تفسير سورة سبأ

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة سبأ
مكية عددها أربع وخمسون آية كوفية

﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ﴾ وذلك أن كفار مكة لما كفروا بالبعث، حمد الرب نفسه، قال عز وجل ﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من الخلق ﴿ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ ﴾ يعني يحمده أولياؤه فى الآخرة إذا دخلوا الجنة، فقالوا:﴿ ٱلْحَـمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ﴾[الزمر: ٧٤]، و﴿ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي هَدَانَا لِهَـٰذَا ﴾[الأعراف: ٤٣] ﴿ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ﴾ حكم البعث ﴿ ٱلْخَبِيرُ ﴾ [آية: ١] به. ﴿ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ من المطر ﴿ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ﴾ من النبات ﴿ وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ من المطر ﴿ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ﴾ يعني وما يصعد في السماء من الملائكة ﴿ وَهُوَ ٱلرَّحِيمُ ﴾ حين لا يعجل عليهم بالعذاب ﴿ ٱلْغَفُورُ ﴾ [آية: ٢].
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ أبو سفيان لكفار مكة واللات والعزى ﴿ لاَ تَأْتِينَا ٱلسَّاعَةُ ﴾ أبداً، فلما حلف أبو سفيان بالأصنام حلف النبي صلى الله عليه وسلم بالله عز وجل فقال الله عز وجل: ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد ﴿ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾ الساعة ﴿ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ ﴾ غيب الساعة ﴿ لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ ﴾ من ﴿ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ ﴾ وزن أصغر النمل ﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ﴾ ولا أقل من ذلك المثقال ﴿ وَلاَ أَكْبَرُ ﴾ منه ولا أعظم من المثقال ﴿ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ [الآية: ٣] إلا هو في اللوح المحفوظ.﴿ لِّيَجْزِيَ ﴾ لكي يجزي في الساعة ﴿ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ صدقوا ﴿ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ بالقسط بالعدل ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ٤] حسناً فى الجنة.
ثم ذكر كفار مكة، فقال عز وجل: ﴿ وَٱلَّذِينَ سَعَوْا ﴾ عملوا ﴿ فِيۤ آيَاتِنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ مُعَاجِزِينَ ﴾ مثبطين الناس عن الإيمان بالقرآن مثلها في الحج ﴿ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٥] نظيرها في الجاثية.﴿ وَيَرَى ﴾ ويعلم ﴿ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ بالله عز وجل، يعني مؤمنى أهل الكتاب وهي قراءة ابن مسعود، " ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل ".
﴿ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ ﴾ يعني القرآن.
﴿ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ﴾ ويدعو إلى دين ﴿ ٱلْعَزِيزِ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَمِيدِ ﴾ [آية: ٦] في خلقه.﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بالبعث أبو سفيان، قال لكفار مكة: ﴿ هَلْ نَدُلُّكُمْ ﴾ ألا ندلكم ﴿ عَلَىٰ رَجُلٍ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ يُنَبِّئُكُمْ ﴾ يخبركم أنكم ﴿ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يخبركم أنكم إذا تفرقتم في الأرض وذهبت اللحوم والعظام، وكنتم تراباً ﴿ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ [آية: ٧] يعني البعث بعد الموت. ثم قال أبو سفيان: ﴿ أَفْتَرَىٰ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً ﴾ حين يزعم أنا نبعث بعد الموت ﴿ أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ يقول: أم بمحمد جنون، فرد الله عز وجل عليهم، فقال: ﴿ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ ﴾ لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال هم أكذب وأشد فرية من محمد صلى الله عليه