تفسير سورة الفيل

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

سُورَةُ الْفِيل
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ.
اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى السِّجِّيلِ هُنَا.
فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ السِّجِّينُ، أَبُدِلَتِ النُّونُ لَامًا، وَالسِّجِّينُ النَّارُ.
وَقِيلَ: إِنَّ السِّجِّيلَ مِنَ السِّجِّلِّ، كَأَنَّهُ عَلَمٌ لِلدِّيوَانِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ عَذَابُ الْكُفَّارِ، كَمَا أَنَّ سِجِّينًا لِدِيوَانِ أَعْمَالِهِمْ وَاشْتِقَاقِهِ مِنَ الْإِسْجَالِ وَهُوَ الْإِرْسَالُ، وَمِنْهُ السِّجِّلُّ الدَّلْوُ الْمَمْلُوءُ مَاءً، وَهِيَ حِجَارَةٌ مُرْسَلَةٌ لِقَوْلِهِ: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ سِجِّينًا، عَنِ الدِّيوَانِ أَعْمَالُهُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ [٨٣ ٧].
وَقِيلَ: مَعْنَى سِجِّيلٍ سِتْكٌ وَطِينٌ، يَعْنِي بَعْضَ حَجَرٍ وَبَعْضَ طِينٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الشَّدِيدُ.
وَقِيلَ: السِّجِّيلُ اسْمٌ لِسَمَاءِ الدُّنْيَا.
وَتَقَدَّمَ لِلشِّيخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ، تَرْجِيحُ أَنَّهَا مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ.
وَهَذَا مَا يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ لِمَا فِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ: قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [٥١ ٣٢ - ٣٤] فَنَصَّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ طِينٍ.
وَالْحِجَارَةُ مِنَ الطِّينِ: هِيَ الْآجُرُّ وَهُوَ الطِّينُ الْمَطْبُوخُ حَتَّى يَتَحَجَّرَ.
وَجَاءَ النَّصُّ الْآخَرُ أَنَّهَا مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُوضٍ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ [١١ ٨٢]
103
وَقِيلَ فِيهَا: كَالْحِمِّصَةِ وَالْعَدَسَةِ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِمْ رَاجِعٌ لِأَصْحَابِ الْفِيلِ، وَقِصَّتُهُمْ طَوِيلَةٌ مَشْهُورَةٌ.
تَنْبِيهٌ
قَدْ أَوْرَدْنَا نُصُوصَ مَعْنَى سِجِّيلٍ، وَتَرْجِيحَ الشَّيْخِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَيْهِ: أَنَّهَا حِجَارَةٌ مِنْ طِينٍ شَدِيدِ الْقُوَّةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا قِيلَ مِنِ اسْتِبْعَادِ ذَلِكَ، وَرَدًّا عَلَى مَنْ صَرَفَ مَعْنَاهَا إِلَى غَيْرِ الْحِجَارَةِ الْمَحْسُوسَةِ.
أَمَّا مَنِ اسْتَبْعَدَهَا، فَقَدْ حَكَاهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: لَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فِي الْحِجَارَةِ الَّتِي تَكُونُ مِثْلَ الْعَدَسَةِ مِنَ الثِّقْلِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ مِنْ رَأْسِ الْإِنْسَانِ وَيَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهِ، لَجَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ الْجَبَلُ الْعَظِيمُ خَالِيًا عَنِ الثِّقَلِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي وَزْنِ التَّبِنَةِ، وَذَلِكَ يَرْفَعُ الْأَمَانَ عَنِ الْمُشَاهَدَاتِ.
فَإِنَّهُ مَتَى جَازَ ذَلِكَ فَلْيَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِنَا شُمُوسٌ وَأَقْمَارٌ، وَلَا نَرَاهَا، وَأَنْ يَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ فِي عَيْنِ الضَّرِيرِ، حَتَّى يَكُونَ هُوَ بِالْمَشْرِقِ، وَيَرَى قِطْعَةً مِنَ الْأَرْضِ بِالْأَنْدَلُسِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي مَذْهَبِنَا، إِلَّا أَنَّ الْعَادَةَ جَارِيَةٌ بِأَنَّهَا لَا تَقَعُ.
