء: ربنا بالرفع على الابتداء باعد فعلاً ماضياً في موضع الخبر.﴿ وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ ﴾ بتكذيب الرسل.﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي عظات وعبراً يتحدث ويتمثل.﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً قال كثير: عزة أيادي سبأ يا عزماً كنت بعدكم   فلم يحل للعين بعدك منظر﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ أي من قصص هؤلاء لآيات أي علامات.﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ ﴾ عن المعاصي وعلى الطاعات.﴿ شَكُورٍ ﴾ للنعم والظاهر أن الضمير في عليهم عائد على من قبله من أهل سبأ وقيل هو لبني آدم وقرىء: صدق بشد الدال وانتصب ظنه على أنه مفعول به لصدق والمعنى وجد ظنه صادقاً أي ظن شيئاً فوقع ما ظن.﴿ وَمَا كَانَ لَهُ ﴾ أي لإِبليس.﴿ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء وعلل التسلط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم وهي تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها.﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ قل أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أي قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم وهي معبوداتهم من الملائكة والأصنام وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة حجة وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم والتجؤا إليهم فيما يعن لكم وزعم من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين والثاني محذوف أيضاً لدلالة المعنى عليه ونابت صفته منابه التقدير الذين زعمتموهم آلهة من دونه لا يملكون ملك أحقر الأشياء وهو مثقال ذرة ثم نفى الشركة ثم نفى الإِعانة بقوله: من ظهير وهو المعين ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له نفى أن شفاعتهم تنفع والنفي منسحب على الشفاعة أي لا شفاعة لهم فتنفع.
﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ استثناء مفرغ فالمستثنى منه محذوف تقديره ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم. قال ابن عطية: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله حتى إذا فرغ إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل عليه السلام وبالأمر يأمر الله تعالى به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة.﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ ﴾ الآية خطاب للكفار وسؤال لهم عمن يرزقهم وأمره تعالى أن يجيب عاملاً بقوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ إذا قد يصدر منهم العناد فلا يقولون الله ولا يمكن أن يقولوا آلهتهم. قوله: وأنا الضمير عائد للمؤمنين أو إياكم ضمير الكفار لعلى هدى راجع للمؤمنين أو في ضلال راجع للكفار وأورد ذلك باوالتي تقتضي الترديد بين شيئين وإن كان في العقل التمييز بين الشيئين ومعلوم أن المؤمن لا يتساوى مع الكافر ومما يشبه هذا قول الشاعر: فأين ما وأيك كان شراً   فسيق إلى المقادة في هو ان فردد بينه وبين مخاطبه في الشر ومعلوم عنده أن صاحبه هو الشر.﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا ﴾ أطلق على عمل المؤمن إجراماً باعتقاد الكافر فيه ذلك.﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ أي يوم القيامة.﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ ﴾ أي يحكم بالحق بالعدل فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار والفتاح والعليم صيغتا مبالغة وهذا فيه تهديد وتوبيخ.﴿ إِلاَّ كَآفَّةً ﴾ قيل هو حال من الضمير في أرسلناك والهاء للمبالغة كقولهم علامة للرجل كثير العلم والمعنى إلا جامعاً للناس في الإِبلاغ وقيل فيه تقديم وتأخير والتقدير إلا للناس كافة ومعناها جميعاً فيكون حالاً من الناس ومعناها التوكيد كأنه قيل للناس كلهم قال الزمخشري: إلا كافة للناس أي إلا إرساله عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال: ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإِحاطة بمنزلة تقدم المجرور على الجر ولم ترني من مرتكب هذا الخطأ ثم لا ينتفع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فلا بد له من ارتكاب الخطأين " انتهى ". أما قوله كافة بمعنى عامة والمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما فعلوا ولا يحفظ أيضاً استعمالها صفة لموصوف محذوف. وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالاً إلخ... فذلك مختلف فيه ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز وهو الصحيح ومن أمثلة أبي علي