هي ثماني آيات، وهي مكية في قول الجمهور، وروى القرطبي عن ابن عباس أنها مدنية، ويخالف هذه الرواية ما أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال : أنزلت سورة التين بمكة، وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم عن البراء بن عازب " قال : كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فصلى العشاء فقرأ في إحدى الركعتين بالتين والزيتون فما سمعت أحدا أحسن صوتا ولا قراءة منه ".
وعنه قال :" صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب فقرأ بالتين " أخرجه الخطيب، وعن عبد الله بن يزيد نحوه عند الطبراني وابن شيبة.
وعن زرعة بن خليفة قال :" أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليمامة فعرض علينا الإسلام فأسلمنا فلما صلينا الغداة قرأ بالتين والزيتون وإنا أنزلناه في ليلة القدر " وأخرجه ابن قانع وابن الساكن والشيرازي في الألقاب.
ﰡ
قال كثير من أهل الطب: إن التين أنفع الفواكه للبدن وأكثرها غذاء، وذكروا له فوائد كما في كتب المفردات والمركبات وهو غذاء ودواء.
أما كونه غذاء فالأطباء زعموا أنه طعام لطيف سريع الهضم لا يمكث في المعدة يلين الطبع ويخرج بطريق الرشح، ويقلل البلغم ويطهر الكليتين ويزيل ما في المثانة من الرمل، ويسمن البدن، ويفتح مسام الكبد وسدده والطحال ويقطع البواسير، ويزيل نكهة الفم، ويطول الشعر، وهو أمان من الفالج.
وأما كونه دواء فلأنه سبب في إخراج فضلات البدن وهو مأكول الظاهر والباطن دون غيره كالجوز والتمر.
والتين في النوم رجل غير جبار، ومن نالها في المنام نال مالاً ومن أكلها مناماً رزقه الله أولاداً، وتستر آدم بورق التين حين فارق الجنة، ويشبه فواكه الجنة لأنه بلا عجم وفاكهة طيبة لا فضل له ينفع من النقرس.
وقال الضحاك: التين المسجد الحرام، وقيل: مسجد أصحاب الكهف، وقال ابن زيد: مسجد دمشق، وقال قتادة التين الجبل الذي عليه
(والزيتون) وهو الذي يعصرون منه الزيت الذي هو إدام غالب البلدان ودهنهم ويدخل في كثير من الأدوية، وقال الضحاك المسجد الأقصى، وقال ابن زيد مسجد بيت المقدس، وقال قتادة الجبل الذي عليه بيت المقدس، وقال عكرمة وكعب الأحبار بيت المقدس، وعن ابن عباس قال بلاد فلسطين وفي سنده مجهول، وقال أيضاًً بيت المقدس.
وليت شعري ما الحامل لهؤلاء الأئمة على العدول عن المعنى الحقيقي في اللغة العربية والعدول إلى هذه التفسيرات البعيدة عن المعنى، المبنية على خيالات لا ترجع إلى عقل ونقل، وأعجب من هذا اختيار ابن جرير للآخر منها مع طول باعه في علم الرواية والدراية، قال الفراء؛ سمعت رجلاً يقول التين جبال حلوان إلى همدان، والزيتون جبال الشام.
قلت هب إنك سمعت هذا الرجل فكان ماذا، فليس بمثل هذا تثبت اللغة، ولا هو نقل عن الشارع، وقال محمد بن كعب الزيتون مسجد إيليا، وقيل إنه على حذف مضاف أي ومنابت التين والزيتون، قال النحاس لا دليل على هذا من ظاهر التنزيل ولا من قول من لا يجوز خلافه.
قال الرازي أما الزيتون فهو فاكهة من وجه ودواء من وجه، ويستصبح به، ومن رأى ورق الزيتون في المنام استمسك بالعروة الوثقى.
وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدسة كما في قوله (إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) وأعظم بركة حلت به ووقعت عليه تكليم الله لموسى عليه السلام، قرأ الجمهور سينين بكسر السين وقرىء بفتحها وهي لغة بكر وتميم، وقرىء سيناء بالكسر والمد، وهذه لغات اختلفت في هذا الإسم السرياني على عادة العرب في تلاعبها بالأسماء العجمية.
