هذه السورة مكية كلها، باستثناء آية واحدة اختلفوا في كونها مكية أو مدنية وهي ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ ﴾ والسورة مبدوءة بحمد الله، مالك السماوات والأرض ؛ فهو سبحانه يحمده الحامدون في الدنيا والآخرة، يحمده المؤمنون من الخلائق أحياء وغير أحياء، ويحمده المؤمنون من الإنس والجن والملائكة، وتحمده السماوات والأرض بما حوته من أجرام هائلة وكثيرة ومختلفة.
وفي السورة تأكيد بالغ على قيام الساعة. وهذه حقيقة كونية هائلة وقد أمر الله نبيه الكريم أن يقسم بجلاب الله على وقوعها وأنها كائنة إذا جاء ميعادها، وهو قوله سبحانه :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾.
وفي السورة إخبار عن بعض النبيين السابقين وعن ضلالات الأمم الغابرة. وذلكم نبي الله دود آتاه الله من لدنه فضلا إذ سخّر له الجبال والطير مُسبّحة معه ومؤوِّبة تأويبا، وكذلك الحديد قد ألانه الله له ليصنع منه الدروع. وكذلك سليمان عليه الصلاة والسلام وهو نبي عظيم من أنبياء إسرائيل، سخر الله الريح لتحمل بساطه وعلى متنه الراكبون والأمتعة الثقال.
وفي السورة بيان بقصة سبأ، وهم ملوك اليمن وأهلها ومنهم التابعة فقد آتاهم الله سعة في الرزق وطيبا في العيش حتى إذا عصوا وجحدوا فضل ربهم أرسل الله عليهم سيلا جارفا فتفرقوا في البلاد شذَر مذَر.
وفي السورة بيان بأحوال المجرمين الخاسرين وهم في العرصات يوم القيامة ؛ إذ يتلاومون فيما بينهم فيوبخ بعضهم بعضا، وقد أنحى كل فريق باللوائم على الفريق الآخر بما ينسبُه إليه من تسبب في الهلكة والخسران. إلى غير ذلك من معاني التذكير والتنذير والترهيب.
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ١ ) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾.الله المحمود في الكون كله وله الثناء الكامل، والشكر المطلق. فهو المنعم بأنعمه وآلائه المستفيضة، وهو مالك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وله ملكوت كل شيء، وهو سبحانه المحمود في الآخرة مثلما هو محمود في الدنيا ﴿ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ الله حكيم في أقواله وأفعاله وهو الحكيم في تدبير أمور خلقه ﴿ الخبير ﴾ بما يقولون أو يفعلون. العليم بما يُظهرون وما يُسرّون. وهو سبحانه أعلم بما يصلح شأنهم وبما تصلُح عليه أحوالهم في هذه الدنيا ليسعدوا في حياتهم ثم يُصار بهم إلى النجاة في الآخرة.
قوله :﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ أي يعلم الله ما يخرج من الأرض من نبات وما يتفجر منها من براكين.
قوله :﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ أي يعلم الله ما يصعد في السماء من الملائكة وأعمال العباد، فالله عليم بذلك كله ولا يغيب عن علمه من ذلك شيء.
قوله :﴿ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ الله رحيم بعباده المؤمنين غفور لذنوب التائبين، إذ يستر عليها بواسع فضله وإحسانه.
جحد المشركون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا بما جاءهم به من خبر الساعة فتولوا مدبرين مكابرين، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يؤكد لهم حالفا يمينه الغليظ بالله أن الساعة آتية لا ريب فيها وهو قوله سبحانه :﴿ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ وهذا قسم كريم من رسول صدوق كريم، سيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين في الدنيا والآخرة، وفي ذلك التأكيد الجازم ما يحمل الذهن والقلب على التصديق والاستيقان دون تردد.
قوله :﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ ﴾ ﴿ عالم ﴾، صفة لربي أو بدل منه١ أي أن الإخبار عن حقيقة الساعة وأنها آتية لا محالة، جاء من عند الله علام الغيوب وهو سبحانه ﴿ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ﴾ الله محيط علمه بكل شيء وهو سبحانه لا يغيب عن علمه زنة نملة صغيرة تسبح في السماوات أو تدب في الأرض.
قوله :﴿ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ ﴾ أي لا يغيب عن علم الله ما كانت زنته النملة الصغيرة أو دونها أو أكبر منها ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ أيما شيء مهما صغرت زنته إلا هو مسطور علمه في اللوح المحفوظ.
هذا إخبار عن مقالة الكافرين الذين كذبوا بالساعة، إذ قالوا ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقولون على سبيل التهكم والاستسخار والهزء : إذا تقطعتم وتفرقتم في الأرض كل تفريق ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ أي مبعوثون أحياء من بعد الموت وقد أتى عليكم البلى وصرتم ترابا.
قوله :﴿ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ﴾ ذلك ردٌّ لمقالة المكذبين الخاسرين ودحض لما ذهبوا إليه من تكذيب بالساعة واستسخار برسول الله صلى الله عليه وسلم. فيبين الله للناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق ورشيد ومؤتمن وأن المكذبين بالآخرة ﴿ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ﴾ أي صائرون إلى العذاب في جهنم وهم اليوم تائهون عن الحق سادرون في الجهالة والغي والبعد عن الصواب١
ذلك توبيخ من الله للمكذبين بيوم القيامة الذين يسخرون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله فيهم مبكتا مُقرِّعا :﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ ﴾ يعني أفلا ينظر هؤلاء الجاحدون إلى ما حولهم من السماوات والأرض، فكل ذلك مملوك لله، وهم حيثما كانوا فإن ملكوت الله محيط بهم من أمامهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وإنْ يشأ الله ﴿ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ ﴾ الخسف الذهاب في الأرض١ أي يعذبهم بالخسف ليغوروا في الأرض ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ﴾ أي إن يشأ الله يعذبهم بإسقاط السماء عليهم قطعا فيدمرهم تدميرا.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ الإشارة عائدة إلى إسقاط السماوات والأرض عليهم وقدرة الله على إهلاكهم بالذهاب في الأرض وإسقاط السماء عليهم قطعا، فإن ذلك كله لدلالة ظاهرة لكل عبد مؤمن راجع إلى الله بقلبه وجوارحه. وقد خصَّ العبد المنيب ؛ لأنه أجدر أن ينتفع بالذكرى.
