تفسير سورة سورة سبأ من كتاب التفسير المظهري
.
لمؤلفه
المظهري
.
المتوفي سنة 1216 هـ
سورة سبأ
آياتها أربع وخمسون وهي مكية
ﰡ
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ ملكا وخلقا وقهرا فهو الحقيق بالحمد سرا وجهرا دون غيره وإنما يحمد غيره لأجل إضافة بعض النعم إلى غيره ظاهرا وبالمجاز ﴿ وله الحمد في الآخرة ﴾ لان نعماء الآخرة أيضا له تعالى وليس هذا من قبيل عطف المقيد على المطلق بل المعطوف عليه مقيدا بكونه في الدنيا لما يدل الوصف بالموصول والصلة على أنه المنعم بالنعم الدنيوية فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته وتمام نعمته وكذا في الآخرة لأن نعماء الآخرة أيضا له تعالى وتقديم الظرف في الجملة الثانية للإشعار بأن الحمد في الدنيا قد يكون الله تعالى بواسطة من يستحق الحمد لأجلها ولا كذلك نعم الآخرة بل هي مختصة بالله تعالى، قيل الحمد في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال الله تعالى :﴿ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ﴾ ﴿ وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده ﴾ ﴿ والحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ﴾ ﴿ وهو الحكيم ﴾ الذي أحكم أمور الدين ﴿ الخبير ﴾ ببواطن الأشياء وظواهرها.
﴿ يعلم ﴾ حال أو استئناف في مقام التعليل ﴿ ما يلج في الأرض ﴾ من المطر الذي ينفذ في مسام الأرض والأموات والكنوز ﴿ وما يخرج منها ﴾ من النبات والفلذات والأموات إذا حشروا والماء من الآبار والعيون ﴿ وما ينزل من السماء ﴾ من الأمطار والصواعق والملائكة والكتب والمقادير والأرزاق وأنواع البركات وأصناف البليات ﴿ وما يعرج فيها ﴾ من الملائكة و أعمال العباد والدعوات ﴿ وهو الرحيم ﴾ فينزل ما يحتاجون إليه ﴿ الغفور ﴾ للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها هذه الجملة معطوفة على والله يعلم.
﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة ﴾ إنكار لمجيئها معطوف على جملة مقدرة مفهومة من قوله تعالى :﴿ وله الحمد في الآخرة وهو الرحيم الغفور ﴾ فإنه يفهم منه وعد الله بالرحمة والمغفرة للحامدين يوم تأتي الساعة ﴿ قل بلى ﴾ رد لكلامهم وإثبات لما نفوه ﴿ وربي لتأتينكم ﴾ تكريره لإيجابه مؤكدا بالقسم وبتوصيف المقسم به بقوله عالم الغيب فإن عظم المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم وفيه إشارة إلى أن الساعة من الغيب وعلمه مختص بالله تعالى يكفي لإثباته شهادة تعالى ولا يجوز لأحد إثبات شيء من الغيب ولا نفيه إلا بتعليم من الله تعالى قرأ حمزة والكسائي ﴿ علام الغيب ﴾ على وزن فعال للمبالغة والباقون على وزن فاعل وقرأ نافع وابن عامر بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره ما بعده والباقون بالجر على أنه صفة للرب ففيه تأكيد للرد على إنكارهم فإن إنكارهم ليس إلا مبنيا على جهلهم واستبعادهم ممكنا مثل سائر الممكنات ثابتا ومعناهما واحد أي لا يغيب ﴿ عنه مثقال ﴾ أي مقدار ثقل ﴿ ذرة ﴾ أي نملة صغيرة كائنة ﴿ في السماوات ولا في الأرض ﴾ موجهة في شيء من الأزمنة الماضية أو المستقبلة أو الحال والقول بأن المعنى لا يعزب عنه مثقال ذرة موجودة في الزمان الحال كائنة في السماوات أو الأرض يأباه المقام لأن الجملة تأكيدا لقوله.
عالم الغيب بيانا لشمول علمه جميع الكائنات ماضيا كان أو مستقبلا حتى يكون مؤكدا للإخبار بإتيان الساعة وأيضا حضور جميع الأشياء الموجودة في الحال بكسر لبعض من الخلائق كما ذكرنا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى :﴿ توفته رسلنا ﴾ إنه قيل يا رسول الله ملك الموت واحد والزحفان يلتقيان من المشرق والمغرب وما بين ذلك من السقط والهلاك أنه حوى الدنيا الملك حتى جعلها كالطست بين يدي فهل يفوته منها شيء فالظاهر من هذه الآية أن الأزمنة كلها وما فيها من الزمانيات الماضية والمستقبلة حاضرة عند الله سبحانه وهو خارج عن الزمان كما أن الأمكنة والمكانيات حاضرة عنده تعالى وهو خارج عن المكان لا يجري عليه زمان كما لا يحويه مكان فالزمان مخلوق له تعالى حدوثا ذاتيا كما أن المكان مخلوق له فالماضي والمستقبل بالنسبة إليه سواء كما أن الأمكنة كلها بالإضافة إليه سواء. وقد نبه على ذلك بعض الأكابر من علماء الظاهر قال الجلال الدواني رحمة الله عليه في رسالته الزوداء إذا اعتبرت الامتداد الزماني الذي هو محل التغيير والتبديل وعرض الحوادث الكونية بما يقارنه من الحوادث جملة واحدة وجدته شأنا من شؤون العلة الأولى محيطا لجميع الشؤون المتعاقبة ثم إن أمعنت النظر وجدت التعاقب باعتبار حضور حدود ذلك الامتداد وغيبوبتها بالنسبة إلى الزمانيات الواقعة تحت حيطته وأما المراتب العالية عليها فلا تعاقب بالنسبة إليها بل الجميع متساوية بالنسبة إليها متحاذية في الحضور لذاتها فما ظنك ما على شواهق العوالي ليس عند ربك صباح ولامساء تنبيه إذا أخذت امتداد مختلف الأجزاء في اللون كخشب اختلف اللون في أجزائه ثم أمررته في محاذاة ذرة أو غيرها مما يضيق حدقته عن الإحاطة بجميع ذلك الامتدادات ليس تلك الألوان المختلفة متعاقبة في الحضور لديها لضيق حدقتها متقاربة في الحضور لديك لقوة إحاطتك ﴿ فاعتبروا يا أولي الأبصار ﴾ وانتهى كلامه.
فائدة :
وقد يأتي على بعض الأكابر حالة يخرج فيه من حيز الزمان فيرى الماضي أو المستقبل موجودا عنده ويشهد عليه ما رواه الشيخان في الصحيحين عن عبد الله بن عباس قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس فقام قياما طويلا فذكر الحديث بطوله حتى قال قالوا يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال :" إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط أفظع ورأيت أكثر أهلها النساء " الحديث ولا شك أن دخول النساء في النار لا يكون إلا بعد القيامة وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم موجودا لا يقال لعل النبي صلى الله عليه وسلم رأى صورة النار والجنة في عالم المثال مثل ما يرى النائم في المنام لأن قوله :" لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا " صريح في أنه صلى الله عليه وسلم رأى حقيقة الجنة والنار دون مثالهما وروى مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" رأيت الجنة فرأيت امرأة أبي طلحة وسمعت خشخشة أمامي فإذا بلال " وما روى أحمد وأبو داود والضياء عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما عرج بي ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل ؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم " وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" عرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا ورأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبة في النار وكان أول من سيب السوائب " رواه مسلم.
وقال أكثر المفسرين معنى قوله تعالى : لا يعزب عنه أي علمه مثقال ذرة ﴿ ولا أصغر من ذلك ﴾ أي من ذرة ﴿ ولا أكبر ﴾ منه ﴿ إلا في كتاب مبين ﴾ جملة مؤكدة لنفي العزوب إن كان المراد بالعزوب العزوب عن علمه أو المراد بالكتاب المبين علمه تعالى أو اللوح المحفوظ الذي حاك عن بعض من علومه وإن كان المراد عدم عزوب شيء من ذاته سبحانه فهذا تأسيس لا تأكيد وأصغر وأكبر مرفوعان بالابتداء ويؤيده القراءة بالفتح على إعمال لا التي لنفي الجنس ولا يجوز العطف مرفوعا على مثقال ومفتوحا على ذرة في محل الجر لامتناعها من الصرف لأن الاستثناء عنه هو لا يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن لان الإستدراك والإستثناء المنقطع بعد النفي يكون إثباتا فيكون المعنى لا يعزب مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا أكبر ولكن يعزب في كتاب مبين وهذا فاسد قال البيضاوي اللهم إذا جعل الضمير يعزب للغيهب وجعل المثبت في اللوح خارجا عنه لظهوره على المطالعين له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب إلا مسطورا في اللوح وهذا التوجيه ضعيف كما يشعر به كلام البيضاوي لان كونه في اللوح لا يخرجه عن الغيب والكلام في شمول علمه تعالى ولا مساس لهذا التوجيه بالمدعى على أنه ورد في سورة يونس بلفظ ﴿ وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا اصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾ ولا يتأتى هذا التوجيه هناك وقيل هذا على طريقة المدح بما يشبه الذم كما في قوله تعالى :﴿ وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا ﴾ بالله كقولك في زيد لا عيب إلا أنه عالم يعني لا عيب فيه أصلا والمعنى لا يعزب عنه مثقال ذرة إلا في كتاب مبين حكمه فكيف يغب عنه.
﴿ ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ علة لقوله :﴿ لتأتينكم ﴾ وبيان لما يقتضي إتيانها ﴿ أولئك لهم مغفرة ﴾ لما قصروا في أداء حقوق العبودية التي لا يمكن استيفاؤها ﴿ ورزق كريم ﴾ حسن في الجنة لا تعب فيه ولا من عليه لما أتوا بها من الحسنات وتفضلا.
﴿ والذين سعوا ﴾ عطف على ﴿ الذين آمنوا ﴾ مفعول ليجزي الذين سعوا ﴿ في آياتنا ﴾ بالإبطال وتزهيد الناس فيها ﴿ معجزين ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين من التفعيل أي مثبطين عن الإيمان من أراده والباقون من المفاعلة أي مقدرين عجزنا أو سابقين لنا فيفوتنا لظنهم بأن لا بعث ولا عقاب ﴿ أولئك لهم عذاب من رجز ﴾ قال قتادة الرجز سوء العذاب فمن بيانية ﴿ أليم ﴾ أي ذو ألم يعني مؤلم قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع هنا وفي الجاثية على أنه نعت للعذاب والباقون بالجر على أنه نعت للرجز
﴿ ويرى ﴾ بمعنى يعلم مرفوعا عطفا على مضمون بلى لتأتينكم وقيل منصوب معطوف على يجزي الذين آمنوا وليعلم ﴿ الذين أوتوا العلم ﴾ يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه وقال قتادة هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسان أي يعلم عند مجيء الساعة أنه الحق عيانا كما علموه الآن برهانا ﴿ الذي أنزل إليك من ربك ﴾ يعني القرآن مفعول أو ل ليرى ﴿ هو الحق ﴾ بالرفع مبتدأ وخبر والجملة ثاني مفعولي يرى وقرأ بالنصب على انه ثاني مفعول يرى والضمير للفصل وجملة يرى مستأنفة للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات ﴿ ويهدي ﴾ الله أو الذي أنزل إليك عطف على الحق ﴿ إلى صراط العزيز الحميد ﴾ أي الإسلام.
﴿ وقال الذين كفروا ﴾ عطف على ﴿ قال الذين كفروا ﴾ وبينهما معترضات ومنع المظهر موضع الضمير للتصريح على مناط الحكم يعني قال منكرو البعث بعضهم لبعض متعجبين منه ﴿ هل ندلكم على رجل ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم ﴿ ينبئكم ﴾ صفة لرجل أي يخبركم بأعجب الأعاجيب وهو أنه ﴿ إذا مزقتم كل ممزق ﴾ كل منصوب على المصدرية لإضافته إلى المصدر الميمي يعني إذا متم وتمزق أجسادكم كل تمزق بحيث يصير ترابا أو على الظرفية بمعنى إذا مزقتم وذهبت بكم السيول كل مذهب وطرحته كل طرح ﴿ إنكم لفي خلق جديد ﴾ منصوب بقوله ينبئكم بتضمين معنى القول يعني يقول : إنكم لفي خلق جديد وتقديم الظرف يعنى ( إذا مزقتم ) للدلالة على البعد والمبالغة وعامله محذوف دل عليه ما بعده يعني ينبئكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم كل ممزق يقول إنكم لفي خلق جديد وذلك لان ما قبله لم يقارنه وما بعد إن لا يعمل فيما قبله وذكروا النبي صلى الله عليه وسلم بالتنكير مع كونه مشهورا في قريش شائعا أنباؤه بالبعث تجاهلا به وبأمره بناء على استبعاده وقصدا على التحقير
﴿ أفترى ﴾ همزة استفهام دخلت على همزة الوصل فسقطت من اللفظ للاستغناء عنها ولعدم اللبس بالخبر فإن همزة الوصل ههنا مسكورة بخلاف ما إذا كان همزة الوصل مفتوحة نحو الله والذكر وآلان فإن هناك لا تحذف بل تسهل أو تبدل ألفا ويمد وسقطت من الخط أيضا على خلاف القياس ﴿ على الله كذبا ﴾ منصوب على المصدرية بافترى إذ الإفتراء نوع من الكذب وهو التعمد به ﴿ أم به جنة ﴾ أي جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه وزعم بعضهم يجعل الجنون قسيما للإفتراء أن بين الصدق والكذب واسطة وهي كل خير لا يكون على بصيرة بالمخبر عنه وضعفه بين فإن الإفتراء ليس مساو للكذب بل هو أخص منه فإن الكذب خبر لا يطابق الواقع سواء كان عمدا أو خطأ بل الذين لا يؤمنون إضراب من جملة مقدرة أي لم يفتر وليس به جنة ﴿ بل الذين لا يؤمنون ﴾ ﴿ بالآخرة ﴾ المشتملة على البعث والعذاب ﴿ في العذاب ﴾ فيها ﴿ والضلال البعيد ﴾ من الحق في الدنيا رد الله سبحانه عليهم ترديد هم وأثبت لهم ما هو أقبح من القسمين وهو البعيد من الضلال بحيث لا يرجى الخلاص منه وما هو مراده أي العذاب وجعل العذاب مقارنا للضلال في الحكم مقدما عليه في اللفظ للمبالغة في استحقاقهم له وبالبعد في الأصل صفة اتصال وصف به الضلال مجازا كقوله شعر شاعر.
﴿ أفلم يروا ﴾ الاستفهام للإنكار والتوبيخ والفاء للعطف على محذوف تقديره أعموا فلم يروا أي لم ينظروا ﴿ إلى ما بين أيديهم وما خلفهم ﴾ يعني على ما أحاط بجوانبهم ﴿ من السماء والأرض ﴾ يعني أن المشاهدات كلها تدل على كمال قدرة الصانع المختار وكمال قدرة الصانع المختار وكمال قدرته يقتضي جواز البعث فكيف يحكمون باستحالته وكونه مكذبا فيه مفترى والمخبر على كمال صفات الكمال من العقل والصدق المعروف بينهم فكيف يحكمون عليه بالجنون والهزاء فما هو إلا ضلال بعيد فهذه الجملة تعليل لقوله بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ثم بعد شرح ضلالهم بخوفهم الله تعالى على ما هم عليه بقوله تعالى ﴿ إن نشأ نخسف بهم ﴾ قرأ الكسائي بإدغام الفاء في الباء والباقون بالإظهار ﴿ الأرض أو نسقط ﴾.
قرأ حمزة والكسائي يشأ يخسف يسقط بالياء فيهن على الغيبة لذكر الله فيما قبل والباقون بالنون على التكلم ﴿ عليهم كسفا من السماء ﴾ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البينات قرأ حفص كسفا بتحريك السين والباقون بإسكانها قيل قوله :﴿ ألم يروا إلى ما بين أيديهم ﴾ تمهيد للإنذار والتخويف والمعنى أعلموا فلم يروا ما أحاط بهم من السماء والأرض حيثما كانوا وأين ما ساروا مقهورين لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ويخرجوا من ملكوتنا يعني قد رأوا ذلك فليخافوا أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما أرسلنا حجارة من السماء على قوم لوط لتكذيبهم رسولنا وكفرهم بآياتنا ﴿ إن في ذلك ﴾ الذي يرونه من السماوات والأرض ﴿ لآية ﴾ دلالة واضحة على كمال القدرة وجواز البعث بعد الموت وجواز تعذيب من كفر بالله ﴿ لكل عبد منيب ﴾ راجع إلى الله بقلبه لكونه كثير التفكر والتأمل.
﴿ ولقد آتينا داوود منا فضلا ﴾ على كثير من عباده المؤمنين يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن سليمان ﴿ الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين ﴾ ويندرج فيه النبوة والكتاب والملك وحسن الصوت وتلين الحديد وغير ذلك وفضلا منصوب على المفعولية ومنا حال منه ﴿ يا جبال أوبي معه ﴾ بدل من فضلا أو من آتينا بتضمين القول أي قلنا يا جبال أوبي معه أي سبح معه والاياب الرجوع أي إرجعي في التسبيح كلما رجع داوود فيه أو الإياب هو التسبيح يقال أوب إذا سبح فإن المسبح يرجع إلى الله معرضا عن غيره وقال القتيبي أصله من التأويب في السير وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلا كأنه قال إذا أتى النهار سيري بالتسبيح معه وقال وهب نوحي معه ﴿ والطير ﴾ معطوف على الجبال قرأ يعقوب بالرفع حملا على لفظه والباقون بالنصب حملا على محله وجاز أن يكون النصب عطفا على فضلا أو على أنه مفعول معه لأوبي وجاز أن يكون بالعطف على ضميره قال البيضاوي كان أصل النظم
ولقد آتينا داوود منا فضلا وهي تأويب الجبال والطير فبدل به هذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها قال البغوي كان داوود إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه وقيل كان داوود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح وقيل كان داوود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطا له ﴿ وألنا له الحديد ﴾ حتى كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشأ من غير نار ولا ضرب مطرقة.
قال البغوي : كان سبب ذلك على ما روي في الأخبار أن داوود لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكرا فإذا رأى من لا يعرفه يقدم إليه ويسأله عن داوود ويقول ما تقول في داوود وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيرا فقيض الله له ملكا في صورة آدمي فلما رآه داوود تقدم إليه على عادته فسأله فقال الملك نعم الرجل هو ولا خصلة فيه فراع داوود ذلك وقال ما هي يا عبد الله ؟ قال إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال فتنبه لذلك وسأل الله يسبب له سببا يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدرع وإنه أول من اتخذها ويقال إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف على الفقراء والمساكين عن المقدم بن معديكرب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أكل احد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يديه وإن نبي الله داوود عليه السلام كان يأكل من عمل يده " رواه البخاري وأحمد وذكر البغوي هذا الحديث بلفظ " كان داوود لا يأكل إلا من عمل يده "
﴿ أن أعمل ﴾ أي أمرنا أن اعمل أن مصدرية أو مفسرة ﴿ سابغات ﴾ أي دروعا كوامل واسعات طوال يجرها لا بسها على الأرض ﴿ وقدر في السرد ﴾ السرد خرز الجلد واستعير لنسج الدرع يعني قدر في نسجها بحيث تناسب حلقها ومساميرها فلا تجعلها رقاق فتغلق ولا غلاظا فتكسر الحلق ﴿ واعلموا ﴾ يا داوود وآله ﴿ صالحا ﴾ خالصا لله صالحا لقبوله منصوب على المفعولية والمصدرية ﴿ إني بما تعملون بصير ﴾ فأجازيكم عليه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا أمر المؤمنين بما أمر المرسلين فقال ﴿ يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا ﴾ الحديث رواه مسلم.
﴿ ولسليمان الريح ﴾ قرأ أبو بكر عن عاصم بالرفع على أنه مبتدا محذوف الخبر تقديره ولسليمان الريح مسخرة أورد الجملة اسمية للدلالة على أن كونها مسخرة لسليمان أمر ثابت عند العامة مذكور على الألسنة أو على تقدير فعل مجهول يعني سخر لسليمان الريح والباقون بالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره وسخرنا لسليمان الريح والجملة معطوفة على مفهوم كلام سابق فإنه يفهم من قوله تعالى :﴿ يا جبال أوبي معه والطير ﴾ أنه سخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وقد ورد بهذا اللفظ في سورة الأنبياء ﴿ غدوها شهر ورواحها شهر ﴾ جملة مستأنفة أي جريها بالغدو يعني من الصباح إلى الزوال كان مسيرة شهر وبالعشي أي من الزوال إلى الغروب كان كذلك قال الحسن كان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر ثم يروح من اصطخر فيبيت ببابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع وقيل إنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند ﴿ وأرسلنا له عين القطر ﴾ النحاس عطف على سخرنا لسليمان الريح أسأل الله تعالى له النحاس المذاب من معدنه فنبع منه نبوع الماء ولذلك سماه عينا قال البغوي قال أهل التفسير أجريت له عين النحاس ثلاثة أيام إلى اليمن كجري الماء وكان بأرض اليمن وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان عليه السلام ﴿ ومن الجن من يعمل بين يديه ﴾ على تقدير كون الريح مرفوعا الموصول مع الصلة مبتدأ خبره محذوف أي مسخرة ومن الجن حال من الضمير المستكن في يعمل عطف جملة اسمية على جملة اسمية وعلى تقدير كونه منصوبا الموصول معطوف على الريح ومن الجن حال منه مقدم عليه تقديره وسخرنا له من يعمل بين يديه من الجن ﴿ بإذن ربه ﴾ أي بأمره وحكمه أو بإرادته وتسخيره متعلق بيعمل ﴿ ومن يزغ ﴾ أي من يعدل ﴿ منهم ﴾ أي من الجن ﴿ عن أمرنا ﴾ أي عما أمرنا به من طاعة سليمان وأردنا ذلك ﴿ ندقه من عذاب السعير ﴾ قيل المراد به عذاب الآخرة وقيل المراد به الإحراق بالنار في الدنيا قلت إن كان المراد بالإذن والأمر الأمر التكليفي فالمناسب أن يفسر العذاب بالعذاب في الآخرة لأنها هي دار الجزاء على التكليفات وإن كان المراد بالإذن الإرادة والتسخير كما هو الظاهر فالظاهر أن المراد به عذاب الدنيا قال البغوي وذلك أن الله عز وجل وكل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منه عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته لا يقال إن كان الله أراد من الجن العمل فكيف يتصور من الجن العدول عنه لأنه يلزم منه تخلف المراد عن الإرادة وهو محال لأن في قوله تعالى :﴿ ومن الجن ﴾ للتبعيض فالمعنى أن الله أراد أن يعمل لسليمان بعض الجن أي أكثرهم ولذلك وكل ملكا يعذب من عدل من أمر سليمان وذلك في الظاهر سبب لأن يعمل لسليمان أكثر الجن أو يقال معنى قوله من يزغ من أراد الزيغ منهم يضربه الملك حتى لا يزيغ.
