ﰡ
وعبارة أبي حيان هنا (١): مناسبة قصة داود وسليمان عليهما السلام لما قبلها: هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره؛ إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى، من تأويب الجبال والطير مع داود، وإلانة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل: لما ذكر من ينيب من عباده.. ذكر من جملتهم داود، كما قال: ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾ وبَيَّن ما آتاه الله على إنابته، فقال: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾، وقيل: ذكر نعمته على داود وسليمان عليهما السلام احتجاجًا على ما منح محمدًا - ﷺ -؛ أي: لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديمًا بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد - ﷺ -.. رجع إلى التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو انتهى.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الْحَمْدُ﴾ بأقسامه الأربعة مستحق ﴿لِلَّهِ﴾ فلا تكون لغيره سبحانه. واعلم (٢) أنَّ الألف واللام في الحمد؛ إما للجنس، أو للاستغراق، أو للعهد، وعلى كلٍّ منها، فاللام في ﴿لِلَّهِ﴾ إما للملك، أو للاستحقاق، أو للاختصاص، فهذه ثلاثة في الثلاثة الأولى بتسع احتمالات: والأولى منها كون الألف واللام للجنس، واللام
(٢) سلم المعراج.
فإن قلت: لِمَ اختيرت كلمة الحمد دون الشكر حيث لم يقل الشكر لله؟
قلت: اختيرت كلمة الحمد على الشكر؛ لأن الحمد يعم الفضائل والفواضل دون الشكر، فإنه يختص بالفواضل.
وإن قلتَ: لِمَ اختيرت كلمة الجلالة دون الرحمن وغيره من الأسماء، حيث لم يقل الحمد للرحمن مثلًا؟
قلتُ: اختيرت الجلالة دون سائر الأسماء والصفات لدلالتها على صفتي الجلال والجمال، وعلى استحقاقه الحمد لذاته؛ لئلا يتوهم اختصاصه بصفة دون أخرى؛ لأن تعليق الحكم بمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق. وقد بسطت الكلام على الحمدلة، وعلى الصور الجارية فيها إلى أن وصلت بمئة وثمانين صورة في بعض مؤلفاتي "سلم المعراج على خطبة المنهاج"، و"فتح الملك العلام على عقيدة العوام"، فراجعه إن أردت الخوض فيها.
أي: جميع (١) أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد وشاكر ملك لله تعالى، ومخصوص به، لا شركة لأحد فيه؛ لأنه الخالق والمالك، كما قال: ﴿الَّذِي لَهُ﴾ خاصة خلقًا وملكًا وتصرفًا بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي (٢): جميع الموجودات، فإليه يرجع الحمد لا إلى غيره، وكل مخلوق أجرى عليه اسم المالك، فهو مملوك له تعالى في الحقيقة؛ لأن الزنجي لا يتغير عن لونه؛ لأن سمي كافورًا، والمراد: على نعمه الدنيوية، فإنَّ السموات والأرض وما فيهما خلقت لانتفاعنا، فكلها نعمة لنا دينًا ودنيا، فاكتفي بذكر كون المحمود عليه في الدنيا عن ذكر كون الحمد أيضًا فيها. وقد صرح في موضع آخر، كما قال: ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ﴾، وهذا القول؛ أي: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ...﴾ إلخ، وان كان حمدًا لذاته بذاته، لكنه تعليم للعباد كيف يحمدونه، فكأنه قال: قولوا يا عبادي: الحمد لله... إلخ، إذا أردتم ثنائي وشكري.
(٢) روح البيان.
والخلاصة: أن له عَزَّ وَجَلَّ جميع ما في السمموات وما في الأرض خلقًا وملكًا، وتصرفًا بالإيجاد والإعدام، والإحياء والإماتة.
وعبارة "الشوكاني" هنا: ومعنى (٢): ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: أي جميع ما هو فيها في ملكه، وتحت تصرفه، يفعل به ما يشاء، ويحكم فيه بما يريد، وكل نعمة واصلة إلى العبد، فهي مما خلقه له، ومنَّ به عليه، فحمده على ما في السموات والأرض هو حمد له على النعم التي أنعم بها على خلقه مما خلقه لهم.
ولما بيَّن أن الحمد الدنيوي من عباده الحامدين له مختص به.. بيَّن أن الحمد الأخروي مختص له كذلك، فقال: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾، فهو بيان لاختصاص الحمد الأخروي به تعالى إثر بيان اختصاص الدنيوي به على أن الجار؛ إما متعلق بنفس الحمد، أو بما يتعلق به الخبر من الاستقرار، وإطلاقه عن ذكر ما يشعر المحمود عليه ليعم النعم الأخروية، كما في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾، وما يكون ذريعة إلى نيلها من النعم الدنيوية، كما في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا﴾؛ أي: لما جزاؤه هذا من الإيمان والعمل الصالح.