لقد منَّ الله على نبيه داود عليه الصلاة والسلام بفضل منه. واختلفوا في المراد بهذا الفضل على عدة أقوال، منها : أن المراد به النبوة. وقيل : الملك والتمكين في الأرض. وقيل : تسخير الجبال والناس. وقيل : إلانة الحديد. وقيل : حُسن الصوت. فكان إذا سبَّح سبَّحَتْ معه الجبال الرواسي. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري يقرأ من الليل، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال صلى الله عليه وسلم : " لقد أوتي هذا مزمارا من مزامير آل داود ".
قوله :﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ ﴿ أَوِّبِي ﴾، بتشديد الواو، من التأويب وهو التسبيح والترجيع ؛ أي قال الله للجبال : رجِّعي معه مسبِّحة.
قوله :﴿ وَالطَّيْرَ ﴾ معطوف على ﴿ فَضْلاً ﴾ أي آتيناه فضلا وتسبيح الطير. وقيل : منصوب بفعل مضمر. أي وسخرنا له الطير.
قوله :﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴾ أي جعل الله له الحديد ليّنا طريّا حتى كان في يده كالطين فيصرفه كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة.
والمعنى : اعمل دروعا من الحديد اللين ﴿ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ ﴿ السَّرْدِ ﴾، معناه الثقب، والمسرودة المثقوبة٢ والمعنى في قول المفسرين : لا تغلظ المسامير فيتسع الثقب ولا توسع الثقب فتقلقل المسامير منها.
قوله :﴿ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ المخاطب داود وأهله. والمعنى : اعملوا بطاعة الله فإن الله رقيب عليكم، خبير بأعمالكم٣.
٢ مختار الصحاح ص ٢٩٤
.
٣ تفسير الرازي ج ٢٥ ص ٢٤٧ وفتح القدير ج ٤ ص ٣١٥ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٤٦.
تقرأ سليمان بالنصب والرفع. فبالنصب، بفعل مقدر وتقديره : وسخرنا لسليمان الريح. وتقرأ بالرفع على الابتداء. والمعنى : له تسخيرُ الريح١ وعامة القراء على نصب سليمان. فهذه الآية يعطف الله فيها بذكر سليمان وما أوتي من معجزة وتكريم على ما أوتي أبوه داود عليهما الصلاة والسلام وهو قوله :﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ﴾ أي وسخرنا الريح لسليمان تحمل بساطه ﴿ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ أي تغدو الريح مسيرة شهر وتروح مسيرة شهر. قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق إلى اصطخر ويذهب رائحا من اصطخر فيبيت بكابل وبين دمشق واصطخر مسيرة شهر كامل للمسرع، وبين اصطخر وكابل شهر كامل للمسرع. وبساط سليمان عبارة عن مَرْكب من خشب تركب فيه الجن والإنس، وترفعه الشياطين المسخرة لسليمان. فإذا ارتفع المركب أتت الريح الرخاء فسارت به وساروا معه إلى حيث يريد.
قوله :﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ﴾ ﴿ الْقِطْرِ ﴾ معناه النحاس المذاب٢ أي أسأل الله له النحاس كما ألان الحديد لأبيه داود فكان كما ينبع الماء من العين. ولذلك سماه عين القطر باسم ما آل إليه، وذلك كقوله :﴿ إني أراني أعصر خمرا ﴾ والمعنى : أذبنا له عين النحاس وأخرجناها له.
قوله :﴿ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ يعني من الجن من سخرنا لسليمان فيطيعونه ويأتمرون بأمره وينتهون لنهيه ويعملون بين يديه بأمر الله وتسخيره – ما يشاء من البنايات وغيرها.
قوله :﴿ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ أي من يعْدِلْ من الجن ﴿ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ أي عن طاعة سليمان نصله النار المستعرة والحريق المتوقد اللاهب وذلك في الآخرة وهو قول أكثر المفسرين. وقيل : المراد بذلك عذاب الدنيا.
٢ القاموس المحيط ج ٢ ص ١٢٣.
ولا ينبغي الاستدلال بهذه الآية على إباحة التصوير. ولئن كان ذلك مباحا في ذلك الزمان فقد نسخ بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم. وقد صح النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم عن التصوير وعن اتخاذ الصور، وتوعد من عمل ذلك أو اتخذه بعقاب الله. فقد لعن صلى الله عليه وسلم. المصورين بقوله : " إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم " وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون " وذلك يدل على تحريم الصور واتخاذ الصور.
ويستثنى من ذلك لعب الصغار وما كان من الصور للامتهان. أو ما يصنع من الحلاوة والعجين مما لا بقاء له فقد رُخّص في ذلك.
وأما الجفان، فهي جمع جفنة، وهي كالقصعة١ أي ينحتون لسليمان ما يشاء من الأحواض كالجواب، وهي جمع جابية. والجابية تعني الحوض الذي يُجبى فيه الماء للإبل٢
قوله :﴿ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ أي ينحتون له من الجبال قدورا ثابتات في أماكنها لا تتحرك لضخامتها. وقيل : مصنوعة من النحاس.