_________
(١) قال ابن كثير: وقال بعض الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأول محلة التين والزيتون، وهي بيت الممَدس التي بعث الله فيها عيسى بن مريم عليه السلام، والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن عمران، والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسل فيه محمداً - ﷺ -، قالوا: وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة: جاء الله في طور سيناء -يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران- وأشرق من ساعير -يعني جبل بيت المقدس الذي بعث الله منه عيسى،- واستعلن من جبال فاران -يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً - ﷺ -، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبهم في الزمان، ولهذا أقسم بالأشرف، ثم الأشرف منه، ثم الأشرف منهما.
قال الواحدي قال المفسرون: إن الله خلق كل ذي روح مكباً على وجهه إلا الإنسان خلقه مديد القامة يتناول مأكوله بيده، مزيناً بالعلم والفهم
قال القرطبي هو اعتداله واستواء شأنه، كذا قال عامة المفسرين، قال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان فإن الله خلقه حياً عالماً قادراً مريداً متكلماً سميعاً بصيراً مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه وعليها حمل بعض العلماء قوله صلى الله عليه وآله وسلم " إن الله خلق آدم على صورته " يعني على صفاته التي تقدم ذكرها.
قلت وينبغي أن يضم إلى كلامه هذا قوله سبحانه (ليس كمثله شيء) وقوله (ولا يحيطون به علماً).
ومن أراد أن يقف على حقيقة ما اشتمل عليه الإنسان من بديع الخلق وعجيب الصنع فلينظر في كتاب العبر والإعتبار للجاحظ، وفي الكتاب الذي عنده النيسابوري على قوله (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) وهو في مجلدين ضخمين.
روي أن رجلاً قال لامرأته إن لم تكوني أحسن من القمر فأنت طالق فأفتى بعض أهل العلم بأنها صارت مطلقة، وقال الشافعي لم تطلق لأنها من جنس الإنسان، والله تعالى يقول (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم) فلو كان القمر أحسن صورة من الإنسان لم يصفه الله سبحانه بأحسن تقويم، ولنعم ما قيل:
ما أنت مادحها يا من يشبهها | بالشمس والبدر لا بل أنت هاجيها (١) |
من أين للشمس خال فوق وجنتها | ومضحك من نظام الدر في فيها |
من أين للبدر أجفان مكحلة | بالسحر والغنج تجري في حواشيها |
(١) البيت من شواهد الفراء (٣٧١)، وهو في الطبري ٣٠/ ٢٤١، والقرطبي ٢٠/ ١١٣.
وقال مجاهد وأبو العالية والحسن: المعنى ثم رددنا الكافر إلى النار، وذلك أن النار درجات بعضها أسفل من بعض فالكافر يرد إلى أسفل الدرجات السافلة، ولا ينافي هذا قوله تعالى (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار) فلا مانع من كون الكفار والمنافقين مجتمعين في ذلك الدرك الأسفل.
وقوله أسفل سافلين إما حال من المفعول أي رددناه حال كونه أسفل سافلين أو صفة لمقدر محذوف أي مكاناً أسفل سافلين.
وقال الشهاب الإستثناء منقطع لأنه لم يقصد إخراجهم من الحكم وهو مدار الاتصال والانقطاع كما صرح به في الأصول لا الخروج والدخول كما توهم، فلا يرد عليه أنه كيف يكون منقطعاً مع أنهم مردودون أيضاًً فهو للإستدراك لدفع ما يتوهم من أن التساوي في أرذل العمر يقتضي التساوي في غيره، ويكون (الذين) حينئذ مبتدأ والفاء داخلة في خبره لا للتفريع كما في الإتصال، وقيل المعنى رددناه إلى الضلال كما قال (إن الإنسان لفي خسر إلا
(فلهم أجر غير ممنون) أي غير مقطوع فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم. فهذه الجملة على القول الأول مبينة لكيفية حال المؤمنين، وعلى الثاني مقررة لا يفيده الإستثناء من خروج المؤمنين عن حكم الرد.