﴿ يعملون له ﴾ حال من فاعل يعمل أو مستأنفة ﴿ ما يشاء من محاريب ﴾ قصورا حصينة ومساجد رفيعة ومساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها ويحارب عليها قال البغوي فكان مما عملوا له بيت المقدس إبتدأه داوود ورفعه قامة رجل فأوحى الله إليه إني لم أقض ذلك على يدك ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي تمامه على يده فلما توفاه الله استخلف سليمان فأحب إتمام بيت المقدس فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام الأبيض من معادنه فأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح وجعل اثني عشر ربضا وأنزل بكل ربض منها سبطا وكانوا اثني عشر سبطا فلما فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد وفرق الشياطين فرقا فرقا يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر وفرقا يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها وفرقا يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب من أماكنها فأتى بذلك التي لا يحصيها إلا الله عز وجل ثم أحضر الصناعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحا وإصلاح تلك الجواهر وثقب الآلي واليواقيت وبنى المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المينا الصافي وسقفه بألواح الجواهر الثمينة وجصص سقوفه وحيطانه بالآليء واليواقيت وسائر الجواهر وبسط أرضها بألواح الفيروزج فلم يكن يومئذ في الأرض بيت أبهى وأنوار من ذلك المسجد كان يضيء في الظلمة كأنه القمر ليلة البدر فلما فرغ منه جمع إليه أحبار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه الله تعالى وأن كل شيء فيه خالص الله واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثا فأعطاه اثنين وأنا أرجوا أن يكون أعطاه الثالثة سأل حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه وسأل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه وسأل أن لا يأتي هذا البيت أحدا يصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وأنا أرجوا أن يكون قد أعطاه ذلك " رواه البغوي.
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " صلاة الرجل في بيته بصلاة وصلاته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلاة وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه بخمس مئة صلاة وصلاته في المسجد الأقصى بألف صلاة وصلاته في مسجدي بخمسين ألف صلاة وصلاته في المسجد الحرام بمئة ألف صلاة " رواه ابن ماجه وعن أبي سعيد الخذري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا " متفق عليه.
مسألة :
هل يجوز تزيين المساجد بالذهب والفضة ونحوهما ؟ قال بعضهم يكره ذلك لأن فيه إضاعة المال وقد قال رسول الله صلى الله عليه سلم " ما أمرت بتشييد المساجد " رواه أبو داود عن ابن عباس وقال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى وقال عليه السلام :" إن من أشراط الساعة أن تزين المساجد " الحديث وقال بعضهم هو قربة لما فيه من تعظيم المسجد وقصة سليمان عليه السلام في تزيين مسجد بيت المقدس يؤيد هذا القول قال صاحب البداية وهذا إذا فعل من مال نفسه وأما المتولي فيفعل من مال الوقف ما يرجع إلى أحكام البناء دون ما يرجع إلى النقش حتى لو فعل يضمن.
وقال ابن همام ولا شك أن الدافع إلى الفقير أولى من تزيين المسجد وعند أكثر علمائنا لا بأس بأن ينقش المسجد بالجص والساج وماء الذهب وقوله لا بأس يشيرإلى أنه لا يؤجر عليه لكن يأثم به كذا في الهداية قال ابن همام ومحل الكراهة التكلف فيه بدقائق النقوش ونحوه خصوصا في المحراب أو التزين مع ترك الصلاة أو عدم إعطائه حقه من اللفظ فيه والجلوس لحديث الدنيا ورفع الأصوات بدليل آخر الحديث وهو قوله وقلوبهم خاوية من الإيمان قلت وحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالإتباع من قصة سليمان لان شرائع من فبلنا لا يجوز إتباعه إلا إذا لم يثبت في شرائعتنا ما يخالفه وأيضا كان فيما فعل سليمان حكمة وهي أن تشتغل الشياطين عن إضلال الناس في أعمال شاقة والله أعلم قال البغوي قالوا يعني أهل الأخبار فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتى غزاه بخت نصر فخراب المدينة وهدمها ونقض المسجد وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة لسليمان باليمن حصونا كغيره عجيبة من الصخرة.
( وتماثيل ) :
أي صورا من نحاس وصفر وشيه وزجاج ورخام قيل كانوا يصورون السباع والطيور وقيل كانوا يتخذون صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة وكانت مباحة في شريعتهم قلت ولعل المراد به تماثيل غير ذي الروح لأن تماثيل الإنسان كانت تعبد قبل ذلك حين قال إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه :﴿ ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ﴾ وفي الصحيحين عن أبن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسها فيعذبه في جهنم " قال ابن عباس فإن كنت لا بد فاعلا فأصنع الشجر وما لا روح فيه " متفق عليه وهذا الحديث عام في كل مصور غير مختص بمصوري هذه الأمة وهو خبر لا يحتمل النسخ والتبديل وعنه مرفوعا " من صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها وليس بنافخ " رواه البخاري وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران وأذنان يسمعان ولسان ينطق يقول إني وكلت بثلاثة بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين " رواه الترمذي وعنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب بخلق كخلقي فليخلقوا ذرة وليخلقوا حبة أو شعيرة " متفق عليه وسياق هذا الأحاديث يدل على أن حرمة التصوير غير مختص بهذه الأمة لا يقال أن عيسى كان يتخذ صورة من الطين قلنا : كان ذلك بإذن الله كان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وإنما المحرم على من يتخذ صورة فلا يستطيع أن ينفخ فيه الروح فيكلف أن ينفخ فيها وهو ليس بنافخ أبدا ﴿ وجفان ﴾ جمع جفنة بمعنى القصعة ﴿ كالجواب ﴾ قرأ ابن كثير كالجوابي بإثبات الياء وصلا ووقفا وأثبتها ورش وأبو عمرو في الوصل جمع جابية وهو حوض ضخم كذا في القاموس مشتق من جبي الخراج يقال للحوض الكبير لما يجيء فيه الماء فهي من الصفات الغالبة قال البغوي كان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون منها ﴿ وقدور راسيات ﴾ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنها لعظمهن لا ينزلن ولا يعطلن وكان يصعد إليها بالسلاليم وكانت باليمن ﴿ اعلموا ﴾ أذي قلنا له ولأتباعه اعلموا جملة مستأنفة يا ﴿ آل داوود شكرا ﴾ تنكيره للتقليل فإن الشكر الكثير بالنسبة إلى نعماء الله سبحانه خارج عن طوق البشر بل عن طوق كل مخلوق وهو منصوب على العلية أي أعملوا بطاعتي لشكر نعمتي أو على المصدرية لأن العمل بالطاعة شكر أو على أنه وصف للمصدر أي اعملوا عملا شكرا أو على الحال أي حال كونكم شاكرين أو على المفعولية أي إعملوا شكرا قال جعفر بن سليمان سمعت ثابتا يقول كان داوود نبي الله قد جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا والإنسان من آل داوود قائم يصلي ﴿ وقليل من عبادي ﴾ قرأ حمزة بإسكان الياء والباقون بفتحها ﴿ الشكور ﴾ أي المتوفر على أداء الشكر لسانه وجوارحه في أكثر أوقاته وتقلبه دائما بلا فتور وذلك بعد فناء القلب ودوام الحضور ومع ذلك لا يوفي حقه لان توفيقه للشكر نعمة ليستدعي شكرا آخر إلى نهاية ولذلك قيل الشكور من يرى نفسه عاجزا عن الشكر.
﴿ فلما قضينا ﴾ أي حكمنا ﴿ عليه ﴾ أي على سليمان ﴿ الموت ﴾ قال البغوي قال أهل العلم كان سليمان عليه السلام يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقل من ذلك وأكثر يدخل فيه طعامه وشرابه فأدخل في المرة التي مات فيها وكان بدء ذلك أنه كان لا يصبح يوما إلا نبتت في محراب بيت المقدس شجرة فيسألها ما اسمك فتقول اسمي كذا فيقول لأي شيء أنت ؟ فتقول لكذا وكذا فيأمر بها فتقطع فإن كانت نبتت لغرس غرسها إن كانت لدواء كتب حتى نبتت الخروبة فقال لها ما أنت ؟ قالت الخروبة قال لأي شيء بنت ؟ قالت لخراب مسجدك فقال سليمان ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس فنزعها وغرسها في حائط كريم وقال اللهم أعم موتي على الجن ليعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب ما شاؤوا ويعلمون ما في الغد ثم دخل المحراب فقام يصلي متكئا على عصاه فمات قائما وكان للمحراب كوى بين يديه ومن خلفه وكانت الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملونها في حياته وينظرون إليه يحسبون أنه حي ولا ينكرون إحتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته فمكثوا يدأبون له بعد موته حولا كاملا حتى أكلت الأرض عصا سليمان فخر ميتا فعلموا بموته قال ابن عباس فشكرت الجن الأرضة فهم يأتونها بالماء والطين في جوف الخشبة وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن يزيد قال قال سليمان لملك الموت إذا أمرت لي فأعلمني فأتاه فقال يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت سويعة فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقي كذلك حتى أكلها الأرضة فخر ثم فتحوا عليه وأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما وليلا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة.
﴿ ما دلهم ﴾ أي الجن أو آله ﴿ على موته إلا دابة الأرض ﴾ أي الأرضة التي يقال لها بالفارسية ديوك وهي دابة صغيرة تأكل الخشب والمراد بالأرض الثري أضيف إليها الدابة وقيل الأرض مصدر أرضت الخشبة بالبناء للمفعول أي أكلتها أرضة فهو من قبيل إضافة الشيء إلى فعله كما في بقرة الحرث ورجل الحرب ( تأكل ) حال من دابة الأرض ﴿ منسأته ﴾ أي عصاه من نسأوت الغنم أي زجرتها وسقتها ومنه نسأ الله في أجله أي أخره قرأ نافع وأبو عمرو بألف ساكنة بدل الهمزة وابن ذكوان بهمزة ساكنة والباقون بهمزة مفتوحة على الأصل فإنه مفعول تأكل وحمزة تأكل وحمزة إذا وقف جعلها بين بين ﴿ فلما خر ﴾ أي سقط سليمان على الأرض ﴿ تبينت ﴾ أي ظهرت ﴿ الجن أن ﴾ مخففة على الثقيلة اسمه ضمير الشأن محذوف ﴿ لو كانوا يعلمون الغيب ﴾ ما غاب عنهم كموت سليمان ﴿ ما لبثوا في العذاب المهين ﴾ أي في التعب والمشقة مسخرين لسليمان وهو ميت يظنونه حيا أن مع صلته بدل إشتمال من الجن يعني ظهر عدم علمهم بالغيب على الناس لأنهم كانوا يشبهون ذلك على الإنس ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن عباس تبينت الإنس أي علمت ﴿ أن لو كانوا ﴾ أي الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وقيل معنى الآية علمت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب الخ وهذا التأويل مستبعد جدا فإن الجن كانوا يعلمون جهلهم وإنما كانوا يدعون علمهم بالغيب عند الإنس قال البغوي ذكر أهل التاريخ أن سليمان كان عمره ثلاثا وخمسين سنة ومدة ملكه أربعون سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين في ملكه.
أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن رباح قال حدثني فلان أن فروة بن مسيك الغطفاني قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عزو إني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام أفأقاتلهم ؟ فقال ما أمرت فيهم بشيء بعد فنزلت ﴿ لقد كان لسبإ في مسكنهم ﴾ آية أي دلالة على كمال قدرتنا ووجوب شكرنا قرأ البزي أبو عمرو لسبإ بفتح الهمزة من غير تنوين لأنه صار اسم قبيلة فمنع عن الصرف للتأنيث مع العلمية وقنبل بإسكانها على نية الوقف والباقون بخفضها مع التنوين لأنه كان اسم رجل قرأ حفص وحمزة والكسائي مسكنهم بإسكان السين بغير ألف على الإفراد غير ان حمزة وحفص يفتحان الكاف على القياس والكسائي بكسرها حملا على ما شد من القياس كالمسجد والمطلع والباقون بفتح السين وكسر الكاف وألف بينهما على الجمع قال البغوي روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مسيك الغطيفي قال قال رجل يا رسول الله أخبرني عن سبأ كان رجلا أو امرأة أو أرضا ؟ قال : كان رجلا من العرب ولد له عشرة من الولد تيا من منهم ستة وتشاءم منهم أربعة فأما الذين يتأمنوا فكندة والأشعريون وأزد ومذحج وأنمار وحمير فقال رجل وما أنمار قال الذين منهم خثعم وبحيلة وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان وكذا أخرج أحمد وغيره عن ابن عباس مرفوعا وسبأ هو ابن يشجب بن يعرب بن قحطان ﴿ جنتان ﴾ بدل من آية أو خير محذوف تقديره الآية جنتان والمراد جماعتان من البساطين جماعة ﴿ عن يمين ﴾ البلد ﴿ و ﴾ جماعة عن﴿ شمال ﴾ البلد أو يكون بستان لكل رجل عن يمين مسكنه وشماله ﴿ كلوا من رزق ربكم ﴾ يعني من ثمار الجنتين ﴿ واشكروا له ﴾ على ما رزقكم من النعمة والمعنى إعملوا بالطاعة يعني قال لهم نبيهم ذلك أو لسان الحال يعني دل الحال على أنهم كانوا أحقاء أن يقال لهم ذلك ﴿ بلدة طيبة ﴾ استئناف للدلالة على موجب الشكر يعني بلدكم هذا بلدة طيبة كثيرة الثمر ليست بسبخة قال السدي ومقاتل كانت المرأة تحمل على رأسها المكتل وتمر بالجنتين فيمتلئ المكتل بأنواع الفواكه من غير أن تمس شيئا بيدها وقال ابن زيد لم تكن ترى في بلدتهم بعوضة ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية وكان الرجل يمر ببلدهم وفي ثيابه القمل كلها من طيب الهواء فذلك قوله تعالى بلدة طيبة أي طيبة الهواء ﴿ ورب غفور ﴾ قال مقاتل رب غفور للذنوب عن شكرتم فيما رزقكم.
قال وهب أرسل الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيا دعوهم إلى الله و ذكروهم نعمه عليهم وأنذرهم عقابه ﴿ فاعرضوا ﴾عنهم وكذبوهم و قالوا ما نعرف الله علينا نعمة قالوا لربكم فليحبس هذه النعمة عنا إن إستطاع قال الله تعالى ﴿ فأرسلنا عليهم سيل العرم ﴾أي سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم إذا ساء خلقه و صعب أو سيل المطر الشديد قيل كان ماء أحمر أرسل الله عليهم من حيث شاء و قيل العرم الوادي و أصله من العرامة و هي الشدة و القوة وقيل العرم المسناة وقيل العرم الجراذ الذكر أضاف إليه السبيل لأنه نقب عليهم سكرا ضربت لهم بلقيس و في القاموس عرمة كفرحة سد يعترض به الوادي جمعه عرم أو هو جمع بلا واحد أو هو الإحباس تبني في الأودية و الجرذ الذكر و المطر الشديد وواد و لكل فسر قوله تعالى :﴿ سيل العرم ﴾قال البغوي قال ابن عباس و ابن وهب و غيرهما كان ذلك يعنى العرم السد بنته بلقيس و ذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بواديهم أفسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير فسدت بين الجبلين بالصخرة و القار و جعلت لها أبوابا ثلاثة بعضها فوق بعض و بنت من دونه بركة ضخيمة و جعلت فيها اثنى عشر مخرجا على عدة أنهارها يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء فإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى ثم من الثاني ثم من الثالث. . . . . . الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب من السنة المقبلة فكان يقسم على ذلك فبقوا على ذلك بعد ذلك مدة فلما طغوا و كفروا سلط الله عليهم جراذا يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فغرق الماء جناتهم و خرب أرضهم قال وهب و كانوا فيما يزعمون و يجدون في عملهم كهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطو عندها هرة فلما جاء زمانه و ما أراد الله عز و جل بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت منها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندهما فتغلغلت في السد فثقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل وهم لا يدرون بذلك فلما جاء السيل وجد خللا فدخل فيه حتى قطع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا وتمزقوا حتى صاروا مثلا عند العرب يقولون صار بنو فلان أيدي سبأ وأيادي سبأ أي تفرقوا وتبددوا فذلك قوله تعالى :﴿ فأرسلنا عليهم العرم ﴾.
﴿ وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل ﴾ قرأ نافع وابن كثير بإسكان الكاف والباقون بضمها وهما لغتان قال في القاموس الأكل بالضم وبالضمتين الثمر والرزق قرأ الجمهور أكل وأبو عمرو بالإضافة إلى ﴿ خمط ﴾ فعلى قراءة الجمهور خمط صفة له ومعناه حامض أو مر أو عطف بيان أو بدل ومعناه ثمر الأراك وعلى قراءة أبي عمرو الخمط كل نبت أخذ طمعا مرا أو شجرة الأراك أو نحو ذلك فهو لفظ مشترك قال في القاموس الخمط الحامض أو المر من كل شيء وكخل نبت أخذ طمعا من مرارته وشجر رائحته كالسدر وشجر قاتل وكل شجرة شوك له وثمر الأراك وقيل شجرة الأراك وقال البيضاوي التقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلا أو عطف بيان يعني على قراءة الجمهور وكون الخمط بمعنى الشجر وقال البغوي الأكل الثمر والخمط الأراك وثمرة يقال له البرير هذا قول أكثر المفسرين وقال المبرد كل نبت قد أخذ طمعا من المرارة وقال ابن الأعرابي ثمر شجر يقال له نسوة الضبع على صورة الخشخاش يتفرك ولا ينتفع به ﴿ وأثل ﴾ أي الطرفا معطوف على أكل لا على خمط إذ لا ثمر له وقيل هو شجر يشبه بالطرفا إلا أنه أعظم ﴿ وشيء من سدر قليل ﴾ وصف السدر بالقلة فإن جناه وهو النبق مما يطيب أكله ولذلك يغرس في البساتين وقال البغوي لم يكن السدر ذلك بل كان سدرا بريا لا ينتفع له ولا يصلح ورقه لشيء وتسمية البدل جنتين للمشاكلة والتهكم
﴿ ذلك ﴾ منصوب المحل على المصدرية يعني جزيناهم ذلك الجزاء أو مرفوع على أنه مبتدأ ما بعده خبره يعني ذلك العقاب والتبديل ﴿ جزيناهم بما كفروا ﴾ أي بكفرانهم النعمة أو بكفرهم الرسل ﴿ وهل نجزي إلا الكفور ﴾ قرأ حفص وحمزة والكسائي نجازي بالنون وكسر الزاء على التكلم والبناء للفاعل والكفور بالنصب على المفعولية والباقون بالياء التحتانية وفتح الزاء على الغيبة والبناء للمفعول والكفور بالرفع على أنه قائم مقام الفاعل يعني ما يناقش إلا هو وما نناقش إلا إياه.
﴿ وجعلنا ﴾ عطف على بدلنا يقال كان هذا سابقا على التبديل فكيف ذكر بعده لأن الواو لمطلق الجمع دون الترتيب فلا ينافي كونه سابقا عليه ﴿ بينهم ﴾ أي بين أهل سبأ ﴿ وبين القرى التي باركنا فيها ﴾ بالأنهار والأشجار والتوسعة على أهلها وهي قرى الشام ﴿ قرى ظاهرة ﴾ أي متظاهرة تظاهر الثانية من الأولى لقربها منها ﴿ وقدرنا فيها السير ﴾ أي وقدرنا سيرهم فيها يعني كانوا يسيرون فيها وإذا ساروا كانوا يبيتون في قرية ويقيلون في أخرى وكانوا لا يحتاجون من حمل زاد من سبأ إلى الشام قيل كانت أربعة آلاف وسبع مائة قرية متصلة من سبأ إلى الشام قال قتادة كانت المرأة تخرج ومعها مغزلها وعلى رأسها مكتلها فتمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى تمتلئ مكتلها من الثمار وكان ما بين اليمن والشام كذلك ﴿ سيروا فيها ﴾ على إرادة القول يعني قلنا بلسان المقال أو الحال فإنهم لما مكنوا من السير كذلك كانوا كأنهم أمروا به ﴿ ليالي وأياما ﴾ يعني متى شئتم ليلا أو نهارا ﴿ آمنين ﴾ أي حال كونكم لا ولا سبعا ولا جوعا ولا عطشا فبطروا وطعنوا ولم يشكروا وقالوا لو كان بين جناتنا أبعد مما هي لكان أجدر أن تشتهيه
﴿ فقالوا ﴾ عطف على جعلنا يا ﴿ ربنا باعد ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعد بتشديد العين من التفعيل والباقون بالألف من المفاعلة ﴿ بين أسفارنا ﴾ أي إجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوزات لنركب فيها الرواحل ونتزود الأزواد ونربح في التجارات ونتفاخر على الناس فعجل الله لهم الإجابة قرأ يعقوب ربنا بالرفع على الابتداء وبعد بفتح العين والدال على صيغة الماضي كأنهم استبعدوا أسفارهم القريبة أشرا وبطرا ﴿ وظلموا أنفسهم ﴾ بالبطر والطغيان عطف على قالوا ﴿ فجعلناهم أحاديث ﴾ يتحدث الناس بهم تعجبا وضرب مثل فيقولون تفرقوا أيدي سبأ ﴿ ومزقناهم كل ممزق ﴾ فرقناهم في كل وجه من البلاد كل تفريق قال الشعبي لما غرقت قراهم تفرقوا في البلاد أما غسان فلحقوا بالشام ومر الأزد إلى عمان وخزاعة إلى تهامة ومر آل خزيمة إلى العراق والأوس والخزرج إلى يثرب وهم آل أنمار وكان الذي قدم منهم المدينة عمرو بن عامر وهو جد الأوس والخزرج ﴿ إن في ذلك ﴾ الذي ذكر ( لآيات ) لعبر ودلالات ﴿ لكل صبار ﴾ عن المعاصي وعلى البلاء والطاعة ﴿ شكور ﴾ على النعم قال مقاتل يعني مؤمني هذه الأمة صبور على البلاء شكور للنعماء وكذا قال مطرف قلت بل هو صبور وشكور دائما فإن الدنيا دار البلاء حتى أن النعمة أيضا بلاء يبتلى به العبد هل يشكر عليه أم لا موته بلاء وحياته بلاء قال الله تعالى :﴿ خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ فهو صبور دائما عن المعاصي وعلى المصائب والطاعات وكل بلاء ومصيبة مكفرة للذنوب فهي كما يوجب الصبر يوجب الشكر ثم توفيق الصبر أيضا نعمة من الله يوجب الشكر وقال المجدد رضي الله عنه إيلام المحبوب ألذ من إنعامه فهو أولى بالشكر قال الشاعر فإني في الوصال عبيد نفسي وفي الهجران مولى للموالي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الإيمان نصفان فنصف في الصبر ونصف في الشكر " رواه البيهقي في شعب الإيمان قلت : فالمؤمن تام الإيمان جامع للنصفين دائما غير مقتصر على النصف دون النصف.