وَهَذَا الْقَوْلُ يَحْكِيهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ٦٠٦ سِتِّمِائَةٍ وَسِتٍّ، فَنَرَى اسْتِبْعَادَهُمْ إِيَّاهَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَحْكِيمِ الْعَقْلِ، وَهَذَا بَاطِلٌ ; لِأَنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ دَائِمًا فَوْقَ قَانُونِ الْعَقْلِ، بَلْ إِنَّ تَصَوُّرَاتِ الْعَقْلِ نَفْسِهِ مَنْشَؤُهَا مِنْ تَصَوُّرَاتِنَا لِمَا نُشَاهِدُهُ.
وَإِذَا حُدِّثَ الْعَقْلُ بِمَا لَمْ يَشْهَدْهُ أَوْ يَعْلَمْ كُنْهَ وُجُودِهِ لَاسْتَبْعَدَهُ كَمَا هُوَ فِي وَاقِعِنَا الْيَوْمَ، لَوْ حُدِّثَتْ بِهِ الْعُقُولُ سَابِقًا مِنْ نَقْلِ الْحَدِيثِ، وَالصُّورَةِ عَلَى الْأَثِيرِ، وَتَوْجِيهِ الطَّائِرَاتِ وَأَمْثَالِهَا، لَمَا قَوِيَ عَلَى تَصَوُّرِهَا لِأَنَّهَا فَوْقَ نِطَاقِ مَحْسُوسَاتِهِ وَمُشَاهَدَاتِهِ.
وَحَتَّى نَحْنُ لَوْ لَمْ يُسَايِرْهَا مَنْ عَلِمَ بِمَا يَحْمِلُهُ الْأَثِيرُ مِنْ تَيَّارٍ كَهْرَبَائِيٍّ، وَمَا لَهُ مَنْ دَوْرٍ فَعَّالٍ فِي ذَلِكَ لَمَا أَمْكَنَنَا تَصَوُّرُهُ.
ثُمَّ مَنْ يَمْنَعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَنَّ تِلْكَ الْجِبَالَ سَيَأْتِي يَوْمٌ تَكُونُ فِيهِ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ أَخَفَّ مِنَ التَّبِنَةِ،
104
الَّتِي مَثَّلُوا بِهَا، بَلْ سَتَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠]، فَظَهَرَ بُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ الَّذِي اسْتَبْعَدَهَا لِعَدَمِ إِدْرَاكِ الْعَقْلِ لَهَا.
أَمَّا مَنْ يُؤَوِّلُ هَذَا الْمَعْنَى إِلَى مَعْنًى آخَرَ، فَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ الْمَبْدَأِ، إِلَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ الْأَصْلَ وَفَسَّرَهُ بِمَا يَتَنَاسَبُ وَالْعَقْلَ.
وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنِ الْإِمَامِ مُحَمَّدْ عَبْدُهْ وَتِلْمِيذِهِ السَّيِّدِ رَشِيدْ رِضَا، إِذْ فَسَّرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سِجِّيلٍ، بِأَنَّهُ وَبَاءُ الْجَدَرِيِّ.
وَبِالتَّالِي: فَالطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ: هِيَ الْبَعُوضُ وَمَا أَشْبَهَهُ.
