تفسير سورة الأحقاف

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الأحقاف مكية وآيها أربع أو خمس وثلاثون آية.

﴿حم﴾ ﴿تنزيلُ الكتابِ مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ الكلامُ فيه كالذي مر في مطلعِ السورةِ السابقةِ
﴿ما خلقنا السماوات والأرض﴾ بما فيهما من حيثُ الجزئيةُ منهما ومن حيثُ الاستقرارُ فيهما ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ من المخلوقاتِ ﴿إِلاَّ بالحق﴾ استثناءٌ مفرغٌ من أعمِّ المفاعيلِ أي إلاَّ خلقاً مُلتبساً بالحقِّ الذي تقتضيهِ الحكمةُ التكوينيةُ والتشريعيةُ أو من أعم الأحوال من فاعلِ خلقنا أو مفعولِه أي ما خلقنَاها في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ ملابستِنا بالحقِّ أو حالَ ملابستِها به وفيه من الدَلالة على وجودِ الصَّانعِ تعالى وصفاتِ كمالِه وابتناءِ أفعالِه على حِكمٍ بالغةٍ وانتهائِها إلى غاياتٍ جليلةٍ ما لا يَخْفِى ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ عطفٌ على الحقِّ بتقديرِ مضافٍ أي وبتقديرِ أجلٍ مُسمَّى ينتهي إليهِ أمرُ الكلِّ وهو يومُ القيامةِ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسمواتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحدِ الْقَهَّارِ وقيل هو آحر مُدةِ البقاءِ المقدرِ لكلِّ واحدٍ ويأباهُ قولُه تعالى ﴿والذين كَفَرُواْ عَمَّا أُنذِرُواْ معرضون﴾ فإن ما أنذرواوه يومُ القيامةِ وما فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والأهوالِ العامةِ لا آخرُ أعمارِهم وقد جُوِّزَ كونُ ما مصدريةً والجملةُ حاليةٌ أي ما خلقنا الخلقَ إلا بالحقِّ وتقديرِ الأجلِ الذي يجاوزون عندَهْ والحالُ أنَّهم غيرُ مؤمنينَ به معرضونَ عنه وعن الاستعدادِ له
﴿قُلْ﴾ توبيخاً لهم وتبكيتاً ﴿أرأيتم﴾ أخبروني وقرئ أرأيتَكُم ﴿مَا تَدَّعُونَ﴾ ما تَعْبُدُونَ ﴿مِن دُونِ الله﴾ منَ الأصنامِ ﴿أَرُونِىَ﴾ تأكيدٌ لأرأيتُم ﴿مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض﴾ بيانُ للإبهامِ في ماذَا ﴿أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ﴾ أي شرْكةٌ معَ الله تعالى ﴿في السماوات﴾ أي في خلقِها أو مُلكِها وتدبيرِها حتَّى يُتوهم أن يكونَ لهم شائبةُ استحقاق للمعبودية فإن مالا مدخلَ له في وجودِ
77
٥ ٧
شئ من الأشياءِ بوجهٍ من الوجوهِ فهُو بمعزلٍ منْ ذلكَ الاستحقاقِ بالمرَّةِ وإِنْ كانَ منَ الأحياءِ العُقلاءِ فَما ظنُّكم بالجمادِ وقولُه تعالَى ﴿ائتونى بكتاب﴾ الخ تبكيتٌ لهم بتعجيزِهم عن الاتيان بسند نقاى بعد تبكيتِهم بالتعجيزِ عن الإتيانِ بسندٍ عقليَ أي ائتونِي بكتابٍ إلهيَ كائنٍ ﴿مّن قَبْلِ هذا﴾ الكتابِ أي القُرآنِ الناطقِ بالتَّوحيدِ وإبطالِ الشركِ دالٍ على صحةِ دينِكم ﴿أَوْ أثارة من علم﴾ أو بقيت من علمٍ بقيتْ عليكُم من علومِ الأولينَ شاهدةٍ باستحقاِقهم للعبادِة ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ في دَعْواكُم فإنَّها لا تكادُ تَصحُّ ما لم يقُم عليها برهانٌ عقليٌّ أو سلطانٌ نقليٌّ وحيثُ لَم يقُمْ عليها شئ منهُمَا وقد قامتْ على خلافِها أدلةُ العقلِ والنقلِ تبين بطلانها وقرئ إِثَارَةٍ بكسرِ الهمزةِ أي مناظرة فإنهعا تُثيرُ المعانيَ وأثَرةٍ أيْ شئ أوثرتم به وخصخصتم منْ علمٍ مطويَ من غيرِكم وإثرة بالحركات الثلاث مع سكون الثاء إما المكسورةُ فبمعنى الأثَرةِ وأمَّا المفتوحةُ فهي المرةُ من أثرَ الحديثَ أي رَواه وأمَّا المضمومةُ فاسمُ ما يؤثر الخطبة التي هي اسمُ ما يُخطبُ بهِ
78
﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ الله مِن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ﴾ إنكارٌ ونفيٌ لأنْ يكونَ أحدٌ يُساوي المُشركينَ في الضَّلالِ وإنْ كانَ سبكُ التَّركيبِ لنفي الأضلِ منهم من غيرِ تعرضٍ لنفي المُساوِي كما مر غيرَ مرة أي هُم أضلُّ من كلِّ ضالَ حيثُ تركُوا عبادةَ خالقِهم السميعِ القادرِ المجيبِ الخبير إلى عبادةِ مصنُوعِهم العارِي عن السمعِ والقدرةِ والاستجابةِ ﴿إلى يَوْمِ القيامة﴾ غايةٌ لنفي الاستجابةِ ﴿وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ﴾ الضميرُ الأول لمفعول ويدعو الثانى لفاعلِه والجمعُ فيهما باعتبارِ معنى مَنْ كما أن الإفرادَ فيما سبقَ باعتبارِ لفظِها ﴿غافلون﴾ لكونِهم جماداتٍ وضمائرُ العقلاءِ لإجرائِهم إيَّاها مُجرى العُقلاءِ ووصفِها بما ذُكر منْ تركِ الاستجابةِ والغفلةِ مع ظهورِ حالِها للتهكم بَها وبعبدَتها كقولِه تعالى إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ الآيةَ
﴿وَإِذَا حُشِرَ الناس﴾ عند قيامِ القيامةِ ﴿كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كافرين﴾ أي مُكذبينَ بلسانِ الحالِ أو المقالِ علَى ما يروى أنه تعالى يحى الأصنامَ فتتبرأُ عن عبادتِهم وقد جُوِّز أن يراد بهم كلُّ ما يُعبدُ من دُونِ الله مِن الملائكة والجن والإنس وغيرِهم ويبنَى إرجاعُ الضمائرِ وإسنادُ العداوةِ والكفرِ إليهم على التغليبِ ويرادُ بذلكَ تبرؤُهم عنهُم وعنْ عبادتِهم وقيلَ ضميرُ كانُوا للعبدةِ وذلكَ قولُهم والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ﴾ واضحاتٍ أو مبيناتٍ ﴿قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ﴾ أي لأجلِه وفي شأنِه وهو عبارةٌ عن الآياتِ المتلوةِ وضعَ موضعَ ضميرِها تنصيصاً على حقِّيتِها ووجوبِ الإيمانِ بَها كما وضعَ الموصولِ موضِعَ ضميرِ المتلوِّ عليهم تسجيلاً عليهم بكمالَ الكفرِ والضلالةِ ﴿لَمَّا جَاءهُمْ﴾ أي في أول ما جَاءهُمْ من غيرِ تدبرٍ وتأملٍ ﴿هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ظاهرٌ كونُه