وسلم حين كذبوا بالبعث، ثم قال جل وعز: هم ﴿ فِي ٱلْعَذَابِ ﴾ في الآخرة ﴿ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ ﴾ [آية: ٨] الشقاء الطويل، نظيرها في آخر اقتربت الساعة. ثم خوفهم، فقال جل وعز: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ ثم بين ما هو، فقال جل وعز: ﴿ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ ﴾ فتبتلهم ﴿ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ﴾ يعني جانباً من السماء فنهلكهم بها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ﴾ يعني عبرة ﴿ لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ [آية: ٩] مخلص بالتوحيد.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ ﴾ أعطينا داود ﴿ مِنَّا فَضْلاً ﴾ النبوة كقوله عز وجل للنبى صلى الله عليه وسلم في سورة النساء:﴿ وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾[النساء: ١١٣]، يعني النبوة والكتاب، فذلك قوله عز وجل ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ﴾ النبوة والزبور وما سخر له من الجبل والطير والحديد ثم بين ما أعطاه، فقال عز وجل: ﴿ يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ ﴾ سبحي معه مع داود، عليه السلام، يقول: اذكري الرب مع داود، وهو التسبيح، ثم قال عز وجل: ﴿ وَ ﴾ سخرنا له ﴿ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ ﴾ [آية: ١٠] فكان داود، عليه السلام، يضفر الحديد ضفر العجين من غير نار، فيتخذها دروعاً طوالاً. فذلك قوله عز وجل: ﴿ أَنِ ٱعْمَلْ سَابِغَاتٍ ﴾ الدروع الطوال، وكانت الدروع قبل داود إنما هي صفائح الحديد مضروبة، فكان داود، عليه السلام، يشد الدروع بمسامير ما يقرعها بحديد ولا يدخلها النار، فيقرع من الدروع في بعض النهار، وبعض الليل، بيده ثمن ألف درهم، قال لداود: ﴿ وَقَدِّرْ فِي ٱلسَّرْدِ ﴾ يقول: قدر المسامير في الخلق ولا تعظم المسامير فتنقصم ولا تضفر المسامير فتسلس، ثم قال الله عز وجل لآل داود: ﴿ وَٱعْمَلُواْ صَالِحاً ﴾ يعني قولوا الحمد لله ﴿ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ١١].
ثم ذكر ابنه سليمان، عليهما السلام، وما أعطاه الله عز وجل من الخير والكرامة فقال عز وجل: ﴿ وَ ﴾ سخرنا ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ ﴾ يعني مسيرة شهر فتحملهم الريح من بيت المقدس إلى أصطخر وتروح بهما ذا بلستان ﴿ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ ﴾ يعني مسيرة فتحملهم إلى بيت المقدس لا تحول طيراً من فوقهم ولا ورقة من تحتهم ولا تثير تراباً، ثم قال جل وعز: ﴿ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ ٱلْقِطْرِ ﴾ يعني أخرجنا لسليمان عين الصفر ثلاثة أيام تجري مجرى الماء بأرض اليمن ﴿ وَمِنَ ٱلْجِنِّ مَن يَعْمَلُ ﴾ وسخرنا لسليمان من الجن من يعمل ﴿ بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ بين يدي سليمان ﴿ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ يعني رب سليمان عز وجل ﴿ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ ﴾ ومن يعدل منهم ﴿ عَنْ أَمْرِنَا ﴾ عن أمر سليمان، عليه السلام.
﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾ [آية: ١٢] الوقود في الدنيا كان ملك بيده سوط من نار من يزغ عن أمر سليمان ضربه بسوط من نار فذلك عذاب السعير.﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ ﴾ يعني الجن لسليمان ﴿ مِن مَّحَارِيبَ ﴾ المساجد ﴿ وَتَمَاثِيلَ ﴾ من نحاس ورخام من الأرض المقدسة وأصطخر من غير أن يعبدها أحد، ثم قال جل وعز: ﴿ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ ﴾ وقصاع في العظم كحياض الإبل بأرض اليمن من العظم يجلس على كل قصعة واحد ألف رجل يأكلون منها بين يدي سليمان ﴿ وَقُدُورٍ ﴾ عظام لها قوائم لا تتحرك ﴿ رَّاسِيَاتٍ ﴾ ثابتات نتخذ من الجبال والقدور وعين الصفر بأرض اليمن، وكان ملك سليمان ما بين مصر وكابل، ثم قال جل وعز: ﴿ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً ﴾ بما أعطيتم من الخير، يقول الرب عز وجل: ﴿ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ ﴾ [آية: ١٣].
﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ﴾ على سليمان ﴿ ٱلْمَوْتَ ﴾ وذلك أن سليمان، عليه السلام، كان دخل في السن وهو في بيت المقدس ﴿ مَا دَلَّهُمْ ﴾ ما دل الجن ﴿ عَلَىٰ مَوْتِهِ ﴾ على موت سليمان ﴿ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ ﴾ يعني الأرضة، وذلك أن الجن كانوا يخبرون الإنس أنهم يعلمون الغيب الذي يكون في غد فابتلوا بموت سليمان ببيت المقدس، وكان داود أسس بيت المقدس موضع فسطاط موسى، عليه السلام، فمات قبل أن يبنى فبناه سليمان بالصخر والقار، فلما حضره الموت قال لأهله: لا تخبروا الجن بموتي حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس، وكان قد بقي منه عمل سنة، فلما حضره الموت، وهو متكىء على عصاه، وقد أوصى أن يكتم موته، وقال: لا تبكوا عليّ سنة لئلا يتفرق الجن عن بناء بيت المقدس، ففعلوا، فلما بنوا سنة وفرغوا من بنائه سلط الله عز وجل عليه الأرضة عند رأس الحول على أسفل عصاه، فأكلته، فذلك قوله: ﴿ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ﴾ أسفل العصا فخر عند ذلك سليمان ميتاً، فرأته الجن، فتفرقت، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَلَمَّا خَرَّ ﴾ سليمان ﴿ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ ﴾ يعني تبينت الإنس ﴿ أَن لَّوْ كَانُواْ ﴾ الجن ﴿ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ ﴾ يعني غيب موت سليمان ﴿ مَا لَبِثُواْ ﴾ حولاً ﴿ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ ﴾ [آية: ١٤] والشقاء والنصب في بيت المقدس، وإنما سموا الجن لأنهم استخفوا من الإنس، فلم يروهم.
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ ﴾ وهو زجل بن يشخب بن يعرب بن قحطان ﴿ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ﴾، ثم قال: ﴿ جَنَّتَانِ ﴾ أحدهم ﴿ عَن يَمِينٍ ﴾ الوادي ﴿ وَ ﴾ الأخرى عن ﴿ وَشِمَالٍ ﴾ الوادي، واسم الوادي العرم، يقول الله عز وجل لأهل تلك الجنتين: ﴿ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ ﴾ الذي في الجنتين ﴿ وَٱشْكُرُواْ لَهُ ﴾ لله فيما رزقكم ثم قال: أرض سبأ ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ ﴾ بأنها خرجت ثمارها ﴿ وَ ﴾ ربكم إن شكرتم فيما رزقكم ﴿ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [آية: ١٥] للذنوب كانت المرأة تحمل مكتلاً على رأسها، فتدخل البستان فيمتلىء مكتلها من ألوان الفاكهة والثمار من غير أن تمس شيئاً بيدها، وكان أهل سبأ إذا أمطروا يأتيهم السيل من مسيرة أيام كثيرة إلى العرم، فعمدوا فسدوا ما بين الجبلين بالصخر والقار، فاستد زماناً، وارتفع الماء على حافتي الوادي، فصار فيهما ألوان الفاكهة والأعناب فعصوا ربهم، فلم يشكروه، فذلك قوله عز وجل: ﴿ فَأَعْرَضُواْ ﴾ عن الحق ﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ ﴾ والسيل هو الماء، والعرم اسم الوادي سلط الله عز وجل الفارة على البناء الذى بنو، وتسمى الخلد، فنقبت الردم ما بين الجبلين، فخرج الماء ويبست جناتهم، وأبدلهم الله عز وجل مكان الفاكهة والأعناب ﴿ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ﴾ وهو الأراك ﴿ وَأَثْلٍ ﴾ يعني شجرة تسمى الطرفاء يتخذون منها الأقداح النضار ﴿ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ [آية: ١٦] وثمره السدر النبق.﴿ ذَلِكَ ﴾ الهلاك ﴿ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ كافأناهم بكفرهم ﴿ وَهَلْ نُجْزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ ﴾ [آية: ١٧] وهل يكافأ بعمله السيء إلا الكفور لله عز وجل في نعمه. ثم ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ بين أهل سبأ ﴿ وَبَيْنَ ٱلْقُرَى ﴾ قرى الأرض المقدسة الأردن وفلسطين ﴿ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ بالشجر والماء ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ متواصلة وكان متجرهم من أرض اليمن إلى أرض الشام على كل ميل قرية وسوق، لا يحلون عنده حتى يرجعوا إلى اليمين من الشام، فذلك قوله عز وجل: ﴿ وَقَدَّرْنَا فِيهَا ٱلسَّيْرَ ﴾ للمبيت والمقيل من قرية إلى قرية ﴿ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ ﴾ [آية: ١٨] من الجوع والعطش والسباع، فلم يشكروا ربهم وسالوا ربهم أن تكون القرى والمنازل بعضها أبعد من بعض.