ﰡ
مكية كلها إلا آية (٦) : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية.. فقيل فيها: إنها مكية وقيل: هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم، وخاصة إثبات البعث، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية..
إثبات البعث وبيان دواعيه على منكريه [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)
يَلِجُ: يدخل فيها يَعْرُجُ فِيها: يصعد فيها لا يَعْزُبُ: لا يغيب مُعاجِزِينَ: عاجزه وأعجزه: سبقه وغالبه مُزِّقْتُمْ: قطعتم قطعا صغيرة نَخْسِفْ خسف المكان: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض غاب به فيها كِسَفاً جمع كسفة: وهي القطعة مُنِيبٍ: راجع إلى ربه.
وهذا افتتاح لسورة سبأ وهي سورة مكية عنيت بإثبات البعث والرد على منكريه، كما ذكرنا.
المقصود من هذه الآيات إثبات البعث، وقدم له الحق- تبارك وتعالى- بمقدمة غاية في الدقة، ونهاية في الحسن والجمال، إذ نعم الله تنحصر في الجملة في نعمتين: نعمة الإيجاد والإبقاء في الدنيا، ونعمة الإعادة والدوام في الآخرة، ونرى أن السورة التي بدأت بالحمد في القرآن خمس: اثنتان في النصف الأول هما الأنعام والكهف، واثنتان في النصف الثاني هما سبأ وفاطر، والخامسة الفاتحة وهي توضع في الأول والآخر.
وسورة الفاتحة جمعت البدء والإعادة معا فقرئت في البدء والختام للقرآن.
المعنى:
الحمد لله حمدا يوازى نعماءه، ويكافئ فضله، فهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد المطلق في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله وحده الحكم، وإليه وحده ترجعون، الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا فهو وحده صاحب النعم لأنه المالك للكل فهو إذن المستحق للحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير بكل كائن.
يعلم كل ما يلج في الأرض ويدخل فيها من بذور وماء وثمار وكنوز ودفائن وأجسام، ويعلم كل ما يخرج منها من نبات وأشجار، وحيوان ومياه ومعادن وأحجار، ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وثلوج وصواعق وأرزاق وما يعرج فيها ويصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد.
وهو مع ذلك كله الغفور الرحيم، لمن يفرط في واجب الشكر والثناء لصاحب هذه النعم.
ثم بين القرآن أن هذه النعمة التي يستحق بها الحمد وهي نعمة الحياة الآخرة أنكرها قوم وكفروا بها فقال:
وقال الذين كفروا من المشركين وغيرهم الذين ينكرون البعث والحياة الآخرة قالوا لا: لا تأتينا الساعة أبدا. فرد الله عليهم بقوله لنبيه: قل لهم: بلى ستأتيكم أيها
يا أخى: قف معى عند قوله تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أليست معجزة القرآن حيث ذكر تفتيت الذرة من أربعة عشر قرنا؟! سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية ٥٣].
لم يكتف الله بالقسم على إتيان يوم الساعة بل ذكر الدليل على ذلك فقال:
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد قوله: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ولعل هذا هو السر في اختيار وصف الله بالعلم هنا، ووجه الدلالة أنهم كانوا يفهمون أن البعث محال لتفتت الأجسام وضياع الأجزاء فكيف يتأتى جمعها بعد تفريقها؟ والله يرد عليهم بأنه عالم يعلم السر وأخفى، وهو العليم بكل الجزئيات التي في السموات والأرضين، على أنه حكيم ومن الحكمة أن يجازى المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وأن الدنيا ليست محل جزاء بل هي موضع ابتلاء لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «١» فربك يوم القيامة يجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة، أولئك البعيدون في درجات الكمال الذين يشار إليهم بالبنان لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة من الله ورضوان، ولهم رزق كريم لا يتبعه من ولا ألم، وليس صاحبه مهددا بفقر أو موت.
والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا حالة كونهم معتقدين عجزنا وأننا لن نحيط بأعمالهم، وفي قراءة (معاجزين) أى: مسابقين الله، وإن كان هذا مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات الله لما قدروا في أنفسهم وطمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق الله بحسب زعمهم.
والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز- وهو أسوأ العذاب- أليم غاية الألم، إذا لا بد من البعث ليأخذ كل جزاءه على ما قدم.