78
٨ ٩
أَمْ
79
﴿يَقُولُونَ افتراه﴾ إضرابٌ وانتقالٌ من حكايةِ شناعتِهم السابقةِ إلى حكايةِ ما هو أشنعُ منها وما في أمْ من الهمزةِ للإنكارِ التوبيخيِّ المتضمنِ للتعجيبِ أي بل أيقولونَ افترى القُرآنَ ﴿قُلْ إِنِ افتريته﴾ على الفرضِ ﴿فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى من الله شيئا﴾ إذلا ريبَ في أنَّه تعالَى يُعاجلني حينئذٍ بالعقوبةِ فكيفَ أجترئ على أنْ أفتريَ عليهِ تعالى كذباً فأُعرّضَ نفسيَ للعقوبةِ التي لا مناصَ عنها ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي تندفعونَ فيهِ من القدحِ في وَحي الله والطعنِ في آياتِه وتسميتِه سحراً تارةً وفريةً أُخرى ﴿كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ﴾ حيثُ يشهدُ لي بالصدقِ والبلاغِ وعليكم بالكذبِ والجحودِ وهو وعيد بجزاء إفاضتِهم وقولُه تعالى ﴿وَهُوَ الغفور الرحيم﴾ وعدٌ بالغُفرانِ والرحمةِ لمن تابَ وآمنَ وإشعارٌ بحلمِ الله تعالى عنْهم مع عظمِ جرائمِهم
﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ الرسل﴾ البدعُ بمعنى البديعِ كالخِلِّ بمعنى الخليلِ وهو ما لا مثلَ له وقرئ بفتحِ الدالِ على أنه صفةٌ كقِيَمٍ وزِيَمٍ أو جمع مقدر مضاف أيْ ذَا بِدَعٍ وقد جُوِّزَ ذلكَ في القراءةِ الأُولى أيضاً على أنَّه مصدرٌ كانُوا يقترحونَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ آياتٍ عجيبةً ويسألونَهُ عن المُغيباتِ عِناداً ومُكابرةً فأُمَر عليهِ السَّلامُ بأنْ يقولَ لهم ما كنتُ بديعاً من الرسلِ قادراً على ما لم يقدروا حَتَّى آتيَكُم بكلِّ ما تقترحونَهُ وأخبركم بكلِّ ما تسلون عنْهُ من الغيُوبِ فإنَّ مَنْ قبلي من الرسلُ عليهم الصلاة والسلام والسَّلامُ ما كانُوا يأتونَ إلا بما آتاهُم الله تعالى من الآياتِ ولا يُخبرونَهم إلا بَما أُوحيَ إليهم ﴿وَمَا أَدْرِى مَا يفعل بى ولا بكم﴾ أى أى شئ يُصيبنَا فيما يُستقبل من الزمانِ من أفعالهِ تعالى وماذا يُقدَّرُ لنا من القضاياه وعن الحسنِ رضيَ الله عنْهُ ما أَدري ما يصيرُ إليه أَمري وأمرُكم في الدُّنيا وعن ابنِ عباس رضي الله عنهما ما يفعل بى ولا بكُم في الآخرةِ وقال هيَ منسوخةٌ بقولِه تعالى لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وقيل يجوزُ أن يكونَ المنفيُّ هي الدرايةَ المفصَّلةَ والأظهرُ الأوفقُ لما ذُكِرَ من سببِ النزولِ أنَّ مَا عبارةٌ عمَّا ليسَ علمُه منْ وظائفِ النبوةِ من الحوادثِ والواقعاتِ الدنيويةِ دونَ ما سيقعُ في الآخرةِ فإنَّ العلمَ بذلكَ من وظائفِ النبوةِ وقد وردَ به الوحيُ الناطق بتفاصيلِ ما يُفعلُ بالجانبينِ هذا وقد رُويَ عن الكلبيِّ أنَّ أصحابَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم قالُوا له عليه السَّلامُ وقد ضجِروا من أذيةِ المشركينَ حتَّى متى نكونُ على هَذا فقالَ ما أدرى ما يفعل بى ولا بكُم أأُتْركُ بمكةَ أم أُومرُ بالخروجِ إلى أرضٍ ذاتِ نخيلٍ وشجرٍ قد رُفعتْ لي ورأيتُها يعني في منامِه وجُوِّزِ أَنْ تكَونَ مَا موصولةً والاستفهاميةُ أقضى لحقِّ مقامِ التبرؤِ عن الدرايةِ وتكريرُ لا لتذكيرِ النفيِّ المنسحبِ إليه وتأكيده
79
} ٠
وقرئ ما يُفعلُ على إسنادِ الفعلِ إلى ضميرِه تعالى ﴿إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحِى إِلَىَّ﴾ أيْ ما أفعلُ إلا اتباعَ ما يُوحَى إليَّ على مَعْنى قصرِ أفعالِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ على اتباعِ الوَحي لاقصر اتباعه على الوجى كما هو المتسارعُ إلى الأفهامِ وقد مرَّ تحقيقُه في سورة الأنعام وقرئ يُوحِي على البناءِ للفاعلِ وهو جوابٌ عن اقتراحِهم الأخبارَ عمَّا لم يُوحَ إليه عليه السلام من الغيوبِ وقيلَ عن استعجالِ المسلمينَ أنْ يتخلصُوا عن أذيةِ المشركينَ والأوَّلُ هو الأوفقُ لقولهِ تعالى ﴿وَمَا أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ﴾ أُنذركم عقاب الله تعالى حسبمَا يُوحى إليَّ ﴿مُّبِينٌ﴾ بينُ الإنذارِ بالمعجزاتِ الباهرةِ
80
﴿قل أرأيتم إِن كَانَ﴾ أي ما يُوحَى إليَّ من القرآنِ ﴿مِنْ عِندِ الله﴾ لاَ سحراً ولا مُفترى كما تزعمونَ وقولُه تعالى ﴿وَكَفَرْتُمْ بِهِ﴾ حالٌ بإضمارِ قَدْ من الضميرِ في الخبرِ وُسّطتْ بين أجزاءِ الشرطِ مسارعةً إلى التسجيلِ عليهم بالكفرِ أو عطفٌ على كانَ كمَا في قولِه تعالى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ لكنْ لا على أنَّ نظمَهُ في سلك الشرط المتردد بينَ الوقوعِ وعدمِه عندهُم باعتبارِ حالِه في نفسهِ بل باعتبارِ حالِ المعطوفِ عليه عندَهُم فإنَّ كفرَهُم به أمرٌ محققٌ عندهم أيضاً وإنَّما ترددُهم في أنَّ ذلكَ كفرٌ بَما من عند الله تعالى أم لا وكذا الحالُ في قولِه تعالى ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مّن بني إسرائيل﴾ وما بعدَهُ من الفعلينِ فإنَّ الكُلَّ أمورٌ محققةٌ عندَهُم وإنَّما ترددُهم في أنَّها شهادةٌ وإيمانٌ بما من عند الله تعالى واستكبار عنه أولاً والمعنى أخبروني إن كان ذلك في الحقيقة من عند الله وكفرتُم به وشهدَ شاهدٌ عظيمُ الشأنِ منْ بني اسرائيل الواقفين على شؤن الله تعالى وأسرارِ الوحي بما أُوتُوا من التوراةِ ﴿على مِثْلِهِ﴾ أي مثلِ القرآنِ من المَعَاني المنطويةِ في التوراةِ المطابقةِ لما في القرآنِ من التوحيدِ والوعدِ والوعيدِ وغيرِ ذلكَ فإنَّها عينُ ما فيه في الحقيقةِ كما يعربُ عنه قولُه تعالَى وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الأولين وقولُه تعالى إِنْ هذا لَفِى الصحف الأولى والمثليةُ باعتبارِ تأديتِها بعباراتٍ أُخرَ أو على مثلُ ما ذُكرَ من كونه من عند الله تعالى والمثليةُ لما ذُكِرَ وقيل المثلُ صلةٌ والفاء في قوله تعالى ﴿فآمن﴾ للدلالةِ على أنَّه سارعَ إلى الإيمانِ بالقُرآنِ لما علمَ أنَّه من جنسِ الوحي الناطقِ بالحقِّ وهو عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم لمَّا سمعَ بمقدمِ رسولِ الله ﷺ المدينةَ أتاهُ فنظرَ إلى وجههِ الكريمِ فعلمَ أنَّه ليسَ بوجهِ كذَّابٍ وتأملَهُ فتحققَ أنَّه النبيُّ المنتظرُ فقالَ له إنَّي سائلكَ عن ثلاثٍ لا يعلمُهنَّ إلا نبيٌّ ما أولُ أشراطِ الساعةِ وما أولُ طعام أكله أهلُ الجنةِ والولدُ ينزعُ إلى أبيهِ أو إلى أمَّةِ فقالَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمَّا أولُ أشراطِ الساعةِ فنارٌ تحشرُهم منَ المشرقِ إلى المغربِ وأمَّا طعامِ أهلِ الجنَّةِ فزيادةُ كبدِ حوتٍ وأما الولُد فإنْ سبقَ ماءُ الرجلِ نزعَهُ وإنْ سبقَ ماءُ المرأةِ نزعتْهُ فقال أشهدُ أنَّكَ رسولُ الله حَقَّا فقامَ ثمَّ قالَ يا رسولَ الله إنَّ اليهودَ قومُ بُهتٌ فإن علمُوا بإسلامِي قبلَ أنْ تسألَهم عنِّي بهتونِي عندكَ فجاءتِ اليهود فقالَ لهم النبيُّ عليه الصلاةَ والسلام أي رجلٍ عبدُ اللَّهِ فيكم فقالُوا خيرُنا
80
} ١ ١ ﴿
وابنُ خيرِنا وسيدُنا وابنُ سيدِنا وأعلمُنَا وابنُ أعلمِنا قال أرأيتُم إنْ أسلمَ عبدُ اللَّهِ قالُوا أعاذَهُ الله من ذلك فحرج إليهم عبدُ اللَّهِ فقالَ أشهدُ أَن لاَّ إلَه إِلاَّ الله وأشهدُ أنَّ محمداً رسولُ الله فقالُوا شرُّنا وابنُ شرِّنا وانتقصُوه قالَ هذَا ما كنتُ أخافُ يا رسولُ الله وأحذرُ قالَ سعدَ بنَ أبي وقاصٍ رضيَ الله عنْهُ ما سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقولُ لأحدٍ يمشِي على الأرضِ إنَّه من أهلِ الجنَّةِ إلا لعبدِ اللَّه ابن سَلامٍ وفيهِ نزلَ وَشَهِدَ شَاهِدٌ الآيةَ وقيلَ الشاهدُ مُوسى عليه السَّلامُ وشهادتُه بما في التَّوراة من بعثةِ النبيِّ عليهما الصَّلاةُ السلام وبهِ قال الشعبيُّ وقالَ مسروقٌ والله ما نزلتْ في عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم فإنَّ آلَ حم نزلتْ بمكةَ وإنَّما أسلمَ عبدُ الله بالمدينةِ وأجابَ الكلبيُّ بأنَّ الآيةَ مدنية وإنْ كانتْ السورةُ مكيةً {واستكبرتم﴾
عطفٌ على شهدَ شاهدٌ وجوابُ الشرطِ محذوفٌ والمعنى أخبروني إن كان من عند الله تعالى وشهدَ على ذلكَ أعلمُ بني إسرائيلَ فآمنَ به من غيرِ تلعثمٍ واستكبرتُم عن الإيمانِ به بعد هذه المرتبةِ مَنْ أضلُّ منكم بقرينة قوله تعالة قال أرأيتم إن كان مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وقولِه تعالى ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ فإنَّ عدم الهداية مما ينبئ عن الضَّلالِ قطعاً ووصفُهم بالظلمِ للإشعارِ بعلَّةِ الحُكم فإنَّ تركَهُ تعالَى لهدايتِهم لظلمِهم
81
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ حكايةٌ لبعضٍ آخَرَ من أقاويلِهم الباطلةِ في حقِّ القُرآنِ العظيمِ والمؤمنينَ بهِ أي قالَ كُفَّارُ مكةَ ﴿لِلَّذِينَ آمنوا﴾ أي لإجلِهم ﴿لَّوْ كَانَ﴾ أي ما جاءَ به عليه الصلاة والسلام من القرآنِ والدينِ ﴿خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ فإنَّ معاليَ الأمورِ لا ينالُها أَيْدِي الأراذلِ وهُم سُقَّاطُ عامَّتُهم فقراءُ ومَوالٍ ورعاةٌ قالُوه زعماً منهم أنَّ الرياسةَ الدينيةَ مما يُنالُ بأسبابٍ دنيويةٍ كَما قالُوا لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتينِ عظيمٍ وزلَّ عنْهم أنَّها منوطةٌ بكمالاتٍ نفسانيةٍ وملكاتٍ رُوحانيةٍ مبناها الإعراض عن زخازف الدُّنيا الدنيةِ والإقبالُ على الآخرةِ بالكليةِ وأنَّ من فاز بها فقد حازها بحذافيرها ومن حرمها فماله منها من خَلاقٍ وقيلَ قالَه بنُو عامرٍ وغطفانُ وأسدٌ وأشجعُ لما أسلمَ جهينةُ ومزينةُ وأسلمُ وغفارُ وقيلَ قالتْهُ اليهودُ حين أسلمَ عبدُ اللَّه بنُ سَلاَم وأصحابِه ويأباهُ أنَّ السورة مكيى ولا بُدَّ حينئذٍ من الالتجاءِ إلى ادعاءِ أنَّ الآيةَ نزلتْ بالمدينةِ ﴿وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ﴾ ظرفٌ لمحذوفٍ يدلَّ عليهِ ما قبلَهُ ويترتبُ عليهِ ما بعدَهُ أيْ وإذ لم يهتدُوا بالقُرآنِ قالُوا ما قالُوا ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ غيرَ مكتفينَ بنغى خيريّتهِ ﴿هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ﴾ كما قالُوا أساطيرُ الأوَّلينَ وقيلَ المحذوفُ ظهرَ عنادُهم وليسَ بذاكَ
﴿وَمِن قَبْلِهِ﴾ أي منْ قبلِ القُرآنِ وهو خبرٌ لقولِه تعالى ﴿كِتَابُ موسى﴾ قيلَ والجملةُ حاليةٌ أو مستأنَفةٌ وأيَّا
81
} ١ ١٥
ما كانَ فهو لردِّ قولِهم هذا إفكٌ قديمٌ وإبطالِه فإنَّ كونَهُ مُصدقاً لكتابِ مُوسى مقرر لحقِّيتهِ قطعاً ﴿إَمَامًا وَرَحْمَةً﴾ حالانِ من كتابِ مُوسى أي إماماً يُقتدَى به في دينِ الله تعالى وشرائعِه كما يُقتدى بالإمامِ ورحمةً من الله تعالى لمن آمنَ به وعملَ بموجبهِ ﴿وهذا﴾ الذي يقولونَ في حقِّه ما يقولونَ ﴿كِتَابٌ﴾ عظيمٌ الشأنِ ﴿مُّصَدّقُ﴾ أي لكتابِ مُوسى الذي هو إمامٌ ورحمةٌ أو لِما من بين يديهِ من جميعِ الكتبِ الإلهيةِ وقد قرئ كذلكَ ﴿لّسَاناً عَرَبِيّاً﴾ حالٌ من ضميرِ الكتابِ في مصدقٌ أو من نفسِه لتخصصهِ بالصفةِ وعاملُها معنى الإشارةِ وعلى الأولِ مصدقٌ وقيلَ مفعولٌ لمصدقٌ أي يصدقُ ذا لسانٍ عربيَ ﴿لّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ﴾ متعلقٌ بمصدقٌ وفيه ضميرُ الكتابِ أو الله أو الرسول عليه الصلاة والسَّلامُ ويؤيدُ الأخيرَ القراءةُ بتاءِ الخطابِ ﴿وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ﴾ في حيزِ النصبِ عطفاً على محل لينذرَ وقيل في محلِ الرفعِ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ مضمرٍ أي وبشرى وقيل على أنَّه عطفٌ على مصدقٌ