﴿ ولقد صدق عليهم ﴾ أي على الناس كلهم كذا قال مجاهد وقيل المراد على أهل سبأ أي على الكفار منهم ﴿ إبليس ظنه ﴾ قرأ أهل الكوفة صدق بالتشديد يعني ظن فيهم ظنا حيث قال ﴿ فبعزتك لأغوينهم أجمعين ﴾ ﴿ ولا تجد أكثرهم شاكرين ﴾ فصدق ظنه وحققه بفعله ذلك بهم وإتباعهم إياه أو وجده صادقا وقرأ الآخرون بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جمدك ويجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في صدق وعده لأنه نوع من القول قال ابن قتيبة لما سأل إبليس النظرة ﴿ فأنظره الله فقال لأضلنهم ولأغوينهم ﴾ ولم يكن مستيقنا وقت هذه المقالة أن ما قاله فيهم يتم وإنما قاله ظنا فلما اتبعوه وأطاعوه صدق عليهم كما ما ظنه فيهم ﴿ فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين ﴾ أي من أهل سبأ أو من الناس كلهم قال السدي عن ابن عباس يعني أن المؤمنين كلهم لم يتبعوه في أصل الدين قال الله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ يعني المؤمنين فمن لليبيان وقيل من للتبعيض يعني بعض المؤمنين الذين يطيعون الله ولا يعصونه
﴿ وما كان له ﴾ أي لإبليس ﴿ عليهم من سلطان ﴾ اسم كان ومن زائدة والظرف المستقر أعني له خبره وعليهم متعلق بالظرف يعني لم يكن له قدرة على أن يوسوسهم ويعدهم ويمنيهم إلا بتسليطنا إياه عليهم حيث قلنا ﴿ واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم ﴾ لشيء ﴿ إلا لنعلم ﴾ أي لنميز ﴿ من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ﴾ فنجازي كلا منها على حسب ما عمل قال الحسن : إن الآية تدل على كون علمه تعالى حادثا وهو يقتضي الجهل سابقا تعالى الله عن ذلك ؟ أجيب بأن علمه تعالى قديم لكن تعلق العلم بالمعلوم حادث والمراد هاهنا بحصول العلم حصول متعلقه مبالغة ويرد عليه أن العلم ما لم يتعلق بالمعلوم لا ينكشف المعلوم عند العالم فإن العلم قبل التعلق بالمعلوم إنما هو العلم بالقوة لا بالفعل فكون تعلق العلم حادثا يقتضي سبق الجهل فبقي المحذور فأجيب بأن علمه تعالى قبل وجود الحادث كان متعلقا به كاشفا عنده تعالى كونه موجودا وهذا لا يقتضي سبق الجهل بل سبق علمه تعالى بكونه معدوما كما في الواقع فلا محذور ومعنى الآية ليتعلق علمنا بذلك موجودا كما تعلق به معدوما لكن يلزم حينئذ كونه تعالى محلا للتغير فالأولى أن يقال أن الزمان بجميع أجزائه وما فيها حاضر عند الله سبحانه متعلق علمه تعالى بها قديما سرمدا وإنما التعاقب فيها بنسبة بعضها على بعض فزيد الذي هو موجود في وقت ومعدوم في وقت حاضر عند الله بكلا الحالتين كما أن كونه في مكان دون مكان حاضر عنده بلا تغير في ذاته تعالى فمعنى الآية لنعلم قديما سرمدا من يؤمن ممن هو في شك وهذا لا يقتضي مسبوقية علمه تعالى كيف وان السابقية والمسبوقية إنما يتصور فيما يجري عليه الزمان كما أن الفوقية والتحتية لا يتصور إلا فيما يحويه المكان ومن هو خالق للزمان والمكان منزه عنها كلها لكن هذه الآية تدل على أن العلم تابع للمعلوم وكون المعلوم حادثا لا يقتضي كون العلم به حادثا فإن المعلوم محفوف بالزمان والعلم محيط به شتان ما بينهما قال الله تعالى :﴿ وربك على كل شيء ﴾ من الزمان والزمانيات ومن المؤمن والكافر ﴿ حفيظ ﴾ رقيب محافظ غير غافل عن شيء فيجازي كلا على حسب عمله.
﴿ قل ﴾ يا محمد لكفار مكة ﴿ ادعوا ﴾ أيها الكفار ﴿ الذين زعمتم ﴾ وأي زعمتموهم آلهة هما مفعولان لزعمتم حذف الأول لطول الموصول بصلته والثاني لقيام صفته مقامه أعنى ﴿ من دون الله ﴾ ولا يجوز أن يكون هذا مفعوله الثاني لأنه لا يحصل به كلاما مفيدا ولا يملكون لأنهم لا يزعمونه والمعنى أدعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع خير يستجيبون لكم إن صح دعواكم كأن هذا الكلام يدل على الشرطية من القياس الاستثنائي تقديره إن صح دعواكم بأنهم آلهة من دون الله يستجيبون لكم إذا دعوتموهم لكنهم ﴿ لا يملكون ﴾ فهذا جملة مستأنفة يدل على الاستثناء ﴿ مثقال ذرة ﴾ من خير أو شر كائنة ﴿ في السماوات والأرض ﴾ فلا يستجيبون لكم فلا يصح دعواكم وذكرهما للعموم العرفي أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب وبعضها أرضية كالأصنام أو لأن الأسباب الظاهرية للشر والخير سماوية وأرضية ﴿ وما لهم فيهما من شرك ﴾ أي شركة زائدة والجملة معطوفة على لا يملكون ﴿ وما له ﴾ أي لله تعالى﴿ منهم ﴾ أي من شركائهم ﴿ من ظهير ﴾ يعينه على خلقها وتدبيرها.
﴿ ولا تنفع الشفاعة عنده ﴾ لأحد ﴿ إلا لمن أذن له ﴾ أن يشفع أو أذن أن يشفع له واللام على الأول كما في قولك الكرم له وعلى الثاني كما في قولك جئتك لزيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي أذن بضم الهمزة على صيغة المجهول والباقون بفتحها على صيغة المعروف وهذا رد لما قالت الكفار على سبيل التنزل أنه سلمنا أن الملائكة والأصنام لا يملكون شيئا وليسوا شركاء الله لكنهم يشفعون لنا عند الله فقال الله تعالى لا تنفع شفاعة أحد لأحد ﴿ إلا لمن أذن له ﴾ والأصنام ليسوا أهلا لأن يؤذن الشفاعة لانحطاط رتبتها عنها والكفار لا يستحقون لأن يؤذن لأحد في شفاعتهم لطغيانهم وكفرهم ولا يؤذن للأنبياء والملائكة إلا لشفاعة المؤمنين.
﴿ حتى إذا فرغ عن قلوبهم ﴾ قرأ ابن عامر ويعقوب فزع بفتح الفاء والزاء على البناء للفاعل والضمير المستكن عائد إلى الله والباقون بضم الفاء وكسر الزاء على البناء للمفعول والجار مع المجرور قائم مقام الفاعل والتفزيع إزالة الفرع كالتمريض إزالة المرض والضمير في قلوبهم راجع إلى الشافعين والمشفوع لهم المفهومين مما سبق وحتى غاية للجملة المقدرة المفهومة مما سبق أعني قوله تعالى :﴿ لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ﴾ فإنه يفهم منه أن الشفعاء المشفوع لهم ينتظرون الإذن للشفاعة فزعين خائفين احتمال عدم الإذن أو فزعين من غشية تصيبهم عند سماع كلام الله عز وجل هيبة وجلالا حين يأذن لهم في الشفاعة قلت وكذلك يأخذ هو الغشية كلما قضى الله أمرا روى البخاري عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فسمعها مسترقوا السمع ومسترقوا السمع هكذا بعضهم فوق بعض ( ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدر بين أصابعه ) فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته على لسان الساحر أو الكاهن فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معه مئة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء " وروى مسلم عن ابن عباس عن رجل من الأنصار أنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث " ربنا تبارك اسمه إذا قضي أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذا السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ما قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ هذه السماء الدنيا فيخطف الجن السمع فيقذفون على أوليائهم فيرمون فما جاؤا به على وجهه فهو حق لكنهم يقذفون ويزيدون " وروى البغوي عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أراد الله أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبرئيل فيكلم الله وحيه بما أراد ثم يمر جبرئيل على الملائكة كلما مر بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرئيل فيقول جبرئيل قال الحق وهو العلي الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبرئيل فينتهي جبرئيل باوحي حيث أمر الله " والظرف يعني ﴿ إذا فزع عن قلوبهم ﴾ متعلق بقوله ﴿ قالوا ﴾ يعني قال بعضهم لبعض حين ينكشف عنهم الفزع اللاحق بهم بالإذن في الشفاعة ﴿ ماذا قال ربكم ﴾ في الشفاعة ﴿ قالوا ﴾ أي بعضهم لبعض ﴿ الحق ﴾ مقول لقال المقدر يعني قال ربنا الحق وهو الإذن في الشفاعة التي هو الحق يعني لمن هو أهلها وهو المؤمنون ﴿ وهو العلي الكبير ﴾ أي ذو العلو والكبرياء لا يستطيع ملك مقرب ولا نبي مرسل أن يتكلم فيه إلا بإذنه.
قال البغوي قال بعضهم إنما يفزعون حذرا من قيام الساعة قال مقاتل والكلبي والسدي كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم خمس مائة وخمسين سنة وقيل ست مئة سنة لم يسمع الملائكة فيها وحيا فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وسمع الملائكة ظنوا أنها الساعة لأن محمدا صلى الله عليه وسلم عند أهل السماوات من أشراط الساعة فيصعقوا مما سمعوا خوفا من قيام الساعة فلما أنحذر جبرئيل يعني في بدء الوحي جعل يمر بأهل كل سماء فيكشف عنهم فيرتفعون رؤوسهم ويقول بعضهم لبعض ﴿ ماذا قال ربكم قالوا الحق ﴾ يعنون الوحي ﴿ وهو العلي الكبير ﴾ فإن قيل على ما قال مقاتل وأمثاله كيف يرتبط قوله تعالى :﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم ﴾ بما سبق من الكلام ؟ قلت لعل وجه ارتباطه أنه متصل بقوله تعالى :﴿ ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ﴾ والمراد بالذين أوتوا العلم الملائكة وما بينهما اعتراض والمعنى ويرى الملائكة ما أنزل إليك من ربك من القرآن هو الحق ولذلك افزعوا عند نزوله خوفا من قيام الساعة حيث كان نزوله عندهم من أشراط الساعة ﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ﴾ وقال جماعة الموصوفون بذلك المشركون قال الحسن وابن زيد قالت لهم الملائكة ﴿ ماذا قال ربكم ﴾ على لسان رسله في الدنيا قالوا الحق فأقروا حين لا ينفعهم الإقرار قلت : وعلى هذا التأويل هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى :﴿ هو منها في شك ﴾ يعني هم في شك إلى الموت حتى إذا فزع عن قلوبهم بعد الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار.