وانظر إلى الكفار يقولون على سبيل السخرية والاستهزاء: هل ندلكم على رجل يخبركم بالبعث إذا مزقتم كل ممزق؟! أبعد هذا التمزيق وأننا نضل في الأرض نبعث على خلق جديد إن هذا لعجيب؟!! تلك مقالة الكفار ثم يتبعونها بقولهم: أهذا الرجل يفترى على الله الكذب عمدا، أم هو رجل مجنون قد اختلط عقله فما يدرى ما يقول؟! بل أنتم أيها الكفار قوم ليس عندكم استعداد للإيمان بالآخرة، وأنتم في العذاب بسبب أعمالكم والضلال البعيد لاعتقادكم الباطل؟
أعموا فلم يروا ما بين أيديهم، وما خلفهم، وما على جوانبهم في السماء والأرض من آيات شاهدة وأدلة ناطقة على قدرة الله القادرة، وعلى علمه الكامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة، وأن الله- سبحانه وتعالى- قادر على أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون لما بغى، أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما فعل بأصحاب الأيكة لما ظلموا، إن في ذلك كله لآيات لكل عبد منيب تواب يرجع إلى الله.
داوود وسليمان [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤)
أَوِّبِي التأويب: التسبيح سابِغاتٍ المراد: دروعا سابغات، وهي الدروع الكوامل. يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه وَقَدِّرْ من التقدير، أى: قدر تقديرا حسنا يجمع بين الخفة والمتانة فِي السَّرْدِ أى: نسج الدروع المحكمة، بمعنى أن تكون حلقها متوالية غير مختلفة أَسَلْنا: جعلناها سائلة عَيْنَ الْقِطْرِ: هو النحاس المذاب يَزِغْ مِنْهُمْ زاغ عن الأمر: ابتعد وعدل عنه مَحارِيبَ جمع: محراب، وهو البناء المرتفع، ومنه محراب الصلاة، لأنه يرفع ويعظم وَتَماثِيلَ: جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء، أى: صورته بصورته سواء كان حيوانا أو غيره وَجِفانٍ: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والمراد إناء للأكل كبير كَالْجَوابِ: جمع جابية: وهي الحفرة الكبيرة يجيء إليها الماء، أى: يجتمع فيها الماء راسِياتٍ المراد أنها ثابتات لا تتحرك لعظمها دَابَّةُ الْأَرْضِ: وهي دويبة تأكل الخشب يقال لها الأرضة مِنْسَأَتَهُ أى: عصاه خَرَّ: سقط.
المعنى:
كان داود في عصر حروب ونزاع بينه وبين الملك المعاصر حتى أتيحت له الفرصة
ولقد آتينا داود منا فضلا كبيرا يظهر في نواح كثيرة أظهرها أنا قلنا: يا جبال أوبى معه وسبحي إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [سورة ص ١٨، ١٩]. وهذا أمر يدل على عظم شأن داود وكبرياء سلطانه حيث جعل الله الجبال عقلاء منقادين لأمره في نفاذ مشيئته، تسبيح إذا سبح، وتكبر إذا كبر، ولقد سخرنا لداود الطير، وألنا له الحديد، ولا شك أن إلانة الحديد بدون نار معجزة لداود، وهي مناسبة لحاله، وهو في أشد الحاجة لها هو وقومه، وأمرناه: أن اعمل دروعا سابغات كاملات تحفظك من بطش العدو، وتقيك إذا اشتد الحرب وحمى الوطيس.
وقدر في نسجها تقديرا حسنا يجمع بين خفتها ومتانتها، وأن تكون متتابعة متلاحقة، ولعل هذا هو السر في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ إذ السرد يعطى معنى التتابع.
واعملوا يا آل داود بعد هذا صالحا من الأعمال فإنه لا نجاح ولا فوز على العدو بالقوة المادية فقط، بل لا بد من العمل الصالح الذي يقوم النفوس ويطهر الأرواح، ويحصنها حتى لا تكبو، ومن المطلع على خفايا النفوس؟ إنه الله عالم الغيب والشهادة إنه بما تعملون بصير فاحذروه.
وسخرنا لسليمان الريح تجرى رخاء حيث أصاب، ريح مسرعة مع الهدوء والسكون تقطع في الغداة ما يقطعه المسافر النشيط في شهر وتقطع في الرواح ما يقطعه المسافر في شهر، فغدوها شهر ورواحها شهر، والله على كل شيء قدير.
وأسلنا لسليمان عين القطر، وأجرينا له عينا تخرج نحاسا مذابا بلا نار ولا فحم يستخدمه في أغراضه، وتكون معجزة له أمام بنى إسرائيل.