82
﴿إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا﴾ أي جمعُوا بينَ التوحيدِ الذي هُو خلاصةُ العلمِ والاستقامةِ في أمورِ الدينِ التي هيَ مُنتهى العملِ وثُمَّ للدلالة على تراخي رتبةِ العملِ وتوقفِ الاعتدادِ به على التوحيدِ ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ من لُحوق مكروهٍ ﴿وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من فواتِ محبوبٍ والفاءُ لتضمنِ الاسمِ معنى الشرطِ والمرادُ بيانُ دوامِ نفي الحزنِ لا بيانُ نفي دوامِ الحزنِ كما يُوهمه كونُ الخبرِ مضارعاً وقد مرَّ بيانُه مراراً
﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من الوصفينِ الجليلينِ ﴿أصحاب الجنة خالدين فِيهَا﴾ حالٌ من المستكنِّ في أصحابُ وقولُه تعالَى ﴿جَزَاء﴾ منصوبٌ إمَّا بعاملٍ مقدرٍ أي يُجزَون جزاءً أو بمَعْنى ما تقدمَ فإنَّ قولَه تعالى أولئكَ أصحابُ الجنَّةِ في معنى جازيناهُم ﴿بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ من الحسناتِ العلميةِ والعمليةِ
﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان﴾ بأنْ يُحسنَ ﴿بوالديه إحسانا﴾ وقرئ حُسْناً أي بأنْ يفعلَ بهمَا حُسْناً أي فعلاً ذَا حُسنٍ أو كأنَّه في ذاتِه نفسُ الحسنِ لفرطِ حُسنهِ وقُرِىءَ بضمِّ السينِ أيضاً وبفتحِهما أيْ بأن يفعل بهما فعل حَسَناً أو وصينَاهْ إيصاءً حسناً ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً﴾ أي ذاتَ كُرهٍ أو حملاً ذَا كره وهو المشقة وقرئ بالفتحِ وهُما لغُتانِ كالفَقْرِ والفُقْرِ وقيلَ المضمومُ اسمٌ والمفتوحُ مصدرٌ ﴿وَحَمْلُهُ وفصاله﴾ أيْ مدةُ حملِه وفصالِه وهو الفطام وقرئ ة فصله والفصل والفصالُ كالفطمِ والفِطامِ بناءً ومَعْنى والمرادُ
82
} ٦ ١٧
بهِ الرَّضاعُ التامُّ المُنتهِي بهِ كمَا أرادَ بالأمدِ المدة من ال كُلُّ حَيَ مُستكمِلٌ مُدَّةَ العمرِ ومُودٍ إذَا انتهى أمدُهْ ﴿ثَلاَثُونَ شَهْراً﴾ تمضي عليَها بمعاناةِ المشاقِّ ومقاساةِ الشدائدِ لأجلِه وهذا دليلٌ على أن أقلَّ مدةِ الحملِ ستةُ أشهرٍ لما أنه حُطَّ عنْهُ للفصالِ حولانِ لقولهِ تعالى حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة يبقي للحملِ ذلكَ قيلَ ولعل تعيينَ أقلِ مدةِ الحملِ وأكثرِ مدةِ الرَّضاعِ لانضباطِهما وتحققِ ارتباطِ النسبِ والرضاعِ بهما ﴿حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾ أي اكتهل واستحكمَ قوتُه وعقلُه ﴿وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ قيلَ لم يبعثْ نبيٌّ قبلَ أربعينَ وقرئ حتَّى إذَا استَوى وبلغَ أشدَّهُ ﴿قَالَ رَبّ أَوْزِعْنِى﴾ أي ألهمنِي وأصلُه أَوْلعِني من أوزعتُه بكذَا ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وعلى وَالِدَىَّ﴾ أي نعمةَ الدِّينِ أو ما يعمُّها وغيرَها ﴿وَأَنْ أَعْمَلَ صالحا ترضاه﴾ التنكيرُ للتفخيمِ والتكثيرِ ﴿وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى﴾ أيْ واجعلِ الصلاحَ سارياً في ذُريتِي راسخاً فيهم كَما في قولِه يجرحُ في عَراقيبِها نَصْلي قالَ ابنُ عبَّاسٍ أجابَ الله تعالَى دعاءَ أبي بكرٍ رضيَ الله عنُهم فأعتقَ تسعةً من المؤمنينَ منهم بلال وعامر بنُ فُهيرةَ ولم يُردْ شيئاً من الخيرِ إلاَّ أعانَهُ الله تعالى عليهِ ودَعَا أيضاً فقالَ وأصلحْ لي في ذُريتِي فأجابَهُ الله عزَّ وجلَّ فلم يكن له ولدا إلا آمنُوا جميعاً فاجتمعَ له إسلامُ أبويهِ وأولادِه جميعاً فأدركَ أبُوه أبُو قحافة رسول الله ﷺ وابنُه عبدُ الرحمنِ بنُ أبي بكرٍ وابنُ عبدِ الرَّحمنِ أبُو عتيقٍ كلُّهم أدركُوا النبيَّ عليهِ الصلاةَ والسَّلامُ ولم يكُنْ ذلكَ لأحدٍ من الصَّحابةِ رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ ﴿إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ عمَّا لا ترضاهُ أو عمَّا يشغلُني عن ذكرِك ﴿وَإِنّى مِنَ المسلمين﴾ الذينَ أخلصُوا لكَ أنفسَهُم
83
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الإنسانِ والجمعُ لأنَّ المرادَ به الجنسُ المتصفُ بالوصفِ المَحكِيِّ عنْهُ وما فيهِ من معنى البُعدِ للإشعارِ بعلوِّ رتبتِه وبُعد منزلتِه أي أولئكَ المنعوتونَ بما ذُكِرَ من النعوتِ الجليلةِ ﴿الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ من الطاعاتِ فإنَّ المباحَ حسنٌ ولا يثابُ عليهِ ﴿وَنَتَجَاوَزُ عَن سيئاتهم﴾ وقرئ الفعلانِ بالياءِ على إسنادِهما إلى الله تعالى وعلى بنائِهما للمفعولِ ورفعِ أحسنَ على أنَّه قائمٌ مقامَ الفاعلِ وكذا الجارُّ والمجرور ﴿فِى أصحاب الجنة﴾ أي كائنينَ في عدادِهم منتظمينَ في سلكِهم ﴿وَعْدَ الصدق﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لما أنَّ قوله تعالى يتقبل ونتجاوزُ وعدٌ من الله تعالى لهُم بالتقبلِ والتجاوزِ ﴿الذى كَانُواْ يُوعَدُونَ﴾ عَلَى ألسنةِ الرُّسلِ
﴿والذى قَالَ لوالديه﴾ عندَ دعوتِهما لهُ إلى الإيمانِ ﴿أُفّ لَّكُمَا﴾ هو صوتٌ يصدرُ عنِ المرءِ عندَ تضجرخ واللامُ لبيانِ المؤفَّفِ له كما في هَيْتَ لك وقرئ أُفِّ بالفتحِ والكسرِ بغيرِ تنوينٍ وبالحركاتِ الثلاثِ معَ التنوينِ والموصولُ عبارةٌ عن الجنسِ القائلِ ذلكَ القولَ ولذلكَ أُخبرَ عنه بالمجموعِ كما سبقَ قيلَ هُو
83
} ٨ ٢٠