قوله :﴿ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا ﴾ ﴿ شُكْرًا ﴾، منصوب على أنه مفعول له٣ والشكر معناه الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها ( النعمة ) في طاعة المنعم. وعكس ذلك الكفران وهو استعمال النعمة في معصية المنعم. والله جل جلاله أجدر أن يشكره العباد بقلوبهم وألسنتهم وأفعالهم فهو سبحانه المتفضّل المنّان ذو النعم الجليلة والجزيلة. وقد أمر الله نبيه داود وآله أن يشكروا الله على ما أنعم عليهم في الدين والدنيا من جزيل الأيادي والنعم.
قوله :﴿ وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ ذلك إخبار من الله بأن قليلا من عباده مخلصون له في الطاعة وفي توحيده وعبادته. وقليل منهم الشاكرون لأنعُمه وما امتنَّ به عليهم من جزيل الأيادي. قليل من الناس يُقرّون لله بكامل الألوهية والربوبية والحاكمية فيمتثلون لأوامره وزواجره ويذعنون له بتمام الخضوع والطاعة٤
٢ مختار الصحاح ص ٩٢.
٣ البيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٧٧
.
٤ الكشاف ج ٤ ص ٢٨٣ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٢٧١-٢٧٧ وتفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٥٨.
لما حكم الله بالموت على نبيه سليما وأنفذه فيه لم تعلم الجن بموته بل ظلوا مسخرين في الأعمال الشاقة كالبنايات وغيرها. ولما أدركوا أنه قد مات كفّوا عن العمل.
قوله :﴿ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ ﴾ أي ما دلّ الجن على موت سليمان إلا دابة الأرض وهي الأرَضَة، بفتح الهمزة والراء. والمراد بها دويبة تأكل الخشب ونحوه وتسمى أيضا سوسة الخشب.
قوله :﴿ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ ﴾ ﴿ تَأْكُلُ ﴾، جملة فعلية من موضع نصب على الحال أو مستأنفة١ والمنسأة، العصا، اسم آلة. من نسأت البعير إذا طردته ؛ لأنها يطرد بها. أي لم يُعلمهم بموت سليمان غير الأرضية ؛ إذ أكلتْ منسأته التي كان متوكئا عليها فسقط على الأرض. وبذلك استبان لهم أنه ميت وهو قوله :﴿ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ أي لما سقط سليمان على الأرض وعلمت الجن بعد التباس الأمر عليهم أن سليمان قد مات تبين لهم أنهم لا يعلمون الغيب كما كانوا يتوهمون الناس بذلك، ولو كانوا يعلمون الغيب فعلموا بموت سليمان لما لبثوا بعد موته في الأعمال الشاقة٢.
٢ روح المعاني ج ٢٢ ص ١٢٢ وتفسير النسفي ج ٣ ص ٣٢١.
يبين الله في هذه الآية حال الذين يكفرون بنعمته منبها لقريش ومحذرا إياهم مما جرى لمن كفر بأنعم الله من الأمم السابقة فقال :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ ﴾ وسبأ هم ملوك اليمن وأهلها وكانت التبابعة منهم، وبلقيس صاحبة سليمان من جملتهم كذلك. وقد كانوا في رخاء وسعة من العيش الراغد والرزق الواسع الكريم. وقد بعث الله لهم رسله مبشرين ومنذرين، يأمرونهم بشكر الله على ما رزقهم وامتنَّ به عليهم من الخيرات والثمرات وواسع الرزق، فأعرضوا عما أمرتهم به رسلهم فعاقبهم الله بإرسال السيل عليهم. وهو قوله :﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ ﴾ أي كان في مأواهم أو محل سكناهم، وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا يقيمون فيها باليمن ﴿ آَيَةٌ ﴾ أي علامة دالة على عظمة الله وعلى قدرته البالغة وسلطانه العظيم. أو أن قصتهم قد جعلت لهم آية ؛ إذ أعرضوا عن شكر الله فسلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى الجحود وغمط١ النعمة ؛ أي جحدها وكفرانها.
قوله :﴿ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ ﴿ جَنَّتَانِ ﴾، مرفوعة على البدل من ﴿ آية ﴾ وقيل : خبر لمبتدأ مضمر٢ والمراد بالجنتين، جماعتان من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم وجماعة عن شماله، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامِّها كأنه جنة واحدة. وقيل : المراد بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله، والمعنى الأول أظهر.
قوله :﴿ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ﴾ حكاية لما قالته لهم رسل الله وهو أن يأكلوا مما رزقهم الله فيشكروه على ما أنعم الله به عليهم من مختلف الخيرات.
قوله :﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ أي هذه بلدتكم التي فيها رزقكم، بلدة طيبة لطيفة المسكن، مستطابة العيش والمقام، جيدة الماء والهواء، ليس فيها من عاهة ولا سقم ولا هامة٣. وفوق ذلك كله أن الله غفور يستر عليكم الذنوب والسيئات فاعبدوه وحده واشكروه على ما أفاض عليكم من النعم.
٢ الدر المصون ج ٩ ص ١٧٠.
٣ الهامة: وجمعها الهوام، وهي دواب الأرض كالعقرب والفأر واليرابيع، والخنافس، والحيات. انظر القاموس المحيط ص ١٥١٢.
قوله :﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ أي أذهبنا جنيتهم لمذكورتين بالسيل الشديد الجارف وآتيناهم بدلهما جنتين ذواتي ﴿ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ الأكل : الثمر. والخمط : الحامض أو المرّ من كل شيء. وكل نبت أخذ طعاما من مرارة. والحمل القليل من كل شجر. وشجر كالسِّدر. وشجر قاتل. أو كل شجر لا شوك له. وثمر الأبرار٢
قوله :﴿ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ أثلٍ معطوف على أُكل. والأثل شجر يشبه الطرفاء أو هو الطرفاء. وأما السدر فهو شجر النبق.
٢ القاموس المحيط ص ٨٦٠.