ويظهر- والله أعلم- أن داود كافح وقاتل حتى خلص الملك من الأعداء فمدته كانت مدة حرب وجلاد، ولذلك كان مشغولا بعمل الدروع السوابغ، وفي أيام سليمان كان الهدوء مخيما على المملكة فكان سليمان ينتقل على بساطه الذي يحمله الريح
وكانت الجن تعمل بين يديه ما يريده بإذن ربه، وهي مهددة فمن يزغ منهم عن أمر الله: يملّ عنه يذقه عذابا شديدا من عذاب السعير.
فيا آل داود: هذه بعض نعم الله عليكم، وهي نعم سابغة كثيرة، ومن أعطى هذا فليعمل لله شكرا، وقليل من عباده الشكور، نعم قليل ما هم، فقليل من تصفو نفسه ويطهر قلبه، ويقابل الإحسان بالشكر والنعمة بالحمد «إن الإنسان لربه لكنود».
وخذوا أيها الناس العبرة من داود وسليمان، عبدا ربهما وشكرا وأخلصا فمن الله عليهما بالنعم التي لا تحصى، وأجرى على أيديهما المعجزات.
فلما قضينا على سليمان بالموت، وحكمنا عليه به، ما دل الجن التي كانت تعمل مسخرة تحت أمره على موته إلا دويبة صغيرة كانت تأكل من عصاه فسقط على الأرض بعد موته بسنة- كما ورد-.
فلما سقط تبينت الجن أمر موته، وتبين لهم وللناس أنهم لا يعلمون الغيب ولو أنهم يعلمونه لعلموا بموته ولما لبثوا في العذاب المهين الذي هم فيه، وهو عذاب التسخير، ومن هنا يمكننا أن نتبصر فيما يقال عن الجن وعلمهم الغيب حتى لا نكون فريسة لأوهام المضللين الفسقة.
فاعتبروا يا أولى الأبصار بتلك القصص فإنها عبرة وعظة.
قصة سبأ وسيل العرم [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ١٥ الى ٢١]
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)
لِسَبَإٍ: قبيلة من قبائل العرب العاربة كانت تسكن بلاد اليمن، وتعتبر أصلا تفرع منها عدة فروع في الجزيرة سَيْلَ الْعَرِمِ: جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره كالسد ذَواتَيْ مثنى ذات أُكُلٍ بمعنى: مأكول خَمْطٍ: مر بشع، وقيل: كل شجر له شوك وليس له ثمر وَأَثْلٍ: نبات ينتفع بخشبه وليس له ثمر وسِدْرٍ: نوع من الشجر، قيل: له ثمر يؤكل وهو النبق، وقيل: لا ثمر له.
ومنه الضار، وهو المراد هنا وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: فرقناهم في البلاد الغريبة (سلطان) : من حجة في اتباعه.
المعنى:
لقد كان لسبأ في مساكنهم باليمن آية وعلامة على قدرة الله التي تحيى الأرض بعد موتها، والتي تخرج من الحبة شجرة يانعة الثمار ذات قطوف دانية، وهذه الآية جنتان عن يمين بلدهم وشماله، وليس المراد بستانين فقط، بل المراد نوعان من البساتين: نوع عن اليمين وآخر على الشمال، وبعض العلماء يفسر الآية في قوله: (آية جنتان) بأنها قصة السبئيين وأنهم قوم أنعم الله عليهم بالنعم ثم أعرضوا فأرسل الله عليهم ما أهلكهم وبدد شملهم، وفي هذا عبرة وعظة فهل من مدكر؟! والسبئيون قوم سكنوا بلاد اليمن وأسسوا مدنا عظيمة ذات حصون وقلاع وقصور شامخة، وقد أنعم الله عليهم بالخصب والمطر، وقد هداهم تفكيرهم إلى إقامة سد عال بين جبلين حجزوا به الماء في الوادي، وصرفوه بحكمة وهندسة، فأخصبت أراضيهم، وزرعوا الزروع، وأنشأوا الحدائق الفيحاء ذات الثمار الكثيرة،
روى أنه كانت المرأة منهم تسير وسط الحدائق حاملة مكتلها- المقطف المصنوع من الخوص- فوق رأسها فلا تمضى في السير مدة حتى يمتلئ المكتل من الثمار المتساقطة من الشجر.
اتسعت لديهم النعمة، وفاض عندهم الخير، فأكلوا من رزق ربهم، وتمتعوا بنعمه، وقيل لهم على ألسنة الرسل: اشكروا ربكم الذي أنعم عليكم!!
وهذه الرقعة من الأرض- بلا شك- بلدة طيبة الثمار والهواء، كثيرة الخيرات والبركات، والمنعم بها عليكم رب غفور ستار يستر الذنوب، ويعفو عن السيئات.