في الكافرِ العاقِّ لوالديهِ المكذبِ بالبعثِ وعن قَتَادةَ هُو نعتُ عبدِ سوءٍ عاقِّ لوالديهِ فاجرٍ لربِّه وما رُوي من أنَّها نزلت في عبدلرحمن بن أبي بكرٍ رضيَ الله عنهُمَا قبلَ إسلامِه يردُّه ما سيأتِي من قولِه تعالى أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول الآيةَ فإنه كان من أفاصل المسلمينَ وسَرواتِهم وقد كذَّبتِ الصدِّيقةُ رضيَ الله عنَها مَنْ قالَ ذلكَ ﴿أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ﴾ أُبعثَ من القبر بعد الموت وقرئ أَخْرُجَ من الخُروجِ ﴿وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى﴾ ولم يُبعثْ منهم أحدٌ ﴿وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله﴾ يسألانِه أنْ يغيثَهُ ويوفقَهُ للإيمانِ ﴿وَيْلَكَ﴾ أي قائلينَ له ويلكَ وهو في الأصلِ دعاءٌ عليه بالثبورِ أُريدَ به الحثَّ والتحريضَ على الإيمانِ لا حقيقةَ الهلاكِ ﴿آمن إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أى البعث أضافا إليهِ تعالى تحقيقاً للحقِّ وتنبيهاً على حطئه في إسنادِ الوعدِ إليهما وقرئ إِنَّ وَعْدَ الله أي آمِنْ بأنَّ وعدَ الله حقٌّ ﴿فَيَقُولُ﴾ مكذباً لهُما ﴿مَا هذا﴾ الذي تسميانِه وعدَ الله ﴿إِلاَّ أساطير الأولين﴾ أباطيلُهم التي سَطرُوها في الكتبِ من غيرِ أنْ يكونَ لها حقيقةٌ
84
﴿أولئك﴾ القائلون هذه المقالاتِ ﴿الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول﴾ وهو قولُه تعالَى لإبليسَ لاملان جهنم منك وممن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ كما ينبئ عنه قولُه تعالى ﴿فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس﴾ وقدْ مرَّ تفسيرُه في سورةِ الم السجدةُ ﴿إِنَّهُمْ﴾ جميعاً ﴿كَانُواْ خاسرين﴾ قد ضيَّعُوا فطرتَهُم الأصليةَ الجاريةَ مجرى رؤس أموالِهم باتِّباعِهم الشيطانَ والجملةُ تعليلٌ للحُكمِ بطريقِ الاستئنافِ التحقيقيِّ
﴿وَلِكُلّ﴾ من الفريقينِ المذكورينِ ﴿درجات مّمَّا عَمِلُواْ﴾ مراتبُ من أجزيةِ ما عملوا من الخير والشرِّ والدرجاتُ غالبةٌ في مراتبِ المَثوبة وإيرادها بطريقِ التغليبِ ﴿وَلِيُوَفّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ﴾ أي أجزيةَ أعمالِهم وقرئ بنونِ العظمةِ ﴿وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ ثوابِ الأولينَ عقابِ الآخرينَ والجملةُ إمَّا حالٌ مؤكدةٌ للتوفية أو استئنافٌ مقررٌ لها واللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ مُؤخرٍ كأنَّه قيل ليوفيهم أعمالَهُم ولا يظلمَهُم حقوقَهم فعلَ ما فعلَ من تقديرِ الأجزيةِ على مقاديرِ أعمالهم فجعل الثواب والعقابَ دركاتٍ
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار﴾ أي يُعذَّبُونَ بَها منْ قولِهم عُرضَ الأسُارَى على السيفِ أي قُتلوا وقيل يُعرض النارُ عليهم بطريقِ القلبِ مبالغةً ﴿أَذْهَبْتُمْ طيباتكم﴾ أي يقالُ لهم ذلكَ وهو الناصبُ للظرف وقرئ أأْذهبتُم بهمزتينِ وبألفٍ بينَهمَا على الاستفهامِ التوبيخيِّ أي أصبتم أو أخذتم ما كُتب لكُم من حُظوظِ الدُّنيا ولذائِذها ﴿فِى حياتكم الدنيا واستمتعتم بِهَا﴾ فلم يبقَ لَكُم بعد ذلك شئ منَها ﴿فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون﴾
84
أى الهوان وقد قرئ كذلكَ ﴿بِمَا كُنتُمْ﴾ في الدُّنيا ﴿تَسْتَكْبِرُونَ فِى الأرض بِغَيْرِ الحق﴾ بغيرِ استحقاقٍ لذلكَ ﴿وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ﴾ أي تخرجونَ عن طاعةِ الله عزَّ وجلَّ أي بسببِ استكبارِكم وفسقِكم المستمرين وقرئ تَفْسِقونَ بكسرِ السِّينِ
85
﴿واذكر﴾ أيْ لكُفَّارِ مكةَ ﴿أَخَا عَادٍ﴾ أيْ هوداً عليهِ السلامُ ﴿إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ﴾ بدلُ اشتمالٍ منْهُ أي وقتَ إنذارِه إِيَّاهُم ﴿بالاحقاف﴾ جمعُ حِقْفٍ وهُو مل مستطيلٌ مرتفعٌ فيهِ انحناءٌ من احقوقف الشئ إذا اعوجَّ وكانتْ عادٌ أصحابَ عَمدٍ يسكنونَ بين رمالٍ مشرفةٍ على البحرِ بأرض يقال لها الشجر من بلادِ اليمنِ وقيلَ بينَ عُمَانَ ومَهَرَةَ ﴿وَقَدْ خَلَتِ النذر﴾ أي الرُّسلُ جمعُ نذيرٍ بمعنى المنذرِ ﴿مِن بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي من قبلهِ ﴿وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أي منْ بعدهِ والجملةُ اعتراضٌ مقرِّرٌ لما قبله مؤكدٌ لوجوبِ العملِ بموجبِ الإنذارِ وُسِّط بينَ أنذرَ قومَهُ وبينَ قولِه ﴿أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله﴾ مسارعةً إلى ما ذُكِرَ من التقريرِ والتأكيدِ وإيذاناً باشتراكِهم في العبارةِ المحكيةِ والمَعْنى واذكُرْ لقومِكَ إنذارَ هودٍ قومَهُ عاقبةَ الشركِ والعذاب العظيم وقد أنذر مَنْ تقدمَهُ من الرسلِ ومن تأخرَ عنْهُ قومَهُم مثلَ ذلكَ فاذكُرهم وأَما جعلُها حالاً من فاعلِ أنذرَ على مَعْنى أنَّه عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ أنذرَهُم وقالَ لَهُم لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله ﴿إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ وقد أعلمهم أنَّ الرسلَ الذين بُعثوا قبلَه والذينَ سيُبعثونَ بعدَهُ كلَّهم منذرونَ نحوَ إنذارِه فمعَ ما فيهِ من تكلفِ تقديرِ الإعلامِ لا بُدَّ في نسبةِ الخلوِّ إلى مَن بعدَهُ من الرسلِ من تنزيلِ الآتِي منزلةَ الخالِي
﴿قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا﴾ أيْ تصرفنا ﴿عن آلهتنا﴾ عبادتهم ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا﴾ منَ العذابِ العظيمِ ﴿إِن كُنتَ مِنَ الصادقين﴾ في وعدِك بنزولهِ بنَا