زيد خير ما يكون خير منك التقدير زيد خير منك خير ما يكون فجعل خير ما يكون حالاً من الكاف في منك وقدمها عليه وقال الشاعر: إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً   فمطلبها كهلاً عليه شديدأي فمطلها عليه كهلاً شديد. وقال آخر: تسليت طراً عنكم بعد بينكم   بذكراكم حتى كأنكم عنديأي تسليت عنكم طراً أي جميعاً وقد جاء تقدم الحال على صاحبه المجرور على ما يتعلق به ومن ذلك قول الشاعر: مشغوفة بك قد شغفت وإنما   حتم الفراق فيما إليك سبيلوقال آخر: غافلاً تعرض المنية للمر   فيدعي ولات حين أباءأي شغفت بك مشغوفة وتعرض المنية للمرء غافلاً وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز. وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ إلخ... تشنيع لأن قائل ذلك لا يحتاج أن يتأول اللام بمعنى إلى وأرسل تتعدى باللام كقوله:﴿ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً ﴾[النساء: ٧٩] ولو تأول اللام بمعنى إلى لم يبن ذلك خطأ لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى أو إلى جاءت بمعنى اللام وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور والظاهر أن الميعاد إسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر أي قل لكم وقوع يوم ونحوه.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ هم مشركوا قريش ومن جرى مجراهم والمشهور أن الذي بين يديه التوراة والإِنجيل وما تقدم من الكتب الإِلهية.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ أخبر عن حالهم في صيغة منها وترى في معنى رأيت لأعمالها في الظرف الماضي ومفعول ترى محذوف أي حال الظالمين إذ هم موقوفون وجواب لو محذوف أي لرأيت لهم حالة منكرة من ذلهم وتحاورهم وتجادلهم حيث لا ينفعهم شىء من ذلك ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الاتباع وهم الذين استضعفوا قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد الأئمة عليهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر فقال لهم رؤساؤهم: أنحن صددناكم فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكاراً لأن يكونوا هم الذين صدورهم من قبل أنفسكم وباختياركم فكأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن صممتم على الدخول في الإِيمان بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى فكنتم مجرمين كافرين باختياركم لا بقولنا وتسويلنا ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم وأثبتوا بقولهم: بل كنتم مجرمين ان كفرهم هو من قبل أنفسهم قابلوا إضراباً بإِضراب فقال: الاتباع بل مكر الليل والنهار أي ما كان إجرامنا من جهتنا بل مكركم لنا دائماً بمخادعتكم لنا ليلاً ونهاراً إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم مطيعون لكم باستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذاً لأنداد وأضيف المكر إلى الليل والنهار واتسع في الظرفين فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة وفي موضع رفع على الإِسناد المجازى كما قالوا: ليل نائم والأولى أن يرتفع مكر على الفاعلية أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار إذ معمول لمكر.﴿ وَأَسَرُّواْ ﴾ الضمير عائد للجميع وهم الظالمون الموقوفون وأسروا تقدم الكلام عليه والذين كفروا هم الذين سبقت منهم المحاورة وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون في فيه.﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ ﴾ إستفهام معناه النفي ولذلك دخلت إلا بعد النفي.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما مني به من قومه قريش من الكافر والافتخار بالأموال والأولاد وان ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم فلا يهمك أمرهم ومن نذير عام أن ينذرهم بعذاب الله تعالى إن لم يوحدوه. و ﴿ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ جملة حالية ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل لما شغلوا به من زخرف الدنيا بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا. و ﴿ بِمَآ ﴾ معلق بكافرين. و ﴿ بِهِ ﴾ متعلق بأرسلتم وما عامة فيما جاءت به النذر من طلب الإِيمان بالله تعالى وأفرده بالعبادة والاخبار بأنهم رسله إليهم والبعث والجزاء على الأعمال والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المترفين وقيل عائد على قريش ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله:﴿ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ ﴾[سبأ: ٣٧] والظاهر أن هذا الموصول أريد به الأموال والأولاد.
﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ ﴾ الظاهر أنه استثناء منقطع وهو منصوب على الاستثناء أي لكن من آمن وعمل صالحاً فإِيمانه وعمله يقربانه. وقال الزجاج: إلا من آمن هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: هذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيداً وقول أبي إسحٰق هذا هو قول الفراء " إنتهى ". ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل ضمير المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح الا نرى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالداً لم يصح وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا فيما يصح التفريع. قال الزمخشري: إلا من استثناء من كم في تقربكم والمعنى أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة " انتهى ". اتبع الزجاج في ذلك وهو لا يجوز كما ذكرنا لا يجوز ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه وما زيد بالذي يضرب إلا عمراً ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر ولتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله: لا تقرب أحداً إلا المؤمن غير موافق للتركيب القرآني ففي الذي ركبه يجوز ما قال وفي لفظ القرآن لا يجوز. وأجاز الفراء أن يكون من في موضع رفع وتقدير الكلام عنده ما هذا المقرب إلا من آمن " انتهى ". وقوله: كلام لا يتحصل منه معنى كأنه كان نائماً حين قال ذلك وقرىء: جزاء مضافاً إلى الضعف ومعناه يجزيهم الله الضعف أي يضاعف لهم الحسنات وقرىء جزاء منوناً الضعف بالرفع فالضعف بدل.﴿ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ ﴾ أي في العلالي ولما ذكر جزاء من آمن ذكر عقاب من كفر ليظهر تفاوت ما بين الشيئين.﴿ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ ﴾ تقدم الكلام عليه ومعنى فهو يخلفه أي يأتي بالخلف والعوض منه وكان لفظ من عباده مشعراً بالمؤمنين وكذلك الخطاب في وما أنفقتم يقصد هنا رزق المؤمنين فليس مساق قل: إن ربي يبسط الرزق مساق ما قيل للكفار بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في طاعة الله تعالى واختلاف ما أنفق اما منجزاً في الدنيا وإما مؤجلاً في الآخرة وهو مشروط بقصد وجه الله تعالى.﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ أي المكذبين من تقدم ومن تأخر وخطاب الملائكة تقريع للكفار وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار على سوء ما ارتكبوه من عبادة غير الله تعالى وإن من عبدوه مفترى منهم وهؤلاء مبتدأ وخبره كانوا يعبدون. و ﴿ إِيَّاكُمْ ﴾ مفعول يعبدون لما تقدم انفصل وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب ولكون يعبدون فاصلة فلو أتى بالضمير متصلاً كان التركيب يعبدونكم ولم يكن فاصلة واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة ولما أجابوا الله تعالى بدؤا بتنزيهه وبراءته من كل سوء كما قال عيسى عليه السلام ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة أي أنت ولينا إذ لا موالاة بيننا وبينهم وفي قولهم بل كانوا يعبدون الجن اشعار أنهم ما عبدوهم وان لم يصرح به ولكن الإِضراب ببدل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذا لم يكن راضياً بعبادة عابده مريداً لها لم يكن ذلك العابد عابداً له حقيقة فلذلك قالوا: بل كانوا يعبدون الجن لأن أفعالهم القبيحة هي من وساوس الشياطين واغوائهم ومراداتهم فهم عابدون لهم حقيقة إذ الشياطين راضون بتلك الأفعال والإِشارة بقوله: ما هذا إلا رجل إلى تالي الآيات المفهوم من قوله: وإذا تتلى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى تعالى مطاعتهم عند تلاوة القرآن عليهم فبدؤا بالطعن في التالي بأنه يقدح في معبودات آلهتكم ثم ثانياً: فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن بأنه كذب مختلق من عنده وليس من عند الله تعالى. وثالثاً: بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته فطعنوا في الرسول عليه السلام وفيما جاء به وفي وصفه واحتمل أن يكون صدر من مجموعهم واحتمل أن يكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى وفي قوله: ﴿ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾.
دليل على أنه حين جاءهم لم ينكروا فيه بل بادهوه بالإِنكار ونسبته إلى السحر ولم يكتفوا بقولهم انه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله وقيل إنكار القرآن والمعجزة كان متفقاً عليه من المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ ﴾ على وجه العموم.﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ ﴾ أي أهل مكة من كتب من عندنا فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به ومعنى قبلك أي ما أرسلنا من نذير شافههم ولا باشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم وقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب وغيره ودعوة الله تعالى قائمة لا تخلو الأرض من داع إليه.﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ عدلهم بمن تقدمهم من الأمم السالفة وما آل إليه أمرهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة وسيحل بهم ما حل بأولئك والظاهر أن الضميرين في بلغوا وفي آتيناهم عائدان على الذين من قبلهم ليتناسق مع قوله: فكذبوا أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإِحسان إليهم وحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة والمعشار مفعال من الشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد وغيره وغير المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر.﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ قال السدي: هي لا إله إلا الله وقيل غير ذلك والمعنى إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصتكم وهي أن تقوموا لوجه الله تعالى متفرقين اثنين وواحداً واحداً. قال الزمخشري: بواحدة بخصلة واحدة وهو فسرها بقوله ان تقوموا على أنه عطف بيان لما انتهى. وهذا لا يجوز لأن بواحدة نكرة وان تقوموا معرفة لتقدير قيامكم لله وعطف البيان فيما مذهبان أحدهما أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة وهو مذهب البصريين والثاني أن يتبع ما قبله في التعريف والتنكير وهو مذهب الكوفيين وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب إنما هو وهم من قائله وقد رد النحويون على الزمخشري في قوله: إن مقام إبراهيم عطف بيان من قوله: آيات بينات وذلك لأجل التخالف فكذلك هذا.﴿ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ ﴾ أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وإنما قال مثنى وفرادى لأن الجماعة يكون مع اجتماعها تشويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام والتعصب للمذاهب وانتصب مثنى وفرادى على الحال وقدّم مثنى لأن الطلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من نكرة واحدة فإِذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد بعد ذلك فيزيد بصيرة. قال الشاعر: إذا اجتمعوا جاؤا بكل غريبة   فيزداد بعض القول من بعضهم علماًثم تتفكروا عطف على أن تقوموا والفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسبوه إليه فإِن الفكرة تهتدي غالباً إلى الصواب والوقف عند أبي حاتم عند قوله: ثم تتفكروا وما بصاحبكم من جنة نفي مستأنف والذي يظهر أن الفعل معلق على الجملة المنفية فهو في موضع نصب على إسقاط في:﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ ﴾ فيه التبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على النور الذي أتى به والتوكل على الله والأجر عند واحتملت قل إن تكون موصولة مبتدأ والعائد من الصلة محذوف تقديره سألتكموه وفهو لكم الخبر ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط واحتملت أن تكون ما شرطية مفعولة بسألتكم وفهو لكم جملة هي جواب الشرط والظاهر أن بالحق هو المفعول فالحق هو المقذوف به. قال الزمخشري: رفع علام محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف أو هو خبر مبتدأ محذوف " انتهى ". أما الحمل على محل ان واسمها فهو غير مذهب سيبويه وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو وأما قوله: على المستكن في يقذف فلم يبين وجه حمله وكأنه يريد أنه بدل من ضمير ولما ذكر أنه تعالى يقذف بالحق بصيغة المضارع أخبر أن الحق قد جاء وهو القرآن والوحي وبطل ما سواه من الأديان فلم يبق لغير الإِسلام ثبات لا في بدر ولا في عاقبة فلا يخاف على الإِسلام ما يبطله.﴿ وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ ﴾ ثم محذوف تقديره فاهتد أي وهو مبتدأ خبره يوحى إليّ ربي أي كائن بما يوحي وما مصدرية أي بإِيحاء ربي أو موصولة بمعنى الذي ويوحي صلته والضمير محذوف تقديره يوحيه والظاهر أن قوله:﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ ﴾ أنه وقت البعث وقيام الساعة وعبر بفزعوا وأخذوا وقالوا وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق. وقال ابن عباس والضحاك: هذا في عذاب الدنيا ومفعول قرىء: محذوف أي لو ترى الكفار إذ نزعوا.﴿ فَلاَ فَوْتَ ﴾ أي لا يفوتون الله تعالى ولا مهرب لهم عما يرده بهم.﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أي من مساكنهم والضمير في﴿ بِهِ ﴾ عائد على الله تعالى.﴿ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ ﴾ قال ابن عباس: الرجوع إلى الدنيا وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشىء من بعد كما يتناوله الآخر من قرب وقرىء: التناوش بالواو وبهمزة بدلها.﴿ وَقَدْ كَـفَرُواْ ﴾ به الضمير في به عائد على ما عاد عليه آمنا به والجملة حالية. و ﴿ مِن قَـبْلُ ﴾ أي من قبل نزول القرآن وقرىء:﴿ وَيَقْذِفُونَ ﴾ مبنياً للفاعل حكاية حال متقدمة. قال الحسن قولهم: لا جنة ولا نار.﴿ بَعِيدٍ ﴾ أي من جهة بعيدة لأن نسبته إلى شىء من ذلك أبعد الأشياء وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو ويقذفون مبنياً للمفعول معناه يؤمنون بالغيب من حيث لا يعلمون ومعناه يجازون على سوء أعمالهم.﴿ وَحِيلَ ﴾ هو مبني للمفعول وقبل البناء كان حالاً وهو فعل لا يتعدى وقال الشاعر: وقد حال مما دون ذلك شاغل   مكان شغاف تبتغيه الأصابعفعلى هذا يكون المقام مقام الفاعل ضمير المصدر المفهوم من قوله: حيل كأنه قيل: وحيل هو أي الحول والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا قاله ابن عباس.﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم ﴾ أي بأشباههم من كفرة الأمم أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم ومن قبل يصح أن يكون متعلقاً بأشياعهم أي من اتصف بصفاتهم من قبل أي في الزمان الأول ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا " والله أعلم ".
Icon