فكان أهل سبأ خلقاء أن يشكروا الله على نعمه، وأن يحمدوه على ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ورزقهم من الطيبات، ولكنهم لم يسيروا في الطريق المستقيم بل كذبوا وأعرضوا، وغرتهم الدنيا بزخارفها وغرهم بالله الغرور، كذبوا رسلهم وأعرضوا عن نصائحهم، فأراد ربك أن يذيقهم وبال أمرهم، وأن يريهم عاقبة كفرهم ليكونوا عبرة لغيرهم، وآية ناطقة لمن تحدثه نفسه أن يفعل فعلتهم ويسلك مسلكهم، فأرسل عليهم سيل العرم فتهدم السد، وتقوض البناء الذي كان يحجز المياه لهم لوقت
أما الأهلون الذين كانوا يرفلون في ثوب النعيم والاستقرار فقد نزحوا عن الديار، وتفرقوا في البلاد حتى ضرب بهم المثل فقالوا: (تفرقوا أيدى سبأ).
ذلك- أى: التبديل والانتقال من حال النعيم إلى البؤس- جزاء بما كانوا يعملون، فقد أعرضوا وكذبوا وكفروا بالله ورسله، فكان هذا، وهل نجازي إلا الكفور؟.
فاعتبروا يا أهل مكة بهؤلاء!! وبعد أن كانوا آمنين مطمئنين ينتقلون بين قراهم ومدنهم المتجاورة الآمنة بلا مشقة ولا خوف للرحلة والنزهة والتجارة القريبة، فكانوا يسيرون فيها ليالي ذوات العدد، وأياما قليلة في أمان وهدوء، تعير الحال وتبدل، وقالوا كفرا وبطرا: ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فحق عليهم العذاب، وتمت كلمة ربك فيهم، وجعلناهم أحاديث للناس يضرب بهم المثل، ومزقناهم كل ممزق، وفرقناهم في صحراء العرب، فكان منهم الغساسنة في الشام، وقبائل أنمار في يثرب، وجذام في تهامة والأزد في عمان.
إن في ذلك لآيات لكل صبار كثير الصبر على النعمة وغرورها، شكور لله على ما تفضل، فكثير من الناس أبطرتهم النعمة، وأضلهم المال وغرهم بالله الغرور، فاعتبروا يا أهل مكة، ولا يغرنكم بالله الغرور!! ولقد صدق عليهم إبليس ظنّا ظنه فيهم، فإنه قال: لأغوينهم جميعا، وقال لما طرد:
لأحتنكن ذريته، أى: آدم إلا قليلا، فصدق ظنه فيهم، واتبعوه في إغوائه إلا فريقا منهم هم المؤمنون إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «١».
وما كان لإبليس عليهم من سلطان وحجة تتسلط عليهم، لكن كان ذلك لنعلم علم
مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون الله آلهة شفعاء لهم [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)
مِثْقالَ ذَرَّةٍ: وزن ذرة ظَهِيرٍ: معين فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: من التفزيع، وهو إزالة الفزع والخوف عن قلوبهم أَجْرَمْنا: أذنبنا، من الجرم وهو الذنب يَفْتَحُ: يحكم، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره كَلَّا:
كلمة ردع لهم كَافَّةً أى: مانعا لهم، من الكف وهو المنع، أو جامعا لهم، مأخوذة من الكف بمعنى الجمع، والتاء للمبالغة، والمراد: جامعا للناس في الإبلاغ.
وهذا رجوع إلى خطاب الكفار والمشركين الذي مضى أول السورة بعد ذكر طرف من قصة داود وسليمان، وما أنعم الله به عليهما، وذكر قصة قوم سبأ، وفي هذا من آيات القدرة ما فيه، ومن دلائل تفرد الله بالوحدانية ما هو غنى عن البيان.. وهو خطاب توبيخ وتأنيب لهم، وخاصة بعد ما تقدم!
المعنى:
قل يا محمد لهؤلاء المشركين الضالين سواء السبيل: ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة، وسميتموهم آلهة، وزعمتم أنهم يستحقون أن يكونوا شركاء لله الواحد القهار، ادعوهم في السراء والضراء كما تدعون الله، والجأوا إليهم في الشدائد كما تلجأون إلى الله، وانظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون من الله الإجابة والرحمة.
ولقد أجاب الحق- تبارك وتعالى- عنهم بإجابة هي المتعينة وحدها- ولا يجيب منصف إلا بها- فقال ما معناه: إنهم لا يملكون شيئا أبدا، ولا يملكون وزن ذرة من خير أو شر في جميع جهات السموات والأرض، وما لهم في السموات كلها وفي الأرض جميعا من شركة في الخلق أو في الملك ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [سورة الكهف آية ٥١].