﴿ قل من يرزقكم ﴾ المطر ﴿ من السماوات ﴾ والنبات من ﴿ الأرض ﴾ استفهام تقرير أي حمل المخاطب على الإقرار بأن الله يرزق لا غيره وفيه تأكيد لقوله لا يملكون وهذه الجملة متصلة بقوله قل ادعوا ﴿ قل الله ﴾ فاعل لفعل محذوف أي يرزقكم الله إذ لا جواب سواه وفيه إشعار بأنهم وإن سكتوا وتوقفوا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون بقلوبهم ذلك ﴿ وإنا ﴾ أي الموحدين ﴿ أو إياكم ﴾ أي المشركين بالله ﴿ لعلى هدى أو في ضلال مبين ﴾ إذ التوحيد نفي الاشتراك فهو نقيضه والضلال نفي الهداية فهو نقيضه وارتفاعا النقيضين وكذا اجتماعهما محال فهذه قضية منفصلة حقيقية عنادية والمفهوم مما سبق أن الله يرزق لا غير وهو يستلزم أن الموحد على هدى والمشرك ﴿ في ضلال مبين ﴾ فانعقد القياس الاستثنائي بأن الموحدين إما على الهدى أو في ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم على الهدى إذ لا يرزق إلا الله فليسوا في ضلال أو لكنهم ليسوا على ضلال فهم على الهدى.
أو يقال المشركون إما على الهدى أو في ضلال مبين لعدم الواسطة لكنهم ليسوا على هدى فهم في ضلال أو لكنهم في ضلال إذ لا يرزق إلا الله فليسوا على هدى فليس هذا الكلام مبنيا على الشك بل على حصر الإحتمالات وإبطال إحدى النقيضين لإثبات الآخر وإثبات أحدهما لإبطال الآخر كما هو دأب المناظرة وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لان صاحب الهدى كأنه مستعمل على فرس جواد يركضه حيث شاء وصاحب الضلال كأنه منغمس في ظلام لا يدري أي يتوجه.
﴿ قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون٢٥ ﴾ يعني ما أمركم به من التوحيد وترك الإشراك إنه إنما هو نصيحة لكم وإلا فلا مضرة لأحد بعمل غيره ففي هذا الكلام حث وترغيب على ما أمر به من التوحيد وفي إسناده الإجرام إلى نفسه والعمل إلى المخاطب رعاية لحسن الأدب وإظهار النصح دون التعصب والتعنت
﴿ قل يجمع بيننا ﴾ أي بيني وبينكم ﴿ ربنا ﴾ يوم القيامة ثم ﴿ يفتح ﴾ أي يحكم ويفصل ﴿ بيننا بالحق ﴾ أي بما يستحقه كل منا بأن يدخل المحق الجنة والمبطل الدار ﴿ وهو الفتاح ﴾ أي الحاكم والفاصل في القضايا المغلقة ﴿ العليم ﴾ بما ينبغي أن يقضي به في الآية السابقة إلزام للكفار على سبيل المناظرة وفيما بعدها على سبيل النصيحة وفي هذه الآية على طريقة التوبيخ يذكر حكم الله فيهم يوم القيامة.
﴿ قل أروني ﴾ أي أعلموني ﴿ الذين ألحقتم به شركاء ﴾ الموصول مع صلته مفعول ثان لأروني وشركاء مفعوله الثالث يعني الذين ألحقتموهم بالله في إستحقاق العبادة أعلموني كونهم شركاء يعني بأي صفة جعلتموهم شركاء هل يخلقون شيئا ويرزقون أو ينفعون أحدا أو يضرون يعني لا سبيل إلى القول بأنهم شركاء الله في هذه الآية استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم وإقامة البرهان زيادة في تبكيتهم ﴿ كلا ﴾ ردع لهم عن الإلحاق بعد ظهور عدم المشاركة في شيء من الصفات ﴿ بل هو ﴾ يعني المستحق للعبادة ليس من الصفات فكيف تلحقون به الجمادات النازلة في أدني مراتب الممكنات المتسمة بالزلة الآبية عن قبول العلم والقدرة رأسا فالضمير عائد إلى المستحق للعبادة والله خبره والحصر مستفاد من هذا التركيب والعزيز والحكيم صفتان لله أو خبران آخران وجاز أن يكون هو للشأن والله مبتدأ والعزيز والحكيم صفتان له والخبر محذوف أي متوحد لاستحقاق العبادة.
﴿ وما أرسلناك إلا كافة ﴾ صفة لمصدر محذوف أي إلا رسالة كافة يعني عامة شاملة ﴿ للناس ﴾ فإنها إذا عمتهم وقد كفتهم أن يخرجوا منها أحد منهم فعلى هذا قوله للناس متعلق بكافة وجاز أن يكون كافة حال من كاف الخطاب والتاء للمبالغة يعني ﴿ وما أرسلناك ﴾ إلا جامعا لهم في الإبلاغ عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض كلها مسجد وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " متفق عليه.
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" فضلت على الأنبياء بست أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " وجاز أن يكون المعنى أرسلناك كافة أي كالتي تكفهم عن الكفر في الدنيا وعن الوقوع في النار في الآخرة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذا الدواب التي يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها " متفق عليه واللفظ للبخاري وقيل للناس متعلق بأرسلناك وكافة حال من الناس قدم عليه للإهتمام يعني أرسلناك لأجل إرشاد الناس كافة عامة أحمرهم وأسودهم وأكثر النحويين لا يجوزون ذلك لان ما في حيز المجرور لا يتقدم على الجار وجملة ما أرسلناك حال من فاعل قل أروني غير ذلك على سبيل التنازع يعني قل هذه المقالات لإلزام والكفار وإرشادهم وإلى كونك مرسلا إليهم كافتهم أو كافا إياهم ﴿ بشيرا ﴾ للمؤمنين بالجنة ﴿ ونذيرا ﴾ للكافرين من النار حالان من كاف الخطاب مترادفان لكافة على تقدير كونه حالان داخلان تحت الاستثناء بحرف واحد على طريقة ما ضربتك إلا ضربا شديدا قائما وما حسبك إلا راكبا مسرعا وجاز أن يكونان حالان من الضمير في كافة على تقدير كونه حالان من الكاف ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ وهو الكفار ﴿ لا يعلمون ﴾ أي لا يعتقدون ذلك بل يحملون إرشادك إياهم على العناد والمخالفة
﴿ ويقولون ﴾ أي الكفار لفرط جهلهم استهزاء وأستعبادا ﴿ متى هذا الوعد ﴾ أي المبشر به والمنذر عن أو متى هذا الموعود لقولك يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ يخاطبون به الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين والجزاء محذوف دل عليه ما قبله يعني ﴿ إن كنتم صادقين ﴾في الوعد فأنبؤني عن وقته
﴿ قل ﴾ لهم في الجواب ﴿ لكم ميعاد يوم ﴾ أي وعد يوم أو زمان وعد والإضافة إلى اليوم حينئذ للتبين ﴿ لا تستئخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ﴾ عليه والمراد بذلك اليوم يوم القيامة وقال الضحاك يعني الموت لا تتقدمون ولا تتأخرون بأن يزاد في آجالكم أو ينقص وهذا جواب تهديد مطابق لما قصدوه بسؤالهم من الاستهزاء والإنكار.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ أي بما تقدمه وهو التوراة والإنجيل قالوا ذلك حين سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فأخبروهم إنا نجد نعته في كتبنا فغضبوا وقالوا ذلك أن يكون المراد ﴿ بالذي بين يديه ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالذي بين يديه القيامة والجنة والنار وهذه الجملة معطوفة على ﴿ ويقولون متى هذا الوعد ﴾ ﴿ ولو ترى ﴾ الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب والمفعول محذوف يعني ولو ترى الظالمين ﴿ إذ الظالمون موقوفون ﴾ محبوسون ﴿ عند ربهم ﴾ للحساب الظرف متعلق بترى وجاز أن يكون الظرف مفعولا لترى والمعنى ولو ترى موضع محاسبتهم ﴿ يرجع بعضهم إلى بعض القول ﴾ يعني يتراجعون بينهم القول ويتحاورون والجملة حال من الضمير في موقوفون أو خبر بعد للظالمون ﴿ يقول الذين استضعفوا ﴾ أي الأتباع ﴿ للذين استكبروا ﴾ أي الرؤساء ﴿ لولا انتم ﴾ يعني لولا صدكم إيانا عن الإيمان بالله وبرسوله ودعاؤكم إيانا على الكفر ﴿ لكنا مؤمنين ﴾ بالنبي فأنتم أوقعتمونا في العذاب
﴿ وقال الذين أستكبروا للذين استضعفوا ﴾ في جوابهم ﴿ أنحن صددناكم ﴾ إستفهام إنكار يعني نحن لم نصدكم ﴿ عن الهدى بعد إذ جاءكم ﴾ الهدى ﴿ بل كنتم مجرمين ﴾ أثبتهم أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أثروا التقليد ومتابعة الكفار بلا دليل وتركوا متابعة الرسول المؤيد بالمعجزات ولذلك أورد همزة الاستفهام على الاسم.
﴿ وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا ﴾ لم نصد أنفسنا ﴿ بل ﴾ صدنا عن الهدى ﴿ مكر الليل والنهار ﴾ أي مكركم إيانا في الليل والنهار وإضافة المكر إلى الظرف للإتساع وقيل عنوا بمكر الليل والنهار طول السلامة وطول الأمل فهما صدنا ﴿ إذ تأمروننا ﴾ الظرف بدل من الليل والنهار ﴿ أن نكفر بالله ونجعل له أنداد ﴾ أن مفسرة للأمر أو مصدرية بتقدير الباء ﴿ وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ﴾ أي أضمر الفريقان الندامة على الضلال والإضلال وأخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير أو المعنى أظهروها والهمزة يصلح للإثبات والسلب كما في أشكيته ﴿ وجعلنا ﴾ عطف على ﴿ رأوا العذاب ﴾ ﴿ الأغلال في أعناق الذين كفروا ﴾ في النار أورد المظهر موضع الضمير تنويها للذم وإشعارا بموجب الأغلال ﴿ هل يجزون ﴾ أي لا يجزون جزاء إلا جزاء ﴿ ما كانوا يعملون ﴾ في الدنيا تعدية يجزى إما لتضمين فعل متعد نحو تؤتون أو لنزع الخافض.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن أبي رزين قال : كان رجلان شريكين خرج أحدهما إلى الشام وبقي الآخر فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه فكتب صاحبه يسأله ما عمل فكتب إليه أنه لم يتبعه من قريش أحد إلا رذالة الناس ومساكينهم فترك تجارته ثم أتى صاحبه فقال دلني عليه كذا وكذا فقال أشهد أنك رسول الله فقال وما علمك بذلك ؟ قال إنه لم يبعث نبي إلا أتبعه رذالة الناس ومساكينهم فنزلت ﴿ وما أرسلناك في قرية من نذير ﴾ الآية فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد أنزل تصديق ما قلت من زائدة ونذير في محل النصب على المفعولية ﴿ إلا قال مترفوها ﴾ حال بتقدير قدمن نذير يعني إلا وقد قال مترفوا تلك القرية أي متنعميها خص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي إلى التكذيب والإنكار غالبا التكبر والمفاخرة بزخارف الدنيا والإنهماك في الشهوات والاستهانة بالفقراء ولذلك ضموا التهكم والمفاخرة إلى التكذيب فقالوا ﴿ إنا بما أرسلتم به كافرون ﴾ مقابلة الجمع بالجمع
﴿ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا ﴾ منكم فنحن أولى منكم ما تدعون إن أمكن لأنا أحباء الله حيث أعطانا ذلك ﴿ وما نحن بمعذبين٣٥ ﴾ إما لأن العذاب لا يكون أو لأن الله أكرمنا فلا يهيننا
﴿ قل ﴾ يا محمد ردا لحسبانهم ﴿ إن ربي يبسط الرزق ﴾ في الدنيا ﴿ لمن يشاء ﴾ امتحانا ﴿ ويقدر ﴾ أي يضيق الرزق لمن يشاء إبتلاء وليس القبض والبسط في الدنيا مبنيا على التوهين والتكريم لأن الدنيا دار الإبتلاء لا دار الجزاء ولذلك يختلف فيها أحوال الأشخاص المتماثلة في الخصائص والصفات ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ أي الكفار ﴿ لا يعلمون ﴾ فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للكرامة.