﴿ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ للناس ﴿ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ يقول الله عز وجل وفرقناهم في كل وجه، فلما خرجوا من أرض سبأ، ساروا، فأما الأزد فنزلوا البحرين وعمان، وأما خزاعة فنزلوا مكة، وأما الأنصار وهم الأوس والخزرج، فنزلوا المدينة، وأما غسان فنزلوا بالشام، فهذا تمزقهم، فلذلك قوله عز وجل: " كل ممزق " و " جعلناهم أحاديث " ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ﴾ يعني في هلاك جنتيهم وتفريقهم عبرة ﴿ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [آية: ١٩] يعني المؤمن من هذه الأمة صبور على البلاء إذا ابتلى أهل سبأ، ثم قال: شكور لله عز وجل في نعمه.﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ﴾ وذلك أن إبليس خلق من نار السموم، وخلق آدم من طين، ثم قال إبليس: إن النار ستغلب الطين، فقال: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ ﴾ الآية، فمن ثم صدق بقول الله عز وجل: ﴿ فَٱتَّبَعُوهُ ﴾ ثم استثنى عباده المخلصين، فقال جل وعز: ﴿ إِلاَّ فَرِيقاً ﴾ طائفة ﴿ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٢٠] لم يتبعوه فيى الشرك، وهم الذين قال الله: ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [الحجر: ٤٢].
ثم قال: ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ ﴾ لإبليس ﴿ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ ﴾ من ملك أن يضلهم عن الهدى ﴿ إِلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ لنرى ﴿ مَن يُؤْمِنُ بِٱلآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ﴾ ليبين المؤمن من الكافر ﴿ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من الإيمان والشك ﴿ حَفُيظٌ ﴾ [آية: ٢١] رقيب.
﴿ قُلِ ﴾ لكفار ممكة ﴿ ٱدْعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ أنهم آلهة، يعني الملائكة الذين عبدتموهم، فليكشفوا الضر الذي نزل بكم من الجوع من السنين السبع، نظيرها في بني إسرائيل، فأخبر الله عز وجل عن الملائكة أنهم ﴿ لاَ يَمْلِكُونَ ﴾ لا يقدرون على ﴿ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ يعني أصغر وزن النمل ﴿ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ في خلق السماوات ﴿ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ فكيف يملكون كشف الضر عنكم ﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا ﴾ في خلق السموات والأرض ﴿ مِن شِرْكٍ ﴾ يعني الملائكة ﴿ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ ﴾ من الملائكة ﴿ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ [آية: ٢٢] يعني عوناً على شىء. ثم ذكر الملائكة الذين رجوا منافعهم، فقال جل وعز: ﴿ وَلاَ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ ﴾ شفاعة الملائكة ﴿ عِندَهُ ﴾ لأحد ﴿ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ أن يشفع من أهل التوحيد، ثم أخبر عن خوف الملائكة أنهم إذا سمعوا الوحي خروا سجداً من مخافة الساعة، فكيف يعبدون من هذه منزلته؟ فهلا يعبدون من تخافه الملائكة؟ قال: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ وذلك أن أهل السماوات من الملائكة لم يكونوا سمعوا صوت الوحي ما بين زمن عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما قريب من ست مائة عام، فلما نزل الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت الوحي، كوقع الحديد على الصفا، فخروا سجداً مخافة القيامة، إذ هبط جبريل على أهل كل سماء، فأخبرهم أنه الوحي، فذلك قوله عز وجل: ﴿ حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ﴾ تجلى الفزع عن قلوبهم قاموا من السجود ﴿ قَالُواْ ﴾ فتسأل الملائكة بعضها بعضاً ﴿ مَاذَا قَالَ ﴾ جبريل عن ﴿ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ ﴾ يعني الوحي ﴿ وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ﴾ الرفعي ﴿ ٱلْكَبِيرُ ﴾ [آية: ٢٣] العظيم فلا أعظم منه.﴿ قُلْ ﴾ لكفار مكة الذي يعبدون الملائكة ﴿ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ يعني المطر ﴿ وَٱلأَرْضِ ﴾ يعني النبات فردوا في سورة يونس، قالوا:﴿ ٱللَّهُ ﴾[يونس: ٣١]، يرزقنا إضمار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ ﴾ يرزقكم، ثم انقطع الكلام، وأما قوله: ﴿ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [آية: ٢٤] قال كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم: تعالوا ننظر في معايشنا من أفضل دنيا نحن أم أنتم يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنكم لعلى ضلالة، فرد عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما نحن وأنتم على أمر واحد إن أحد الفريقين لعلى هدى، يعني النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وأصحابه، أو في ضلال مبين يعني كفار مكة الألف هاهنا صلة، مثل قوله عز وجل: ﴿ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾.