قل لهم: لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا، ونحن لا نسأل عما تعملون، قل
وكانوا يقولون: نحن نتخذهم شفعاء لله يوم القيامة.
فيرد الله عليهم أبلغ رد وأكده بقوله: ولا تنفع الشفاعة عنده يوم القيامة إلا لمن أذن له فيها، وهذا تكذيب بلا شك لقولهم: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله».
وهل الإذن في الشفاعة يكون من السهولة واليسر كما يظن؟ لا بل هناك موقف شديد، وأمره عسير، يحول بين الإنسان ولسانه بل يجعله في غمرة من الخوف والفزع رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «١».
كان الناس يتربصون ويتوقعون مدة من الزمن فزعين وخائفين حتى إذا فزع عن قلوبهم، وكشف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يكلمها الرب جل شأنه- إذا حصل هذا- تباشروا بذلك وسرى عنهم وقالوا: قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن يشاء ويرضى، وهو الحق- تبارك وتعالى- صاحب العلو والكبرياء ليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلا لمن ارتضى.
فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هذا؟ وأين أصنامكم في هذا الوقت العصيب؟! عجبا لكم أيها المشركون! وأى عجب؟! تدعون من دون الله آلهة لا تنفع ولا تضر أى: قصدا، وإلا فإنها تضر قطعا، قل لهم يا رسول الله: من الذي يرزقكم من السموات والأرض؟! أمره بالإجابة عن هذا السؤال لأن هذه الإجابة هي المتعينة، ولأنهم لو أزيل عنهم كابوس الشرك، وغطاء العناد والكفر وخلّيت قلوبهم وحدها لقالوا: هو الله الرزاق ذو القوة المتين قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟!. [سورة يونس آية ٣١].
وانظر إلى أدب الخطاب، واستدراج الخصم لعله ينظر في حاله وحال من يجادله
قل لهم: لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا، ونحن لا نسأل عما تعملون، قل لهم: سوف يجمع الله بيننا بالحق ثم يحكم بيننا بالعدل، وهو الحكيم العليم بأمور خلقه، فسيعطيهم جزاءهم وافيا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. عجبا لكم! قل لهم يا محمد:
أرونى الذين ألحقتموهم بالله شركاء، وجعلتموهم لله أندادا، أرونى أين هم؟ وفي هذا توجيه لهم ولفت لأنظارهم لعلهم ينظرون إلى الحق فيتبعوه! كلا وألف كلا! وبعدا لرأيهم المجافى للحق والعدل! فليس الأمر كما زعمتم بل هو الله وحده، لا إله إلا هو العزيز لا يغلبه غالب، ولا يعجزه أحد في أرضه وسمائه، فهو الحكيم في كل أعماله، العليم بكل خلقه، سبحانه وتعالى عما يشركون، وأما أنت يا محمد فما أرسلناك إلا كافة للناس تمنعهم من الكفر والفسوق والعصيان، وتدعوهم جميعا إلى الإسلام، ولا عليك شيء بعد هذا أبدا فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف آية ٢٩]. ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا.
ويقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها المسلمون صادقين في قولكم: إن الساعة آتية لا ريب فيها.
قل لهم يا محمد: لكم ميعاد يوم معلوم عند الله، وأجل محدود بوقت معين، لا تستأخرون عنه ساعة، ولا تستقدمون لحظة، والأمر كله بيد الله.
من مواقف المشركين [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣١ الى ٣٣]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣)
مَوْقُوفُونَ: محبوسون وممنوعون اسْتُضْعِفُوا: هم المستضعفون اسْتَكْبَرُوا: هم المستكبرون من الرؤساء والمقدمين مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ المكر: الاحتيال والخديعة، والمراد مكركم في الليل والنهار أَنْداداً: جمع ند وهو النظير والشبيه والمثل وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أى: أظهروها الْأَغْلالَ: جمع غل، وهو طوق من حديد يوضع في العنق فلا يفلت صاحبه.
المعنى:
روى أن المشركين سألوا أهل الكتاب عن صفة النبي عندهم، فقال أهل الكتاب:
نعم إن صفته عندنا في كتبنا، فقال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن، ولن نؤمن بالذي بين يديه من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، وكانوا قبل ذلك يرجعون إلى أهل الكتاب ويسمعون لقولهم في هذا. فانظر إلى اضطرابهم وتضارب آرائهم، وهذا موقف لهم في الدنيا.