﴿قَالَ إِنَّمَا العلم﴾ أي بوقتِ نزولِه أو العلمُ بجميعِ الأشياءِ التي مِنْ جُمْلتِها ذلكَ ﴿عَندَ الله﴾ وحدَهُ لا علمَ لي بوقتِ نزولِه ولا مدخلَ لي في إتيانِه وحلولِه وإنَّما علمُه عندَ الله تعالَى فيأتيكُم بهِ في وقتهِ المقدَّرِ لهُ ﴿وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرسلتَ بِهِ﴾ من مواجبِ الرسالةِ التي من جُملتِها بيانُ نزولِ العذابِ إنْ لم تنتُهوا عن الشركِ من غيرِ وقوفٍ على وقت نزوله وقرئ أُبْلِغُكُم من الإبلاغِ ﴿ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾ حيثُ تقترحُون عليَّ ما ليسَ من وظائفِ الرسلِ من الإتيانِ بالعذابِ وتعيينِ وقتهِ والفاء في قوله تعالى
﴿فلما رأوه﴾ فصيحة
85
} ٥ ٢٦
والضميرُ إما مُبهمٌ يوضحه قوله تعالى ﴿عارضا﴾ إما تمييز أو حالا أو راجعٌ إلى ما استعجلُوه بقولِهم فائتنا بما تَعدُنا أي فأتاهُم فلمَّا رأَوهُ سحاباً يعرضُ في أفق السماءِ ﴿مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ﴾ أى متوجِّه أوديتِهم والإضافةُ فيه لفظيةٌ كما في قولِه تعالى ﴿قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ ولذلكَ وَقَعا وصفينِ للنكرةِ ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي قال هود وقد قرئ كذلك وقرئ قُلْ وهُو ردٌّ عليهم أي ليس الأمرُ كذلك بلْ هُو ﴿مَا استعجلتم بِهِ﴾ من العذابِ ﴿رِيحٌ﴾ بدل من ما أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ ﴿فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ صفةٌ لريحٌ وكذا قولُه تعالى
86
﴿تُدَمّرُ﴾ أي تهلكُ ﴿كُلّ شَىْء﴾ من نفوسهم وأموالهم ﴿بأمر ربها﴾ وقرئ يدمر كل شئ من دمَّر دماراً إذا هلكَ فالعائدُ إلى الموصوفِ محذوفٌ أو هو الهاءُ في ربِّها ويجوزُ أنْ يكون استئنافاً وأرادا لبيانِ أنَّ لكلَّ ممكنٍ فناءً مقضياً منوطاً بأمرِ بارئهِ وتكونُ الهاءُ لكلِّ شئ لكونِه بمعنى الأشياءِ وفي ذكرِ الأمرِ والربِّ والإضافةِ إلى الريحِ من الدِلالة على عظمةِ شأنِه عزَّ وجلَّ ما لا يَخْفى والفاءُ في قوله تعالى ﴿فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم﴾ فصيحةٌ أي فجاءتْهُم الريحُ فدمرتْهُم فأصبحُوا بحيثُ لا يرى إلا مساكنهم وقرئ تَرَى بالتاءِ ونصبِ مساكنُهم خطابا لكل أحد يتأنى منه الرؤيةُ تنبيهاً على أنَّ حالَهُم بحيثُ لو حضرَ كلُّ أحدٍ بلادَهُم لا يَرَى فيها إلا مساكنَهُم ﴿كذلك﴾ أي مثلَ ذلكَ الجزاء الفظيعِ ﴿نَجْزِي القوم المجرمين﴾ وقد مرَّ تفصيلُ القصةِ في سورةِ الأعرافِ وقد رُويَ أنَّ الريحَ كانتْ تحملُ الفُسطاطَ والظَّعينةَ فترفعُها في الجوِّ حتى تُرى كأنَّها جرادةٌ قيلَ أولُ من أبصرَ العذابَ امرأةٌ منُهم قالتْ رأيتُ ريحاً فيها كشهبِ النَّارِ ورُويَ أنَّ أولَ ما عرفُوا به أنَّه عذابٌ ما رأوا ما كانَ في الصحراءِ من رحالِهم ومواشيهم تطيرُ بها الريحُ بينَ السماءِ والأرضِ فدخلُوا بيوتَهم وغلَّقوا أبوابَهم فقلعتِ الريحُ الأبوابَ وصرعَتْهم فأمالَ الله تعالى الأحقافَ فكانُوا تحتَها سبعَ ليالٍ وثمانيةَ أيامٍ لهم أنينٌ ثم كشفتِ الريحُ عنهُم فاحتملتهم فطرحتْهُم في البحرِ ورُوِيَ أنَّ هُوداً عليهِ السَّلامُ لمَّا أحسَّ بالريحِ خطَّ على نفسِه وعلى المؤمنين خطا إلى جنب عين نبع وعن ابن عباس رضي الله عنهُمَا اعتزلَ هودٌ ومن معَهُ في حظيرةِ ما يصيبُهم من الريحِ إلا ما يلينُ على الجُلودِ وتلذه الأنفسُ وإنَّها لتمرُّ من عادٍ بالظعنِ بين بينَ السماءِ والأرضِ وتدمغُهم بالحجارةِ
﴿وَلَقَدْ مكناهم﴾ أي قررنَا عاداً أو أقدرنَاهُم وما في قولِه تعالى ﴿فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ﴾ موصولةٌ أو موصوفةٌ وأنْ نافيةٌ أيْ في الذِي أو فى شئ ما مكنَّاكُم فيهِ من السَّعةِ والبسطةِ وطولِ الأعمار وسائرِ مبادِيِ التصرفاتِ كَما في قوله تعالى ﴿ألم يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مكناهم فِى الأرض مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ﴾ وممَّا يُحسِّنُ
86
} ٧ ٢٨
موقعَ إنْ هَهُنا التَّفَصِّي عن تكرار لفظةِ مَا وهُو الدَّاعِي إلى قلبِ ألِفها هاءً في مَهْمَا وجعلُها شرطيةً أو زائدةً مِمَّا لاَ يليقُ بالمقامِ ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً﴾ ليستعملُوهَا فيمَا خُلقتْ لهُ ويعرفُوا بكل منها ما بيطت بهِ معرفتُه من فنونِ النعمِ ويستدلُّوا بها على شؤن منعهما عزَّ وجلَّ ويداومُوا على شُكرِه ﴿فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ﴾ حيثُ لم يستعملُوه في استماعِ الوَحي ومواعظِ الرسلِ ﴿وَلاَ أبصارهم﴾ حيثُ لم يجتلُوا بها الآياتِ التكوينيةِ المنصوبةِ في صحائفِ العلم ﴿وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ﴾ حيثُ لم يستعملُوها في معرفةِ الله تعالَى ﴿مِن شَىْء﴾ أي شيئاً من الإغناءِ ومِنْ مزيدةٌ للتأكيدِ وقولُه تعالى ﴿إذ كانوا يجحدون بآيات الله﴾ متعلقٌ بما أَغْنَى وهو ظرفٌ جَرَى مجرى التعليلِ من حيثُ أنَّ الحكمَ مرتبٌ على ما أضيفَ إليهِ فإنَّ قولَكَ أكرمتُه إذ أكرمنِي في قوةِ قولِك أكرمته لإكرامه أذا أكرمتَهُ وقتَ إكرامِه فإنَّما أكرمْتَه فيه لوجودِ إكرامه فيه كذا الحالُ في حيثُ ﴿وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون﴾ من العذابِ الذي كانُوا يستعجلونَهُ بطريقِ الاستهزاءِ ويقولونَ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كنتَ من الصادقينَ
87
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ﴾ يا أهلَ مكةَ ﴿مّنَ القرى﴾ كحِجْرِ ثمودٍ وقُرى قومِ لوطٍ ﴿وَصَرَّفْنَا الأيات﴾ كررنَاها لَهُم ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لكيْ يرجعُوا عمَّا هُم فيه من الكفر والمعاصي