﴿ وما أموالكم ولا أولادكم بالتي ﴾ أي متلبسة بالخصلة ﴿ التي تقربكم عندنا زلفى ﴾ قال الأخفش زلفى إسم مصدر كأنه قال يقربكم عندنا تقريبا وجاز أن يكون الباء زائدة والتي محمولا على أموالكم بإرادة جماعة أموالكم ﴿ إلا من آمن وعمل صالحا ﴾ الاستثناء منقطع يعني لكن ﴿ من آمن وعمل صالحا ﴾ فإيمانه وعمله يقربه عني كذا قال ابن عباس وجاز أن يكون الاستثناء متصلا من مفعول يقربكم يعني أن الأموال والأولاد لا يقرب إلى الله أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله ويعلم ولده الخير ويربيه على الصلاح أو من أموالكم وأولادكم على حذف المضاف يعني إلا أموال من آمن وأولاده فإنها تقربه ﴿ فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ﴾ قرأ يعقوب جزاءا منصوبا منونا على التمييز أو على أنه مصدر لفعله الذي دل عليه والضعف مرفوعا على أنه مبتدأ ولهم خبره والجملة خبر أولئك تقديره فأولئك لهم الضعف يجزون جزاء وعن يعقوب رفعهما على أن الجزاء مبتدأ والضعف بدل منه ولهم خبره وقرأ الجمهور جزاء بالرفع على أنه مبتدأ والضعف بالجر على أنه مضاف إليه إضافة المصدر على المفعول والمراد أن الله يضعف جزاء حسناتهم فيجزون بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة على ما لا نهاية له ﴿ وهم في الغرفات آمنون ﴾ قرأ حمزة الغرفة على إرادة الجنس والباقون على الجمع والغرف رفع الشيء وهي المنازل الرفيعة من الجنة وقد ذكرنا ما ورد في الفرقان من الأحاديث في تفسير سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى :﴿ اولئك يجزون الغرفة بما صبروا ﴾
﴿ والذين يسعون في آياتنا ﴾ أي في إبطال آياتنا ﴿ معاجزين ﴾ مقدرين عجزنا أو ظانين أنهم يفوتوننا ﴿ أولئك في العذاب محضرون ﴾
﴿ قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ﴾ يعني يوسع عليه تارة ويضيق عليه أخرى فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين وما سبق في شخصين فلا تكرار وقال صاحب البحر الأمواج الأولى لرد فخرهم بالعباد وهذا لرد بخلهم حيث قال ﴿ وما أنفقتم ﴾ في سبيل الله ما شرطية في محل النصب وقوله ﴿ من شيء ﴾ بيانه وجواب الشرط ﴿ فهو ﴾ الرب ﴿ يخلفه ﴾ أي يعطيه ما يخلفه إما في الدنيا وإما بدخوله للآخرة فمالكم لا تنفقون أموالكم في سبيل الله وتبخلون بها وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي للتخصيص والتأكيد ﴿ وهو خير الرازقين ﴾ فإن غيره وسط في إيصال رزقه وإطلاق الرازق على غيره إنما هو بالمجاز والرازق الحقيقي ليس إلا الله فإن قلت يلزم حينئذ الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله :﴿ الرازقين ﴾ قلنا المراد هاهنا عموم المجاز.
﴿ ويوم يحشرهم ﴾ أي الكفار ﴿ جميعا ﴾ المستكبرين والمستضعفين ﴿ ثم يقول للملائكة ﴾ عطف على يحشر قرأ يعقوب وأبو جعفر وحفص يحشرهم ويقول بالياء والباقون بالنون فيهما ﴿ أهؤلاء ﴾ الكفار الذين كانوا يعبدون الملائكة ويقولون هم بنات الله ﴿ إياكم كانوا يعبدون ﴾ في الدنيا يقول ذلك تبكيتا للمشركين وتقريعا لهم وإقناطا لهم من الشفاعة وتخصيص الملائكة لأنهم أشرف لشركائهم والصالحون للخطاب منهم ولأن عبادتهم مبدأ الشرك وأصله والظرف متعلق بقوله ﴿ قالوا سبحانك ﴾
﴿ قالوا سبحانك ﴾ أي ننزهك تنزيها عن الشريك ﴿ أنت ولينا من دونهم ﴾ يعني أنت الذي خص موالاتنا به دونهم يعني لا موالاة بيننا وبينهم كأنهم بينوا بذلك براءتهم عن الرضاء بعبادتهم ﴿ بل كانوا يعبدون الجن ﴾ أي الشياطين الذين زينوا لهم عبادة الملائكة.
وقيل كانت الشياطين يتمثلون لهم ويجهلون إليهم أنهم الملائكة فيعبدونهم ﴿ أكثرهم ﴾ يعني أكثر الناس وهم المشركون أو المراد بالأكثر الكل والضمير للمشركين ﴿ بهم ﴾ أي بالجن ﴿ مؤمنون ﴾
﴿ فاليوم ﴾ أي فذلك اليوم ﴿ لا يملك بعضكم لبعض نفعا ولا ضرا ﴾ يعني لا يملك بعض الخلائق من الجن والإنس والملائكة لبعضهم نفعا إثابة أو شفاعة ولا تعذيبا إذ الأمر كله لله ﴿ ونقول للذين ظلموا ﴾ بوضع العبادة في غير موضعه ﴿ ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ﴾ في الدنيا عطف على ﴿ لا يملك ﴾.
﴿ وإذا تتلى عليهم ﴾ أي على أهل مكة ﴿ آياتنا ﴾ من القرآن ﴿ بينات ﴾ واضحات على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ قالوا ما هذا ﴾ يعنون محمدا صلى الله عليه عليه وسلم ﴿ إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا ﴾ يعنون القرآن ﴿ إلا إفك ﴾ أي خبر غيره مطابق للواقع ﴿ مفترى ﴾ يعنون أنه افترى محمد على الله أنه كلامه ﴿ وقال الذين كفروا للحق ﴾ يعني أمر النبوة أو الإسلام والقرآن ﴿ لما جاءهم ﴾ يعني بمجرد مجيئه عندهم من غير تدبر وتفكر ﴿ إن هذا إلا سحر مبين ﴾ أي ظاهر سحريته فالأول باعتبار معناه وهذا باعتبار لفظه وإعجازه وفي تكرير الفعلين والتصريح بذكر الكفرة وما في اللازم من الإشادة إلى القائلين والمقول فيه إنكار عظيم له وتعجيب بليغ منه
﴿ ومآ أتيناهم ﴾ يعني كفار مكة ﴿ من كتب ﴾ فيها دليل على صحة الإشراك هذه الجملة مع ما عطف عليه حال من فاعل ﴿ قال الذين كفروا ﴾ ﴿ يدرسونها وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير ﴾ يدعوهم إليه وينذرهم على تركه فمن أين يدعون بالشرك ويحكمون على القرآن بالإفك والسحر وعلى النبي بالكذب وفيه تجهيل لهم وتسفيه لرأيهم.
ثم هددهم فقال ﴿ وكذب الذين من قبلهم ﴾ من الأمم رسلنا وهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب الأيكة هذا أيضا حال بتقدير قد أو معطوف على قال الذين كفروا ﴿ وما بلغوا ﴾ يعني هؤلاء الكفار أي كفار مكة ﴿ معشار ما آتيناهم ﴾ أي عشر ما أعطينا الأمم الخالية من العدة والنعمة وطول العمر ﴿ فكذبوا رسلي ﴾ فحين كذبوا رسلي جاءهم نكيري حيث دمرناهم ﴿ فكيف كان نكير ﴾ لهم أي كيف كان إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك يعني هو واقع موقعه إستفهام توبيخ فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير وللثاني للتكذيب أو الأول مطلق غير مقيد بالمفعول فإنه نزل منزلة اللازم والثاني مقيد تفصبل بعد الإجمال ولذلك عطف عليه بالفاء وقال صاحب البحر المواج ضمير فكذبوا رسلي عائد على كفار مكة عطف على ما بلغوا فلا تكرار قرأ ورش نكيري بإثبات الياء وصولا والجمهور بحذفها في الحالين.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إنما أعظم ﴾ أي أرشدكم وأنصح لكم ﴿ بواحدة ﴾ أي بخصلة واحدة وهي ما دل عليه قوله ﴿ أن تقوموا لله ﴾ ليس المراد بالقيام ضد الجلوس والرقود بل المراد به الانتصاب في الأمر والتصدي له كما في قوله تعالى :﴿ أن تقوموا لليتامى بالقسط ﴾ والمعنى إن تنتصبوا في التفكير خالصا لوجه الله معرضا عن التعصب والتقليد ﴿ مثنى وفرادى ﴾ يعني اثنين اثنين وواحد واحد فإن الازدحام يشوش الخاطر حالان من فاعل تقوموا ﴿ ثم تتفكروا ﴾ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به عطف على تقوموا يعني قوموا أما اثنين اثنين فيتفكران ويعرض كل واحد منهما فكره على صاحبه وينظران بنظر الإنصاف أو يتفكر فرد فرد في نفسه بعدل ونصفة حتى يتضح له الحق.
وأن مع صلته أما في محل الجر بدلا من واحد أو بيانا له وإما في محل الرفع بإضمار هو وإما في محل النصب بإضمار أعني ﴿ ما بصاحبكم من جنة ﴾ متعلق بتفكروا بتضمين يعلموا إرشاد إلى مواد التفكر والمراد أن هذا أمر بديهي وهو أن صاحبكم محمد صلى الله عليه وسلم ليس به جنون فإنه ذو عقل سليم وقلب عظيم وفهم مستقيم لا ينكره إلا معاند أو مجنون وبديهي أن من له عقل سليم لا يتصدى لأمر عظيم عبث يعادي بسببه الخلائق مع كونه متوحدا أصفر اليد من غير تحقيق ووثوق ببرهان من غير فائدة معتدة به من جلب نفع أو دفع ضرر وجلب نفع أو دفع ضرر غير موجود أما جلب النفع فمنفي حيث يقول ما سألتكم من أجر فهو لكم وكذا دفع الضرر لأن ضرر معاداة الخلائق موجود فما هذا الدعوى من محمد صلى الله عليه وسلم إلا لجلب نفع متوقع في غير هذا الدار ودفع ضرر كذلك فيثبت بهذه المقدمات قوله ﴿ إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ﴾ يلحق بكم في غير هذا الدار فهذه المقدمات يرشد إلى وجوب إتباعه لاسيما قد أنضم ذلك إلى معجزات كثيرة.