وفي الآخرة: لو ترى يا محمد هؤلاء الظالمين وقد وقفوا للحساب، ومنعوا من التحرك والانفلات، لو تراهم موقوفين عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول،
ولو تراهم إذ يقول الأتباع والمستضعفون للذين استكبروا وتعالوا عليهم من القادة والرؤساء: لولا أنتم أيها الرؤساء موجودون لكنا مؤمنين، فأنتم السبب في كفرنا وعليكم التبعة، وأنتم تستحقون مضاعفة العذاب. وبماذا رد الذين استكبروا؟ قالوا لهم: أنحن صددناكم عن الهدى ومنعناكم منه بعد إذ جاءكم؟ لا لم يحصل هذا أبدا. بل كنتم أنتم مجرمين ومرتكبين الإثم والكفر باختياركم وميلكم، ليس لنا دخل في صدكم وكفركم بالله، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا يردون عليهم مقالتهم: بل مكركم الدائم ليلا ونهارا هو الذي حملنا على الكفر وأمرنا به، نعم دعايتكم المسمومة وحيلتكم الفتاكة ووضعكم في موضع القيادة والتبع، كل هذا أثر فينا حتى كفرنا وأشركنا من حيث لا نعلم، فكان ما صنعتموه معنا أشبه شيء بالمكر والحيلة حتى وصلنا إليه.
وأظهروا جميعا- التابعون والمتبوعون- الندامة لما رأوا العذاب محضرا، وجعلنا الأغلال في أعناقهم فلا يفلتون من عذاب ربك أبدا، وهل هذا إلا جزاء أعمالهم في الدنيا؟ نعم وهل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟
تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)
مُتْرَفُوها: أغنياؤها وقادتها يَبْسُطُ الرِّزْقَ: يوسعه زُلْفى وزلفى كقربى في الوزن والمعنى جَزاءُ الضِّعْفِ أى: الجزاء المضاعف مُعاجِزِينَ:
مغالبين وَيَقْدِرُ لَهُ يقدر: يضيق يُخْلِفُهُ: يجعل له خلفا..
وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان أن أخلاق الكفار وأعمالهم واحدة في كل زمان ومكان حتى لا يتألم الرسول، وبهذا نعرف لكفار مكة موقفا آخر.
المعنى:
وما أرسلنا قبلك في قرية من نذير ورسول إلا قال مترفوها وأغنياؤها حسدا من عند أنفسهم وبغيا وغرورا كاذبا قالوا: إنا بما أرسلتم به أيها الرسل كافرون، إذ لو كان هذا الذي يدعيه الرسول حقّا لكنا أولى به منه لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وقالوا كغيرهم: نحن أكثر أموالا وأولادا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وإذا كنا كذلك في الدنيا، وهذا الرزق من عند الله كما هو معلوم، فنحن أكرم على الله منكم إذ أنتم فقراء ضعفاء، وإذا كان الأمر كذلك فما نحن يوم القيامة بمعذبين أصلا إما لأنه لا بعث ولا جزاء، أو إن كان هناك جزاء فنحن أصحاب الجزاء الحسن لأن الله أعطانا لكرامتنا ومكانتنا عنده.
عجبا لهؤلاء! ليس الرزق في الدنيا لكرامة صاحبه على الله، ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء، ويقتر الرزق على من يشاء تبعا لحكمة هو يعلمها بقطع النظر عن عمل الصالحين والفاسقين، أما جزاء العمل الصالح والعمل الفاسد فهو يوم القيامة فقط،
ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فهم يزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل، وما علموا أن البسط قد يكون استدراجا، والتقتير قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات.
وما أموالكم بالتي تقربكم عند الله زلفى وقربى، ولا أولادكم كذلك، فما الأموال ولا الأولاد تقرب أحدا إلى الله، لكن المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلم أولاده الخير، ويربيهم على الإسلام وينشئهم تنشئة إسلامية مدارها على حب الله والوطن وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأولئك لهم الجزاء المضاعف إلى عشر أو إلى سبعمائة بما عملوا، وهم في غرفات الجنة هم آمنون، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون.
والذين يسعون جاهدين ومنفقين النفس والنفيس في إبطال آياتنا معاجزين لله على حسب ظنهم القاصر وإدراكهم العاجز أولئك هم في العذاب محضرون، وفي نار جهنم مخلدون! جزاء بما كانوا يعملون.