﴿فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قربانا آلهة﴾ القُربانُ ما يُتقرَّب بهِ إلى الله تعالَى وأحدُ مفعولَيْ اتخذُوا ضميرُ الموصولِ المحذوفِ والثانِي آلهةً وقرباناً حالٌ والتقديرُ فهلاَّ نصرهُم وخلَّصُهم من العذابِ الذين اتخذُوهم آلهةً حالَ كونِها متقرَّباً بَها إلى الله تعالَى حيثُ كانُوا يقولونَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زلفى هَؤُلاء شفعاؤُنا عِندَ الله وفيه تهكمٌ بهم ولا مساغَ لجعلِ قرباناً مفعولاً ثانياً آلهة بدلاً منه لفسادِ المَعْنى فإنَّ البدلَ وإنْ كانَ هو المقصودَ لكنَّه لا بُدَّ في غيرِ بدلِ الغلطِ من صحةِ المَعْنى فإنَّ البدلَ وإنْ كانَ هو المقصود فلا بُدَّ في غيرِ بدلِ الغلطِ من صحةِ المَعْنى بدونِه ولا ريبَ في أنَّ قولَنا اتخذوهُم من دونِ الله قُرباناً أي متقربا به ما لا صِحةَ لهُ قطعاً لأنَّه تعالَى متقرَّبٌ إليهِ لا متقرَّبٌ بهِ فلا يصحُّ أنَّهم اتخذُوهم قرباناً متجاوزينَ الله في ذلك وقرئ قُرُباناً بضمِّ الراءِ ﴿بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ﴾ أي غابُوا عنْهم وفيه تهكمٌ آخرُ بهم كأنَّ عدمَ نصرِهم لغيبتهم أوضاعوا عنُهم أي ظهرَ ضياعُهم عنهم بالكُليَّةِ وقيل امتنعَ نصرُهم امتناعَ نصرِ الغائبِ عن المنصورِ ﴿وَذَلِكَ﴾ أي ضياعُ آلهتِهم عنُهم وامتناعُ نصرِهم ﴿إِفْكِهِمْ﴾ أيْ أثرُ إفكِهم الذي هُو اتِّخاذُهم إيَّاهَا آلهةً ونتيجةُ شركِهم وقرئ أفَكُهم وكلاهُما مصدرٌ كالحِذْرِ والحذر وقرئ أَفَكَهُم على صيغةِ الماضِي فذلكَ إشارةٌ حينئذٍ إلى الاتخاذِ أيْ وذلكَ الاتخاذُ الذى هو ثمرتُه وعاقبتُه صرفَهُم عن الحق وقرئ أَفَّكَهُم بالتشديدِ للمبالغةِ وآفَكَهُم من الأفعالِ أي جعلهم آفكين وقرئ آفِكُهُم على صيغةِ اسمِ الفاعلِ مضافاً إلى ضميرِهم أى قولهم الإفكِ كما يقالُ قولٌ كاذبٌ ﴿وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾ عطفٌ على
87
} ٩ ٣٠
إفكُهم أي وأثرُ افترائِهم على الله أو أثرُ ما كانُوا يفترونه عليه تعالى وقرئ وذلك إفكٌ مما كانوا يفترون أي بعض مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ من الإفكِ
88
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن﴾ أمَلْناهم إليكَ وأفبلنا بهم نحوك وقرئ صرَّفَنا بالتشديدِ للتكثيرِ لأنَّهم جماعةٌ وهُو السرُّ في جمعِ الضَّمير في قولِه تعالى ﴿يستمعون القرآن﴾ وما بعدَهُ وهو حالٌ مقدرةٌ من نفراً لتخصصِه بالصفةِ أو صفةٌ أُخرى لَه أي واذكُر لقومِكَ وقتَ صَرَفنا إليكَ نفراً كائناً من الجنِّ مقدَّراً استماعَهم القُرانَ ﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُ﴾ أي القرآنَ عند تلاوتهِ أو الرسولَ عند تلاوتِه له على الالتفاتِ والأولُ هو الأظهرُ ﴿قَالُواْ﴾ أي قالَ بعضُهم لبعضٍ ﴿أَنصِتُواْ﴾ أى استكنوا لنسمعهُ ﴿فَلَمَّا قُضِىَ﴾ أُتمَّ وفرغ عن تلاوته وقرئ على البناءِ للفاعلِ وهو ضمير الرسول عليه الصلاة والسلام وهذا يؤيد ضميرِ حضروه إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامِ ﴿وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ مقدِّرينَ إنذارَهُم عند رجوعهم إليهم وروى أنَّ الجِنَّ كانتْ تسترق السمعَ فلما حُرستِ السماءُ ورُجموا بالشهبِ قَالُواْ مَا هَذا إِلاَّ لنبأٍ حدثَ فنهضَ سبعةُ نفرٍ أو ستةُ نفرٍ من أشرافِ جنِّ نصيبينَ أو نِينَوى منُهم زوبعةُ فضربُوا حتى بلغو تِهامةَ ثم اندفعُوا إلى وادِي نخلةَ فوافَوا رسولَ الله ﷺ وهو قائمٌ في جوفِ الليلِ يُصلِّي أو في صلاةِ الفجرِ فاستمعُوا لقراءتِه وذلكَ عند منصرفِه من الطائفِ وعن سعيدِ بنِ جُبيرٍ ما قرأَ رسولُ الله ﷺ على الجِنِّ ولا رآهُم وإنما كان يتلوا في صلاتِه فمرُّوا به فوقفُوا مستمعينَ وهو لا يشعرُ بهم فأنبأهُ الله تعالَى باستماعِهم وقيلَ بلْ أمرَهُ الله تعالى أنْ ينذرَ الجنَّ ويقرأَ عليهمِ فصرفَ إليه نَفَراً منهم جمعَهُم له فقالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنِّي أُمرتُ أنْ أقرأَ على الجنِّ اليلة فمن يتبعُني قالَها ثلاثاً فأطرقُوا إلا عبدَ اللَّهِ بنَ مسعودٍ رضيَ الله عنْهُ قالَ فانطلقنَا حتَّى إذَا كُنَّا بأعلى مكةَ في شِعب الجحونِ خطَّ لي خطَّاً فقالَ لا تخرجْ منه حتَّى أعودَ إليكَ ثم افتتحَ القرآنَ وسمعتُ لغطاً شديداً حتَّى خفتُ على رسولِ الله ﷺ وغشيْتُه أسودةٌ كثيرة حالتْ بيني وبينَهُ حتى ما أسمعُ صوتَهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ثم انقطعُوا كقطعِ السحابِ فقالَ لي رسولُ الله ﷺ هلْ رأيتَ شيئاً قلتُ نعم رجالاً سُوداً مستشعرِي ثيابٍ بيضٍ فقالَ أولئكَ جنُّ نَصيبينَ وكانُوا اثني عشرَ ألفاً والسورةُ التي قراها عليهم افرأ باسمِ ربِّك
﴿قَالُواْ﴾ أي عندَ رجوعِهم إلى قومهم ﴿يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى﴾ قيلَ قالُوه لأنَّهم كانُوا على اليهوديةِ وعنِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أن الجنَّ لم تكُن سمعت بأمرِ عِيْسَى عليه السَّلامُ ﴿مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أرادُوا به التوراةَ ﴿يَهْدِى إِلَى الحق﴾ من العقائدِ الصحيحةِ ﴿وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ مُوصلٍ إليهِ وهُو الشَّرائعُ والأعمال الصالحة
88
} ١ ٣ {
89