قوله :﴿ وَهَلْ نُجَازِي إِلاّ الْكَفُورَ ﴾ ﴿ الْكَفُورَ ﴾، مفعول به ؛ أي هل نجازي مثل هذا الجزاء الشديد إلا المبالغ في الجحود والكفران. وما ينبغي أن يتوجه على ذلك إشكال بأن المؤمن قد يعاقب في العاجل. فإن ما يعاقب به المؤمن ليس بعقاب على الحقيقة بل هو تمحيص١
ذلك إخبار من الله عما أوتيه أهل سبأ من النعم في مساكنهم وإقامتهم ومتاجرهم وأسفارهم وما فعلوا بها من القرآن، وما حاق بهم بسبب ذلك من القلة والقحوط وذهاب النعمة والحرمان، وهو قوله :﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ أي جعلنا بين سبأ وبين القرى التي بورك فيها بالتوسعة على أهلها في النعم والمياه والخصب والرزق، وهي قرى الشام، وقيل : المراد بها قرى صنعاء. وبالأول قال أكثر المفسرين.
قوله :﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ أي متواصلة بقرب بعضها من بعض فيظهر لمن في بعضها مات في مقابلته من القرى الأخرى. وذلك لشدة القرب فيما بينها. فهي بذلك ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم فلا تخفي عليهم.
وقيل : ظاهرة مرتفعة وهي أشرف القرى. وقيل : ظاهرة بمعنى معروفة وذلك لحسنها ورعاية أهلها لمن يمر عليها.
قوله :﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ﴾ أي جعلا هذه القرى على مقدار معلوم من السير حتى من سار قرية صباحا وصل إلى أخرى وقت الظهيرة والقيلولة. ومن سار بعد الظهر وصل إلى أخرى عند الغروب فلا يحتاج بذلك إلى زاد ولا مبيت ولا يخاف من عدو ونحوه.
قوله :﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ﴾ وذلك أمر من الله على لسان أنبيائه. أي قلنا لهم سيروا في تلك القرى ﴿ لَيَالِيَ وَأَيَّامًا ﴾ أي متى شئتم من ليل أو نهار آمنين من كل مكروه ؛ إذ لا خوف من عدو أو جوع أو عطش، وإنْ امتدت مدة سفركم.
قوله :﴿ وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ﴾ وذلك بتعريض أنفسهم لعذاب الله وسخطه بسبب عصيانهم وتكذيبهم وجحدهم النعم ؛ إذ بطروها وغمطوها.
قوله :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي يتحدث الناس بقصتهم وأخبارهم على سبيل التلهي والتعجب، معتبرين بعاقبتهم وما آلوا إليه من سوء المصير.
قوله :﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ أي فرّقناهم بالتباعد كل تفريق فتبددوا في البلاد. وقال الزمخشري في ذلك : لحق غسان بالشام وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعُمان.
قوله :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ يعني : إن في قصص هؤلاء البطرين الممزقين كل ممزّق لعظات وعبرا لكل امرئ شأنه الصبر عن المعاصي وعلى الطاعات، والشكر لله على ما أنعم به وتفضل٢.
٢ البحر المحيط ج ٧ ص ٢٦٢ وروح المعاني ج ٢٢ ص ١٣٠-١٣٣.
﴿ صَدَّقَ ﴾، بالتشديد، و ﴿ ظَنَّهُ ﴾ مفعول به١ أي حقق إبليس ظنه على سبأ ومبعث ظنه مشاهدته أبيهم آدم ؛ إذْ أصغى إلى وسوسته، فقاس الفرع وهم النسل والذرية على الأصل. أو قاس الولد على الولد. وقيل : أدرك إبليس ما رُكِّب في بني آدم من الشهوة والغضب وهما مبعث الشرور.
قوله :﴿ فَاتَّبَعُوهُ إِلاّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ المراد بالمتبعين سبأ أو بنو آدم فقد اتبعوا إبليس فيما أمرهم به من الشرك والمعاصي ومجانبة الحق والصواب. واستثنى فريقا من عباده لم يتبعوا إبليس في إغوائه، وهم المؤمنون. واستثناؤهم دليل قلتهم بالنسبة للكثرة الكاثرة من المشركين المكذبين.
قوله :﴿ إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ أي لتمييز المؤمن من الشاك.
قوله :﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ﴾ أي محافظ أو وكيل قائم على كل شيء١
الذين زعمتم من دون الله، مفعوله الأول محذوف عائد إلى الموصول. والمفعول الثاني محذوف كذلك قامت صفته ﴿ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ مقامه ؛ أي زعمتموهم شركاء من دون الله١.
والمعنى : قل لمشركي قريش ادعوا الذي عبدتموهم من الأصنام والملائكة والتجئوا إليهم ثم انتظروا استجابتهم لدعائكم لتروا أنهم لا يستجيبون لكم بشيء ؛ بل إنهم لا يملكون لكم نفعا ولا ضرّا. وهو قوله :﴿ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ﴾ أي لا يملكون فيهما مثقال ذرة من خير أو شر أو نفع أو ضُر.
قوله :﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ ﴾ أي ما لهم في هذي الخَلْقين، وهما السماوات والأرض من شركة.
قوله :﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ﴾ أي ليس لله من معين فينصره أو يعينه على تدبير خلقه ؛ بل إنهم مخلوقون كغيرهم من الخلائق. فهم عاجزون أن يخلقوا شيئا ولو كان في زنة ذرة فكيف تدعونهم أو تتخذونهم شركاء وأندادا من دون الله.
قوله :﴿ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ ﴾ ﴿ فُزِّعَ ﴾ من التفزيع أي إزالة الفزع، و ﴿ حَتَّى ﴾ للغاية. وذلك لما فُهم من أن انتظارا للإذن وتوقعا وفزعا من الراجحين للشفاعة والشفعاء، هل يؤذن لهم بالشفاعة أو لا يؤذن لهم بها. فهم في حالهم من طول التربص وشدة الفزع حتى إذا كُشف الفزعُ عن قلوبهم سأل بعضهم بعضا ﴿ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ ﴾ أي قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى من عباده.