قل لكفار مكة الذين كانوا يفاخرون ويباهون بكثرة الأموال والأولاد: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر عليه، وقد كرر هذه العبارة للتأكيد، وقيل:
بينهما مخالفة فالأولى لشخصين أحدهما وسع عليه والثاني قتر عليه، وأما هنا فلشخص واحد في وقتين بدليل ذكر الضمير الذي يعود على (من) في قوله: «له» وهذا مما يؤكد أن التوسيع والتقتير ليس لكرامة ولا لهوان، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد، وليس المقصود من الأموال التباهي بها، والاعتماد عليها، وإنما الواجب أن يستغلها صاحبها في الإنفاق،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأبقيت».
فاعلموا أيها الناس أن ما أنفقتم من شيء في سبيل الله، وسبيل الله هنا موسعة فالنفقة الواجبة من صدقة أو زكاة، والنفقة المندوبة على الأهل والأولاد كلها هنا في سبيل الله، ما أنفقتم من شيء في هذا فالله يخلفه، وهو خير الرازقين. والمراد بقوله: «يخلفه» يعطيه بدله وخلفه، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة،
وعن أبى هريرة قال: قال
اللهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكا تلفا».
وعن أبى هريرة أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قال لي: أنفق أنفق عليك»
وهذا إشارة إلى إعطاء البدل في الدنيا إما بالمال أو بالقناعة والرضا، وهما كنزان، أو في الآخرة وهو الثواب الجزيل، وذلك كله إذا كانت النفقة في طاعة الله، وعلم من هذا أن الخلف قد لا يكون في الدنيا.
بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة [سورة سبإ (٣٤) : الآيات ٤٠ الى ٥٤]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (٤٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)
يَصُدَّكُمْ: يمنعكم إِفْكٌ: كذب مُفْتَرىً: مختلق لا أساس له يَدْرُسُونَها: يقرءونها مِعْشارَ المعشار والعشر سواء، وقيل: المعشار:
عشر العشر، أى: واحد في المائة، وقيل: هو عشر العشير، والعشير العشر، أى: واحد في الألف نَكِيرِ المراد: فكيف كان عقابي وعذابي مَثْنى وَفُرادى المراد:
وحدانا وجماعات مِنْ جِنَّةٍ: من جنون يَقْذِفُ بِالْحَقِّ المراد: يبين الحجة ويرمى بها الباطل فَزِعُوا الفزع: الخوف والاضطراب فَلا فَوْتَ أى: فلا هروب ولا نجاة التَّناوُشُ أصل التناوش: التناول بسهولة ويسر وَيَقْذِفُونَ:
يرمون بِأَشْياعِهِمْ جمع (شيع) الذي هو جمع شيعة، وهي الجماعة المتشيعة لمذهب أو لرجل.
وتلك مواقف من مواقف المشركين في الدنيا والآخرة، ولا غرابة إذا طال نقاش القرآن لهم فيها، وعرض أمورهم عرضا واضحا مكشوفا مع الرد عليهم في كل جزئية، إذ السورة مكية والمقام يقتضى ذلك لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون عن غيّهم.
واذكر يوم يحشرون جميعا، ويجمعون للحساب جميعا، ويا هول ذلك الموقف الشديد موقف الزحام والحساب العسير. ثم يقول ربك للملائكة في هذا الاجتماع وعلى رءوس الأشهاد: أهؤلاء- الإشارة للكفار- إياكم كانوا يعبدون؟! أهؤلاء الكفار كانوا يخضعون لكم بالعبادة والتقديس وأنتم خلق من خلق الله؟! فتقول الملائكة:
سبحانك يا رب وتنزيها لك بعد تنزيه، أنت ولينا ومتولى أمورنا وأمور غيرنا من خلقك، يا رب أنت الذي نواليك ونتقرب منك بالعبادة ونواصلك ونرجوك، وليس بيننا وبينهم موالاة من جهتنا، وهذا معنى قوله: «من دونهم» ثم بينوا السبب الحامل لهم على عبادتهم فقالوا: بل كانوا يعبدون الجن، أى: فليس لنا دخل، وإنما السبب هو الجن حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: إن حيّا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنهم من الملائكة، وأنهم من بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً.
فالاستفهام في قوله للملائكة: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ للتفريغ وتوبيخ الكفار على عبادتهم غير الله، وهو جار على نظام المثل القائل: «إياك أعنى واسمعي يا جارة» وهدا يشبه قول الله للمسيح: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ؟ [سورة المائدة آية ١١٦]، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا كشفاعة ونجاة، ولا ضرا كعذاب أو هلاك بل الأمر يومئذ لله، وإليه وحده ترجع الأمور، ويقال حينئذ توبيخا وتأنيبا للكفار: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون.