والمعنى: أن له سبحانه على الاختصاص حمد عباده الذين يحمدونه في الدار الآخرة إذا دخلوا الجنة. وقد قيل (٣): يحمده أهل الجنة في ستة مواضع:
أحدها: حين نودي ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (٥٩)﴾ فإذا ميِّز المؤمنون من الكافرين يقول المؤمنون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، كما قاله نوح عليه السلام حين أنجاه الله من قومه.
والثاني: حين جاوزوا الصراط قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
والرابع: حين دخلوا الجنة، واستقبلتهم الملائكة بالتحية قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ [....] الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾.
والخامس: حين استقروا في منازلهم قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾.
والسادس: كلما فرغوا من الطعام قالوا: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢)﴾.
والفرق بين الحمدين مع كون نعمتي الدنيا والآخرة على طريق التفضل (١): أن الأول: على نهج العبادة، والثاني: على وجه التلذذ، كما يتلذذ العطشان بالماء البارد لا على وجه الفرض والوجوب. وقد ورد في الخبر: "أنهم يلهمون التسبيح، كما يلهمون النفس" والمعنى: أنَّ الحمد في الدنيا عبادة، وفي الآخرة تلذذ وابتهاج؛ لأنه قد انقطع التكليف فيها.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي أحكم أمور الدين والدنيا والآخرة، ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمة، وتستدعيه المصلحة ﴿الْخَبِيرُ﴾؛ أي: بليغ الخبرة والعلم ببواطن الأشياء ومكنوناتها.
٢ - ثم بيَّن كونه خبيرًا بقوله: ﴿يَعْلَمُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿مَا يَلِجُ﴾ ويدخل ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ من البذور والغيث، ينفذ في موضع، وينبع من آخر، ومن الكنوز والدفائن، والأموات، والحشرات، والهوام، ونحوها. وأيضًا: يعلم ما يدخل في أرض البشرية بواسطة الحواس الخمس، والأغذية الصالحة والفاسدة من الحلال والحرام، ﴿و﴾ يعلم ﴿مَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾؛ أي: من الأرض، كالحيوان من حجره، والزرع والنبات، وماء العيون، والغازات، والمعادن التي مضى عليها آلاف السنين، ومخلفات الأمم ومصنوعاتهم؛ كمخلفات المصريين القدماء، ونقوش آشور وبابل، وعجائب أهل سبأ وصناعاتهم، مما استخرجه علماء العاديات من الأوروبيين في القرن الماضي، والعصر الحاضر، ولا يزالون كل يوم يكشفون جديدًا يدل على أن
﴿و﴾ يعلم ﴿مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ كالملائكة، والكتب، والمقادير، والأرزاق، والبركات، والأمطار، والثلوج، والبرد، والأنداء، والشهب، والصواعق ونحوها.
وأيضًا: يعلم ما ينزل من سماء القلب من الفيوض الروحانية، والإلهامات الربانية.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَنْزِلُ﴾ بفتح الياء وتخفيف الزاي مسندًا إلى ﴿مَا﴾. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي بضم الياء وتشديد الزاي مسندًا إلى الله سبحانه.
﴿و﴾ يعلم ﴿مَا يَعْرُجُ﴾ ويصعد ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في السماء، كالملائكة والأرواح الطاهرة، والأبخرة والأدخنة، والدعوات، وأعمال العباد، والطائرات والمطاود الجوية، وأيضًا: يعلم ما يعرج في سماء القلب من آثار الفجور والتقوى، وظلمة الضلالة، ونور الهدى. ولم (٢) يقل: إليها؛ لأن قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ يشير إلى أن الله سبحانه وتعالى هو المنتهى لا السماء، ففي ذكر ﴿فِي﴾ إعلام بنفوذ الأعمال فيها، وصعودها منها إليه تعالى.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الرَّحِيمُ﴾ للحامدين، ولمن تولاه ﴿الْغَفُورُ﴾ للمقصِّرين، ولذنوب أهل ولايته؛ أي: وهو مع كثرة نعمه، وسبوغ فضله، رحيمٌ بعباده، فلا يعاجل بعقوبة، غفورٌ لذنوب التائبين إليه، المتوكلين عليه.
فإذا كان الله متصفًا بالخلق والملك (٣)، والتصرف والحكمة، والعلم والرحمة، والمغفرة، ونحوها من الصفات الجليلة.. فله الحمد المطلق، والحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري من جهة التعظيم من نعمة وغيرها، كالعلم والكرم، وأما قولهم: الحمد لله على دين الإِسلام، فمعناه: على تعليم الدين
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قال في "فتوح الحرمين":
أَحْسَنُ مَا اهْتَمَّ بِهِ ذَوُوْ الْهِمَمِ | ذِكْرٌ جَمِيْلٌ لِوَليِّ النِّعَمِ |
وَلَا أرْضٌ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا
ثم بعد أن أكد الجواب بالقسم على البعث، أتبع القسم بقوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ وما بعده ليعلم أنَّ إتيانها من الغيب الذي تفرد به سبحانه وتعالى، وجاء القسم بقوله: ﴿وَرَبِّي﴾ مضافًا إلى الرسول ليدل على شدة القسم؛ إذ لم يأت به في الاسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة، وهو لفظ الله.