﴿ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٢٥] ﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ﴾ في الآخرة وأنتم ﴿ ثُمَّ يَفْتَحُ ﴾ يقضي ﴿ بَيْنَنَا بِٱلْحَقِّ ﴾ بالعدل ﴿ وَهُوَ ٱلْفَتَّاحُ ﴾ القضاء ﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ٢٦] بما يقضي.﴿ قُلْ ﴾ لكفار مكة: ﴿ أَرُونِيَ ٱلَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ ﴾ يعني بالله عز وجل ﴿ شُرَكَآءَ ﴾ من الملائكة هل خلقوا شيئاً يقول الله عز وجل ﴿ كَلاَّ ﴾ ما خلقوا شيئاً، ثم استأنف ﴿ بَلْ هُوَ ٱللَّهُ ﴾ الذي خلق الأشياء كلها ﴿ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحْكِيمُ ﴾ [آية: ٢٧] العزيز في ملكه الحكيم في أمره. نظيرها في الأحقاف.﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ ﴾ يعني يا محمد ﴿ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ ﴾ عامة للناس ﴿ بَشِيراً ﴾ بالجنة لمن أجابه ﴿ وَنَذِيراً ﴾ من النار ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾ يعني أهل مكة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٢٨].
﴿ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ ﴾ الذي تعدنا يا محمد ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٢٩] إن كنت صادقاً بأن العذاب نازل بنا في الدنيا ﴿ قُل لَّكُم مِّيعَادُ ﴾ ميقات في العذاب ﴿ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ﴾ عن المعياد ﴿ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [آية: ٣٠] يعني لا تتباعدون عنه ولا تتقدمون.
﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني الأسود بن عبد يغوث، وثعلب وهما أخوان ابنا الحارث بن السباق من بني عبدالدار بن قصي ﴿ لَن نُّؤْمِنَ ﴾ لك لا نصدق ﴿ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ من الكتب التي نزلت قبل القرآن، بين يديه التوراة والإنجيل والزبور ﴿ وَلَوْ تَرَىٰ ﴾ يا محمد ﴿ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ يعني مشركى مكة ﴿ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ﴾ في الآخرة ﴿ يَرْجِعُ ﴾ يرد ﴿ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ ٱلْقَوْلَ ﴾ ثم أخبر عن قولهم: ﴿ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ ﴾ وهم الأتباع ﴿ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ ﴾ الذين تكبروا عن الإيمان، وهم القادة في الكفر ﴿ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٣١] لولا أنتم معشر الكبراء لكنا مؤمنين يعني مصدقين بتوحيد الله عز وجل. فردت القادة وهم الكبراء على الضعفاء وهم الأتباع: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُوۤاْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ ٱلْهُدَىٰ ﴾ يعني أنحن منعناكم عن الإيمان ﴿ بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ ﴾ [آية: ٣٢].
فردت الضعفاء على الكبراء، فقالوا: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ ﴾ بل قولهم كذب بالليل والنهار ﴿ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِٱللَّهِ ﴾ بتوحيد الله عز وجل ﴿ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾ يعني وتأمرونا أن نجعل له شريكاً ﴿ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ ﴾ في أنفسهم ﴿ لَمَّا رَأَوُاْ ٱْلَعَذَابَ ﴾ حين عاينوا العذاب في الأخرة ﴿ وَجَعَلْنَا ٱلأَغْلاَلَ فِيۤ أَعْنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ وذلك أن الله عز وجل يأمر خزانة جهنم أن يجعلوا الأغلال في أعناق الذين كفروا بتوحيد الله عز وجل، وقالت لهم الخزنة: ﴿ هَلْ يُجْزَوْنَ ﴾ في الآخرة ﴿ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٣٣] من الكفر في الدنيا.