ذلك موقف لهم شديد من مواقف يوم القيامة، وما أطوله عليهم! وهذا موقف آخر في الدنيا سيق بيانا لسبب هذا العذاب الشديد:
هؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آياتنا بينات واضحات كالشمس أو أشد قالوا: ما هذا الذي يتلو عليكم الآيات إلا رجل- كأنه غير معروف- يريد لأمر في نفسه أن يصدكم عن عبادة آبائكم وأسلافكم الآلهة التي كانوا يعبدونها، فهذا رجل
فكذبت الأمم رسلي فكانت العقوبة الصارمة. والجزاء العاجل والهلاك المهلك فكيف كان عقابي؟ وفي هذا تهديد لهم شديد.
ثم رجع القرآن بعد هذا يستدرجهم. ويعرض عليهم الدين ويطالبهم أن يحكموا عقولهم، وينظروا ببصائرهم لعلهم يرشدون فقال: قل لهم يا محمد: إنما أعظكم وأذكركم، وأحذركم سوء عاقبتكم، أعظكم بواحدة، أى: بخصلة واحدة فقط هي أن تقوموا لله وحدانا ومجتمعين منفردين بالرأى أو متشاورين. ومعنى القيام هنا هو طلب الحق لوجه الحق، وما أقوى هذا التصوير وما أبلغه؟! إنه لتصوير رب العالمين بلا شك. تقومون تاركين القعود والكسل. والخمول والتقليد، تاركين موت النفس ونوم العقل متسلحين بيقظة الضمير ونشاط العقول، ناظرين متفكرين في هذه الرسالة وصاحبها، مجردين أنفسكم من كل ما يعوق البحث الحر، والفكر السليم الخالي من الهوى والغرض.
إنه يدعو إلى كل خير، ويحرم كل شر فتفكروا بصائركم عسى أن يهديكم ربكم إلى الحق ونوره.
قل يا محمد لهم: لست رجلا طالبا للدنيا وعرضها، ولست أبغى من دعوتي أجرا ولا مالا ولا جاها ولا سلطانا، إن أجرى إلا على الله، وهو على كل شيء شهيد.
قل لهم تطمينا لقلوب المؤمنين أتباعك، وتثبيتا لهم على دعوتك، وتهديدا للمخالفين: إن ربي يقذف بالحق ليدمغ الباطل، وهو علام الغيوب، ولله ما أقوى هذا التعبير جعل الحق كالقنبلة التي تقذف من حكيم عليم بارع يعلم خفايا مهنته أتراها لا تصيب الهدف؟ فصبرا أيها المسلمون ثم صبرا، قل: جاء الحق، وزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ إنه لا ثبات له ولا قرار، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
قل لهم يا محمد: إنه ضللت فإنما أضل على نفسي لأنها هي التي أمرتنى بالسوء، وإن اهتديت فبسبب ما يوحى إلى من ربي إنه سميع قريب.
ومن هنا نعلم أن طريق الضلال هو النفس الأمارة بالسوء، وما يحيط بها من مجتمع فاسد موبوء، وأن الهداية والخير، والنور والفلاح من طريق الوحى والقرآن.. ألم يأن
نحن لا نطالب بحكم القرآن إلا لخير المسلمين وقطع دابر الفتن وعبث العابثين مؤتسين بقول الحق على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وهناك موقف آخر:
ولو ترى يا أيها النبي- أو من يتأتى منه الرؤية- إذ فزعوا وخافوا واضطربوا يوم لقاء الله لرأيت أمرا عظيما، وشاهدت أحوالا هائلة يستريح لها قلب من عضه الألم، وحز في نفسه الحزن من أفعالهم.
لو تراهم إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة، وكيف النجاة وهم بين يدي القوى القادر؟
وقد أخذوا من مكان قريب فهم لم يرموا عن بعد بل أخذوا عن قرب فكيف يفلتون؟
وعند ذلك يقولون: آمنا بالقرآن والنبي، فهل ينفع الذين ظلموا إيمانهم في هذا الوقت؟ كلا! وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ تمنوا أن ينفعهم إيمانهم في هذه الظروف كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، وأنى لهم ذلك؟. وهل يسوى بين من يتناول الشيء من مكان بعيد جدّا بيده كمن يتناوله تناولا سهلا من مكان قريب وبلا حاجز، وكيف يستويان؟
وهم قد كفروا بالقرآن والنبي من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد كقولهم في النبي: إنه ساحر، وشاعر، وكذاب، وهذا تكلم بالغيب ورجم به من جهة بعيدة جدا عن الحقيقة لأن ما جاء به أبعد شيء عن السحر والشعر والكذب، فهم أشبه ما يكون بمن يقذف الغرض من جهة بعيدة جدا، وهو غائب عنه غير مشاهد له، فهل يصيبه؟