وَقَدِ اعْتَذَرَ لَهُ السَّيِّدْ قُطْبْ: بِأَنَّ الدَّافِعَ لِذَلِكَ هُوَ مَا كَانَ شَائِعًا فِي عَصْرِهِ مِنْ مَوْجَاتٍ مُتَضَارِبَةٍ، مَوْجَةِ انْحِرَافٍ فِي التَّفْكِيرِ نَحْوَ الْإِسْلَامِ وَاسْتِغْلَالِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، كَمِثَالٍ عَلَى مَا يُشْبِهُ الْأَبَاطِيلَ فِي تَشْوِيهِ حَقَائِقِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى طُوفَانٌ عِلْمِيٌّ حَدِيثٌ، مِنْ إِنْتَاجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فَبَدَلًا مِنْ أَنْ تُثْبِتَ حَادِثَةً كَهَذِهِ صُرِفَتْ إِلَى مَا يَأْلَفُهُ الْعَقْلُ مِنْ إِيقَاعِ مَيْكُرُوبِ الْجَدَرِيِّ بِجَيْشِ أَبْرَهَةَ حَتَّى أَهْلَكَهُ، لِكَيْ لَا يَتَصَادَمَ فِي إِثْبَاتِ الْحَادِثَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِوَاقِعِ الْعَقْلِيَّةِ الْعَلْمَانِيَّةِ الْحَدِيثَةِ.
هَذَا مُلَخَّصُ مَا اعْتَذَرَ بِهِ السَّيِّدْ قُطْبْ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ.
وَلَكِنْ مِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالنُّصُوصِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَقَدْ تَقَدَّمَ: أَنَّ الْحِجَارَةَ الَّتِي مِنْ سِجِّيلٍ، جَاءَ النَّصُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ خَاصَّةً بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، بَلْ أُلْقِيَتْ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ، بَعْدَ أَنْ جَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، فَمَا مَوْقِعُ الْجَدَرِيِّ مِنْهُمْ بَعْدَ إِهْلَاكِهِمْ بِإِفْكِهَا الْمَذْكُورَةِ؟
ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا: أَنَّهَا مَنْ طِينٍ، فَأَيْنَ الطِّينُ مِنَ الْجَرَاثِيمِ الْجَدَرِيَّةِ؟
وَمِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ: مِنْ أَيْنَ جِيءَ بِمَكْرُوبِ الْجَدَرِيِّ؟ وَأَيْنَ كَانَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ بِهِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ؟
وَمَتَى كَانَ مَيْكُرُوبُ الْجَدَرِيِّ أَوْ غَيْرُهُ يُمَيِّزُ بَيْنَ قُرَشِيٍّ وَحَبَشِيٍّ؟
وَمَتَى كَانَ أَيُّ مَيْكُرُوبٍ يَفْتِكُ بِقَوْمٍ وَبِسُرْعَةٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ، مَعَ أَنَّ: فَجَعَلَهُمْ، تُشْعِرُ بِالسُّرْعَةِ فِي إِهْلَاكِهِمْ، وَالْعَصْفِ الْيَابِسِ الَّذِي تَعْصِفُ بِهِ الرِّيحُ لِخِفَّتِهِ.
105
وَمَتَى كَانَ وُجُودُ الْجَدَرِيِّ طَفْرَةً وَفُجَاءَةً، إِنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَالَاتٍ فَرْدِيَّةٍ، ثُمَّ يَنْتَشِرُ هَذَا مِنَ النَّاحِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ، وَإِدْرَاكِ الْعَقْلِ، لِمَا عُرِفَ مِنْ مَيْكُرُوبِ الْجَدَرِيِّ.