قال ابن عباس في الآية أجر غير منقوص، يقول فإذا بلغ المؤمن أرذل العمر وكان يعمل في شبابه عملاً صالحاً كتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته وشبابه ولم يضره ما عمل في كبره، ولم تكتب عليه الخطايا التي يعمل بعد ما يبلغ أرذل العمر، وعنه قال من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر. وذلك قوله (ثم رددناه -إلى قوله- الصالحات) قال لا يكون حتى لا يعلم من بعد علم شيئاًً، وعنه قال يقول إلى الكبر وضعفه فإذا كبر وضعف عن العمل كتب له مثل أجر ما كان يعمل في شبيبته. وأخرج أحمد والبخاري وغيرهما عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ " إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له من الأجر مثل ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ".
وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي أي شيء يكذبك يا محمد بعد ظهور هذه الدلائل الناطقة فاستيقن مع ما جاءك من الله أنه أحكم الحاكمين، وإلى هذا ذهب القاضى وقدمه على القول الأول.
قال الفراء المعنى فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا البيان بالدين كأنه قال من يقدر على ذلك أي على تكذيبك بالثواب والعقاب بعد ما ظهر من
وعن أبي هريرة مرفوعاً " من قرأ والتين والزيتون فقرأ أليس الله بأحكم الحاكمين فليقل: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " أخرجه الترمذي وابن مردويه.
وعن جابر مرفوعاً " إذا قرأت التين فقرأت أليس الله الخ فقل بلى " أخرجه ابن مردويه وعن ابن عباس " أنه كان إذا قرأ الآية قال: سبحانك اللهم فبلى " أخرجه ابن جرير وابن المنذر.
ويقال لها سورة العلق وسورة القلم، وهي تسع عشرة آية وقيل عشرون آية، وهي مكية بلا خلاف وهي أول ما نزل من القرآن، قاله ابن عباس وعن أبي موسى الأشعري قال هي أول سورة أنزلت على محمد - ﷺ - وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - نحوه.
ويدل على هذا الحديث الطويل الثابت في البخاري ومسلم وغيرهما من حديثها وفيه: فجاءه الحق وهو في غار حراء فقال له الملك اقرأ. الحديث، وفي الباب أحاديث وآثار عن جماعة من الصحابة، وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه السورة أول ما نزل من القرآن ثم بعده نون والقلم ثم المزمل ثم المدثر إلى آخر ما ذكره الخازن في أول تفسيره، فإنه استوفى الكلام على ترتيب السورة من جهة النزول بمكة ثم بالمدينة.
قال القاضي أبو بكر بن الطيب ترتيب السور على ما هي عليه اليوم في المصحف كان على وجه الاجتهاد من الصحابة، وذكر
وقال قوم أن ترتيب السورة عن توقيف من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأما ما روي من اختلاف مصحف أبيّ وعلي وعبد الله فإنما كان قبل عرض القرآن على جبريل في المرة الأخيرة وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك.
روى يونس عن ابن وهب قال سمعت مالكاً يقول إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وذكر أبو بكر ابن الأنباري في كتاب الرد أن الله أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا ثم فرقه على النبي - ﷺ - في عشرين سنة، فكانت السورة تنزل في أمر يحدث، والآية تنزل جواباً لمستخبر يسأل ويوقف جبريل النبي - ﷺ - على موضع السورة والآية، فانتظام السور كانتظام الآيات والحروف فكله عن رسول الله خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام عن رب العالمين، فمن أخر سورة مقدمة أو قدم أخرى مؤخرة كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام نزلت قبل البقرة لأن رسول الله - ﷺ - أخذ عنه هذا الترتيب وهو كان يقول " ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن " وكان جبريل -عليه السلام- يوقفه على مكان الآيات، انتهى.
بسم الله الرحمن الرحيم
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)