وقيل : المراد بذلك ملائكة السماوات والأرض ؛ إذ يسمعون التكلم من الله بالوحي ارتعدوا وأخذتهم رجفة من هول الهيبة وعظيم الجلال حتى يلحقهم مثل الغشي.
قوله :﴿ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ الله ذو العلو والكبرياء وهو ذو الملكوت والجبروت وليس لأحد في هذا اليوم العصيب أن يتكلم أو يشفع لأحد إلا بإذنه سبحانه ١.
يأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقرِّر المشركين بأن رازقهم هو الله، لأنهم لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم فهي لا تملك الرزق ولا تملك مثقال ذرة في السماوات وفي الأرض. فهم كما يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض إلا الله فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره وأنه المعبود وحده وأم ما يعبدون من دونه إلا تماثيل موهومة.
قوله :﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ﴾ يعني وإن أحد من الفريقين من المذعنين لله بالخضوع والطاعة، المقرِّين له بالإلهية والوحدانية، والمشركين الذين أشركوا به غيره من الأصنام والجمادات، والمتخذين الأنداد من دو الله، لعلى أحد الأمرين من الهدى، والضلال المبين. أي في حيرة وعمه وتخبط. وهذا من باب اللف والنشر. أي أن أحد الفريقين محق، والآخر مبطل ولا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال، بل واحد منا مصيب، أما نحن فقد أقمنا الحجة على أن الله حق وأنه وحده المتفرِّد بالإلهية والخلْق والرزق، فدلَّ ذلك على بطلان ما أتم عليه من الشرك وعلى أننا نحن على الحق وجادة الصواب.
قوله :﴿ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ الله الذي يفصل بين العباد، وهو سبحانه عليم بما أسلفوا من الأعمال فلا يخفى عليه منها شيء. و ﴿ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ﴾ كلاما صيغة مبالغة وفي هذا توبيخ للظالمين المكذبين وتهديد لهم شديد.
قوله :﴿ كلاّ ﴾ وهذا ردع من الله لهم وتنبيه ليزدجروا إلى الصواب.
قوله :﴿ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ الله القوي الذي لا يقهره أحد ولا يغلبه غالب. فهو وحده جدير بالعبادة والإخبات له وتمام الطاعة والاستسلام، وهو سبحانه ﴿ الْحَكِيمُ ﴾ أي ذو الحكمة البالغة والعلم المحيط بكل شيء١.
لقد أرسل الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ورسالة الحق للعالمين. وتلكم هي رسالة الإسلام العظيم الذي تتجلى فيه كل معاني الخير والحق والعدل والرحمة. وهو دين وسط مناف للإفراط والتفريط، وموافق للفطرة البشرية السليمة.
وهذه خصائص كبريات تحقق الصلوح الكامل لهذا الدين على مدى الأزمان كلها.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أكثر الناس سادرون في الغي والباطل ساربون في الجهالة والاعوجاج، جانحون للشهوات والأهواء. لقد أضلهم شيطان الجن بوسوسته التي تسري في ذهنه وخياله وأعصابه، فتُسوّل له الكفر والعصيان، وتكرِّهُ إليه الإيمان والاستقامة والفضيلة وكذلك شياطين الإنس قد أسهموا أعظم إسهام في إغواء البشرية واجتيال الناس عن عقيدة التوحيد وإضلالهم عن منهج الله وسَوْقهم سَوْقا إلى الفساد والإباحية والشر بكل صوره وأصنافه. من أجل ذلك فإن أكثر الناس موغلون في الضلال والباطل.
٢ البحر المحيط ج ٧ ص ٢٧٠ وروح المعاني ج ٢٢ ص ١٤٤ وتفسير النسفي ج ٣ ص ٣٢٥.
هذه الآيات تصوِّر للذهن حال المشركين وهم مجموعون ليوم الحساب ؛ إذ يتلاومون فيما بينهم ويُنْحي كل فريق منهم باللوم على الآخر، وقد أيقنوا جميعا أنهم خاسرون وأنهم صائرون إلى النار وبئس القرار.
وفي هذه الآيات يخبر الله تعالى عن طغيان المشركين وإصرارهم على الجحود في معاندة بالغة ومكابرة عمياء، فهو يخبر عن مقالة المشركين من أهل مكة، وهم يتلبَّسون بالكفران الشديد من غير حجة ولا برهان ؛ إذ قالوا :﴿ لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ وذلك إصرارهم على التكذيب بكتاب الله الحكيم، وبما تقدمه من الكتب السماوية والنبيين عليهم الصلاة والسلام، وقيل : المراد بالذي بين يديه : يوم القيامة. فقد ذكر أن أهل الكتاب قد حدثوا المشركين عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فطلبوا منهم أن يسألوه عن ذلك، فلما سألوه ووافق ما قاله أهل الكتاب، قال المشركون حينئذ : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي أنزل من قبله من التوراة والإنجيل، بل نكفر بالجميع، وكانوا قبل ذلك يراجعون أهل الكتاب ويحتجون بقولهم، وذلكم هو العناد البغيض، والضلال المعاني الذي يلفّ أذهان الضالين المضلين من الناس. أولئك الذين يتولون جامحين هربا من دعوة الحق، ويفرّون مستنفرين لجوجين كراهية أن يستمعوا لدين الله القويم، ومنهجه العظيم الذي يحمل للبشرية كل قواعد الخير والحق والعدل والفضيلة والرحمة، وذلكم هو الإسلام.