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ من رسول ﴿ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ ﴾ أعنياؤها وجبابرتها للرسل ﴿ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ ﴾ بالتوحيد ﴿ كَافِرُونَ ﴾ [آية: ٣٤].
و ﴿ وَقَالُواْ ﴾ أيضاً لفقراء المسلمين أهؤلاء خير منا أم هم أولى بالله منا ﴿ نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [آية: ٣٥]يقول الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ وقتر على من يشاء ﴿ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ ﴾ كفار مكة ﴿ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [آية: ٣٦] أن البسط والقتر بيد الله عز وجل.﴿ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ ﴾ يعني قرابة ﴿ إِلاَّ مَنْ آمَنَ ﴾ صدق بالله ﴿ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ ﴾ من الخير نجزي بالحسنة الواحدة عشرة فصاعداً، ثم قال عز وجل: ﴿ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ ﴾ غرف الجنة ﴿ آمِنُونَ ﴾ [آية: ٣٧] من الموت.﴿ وَٱلَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ يقول: عملوا بالتكذيب بالقرآن مثبطين عن الإيمان بالقرآن ﴿ أُوْلَـٰئِكَ فِي ٱلْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ﴾ [آية: ٣٨] النار.﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ ﴾ يوسع الرزق على من يشاء ﴿ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ﴾ ويقتر ﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ﴾ يقول الله عز وجل أخلفه لكم وأعطاكموه ﴿ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾ [آية: ٣٩] مثل قوله عز وجل:﴿ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾[الحديد: ٧].
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ﴾ الملائكة ومن عبدها، يعني يجمعهم جميعاً في الآخرة ﴿ ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ﴾ [آية: ٤٠] يعني عن أمركم عبدوكم فنزهت الملائكة ربها عز وجل عن الشرك. فـ ﴿ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ ﴾ ونحن منهم براء إضمار ما أمرناهم بعبادتنا ﴿ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ ﴾ بل أطاعوا الشيطان في عبادتهم و ﴿ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٤١] مصدقين بالشيطان.﴿ فَٱلْيَوْمَ ﴾ في الآخرة ﴿ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً ﴾ لا تقدر الملائكة على أن تسوق إلى من عبدها نفعاً، ولا تقدر على أن تدفع عنهم سوءاً ﴿ وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ يأمر الله الخزنة أن تقول للمشركين من أهل مكة: ﴿ ذُوقُواْ عَذَابَ ٱلنَّارِ ٱلَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ [آية: ٤٢].
﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ وإذا قرىء عليهم القرآن ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾ ما فيه من الأمر والنهي ﴿ قَالُواْ مَا هَـٰذَا إِلاَّ رَجُلٌ ﴾ يعنون النبى صلى الله عليه وسلم ﴿ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَـٰذَآ ﴾ القرآن ﴿ إِلاَّ إِفْكٌ ﴾ كذب ﴿ مُّفْتَرًى ﴾ افتراه محمد صلى الله عليه وسلم من تلقاء نفسه ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة ﴿ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾ يعنون القرآن حين جاءهم ﴿ إِنْ هَـٰذَآ ﴾ القرآن ﴿ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٤٣].
﴿ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ يعني وما أعطيناهم ﴿ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا ﴾ يعني يقرؤونها بأن مع الله شريكاً نظيرها في الزخرف:﴿ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً ﴾[الزخرف: ٢١]، ونظيرها في الملائكة [فاطر: ٣٢] ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ ﴾ يعني أهل مكة ﴿ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ [آية: ٤٤] يا محمد من رسول لم ينزل كتاب ولا رسول قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلى العرب. ثم قال جل وعز: ﴿ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ ﴾ يعني الأمم الخالية كذبوا رسلهم قبل كفار مكة ﴿ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ وما بلغ الكفار مكة، عشر الذي أعطينا الأمم الخالية من الأموال والعدة والعمر والقوة ﴿ فَكَذَّبُواْ رُسُلِي ﴾ فأهلكناهم بالعذاب في الدنيا حين كذبوا الرسل ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [آية: ٤٥] تغييري الشر فاحذروا يا أهل مكة، مثل عذاب الأمم الخالية.