وَلَكِنَّ مُلَابَسَاتِ الْحَادِثَةِ تَمْنَعُ مِنْ تَصَوُّرِ ذَلِكَ عَقْلًا لِعَدَمِ انْتِشَارِهِ فِي جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمِنْطَقَةِ، وَلِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِعْلًا بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَلِعَدَمِ أَيْضًا تَصَوُّرِ مَجِيئِهِ فُجَاءَةً، فَدَلَّ الْعَقْلُ نَفْسُهُ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
ثُمَّ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى إِذَا رَدَدْنَا خَوَارِقَ الْعَادَاتِ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْعَقْلِ لَهَا، فَكَيْفَ نُثْبِتُ مَثَلَ حَنِينِ الْجِذْعِ، وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَتَسْبِيحِ الْحَصَى فِي كَفِّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ؟
وَقَدْ شَاهَدَ الْعَقْلُ الصُّورَةَ، وَهِيَ خُرُوجُ النَّاقَةِ مِنَ الصَّخْرَةِ لِقَوْمِ صَالِحٍ، بَلْ إِنَّنَا الْآنَ بِالْحِسِّ وَالْعَقْلِ نُشَاهِدُ مَا لَا نُدْرِكُ كُنْهَهُ فِي وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ، وَنَسْمَعُ الصَّوْتَ مِنَ الْجَمَادِ مُسَجَّلًا عَلَى شَرِيطٍ بَسِيطٍ جِدًّا.
فَهَلْ يَنْفِي الْبَاقِي؟ بَلْ كَيْفَ أَثْبَتَ النَّصَارَى لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِبْرَاءَ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ. وَإِحْيَاءَ الْمَوْتَى، وَعَمَلَ الطَّيْرِ مِنَ الطِّينِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ.
وَكَيْفَ أَثْبَتَ الْيَهُودُ لِمُوسَى أَمْرَ الْعَصَا وَشَقَّ الْبَحْرِ؟ وَأَيْنَ الْعَقْلُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ؟
الْوَاقِعُ أَنَّنَا فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَعَ كُلِّ قَضِيَّةٍ، يَجِبُ أَنْ نَلْتَزِمَ جَانِبَ الِاعْتِدَالِ، لَا هُوَ جَرْيٌ وَرَاءَ كُلِّ خَبَرٍ، وَلَوْ كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا وَلَا هُوَ رَدٌّ لِكُلِّ نَصٍّ وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا قُرْآنِيًّا، بَلْ كَمَا قَالَ السَّيِّدْ قُطْبْ فِي ذَلِكَ:
يَجِبُ أَنْ نَسْتَمِدَّ فِكْرَنَا مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّ مَا يُقَرِّرُهُ نَعْتَقِدُهُ وَنَقُولُ بِهِ.
وَقَدْ نَاقَشْنَا هَاتَيْنِ الْفِكْرَتَيْنِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اسْتَبْعَدَتْ ذَلِكَ كُلِّيَّةً، وَالْحَدِيثَةَ الَّتِي أَوَّلَتْهَا.
وَنُضِيفُ شَيْئًا آخَرَ فِي جَانِبِ الْفِكْرَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ لَعَلَّ مِمَّا حَدَا بِأَصْحَابِهَا إِلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: إِنَّهُ لَمْ يُرَ الْجَدَرِيُّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مِثْلَ تِلْكَ السَّنَةِ.
وَقِيلَ أَيْضًا: لَمْ يُرَ شَجَرُ الْحَنْظَلِ، إِلَّا فِي ذَلِكَ التَّارِيخِ.
فَيُقَالُ أَيْضًا: إِنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَبْعِدُ هُنَا أَنْ يَكُونَ إِهْلَاكُ هَذَا الْجَيْشِ الْكَبِيرِ بِتِلْكَ
106
الْحِجَارَةِ فِي مَكَانِ مُعَسْكَرِهِ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَوُقُوعَ الْجُثَثِ مُصَابَةً بِهَا، لَا يُمْنَعُ أَنْ تَتَعَفَّنَ ثُمَّ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا مَكْرُوبَ الْجَدَرِيِّ، وَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ آخَرُ
قَالُوا: إِنَّ أَصْحَابَ هَذَا الْجَيْشِ نَصَارَى وَهُمْ أَهْلُ دِينٍ وَكِتَابٍ، وَأَهْلُ مَكَّةَ وَثَنِيُّونَ لَا دِينَ لَهُمْ، وَالْكَعْبَةُ مُمْتَلِئَةٌ بِالْأَصْنَامِ، فَكَيْفَ أَهْلَكَ اللَّهُ النَّصَارَى أَصْحَابَ الدِّينِ وَلَمْ يُسَلِّطْهُمْ عَلَى الْوَثَنِيِّينَ؟
وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِعِدَّةِ أَجْوِبَةٍ.