قوله :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ﴾ وذلك إخبار عن شدة الهول الذي يحيط بالكافرين يوم الحساب وهم محبوسون ذليلون خزايا ؛ إذ ليس لهم حينئذ من ظهير ولا نصير ولا مجير، فيتلاومون فيما بينهم ويتحاجون متخاصمين ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ﴾ أي يتراجعون الكلام فيما بينهم باللوم والعتاب بعد أن كانوا في حياتهم الدنيا متحالفين أخلاء. وجواب لو محذوف، وتقديره : لرأيت أمرا هائلا جللا، وخَطْبا فظيعا مَخوفا.
قوله :﴿ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ ﴿ أنتم ﴾ ضمير منفصل في موضع رفع مبتدأ وخبره محذوف١ وذلك من جملة المحاجَّة التي يتخاصم بها الظالمون الخاسرون، وهم فريقان : فريق المستضعفين الذين استذلهم السادة والكبراء واستضعفوهم في الدنيا فأضلوهم وأغووهم. ثم فريق المستكبرين، وهم القادة والرؤساء، وفي هذا التخاصم والتحاجج يتلاوم الفريقان تلاوما عنيفا وهم جميعا يحيط بهم الرعب والابتئاس المطبق، فيقول المستضعفون للمستكبرين : لولا أنكم كنتم تصدوننا عن دين الله الحق فأغويتمونا وأضللتمونا لكنا قد آمنا واهتدينا إلى الصواب واتباع الرسل فكنا من أهل النجاة.
تلك هي حال المستضعفين والمنافقين من الناس في كل زمان ؛ إذ يستخفّهم الغواة والطغاة من الكبراء والأمراء والسادة وهم يزينون لهم الكفر والعصيان وفعل المنكرات ويكرِّهون إليهم الإيمان والاستقامة فيشاركونهم في الضلال والباطل.
ذلك هو ديدن المضلين المخادعين في كل زمان ؛ إذ يضلون الخائرين المستضعفين اللاهثين وراء المفسدين من العتاة والمتجبِّرين الذين يحملونهم على الفسق ومخالفة أوامر الله حتى إذا قضى الله بين الفريقين – الضالين والمضلين – يوم القيامة أفضوا جميعا إلى سوء المصير فكُبكبوا في النار خاسرين مدحورين.
قوله :﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ﴾ إذا عاين الضالون والمضلون العذاب يوم القيامة، عضهم الندم وغشيت قلوبهم الحسرة على ما فرطوا في دين الله ؛ إذ فسقوا عن أمر ربهم وركنوا في دنياهم للكفر والباطل وأوغلوا في الآثام والمعاصي.
قوله :﴿ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ ﴾ ﴿ الأغْلالَ ﴾ القيود. أي لم يجد المجرمون الخاسرون من التابعين والمتبوعين مناصا من العذاب وإنما يساقون إلى النار مقهورين خزايا وقد غُلَّت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل والقيود.
قوله :﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ لم يفعل الله بهؤلاء التابعين والمتبوعين الخاسرين، مثل هذا التنكيل إلا جزاء بما كانوا يعملون في دنياهم من تكذيب وعصيان وصدٍّ عن دين الله، سواء في ذلك الضالون التابعون من المنافقين والأوباش، أو المضلون المتبوعون من السادة والقادة المجرمين٣.
٢ مختار الصحاح ص ٦٥٢.
٣ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٦٥-٦٧ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣٠١-٣٠٣.
ذلك تأنيس من الله وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم مما مُني به من قومه من شدة الإيذاء والصدّ والتكذيب، فقد كان الإيذاء للنبيين وتكذيبهم ديدنا للمترفين الفاسقين قد دأبوا عليه في كل زمان، وقد خصّ المترفين بالتكذيب والجحود والإيذاء ؛ لأنهم أشد تلبُّسا بالشهوات وأكثر جنوحا لمتاع الحياة الدنيا بما أُتوه من مختلف الأسباب لذلك كالمال والجاه والرياسة وغير ذلك من ظواهر الاستعلاء والتمكين.
أما المترفون : فمن الترف، وهو الطغيان وغمْطُ النعمة، والمراد بالمترفين : قادة الشر والطغيان من الرؤساء والكبراء والأغنياء. وهؤلاء إذا جاءهم من عند الله نذير من النُّذر يحذرونهم عقاب ربهم، بادروهم بالجحود والتكذيب وقالوا :﴿ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ أي إنا بما جئتمونا به من رسالة ونذارة وما بعثتم به من توحيد الله وإذعان لجلاله بالطاعة، ومن التبرؤ من عبادة الأنداد والشركاء ﴿ كَافِرُونَ ﴾ أي جاحدون مكذبون.
وهو قوله :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ قياسا على حسن حالنا في الدنيا، وربما كان ذلك إنكارا منهم لعذاب الآخرة التي يكذبون بها.
قوله :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا يعلمون أن سعة الرزق في الدنيا لا تدل على السعادة والنجاة في الآخرة، فإن قلة الرزق وضنك العيش أو كثرة المال وبسطته لا يختص بالفاسق أو الصالح، وهذه حقيقة لا يعلمها أكثر الناس بل إن أكثرهم سادرون في الغي والضلال، ساربون في دروب الشهوات والباطل.
يخاطب الله – جلت قدرته – المترفين الجاحدين المكذبين – على سبيل التوعّد والتهديد – بأن أموالكم هذه التي تفاخرون بها وكذلك أولادكم الذين تُباهون بهم الناس، كل ذلك لا يقربكم منا أيما قربة، ولا يقرِّبكم منا سوى الإيمان الصحيح والعمل الصالح المخلص، وهو قوله سبحانه :﴿ إِلاَّ مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمان بالله إيمانا صحيحا مقرونا بعمل الصالحات. وفي الخبر مما رواه أحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ".
وقيل : المعنى أن من آمن وعمل صالحا فلن يضرّه ماله وولده في الدنيا فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات تقرِّبُهم أموالهم وأولادهم إلى الله، وذلك بطاعتهم لله فيما أوتوا وبأدائهم حق الله فيما أعطاهم من أموال.