﴿ قُلْ ﴾ لكفار مكة ﴿ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ ﴾ بكلمة واحدة كلمة الإخلاص ﴿ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ ﴾ الحق ﴿ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ ﴾ ألا يتفكر الرجل وحده ومع صاحبه فيعلم ويتفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما أن الله جل وعز خلق هذه الأشياء وحده وأن محمداً لصادق وما به جنون ﴿ إِنْ هُوَ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ ﴾ مبين، يعني بينا ﴿ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ﴾ [آية: ٤٦] في الآخرة.﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ﴾ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل كفار مكة ألا يؤذوه حتى يبلغ عن الله عز وجل الرسالة، فقال بعضهم لبعض: ما سألكم شططاً كفوا عنه، فسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يذكر اللات والعزى في القرآن، فقالوا: ما ينتهي هذا الرجل عن عيب آلهتنا سألنا ألا نؤذيه فقد فعلنا وسألناه ألا يؤذينا في آلهتنا فلم يفعل، فأكثروا في ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ ﴾ جعل ﴿ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ ﴾ ما جزائي ﴿ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ ﴾ [آية: ٤٧] بأني نذير وما بي من جنون.﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ ﴾ يتكلم بالوحي ﴿ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ [آية: ٤٨] عالم كل غيب، وإذا قال جل وعز عالم الغيب فهو غيب واحد ﴿ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ ﴾ الإسلام ﴿ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ [آية: ٤٩] يقول: ما يبدىء الشيطان الخلق فيخلقهم وما يعيد خلقهم في الآخرة فيبعثهم بعد الموت والله جل وعز يفعل ذلك.﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ ﴾ وذلك أن كفار مكة، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لقد ضللت حين تركت دين آبائك ﴿ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي ﴾ إنما ضلالتي على نفسي ﴿ وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾ من القرآن ﴿ إِنَّهُ سَمِيعٌ ﴾ الدعاء ﴿ قَرِيبٌ ﴾ [آية: ٥٠] الإجابة.﴿ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ ﴾ يقول: إذا فزعوا عند معاينة العذاب، نزلت في السفياني، وذلك أن السفياني يبعث ثلاثين ألف رجل من الشام مقاتلة إلى الحجاز عليهم رجل اسمه بحير بن بجيلة، فإذا انتهوا إلى البيداء خسف بهم، فلا ينجو منهم أحد غير رجل من جهينة اسمه ناجية يفلت وحده، مقلوب وجهه وراء ظهره، يرجع القهقرى، فيخبر الناس بما لقى أصحابه. قال: ﴿ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ﴾ [آية: ٥١] من تحت أرجلهم.﴿ وَقَالُوۤاْ آمَنَّا بِهِ ﴾ حين رأوا العذاب يقول الله تعالى: ﴿ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ ﴾ التوبة عند معاينة العذاب ﴿ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ ﴾ [آية: ٥٢] الرجعة إلى التوبة بعيد منهم لأنه لا يقبل منهم.﴿ وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ ﴾ بالقرآن ﴿ مِن قَـبْلُ ﴾ نزول العذاب حين بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم ﴿ وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ ﴾ يقول: ويتكلمون بالإيمان ﴿ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾ [آية: ٥٣] يقول: التوبة تباعد منهم، فلا يقبل منهم وقد غيب عنهم الإيمان عند نزول العذاب، فلم يقدروا عليه عند نزول العذاب بهم في الدنيا ﴿ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ﴾ من أن تقبل التوبة منهم عند العذاب ﴿ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ﴾ يقول: كما عذب أوائلهم من الأمم ا لخالية من قبل هؤلاء ﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ ﴾ من العذاب بأنه غير نازل بهم في الدنيا ﴿ مُّرِيبِ ﴾ [آية: ٥٤ِ] يعني بمريب أنهم لا يعرفون شكهم، ويقال: كان هذا العذاب بالسيف يوم بدر، وقالوا: آمنا به، يعني بالقرآن.
Icon