مِنْهَا: أَنَّ الْجَيْشَ ظَالِمٌ بَاغٍ، وَالْبَغْيُ مَرْتَعُهُ وَخِيَمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَظْلُومُ أَقَلَّ مِنَ الظَّالِمِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ الْحَدِيثُ «فِي نُصْرَةِ الْمَظْلُومِ، وَاسْتِجَابَةِ دَعْوَتِهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا».
وَمِنْهَا: أَنَّ الْوَثَنِيَّةَ اعْتِدَاءٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَغَزْوَ هَذَا الْجَيْشِ اعْتِدَاءٌ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَمِنْهَا: أَنَّهُ إِرْهَاصٌ لِمَوْلِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ وُلِدَ فِي هَذَا الْعَامِ نَفْسِهِ.
وَكُلُّهَا وَإِنْ كَانَتْ لَهَا وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْدُو لِي وَجْهٌ، وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي نَشْأَةِ الْبَيْتِ وَإِقَامَتِهِ، إِنَّمَا هُوَ اللَّهُ رَفَعَ قَوَاعِدَهُ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ فِي رِحَابِهِ، وَكَانَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا لِلْعَاكِفِينَ فِيهِ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَإِنَّمَا الْوَثَنِيَّةُ طَارِئَةٌ عَلَيْهِ وَإِلَى أَمَدٍ قَصِيرٍ مَدَاهُ وَدَنَا مُنْتَهَاهُ لِدِينٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَسِيحِيَّةُ بِنَفْسِهَا تَعْلَمُ ذَلِكَ وَتَنُصُّ عَلَيْهِ وَتُبَشِّرُ بِهِ، فَكَانَتْ مُعْتَدِيَةً عَلَى الْحَقَّيْنِ مَعًا، حَقِّ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ، وَالَّذِي تَعْلَمُ حُرْمَتَهُ وَمَا لَهُ، وَحَقِّ الْعِبَادِ الَّذِينَ حَوْلَهُ.
وَكَانَتْ لَوْ سُلِّطَتْ عَلَيْهِ بِمَثَابَةِ الْمُنْتَصِرِ عَلَى مَبْدَأٍ صَحِيحٍ مَعَ فَسَادِهَا، مَبْدَأِ صِحَّةِ وَسَلَامَةِ بِنَاءِ الْبَيْتِ، وَوَضْعِهِ، الْبَيْتُ الَّذِي مِنْ خَصَائِصِهِ أَنْ يَكُونَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا.
فَكَيْفَ لَا يَأْمَنُ هُوَ نَفْسُهُ مِنْ غَزْوِ الْغُزَاةِ وَطُغْيَانِ الطُّغَاةِ، فَصَانَهُ اللَّهُ تَعَالَى صِيَانَةً لِمَبْدَأِ وُجُودِهِ، وَحِفَاظًا عَلَى أَصْلِ وَضْعِهِ فِي الْأَرْضِ، وَيَكْفِي نِسْبَتُهُ لِلَّهِ «بَيْتُ اللَّهِ».
وَقَدْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ إِذْ قَالَ لِأَبْرَهَةَ:
107
أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ وَلِلْبَيْتِ رَبٌّ يَحْمِيهِ. وَأَتَى بَابَ الْكَعْبَةِ فَتَعَلَّقَ بِهَا وَقَالَ:
لَاهُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ يَمْـ نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ عَدَدًا يُوَالِكْ
إِنْ يَدْخُلُوا الْبَلَدَ الْحَرَا مَ فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكْ
وَقِيلَ: إِنَّهُ قَالَ:
108
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا
إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا إِنَّهُمْ لَنْ يَقْهَرُوا قُوَاكَاُُ