قوله :﴿ فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا ﴾ الضعف في كلام العرب بمعنى المثل، وهذا هو الأصل، ثم استعمل الضعف في المثل وما زاد، وليس للزيادة حد. أي أن الضعف زيادة غير محصورة٣ فالمعنى : أن جزاءهم أن تضاعف لهم حسناتهم، الواحدة عشرا أو أكثر.
قوله :﴿ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ﴾ المؤمنون الذين يعملون الصالحات جزاؤهم يوم القيامة أن يقيموا في الغرفات من الجنة، وقيل : إنها غرف من الياقوت والدّر يقيم فيها الذين كتبت لهم السعادة والنجاة ليكونوا فيها آمنين من الموت أو العذاب أو الأسقام والأحزان.
٢ مختار الصحاح ص ٢٧٣ والبيان لابن الأنباري ج ٢ ص ٢٨٢.
٣ المصباح المنير ج ٢ ص ٧.
قوله :﴿ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ أي يساقون إلى جهنم ؛ إذ تسوقهم زبانية النار فلا يجدون من دونها مناصا١.
قوله :﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ ذلك تحضيض من الله على البذل والإنفاق في وجوه الخير طلبا لمرضاته، فما ينفقه العباد في وجوه الخير والطاعة يُخلِفُه الله عليهم ؛ أي يعطيهم خلفه وبدله، إما في الدنيا أو في الآخرة. وفي ذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من يوم يصبح العبادُ فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعْطِ منفق خلفا ويقول الآخر : اللهم أعطِ ممسكا تلفا ".
قوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ الله خير مَنْ وُصف بأنه رزاق، وهو سبحانه وتعالى يرزق عباده من خزائنه الواسعة التي لا تفنى ولا تتناهى.
ذلك تذكير من الله بيوم القيامة حيث القواصم والأهوال، إذ يجمع الله الخلائق جميعا ﴿ ويوم ﴾ منصوب بفعل مقدر، أي واذكر يوم يحشرهم جميعا ليلاقوا الحساب. وهو قوله :﴿ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ الاستفهام لتوبيخ المشركين الذين كانوا يعبدون المخلوقات كالملائكة، إذ يسألهم الله ﴿ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ أأنتم أمرتم هؤلاء المشركين بعبادتكم ﴿ سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ ﴾
قوله :﴿ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ﴾ أي كانوا يعبدون إبليس وجنوده من شياطين الجن والإنس الذين أضلوهم عن دين الحق والتوحيد.
قوله :﴿ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ﴾ أكثر هؤلاء المشركين كانوا يزعمون أن الجن بنات الله. تعالى الله عن هذا الافتراء الفظيع علوّا كبيرا.
ذلك إخبار من الله عن ظلم الكافرين المكذبين وعن شدة جحودهم وعنادهم ؛ إذ كانوا إذا تنزل عليهم القرآن يبادرون بالتكذيب، لا يسعفهم في ذلك دليل ولا حجة إلا المكابرة والعناد، وهو قوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ ﴾ يعني : إذا تليت عليهم آيات القرآن واضحة جلية من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، بادروا بالتكذيب والمعاندة فقالوا : ليس محمد إلا رجلا يريد أن يُضلكم عن دين الآباء والأجداد، أو يصدكم عن عبادة آلهتكم المصنوعة التي كان أسلافكم من المشركين الضالين يعبدونها ﴿ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى ﴾ يعنون بذلك القرآن الكريم، والإفك المفترى يعني الكذب المختلق١ أي ما هذا القرآن إلا كذب اختلقه محمد، والله يعلم أنهم موقنون في قلوبهم بصدق هذا القرآن العظيم وأنه كلام الله الحكيم وأنه ليس من صنع بشر، بل إنه يفوق طاقة البشر، لكنه العناد والمكابرة وشدة الغيظ والحسد قد حملهم على تلفيق مقالة التكذيب.
قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ المراد بالحق القرآن، فلقد افترى عليه المشركون كذبا فظيعا ؛ إذ قالوا : ما هذا القرآن يا محمد إلا سحر مبين ؛ أي ظاهر. وهذه كذبة شنيعة ومكشوفة يهذي بها المشركون المعاندون ولقد كانوا فيما بينهم يتسارّون بأن محمدا صلى الله عليه وسلم صادق لا يكذب ؛ وأن ما أنزل عليه من آيات قد خَلَبَ فيهم العقول وبَهَرَ فيهم الأذهان والجَنَان، وهم في هذه الغمرة من الحيرة والعجب والدهش يقولون مستنفرين مكابرين : إنه سحر ظاهر.
قوله :﴿ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي كذّب السابقون رسلي وآذوهم، وصدوا الناس عن دين الحق وعن التوحيد فأهلكناهم وانتزعنا منهم ما أوتوه من الخيرات والنعم ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ أي انظر كيف كان نكيري، أنْ دمرناهم وأظهرنا عليهم المرسلين والمستضعفين الذين آمنوا بهم٢.
٢ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧٠ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١٠.