﴿يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به﴾ أراردوا به ما سمعُوه من الكتابِ وصفُوه بالدَّعوةِ إلى الله تعالى بعدما وصفُوه بالهدايةِ إلى الحقِّ والصراطِ المستقيمِ لتلازمِهما دَعَوهم إلى ذلكَ بعدَ بيانِ حقِّيتِه واستقامتِه ترغيباً لهم في الإجابةِ ثم أكَّدُوه بقولِهم ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذنوبكم﴾ أي بعض ذنوبكم وهو ما كانَ في خالصِ حقِّ الله تعالى فإنَّ حقوقَ العبادِ لا تُغفرُ بالإيمانِ ﴿وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ معدَ للكفرةِ واختُلفَ في أنَّ لهم أجرا غير هذا أولا والأظهرُ أنَّهم في حُكمِ بن آدمَ ثواباً وعقاباً وقولُه تعالى
﴿وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض﴾ إيجابٌ للإجابةِ بطريقِ الترهيبِ إثرَ إيجابِها بطريقِ الترغيبِ وتحقيقٌ لكونهم منذرينَ وإظهار دعى الله من غيرِ اكتفاءٍ بأحدِ الضميرينِ للمبالغةِ في الإيجابِ بزيادةِ التقريرِ وتربيةِ المهابةِ وإدخالِ الرَّوعةِ وتقييدُ الإعجازِ بكونِه في الأرضِ لتوسيعِ الدائرةِ أي فليسَ بمعجزٍ له تعالى بالهربِ وإن هربَ كلَّ مهربٍ من أقطارِها أو دخلَ في أعماقِها وقولُه تعالى ﴿وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ بيانٌ لاستحالةِ نجاتِه بواسطةِ الغيرِ إثرَ بيانِ استحالةِ نجاتِه بنفسهِ وجمعُ الأولياءِ باعتبارِ مَعْنى مَنْ فيكون من بابا مقابلةِ الجمع بالجمعِ لانقسامِ الآحادِ إلى الآحادِ كما منا أن الجمع في ق تعالى ﴿أولئك﴾ بذلكَ الاعتبارِ أى أولئك الموصوفون بعدم إجابةِ داعِي الله ﴿فِى ضلال مُّبِينٍ﴾ أي ظاهرٌ كونُه ضلالاً بحيثُ لا يخفى على أحد أعرضُوا عن إجابةِ مَنْ هَذا شأنُه
﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ﴾ الهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدرٍ يستدعيهِ المقامُ والرؤيةُ قلبيةٌ أيْ ألم يتفكَّروا ولم يعلمُوا علماً جازماً مُتاخِماً للمشاهدةِ والعيانِ ﴿أَنَّ الله الذى خلق السماوات والأرض﴾ ابتداءً من غيرِ مثال بجتذيه ولا قانون بنتحيه ﴿وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ﴾ أي لم يتعبْ ولم ينصَبْ بذلك أصلاً أو لم يعجزْ عنهُ يقالُ عييتُ بالأمرِ إذا لم يُعرفْ وجَههُ وقولُه تعالى ﴿بِقَادِرٍ﴾ في حيزِ الرفعِ لأنَّه خبرُ أنَّ كما ينبىءُ عنْهُ القراءةُ بغيرِ باءٍ ووجُه دخولِها في القراءةِ الأُولى اشتمالُ النفيِّ الواردِ في صدرِ الآيةِ على أنَّ وَمَا في حيزِها كأنَّه قيلَ أو ليسَ الله بقادجر ﴿على أَن يُحْيِىَ الموتى﴾ ولذلكَ أجيبَ عنه بقولِه تعالى ﴿بلى أَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ﴾ تقريراً للقدرةِ على وجهٍ عامَ يكونُ كالبرهانِ على المقصودِ
89
} ٤ ٣٥
90
﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار﴾ ظرفٌ عاملُه قولٌ مضمرٌ مقولُه ﴿أَلَيْسَ هذا بالحق﴾ على أنَّ الإشارةَ إلى ما يشاهدونَهُ حينئذٍ من حيثُ هو من غير أن يخطر بالبالِ لفظٌ يدلُّ عليهِ فضلا عن تذكيره وتأنيثه إذ هُو اللائق بتهويلهِ وتفخيمِه وقد مرَّ في سورةِ الأحزابِ وقيل هيَ إلى العذابِ وفيه تهكمٌ بهم وتوبيخٌ لهم على استهزائِهم بوعدِ الله ووعيدِه وقولِهم وما نحنُ بمعذبينَ ﴿قالوا بلى وربنا﴾ أكد جوابَهُم بالقسمِ كأنَّهم يطمعونَ في الخلاصِ بالاعترافِ بحقِّيتها كما في الدُّنيا وأنَّى لهُم ذلكَ ﴿قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ بها في الدُّنيا ومَعْنى الأمرِ الإهانةُ بهم والتوبيخُ لهم والفاءُ في قولِه تعالى
﴿فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل﴾ جوابُ شرطٍ محذوفٍ أيْ إذا كان عاقبةُ أمرِ الكفرةِ ما ذُكِرَ فاصبرْ على ما يصيبكَ من جهتِهم كما صبر أولوا الثباتِ والحزمِ من الرسلِ فإنكَ من جُمْلتِهم بل من علْيتِهم ومِنْ للتبيينِ والمرادُ بأُولي العزمِ أصحابُ الشرائعِ الذينَ اجتهدُوا في تأسيسِها وتقريرِها وصبرُوا على تحملِ مشاقِّها ومعاداةِ الطاعنينَ فيَها ومشاهيرُهُم نُّوحٍ وإبراهيمُ وموسى وَعِيسَى عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيلَ هم الصابرونَ على بلاءِ الله كنوحٍ صبرَ على أذيةِ قومِه كانُوا يضربونَهُ حتى يُغشَى عليهِ وإبراهيمُ صبرَ على النَّارِ وعلى ذبحِ ولدِه والذبيحُ على الذبحِ ويعقوبُ على فقدِ الولدِ والبصرِ ويوسفُ على الجُبِّ والسجنِ وأيوبُ على الضُرِّ ومُوسى قال له قومُه إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ وداودُ بكى على خطيئتِه أربعينَ سنةً وعيْسَى لم يضع لبنةً على لبنةٍ صلواتُ الله تعالَى عليهم أجمعينَ ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ أي لكُفَّارِ مكةَ بالعذابِ فإنَّه على شرفِ النزولِ بهم ﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذابِ ﴿لَّمْ يَلْبَثُواْ﴾ في الدُّنيا ﴿إِلاَّ سَاعَةً﴾ يسيرةً ﴿مّن نَّهَارٍ﴾ لما يشاهدونَ من شدةِ العذابِ وطولِ مدتهِ وقولُه تعالى ﴿بَلاَغٌ﴾ خبرٌ مبتدأٍ محذوفٍ أي هَذا الذي وُعظتم بهِ كفايةٌ في الموعظةِ أو تبليغٌ من الرسول ويؤيده أنه قرئ بلغ وقرئ بلاغاً أي بلغُوا بلاغاً ﴿فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون﴾ أي الخارجونَ عن الاتعاظ به أو عن الطاعة وقرئ بفتحِ الياءِ وكسرِ اللامِ وبفتحِهما منْ هَلِكَ وهَلَكَ وبنون العظمة من الإهلاكِ ونصبِ القومِ ووصفه عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ الأحقافِ كُتبَ له عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ رملة فى الدنيا
90
سورة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

} ﴿
سورة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم وتسمى سورة القتال وهى مدنية وقيل مكية وآياتها ثمان وثلاثون
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
91
Icon