قال ابن عباس لما نزلت ﴿ وانذر عشيرتك الأقربين ﴾ " صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي يا بني فهر يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فقال أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا ما جربنا عليك إلا صدقا قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب تبا لك سائر اليوم الهذا جمعتنا فنزلت تبت يدا أبي لهب وتب " متفق عليه.
﴿ قل ما سألتكم من أجر ﴾ على الرسالة ﴿ فهو لكم ﴾ يعني لا أسألكم شيئا وقيل معناه ما سألتكم من أجر بقولي :﴿ ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ وقولي :﴿ لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ﴾ ﴿ فهو لكم ﴾ أي لفائدتكم لأن اتخاذ السبيل إلى الله ينفعكم وقربائي قرباكم قلت بل قربي النبي صلى الله عليه وسلم علماء الظاهر والباطن من أهل بيته وغيرهم ومودتهم يورث التقرب إلى الله سبحانه ﴿ إن أجري ﴾ قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بإسكان الياء والباقون بفتحها ﴿ إلا على الله ﴾ في غير هذا الدار الدنيا ولولا ذلك لم أرتكب تحمل تلك المشقة عبثا فلا بد لكم أن تتبعوني وتعلموا ما يوجب لكم الأجر على الله عز وجل تفضلا منه بناء على وعده قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا معاذ هل تدري ما حق الله علي عباده وما حق العباد على الله ؟ قلت الله ورسوله أعلم. قال : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا " متفق عليه عن معاذ ﴿ وهو على كل شيء شهيد ﴾ فيجازي كل أمري على حسب عمله واعتقاده
( قل ) يا محمد ﴿ إن ربي يقذف بالحق ﴾ أي يلقيه وينزله على من يشاء أن يجتنبه من عباده أو المعنى يرمي به الباطل فيدمغه أو المعنى يرمي به إلى أقطار الآفاق فيكون وعدا بإظهار الإسلام روى أحمد عن المقداد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدرولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذك ذليل إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها أو يذلهم فيدينون لها " ﴿ علام الغيوب ﴾ بالرفع صفة محمولة على محل إسم إن أو بدل من المستكن في يقذف أو خبر ثان لأن أو خبر محذوف أي هو علام الغيوب يعلم من هو أهل للإجتباء بالوحي ويعلم عاقبة أمر الإسلام حيث يدفع به الكفر ويظهره في الأقطار
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ جاء الحق ﴾ أي القرآن والإسلام والتوحيد ﴿ وما يبدئ الباطل وما يعيد ﴾ أي ذهب الباطل يعني الشرك وزهق فلم يبق منه بقية تبدي شيئا أو تعيده كما قال :﴿ بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ﴾ وقال قتادة الباطل إبليس أي ما يخلق إبليس أحدا ولا يبعثه وهو قول الكلبي أيضا وقيل الباطل الأصنام.
قال البغوي إن كفار مكة كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنك قد ظللت حتى تركت دين آبائك فأنزل الله تعالى ﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن ضللت ﴾ قال البغوي إن كفار مكة كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم إنك قد ظللت حتى تركت دين آبائك فأنزل الله تعالى ﴿ قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي ﴾.
﴿ قل ﴾ يا محمد ﴿ إن ضللت ﴾ يعني ما تدينت به من الدين إن كان ضلالا كما تقولون ﴿ فإنما أضل على نفسي ﴾ يعني وبال ضلال إنما يعود إلى نفسي فكيف أختار الوبال على نفسي مع أنه لا جنون بي ولا منفعة دنيوية يعود إلى ﴿ وإن اهتديت فبما يوحي إلى ربي ﴾ يعني إن كان هذا هداية فليس من قبل نفسي ولا من عند أحد من أهل هذا البلد لظهور أني أمي ما كتبت ولا قرأت على أحد فليس هو إلا مستفاذا من الله وحيا فيجب عليكم أن تتبعوني فتهتدوا كما اهتديت فهذا استدلال على النبوة وهذا الوجه المقابلة بين الشرطين وقال البيضاوي في وجه المقابلة عن معنى قوله ﴿ إن ضللت فإنما أضل على نفسي ﴾ فإن وبال ضلالي عليها فإنه بسببها فإنها هي الضالة بالذات والأمارة بالسوء وإن اهتديت فبهدايته تعالى فعلى هذا أوزان هذه الآية قوله تعالى :﴿ ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ﴾ ﴿ إنه سميع قريب ﴾ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله وإن أخفاه.
( ولو ترى ) أيها المخاطب ﴿ إذا فزعوا ﴾ وقت فزع الكفار عند الموت وقال قتادة عند البعث وجواب لو محذوف يعني لرأيت أمرا فظيعا ﴿ فلا فوت ﴾ لهم يعني فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو بإعطاء فداء عن نفسه ﴿ وأخذوا من مكان قريب ﴾ يعني من ظهر الأرض إلى بطنها كما قيل أو من الموقف إلى النار وقال الضحاك هو يوم بدر فزعوا وأخذوا من مكان قريب بعذاب الدنيا لكن لا يناسب هذا التأويل قوله ﴿ وقالوا آمنا به ﴾ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره في قوله ﴿ ما بصاحبكم ﴾ فإنهم لم يقولوا يوم بدرا منا به بل قال أبو جهل حين قتل وكان به رمق وأخذا ابن مسعود لحيته وقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله قال بماذا أخزاني هل زاد على رجل قتله قومه وهل كان إلا هذا وإنما يقولون آمنا به عند اليأس إذا أخذه سكرات الموت وعند البعث من القبور إذا عاينوا العذاب وعند البعث إلى النار ﴿ وأني لهم التناوش ﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الواو مد ومعناه التناول يعني من أين لهم أن يتناولوا الإيمان والتوبة والباقون التناؤش بالمد والهمزة وإذا وقف حمزة جعلها بين بين لأن ذلك من النئش بالهمزة وهو الحرمة في الإبطاء يعني إني لهم أن يتحركوا ويطلبوا الإيمان والتوبة وجاز أن يكون من النوش بمعنى التنآوش فيكون أصله الواو ثم يهمز للزوم ختمها فعلى هذا يقف حمزة بضم الواو ذلك إلى أصله كذا قال الداني في التيسير قال في القاموس النأش يعني بالهمز التناول كالتناوش والأخذ والبطش والنهوض والتأخير ولا يستقيم التأخير هاهنا ويستقيم غير ذلك والنوش يعني بالواو التناول والطلب المشي والإسراع في النهوض ﴿ من مكان بعيد ﴾ فإن تناول الإيمان إنما هو في حين التكليف أنه بعد عنهم حين التكليف وهذا تمثيل حالهم في الإستخلاص بعدما فات عنهم وبعد عنهم مجال من يريد تناول الشيء من غلوة مثل تناوله على ذراع في الاستحالة وعن ابن عباس أنه قال إنهم يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وإني لهم الرد من مكان بعيد أي من الآخرة إلى الدنيا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥١:( ولو ترى ) أيها المخاطب ﴿ إذا فزعوا ﴾ وقت فزع الكفار عند الموت وقال قتادة عند البعث وجواب لو محذوف يعني لرأيت أمرا فظيعا ﴿ فلا فوت ﴾ لهم يعني فلا يفوتون الله بهرب أو تحصن أو بإعطاء فداء عن نفسه ﴿ وأخذوا من مكان قريب ﴾ يعني من ظهر الأرض إلى بطنها كما قيل أو من الموقف إلى النار وقال الضحاك هو يوم بدر فزعوا وأخذوا من مكان قريب بعذاب الدنيا لكن لا يناسب هذا التأويل قوله ﴿ وقالوا آمنا به ﴾ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد مر ذكره في قوله ﴿ ما بصاحبكم ﴾ فإنهم لم يقولوا يوم بدرا منا به بل قال أبو جهل حين قتل وكان به رمق وأخذا ابن مسعود لحيته وقال الحمد لله الذي أخزاك يا عدو الله قال بماذا أخزاني هل زاد على رجل قتله قومه وهل كان إلا هذا وإنما يقولون آمنا به عند اليأس إذا أخذه سكرات الموت وعند البعث من القبور إذا عاينوا العذاب وعند البعث إلى النار ﴿ وأني لهم التناوش ﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الواو مد ومعناه التناول يعني من أين لهم أن يتناولوا الإيمان والتوبة والباقون التناؤش بالمد والهمزة وإذا وقف حمزة جعلها بين بين لأن ذلك من النئش بالهمزة وهو الحرمة في الإبطاء يعني إني لهم أن يتحركوا ويطلبوا الإيمان والتوبة وجاز أن يكون من النوش بمعنى التنآوش فيكون أصله الواو ثم يهمز للزوم ختمها فعلى هذا يقف حمزة بضم الواو ذلك إلى أصله كذا قال الداني في التيسير قال في القاموس النأش يعني بالهمز التناول كالتناوش والأخذ والبطش والنهوض والتأخير ولا يستقيم التأخير هاهنا ويستقيم غير ذلك والنوش يعني بالواو التناول والطلب المشي والإسراع في النهوض ﴿ من مكان بعيد ﴾ فإن تناول الإيمان إنما هو في حين التكليف أنه بعد عنهم حين التكليف وهذا تمثيل حالهم في الإستخلاص بعدما فات عنهم وبعد عنهم مجال من يريد تناول الشيء من غلوة مثل تناوله على ذراع في الاستحالة وعن ابن عباس أنه قال إنهم يسألون الرد إلى الدنيا فيقال وإني لهم الرد من مكان بعيد أي من الآخرة إلى الدنيا.
﴿ وقد كفروا به ﴾ أي بالله وقد مر ذكره أو بمحمد وقد ذكر بقوله ما بصاحبكم أو بالقرآن المذكور بقوله ﴿ جآء الحق ﴾ أو بالعذاب المفهوم من قوله ﴿ اخذوا ﴾ والجملة حال من فاعل قالوا ﴿ من قبل ﴾ ذلك الوقت في أوان التكليف ﴿ ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ﴾ أي من جانب بعيد من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الشبه الذي تمحلوها في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وحال الآخرة كما حكاه من قبل ولعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا محال الظن في لحوقه قال مجاهد يرمون محمدا صلى الله عليه وسلم بما لا يعلمون يقولون شاعر ساحر كذاب بلا تحقيق هذا تكلم بالغيب وقال قتادة يرمون بالظن يقولون لا بعث ولا جنة ولا نار وهذا معطوف على قوله وفد كفروا به على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا.
﴿ وحيل بينهم وبين ما يشتهون ﴾ من نفع الإيمان والنجاة من النار أو الرجوع إلى الدنيا أو كل ما يشتهيه الطبع من المأكولات والمشروبات وغيرها التي كانت لهم ميسرة في الدنيا والظرف قائم مقام فاعل حيل أو ما مسند إلى مصدره أي حيل الحيلولة قرأ ابن عامر والكسائي حيل بإشمام الضم للحاء والباقون بإخلاس الكسر ﴿ كما فعل بأشياعهم ﴾ أي بأشباههم من كفار الأمم الخالية ﴿ من قبل إنهم كانوا في شك ﴾ من البعث ونزول العذاب بهم ﴿ مريب ﴾ موقع للريبة أو ذي الريبة منقول من المشكك أو الشاك نعت به الشك للمبالغة.