وهذه الآية ضرب من النمط القرآني النفّاذ الذي يلامس أهداب الفطرة ويهتف الضمير ليصدع بمقالة اليقين ظاهرة مكشوفة، ومن هنا يأمر الله رسول صلى الله عليه وسلم أن يقول لقومه المشركين المكذبين :﴿ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ أي أُذكِّركم بكلمة واحدة وهي طاعة الله، وقيل : بخصلة واحدة، وهذا القول أظهر فقد بيَّنه بقوله :﴿ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ﴾ في موضع جر ورفع ؛ أما الجر على البدل من قوله :﴿ بِوَاحِدَةٍ ﴾ وتقديره : إنما أعظكم بأن تقوموا لله مثنى وفرادى. وأما الرفع فهو على أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، وتقديره : وهي أن تقوموا لله ﴿ مَثْنَى وَفُرَادَى ﴾ ١ أي اثنين اثنين، وواحدا واحدا. أو أن يقوم الرجل منكم مع آخر فيتصادقان فيما بينهما على الحديث، هل علمتم بمحمد أيَّما جنون أو من أحواله وسيرته وسلوكه أيَّما فساد، أو علمتم أنه تعلَّم السحر من أحد فيكون ساحرا، أو تعلَّم الكهانة من الكهان فيكون كاهنا، أو أنه تلقى العلوم من أهل العلم، أو أنكم قدرتم على معارضته في سورة واحدة، فإذا تبين لكم خلاف ذلك كله أفلا تعلمون إذن أنه صادق، وتستيقنون أنه نبي مرسل من ربه ؟
وهو قوله :﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ يعني : ما محمد صلى الله عليه وسلم إلا رسول مبعوث من ربه إليكم ليبلغكم دعوة الله ويحذركم بطش ربه وعقابه قبل أن يحيق بكم. ٢
٢ تفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧١ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١١
.
يأمر الله نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول لهؤلاء المشركين :﴿ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ أي لا أريد منكم جعلا أو مالا على تبليغي إياكم رسالة ربكم وما جئت به إليك من عند الله، وأيُّما جعل أو مال أطلبه منكم على تبليغكم دعوة الله، فهو لكم أنتم ﴿ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ أي : ما ابتغي ثوابا على تبليغكم ودعائكم إلى الإسلام إلا من الله الذي يجزي المؤمنين العاملين خيرا ومثوبة من عنده.
قوله :﴿ اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ الله عليم بحالي وأعمالي وهو سبحانه يشهد لي على حقيقة ما أقوله لكم فإنه لا تخفى عليه من الخَلْق خافية.
قوله :﴿ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ ﴿ عَلاَّمُ ﴾ مرفوع على أنه خبر ثان بعد أول. فالأول ﴿ يقذف ﴾ والثاني ﴿ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾ وقيل : خبر مبتدأ محذوف، وتقديره : هو علام الغيوب١.
قوله :﴿ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ المراد بالباطل – في قول كثير من المفسرين – الشيطان. فما يستطيع هذا المخلوق الخبيث الآيسُ أن يخلق أحدا أو يعيده إلى الحياة بعد مماته. وقيل : زال الباطل وانمحق. فهو من طبيعته الزهوق والانمحاء ؛ لأنه لا قوام له أمام سطعة الحق، بل ينطفئ ويفنى ويغيب ظله إذا طلعت عليه شمس الحق واليقين.
قوله :﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾ الله يسمع العابدين المنيبين إليه إذا دعوه وسألوه ما يريدون ؛ فهو سبحانه قريب مجيب دعوة الداعي إذا دعاه٢
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٤٤ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١٢-٣١٤.
جواب لو محذوف، وتقديره : لو تَرى لتعجبت. و ﴿ فَزِعُوا ﴾ : جملة فعلية في موضع جر بإضافة ﴿ إذْ ﴾ إليها. ﴿ وَأُخِذُوا ﴾ جملة فعلية أخرى معطوفة عليها١ وذلك وصف لحال البشرية يوم القيامة ؛ إذ تحيط بهم الأهوال العظام وتحيق بهم النوازل الجسام فيغشاهم من الذعر المريع والرعب الفظيع ما يغشاهم. وفي هذا الحال من الخوف والكرب والإياس لا يجد الناس لهم أيُّما مفرٍّ أو ملاذ أو مهرب. وهو قوله سبحانه :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ ﴾ يعني لو ترى يا محمد حين يفزعُ هؤلاء الجاحدون المكذبون يوم القيامة ثم لا يجدون لهم ملاذا يَفرّون إليه فيوقنون حينئذ أنهم لا منجاة لهم من العذاب.
قوله :﴿ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ أخذهم الله من حيث كانوا، سواء كانوا في قبورهم أو في أي مكان، فهم من الله قريب لا يفوتونه ولا يُعجزونه.
قوله :﴿ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ ﴿ التَّنَاوُشُ ﴾، معناه : التناول١ والمعنى : أنَّى لهم تناول الإيمان يوم القيامة، وقد كفروا به في الدنيا ؛ وذلك أن الكافرين من فرط إياسهم وشدة ما حلَّ بهم فإنهم يطلبون الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا ويعملوا الصالحات، وهيهات هيهات لما يتمنون ويرتجون، فقد بعدت عليهم الشقة وانقطعت عنهم التوبة بزوال الدنيا.
قوله :﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ ﴾ الأشياع جمع شيع، وهذه جمع شيعة. فالأشياع جمع الجمع. وشيعة الرجل أتباعه وأنصاره. وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع، والمراد بأشياعهم هنا : أمثالهم من الشيع الماضية١
والمعنى : أن الله فعل بهؤلاء المشركين المكذبين من التيئيس والحيلولة دون الرجوع إلى الدنيا ليتوبوا كما فعل بالأمم الماضية التي كذبت المرسلين فإنهم لما حاق بهم بأس الله تمنوا أنهم لو آمنوا، فلم تنفعهم توبتهم ولم تغنهم أمانيهم من سوء المصير شيئا.
قوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ﴾ إنهم لفي شك من أمر الرسل وما أنزل الله إليهم من الحق، وفي شك من أمر البعث والمعاد ﴿ مريب ﴾ أي موقِع لصاحبه في الريبة، من قولهم : أراب الرجل إذا أتى ريبة وتلبّس بفاحشة٢.
٢ تفسير ابن كثير ج ٣ ص ٥٤٤-٥٤٦ وتفسير الطبري ج ٢٢ ص ٧٢-٧٦ وتفسير القرطبي ج ١٤ ص ٣١٤-٣١٨.