وقرأ نافع وابن عامر ورويس وسلام والجحدري وقعنب: ﴿عالم﴾ بالرفع على إضمار: هو، وجوز الحوفي وأبو البقاء أن يكون مبتدأ، والخبر ﴿لَا يَعْزُبُ﴾ وقال الحوفي: أو خبره محذوف؛ أي: عالم الغيب هو، وقرأ باقي السبعة: ﴿عَالِمِ﴾ بالجر على أنه بدل من ﴿رَبِّي﴾، أو نعت له. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي ﴿علام﴾ على المبالغة والخفض، وقوله: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ تشديد للتأكيد بالقسم، كما مر، يريد (٢) أن الساعة من الغيوب، والله عالم بكلها، والغيب: ما غاب عن الخلق على ما قال بعضهم: العلقة: غيب في النطفة، والمضغة: غيب في العلقة، والإنسان: غيب في هذا كله، والماء: غيب في الهواء، والنبات: غيب في الماء، والحيوان: غيب في النبات، والإنسان: غيب في هذا كله، والله سبحانه وتعالى قد أظهر من هذه الغيوب، وسيظهره بعدما كان غيبًا في التراب. وفائدة الأمر باليمين: أن لا يبقى للمعاندين عذرٌ أصلًا لما أنهم كانوا يعرفون أمانته ونزاهته عن وصمة الكذب، فضلًا عن اليمين الفاجرة، وإنما لم يصدقوه مكابرة، وهذا الكفر والتكذيب طبيعة النفوس الكاذبة المكذبة، فمن وكله الله بالخذلان إلى طبيعة نفسه.. لا يصدر منه إلا الإنكار، ومن نظره الله إلى قلبه بنظر العناية.. فلا يظهر
(٢) روح البيان.
ومعنى قوله: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ تعالى؛ أي: لا يبعد عن علمه، ولا يغيب، ولا يستتر عليه ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾؛ أي: وزن نملة صغيرة، أو مقدار الهباء كائنة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾، وفيه إشارة إلى علمه بالأرواح والأجسام ﴿وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ﴾ المثقال ﴿وَلَا أَكْبَرُ﴾ منه. ورفعهما على الابتداء، فلا وقف عند ﴿أَكْبَرُ﴾، والخبر: قوله تعالى: ﴿إِلَّا﴾ هو مسطور ومثبت ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ هو اللوح المحفوظ المظهر لكل شيء، وإنما كتب جريًا على عادة المخاطبين، لا مخافة نسيان، وليعلم أنه لم يقع خللٌ وإن أتى عليه الدهر، والجملة مؤكدة لنفي العزوب، والمعنى: إلا وهو مثبت في اللوح المحفوظ الذي اشتمل على معلومات الله تعالى.
فإن قيل: فأيُّ حاجة إلى ذكر الأكبر، فإن مَنْ علم الأصغر من الذرة لا بدَّ وأن يعلم الأكبر؟
فالجواب: أن المراد من هذا الكلام بيان إثبات الأمور في الكتاب، فلو اقتصر على الأصغر.. لتوهم متوهم أنه يثبت الصغائر؛ لكونها محل النسيان، وأمَّا الأكبر.. فلا ينسى، فلا حاجة إلى إثباته فقال: الإثبات في الكتاب ليس كذلك، فإن الأكبر مكتوب فيه أيضًا. اهـ "كرخي".
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَعْزُبُ﴾ بضم الزاي، وقرأ يحيى بن وثاب بكسرها، قال الفراء: والكسر أحبُّ إليَّ، وهما لغتان يقال: عزب يعزب بالضم، ويعزب بالكسر: إذا بعد وغاب. وقرأ الجمهور: ﴿وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ﴾ برفع الراءين بالرفع على الابتداء، والخبر ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾، كما مرَّ، أو على العطف على ﴿مِثْقَالُ﴾، ويكون ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ تأكيدًا لما تضمن النفي في قوله: ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ تقديره: لكنه في كتاب مبين، وهو كناية عن ضبط الشيء والتحفظ به، فكأنه في كتاب وليس ثَمَّ كتاب حقيقة، وعلى التقدير الأول: الكتاب هو اللوح المحفوظ.
وقرأ قتادة والأعمش بفتح الراءين عطفًا على ﴿ذَرَّةٍ﴾ أو على أن ﴿لَا﴾ هي لا
قيل: قوله: ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ إشارة إلى علمه بالأرواح، ﴿وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى علمه بالأشباح، وكما أبرزهما من العدم إلى الوجود أولًا.. فكذلك يعيدهما ثانيًا.
قيل: سبب نزول هذه الآية (١): أن أبا سفيان قال لكفار مكة - لما سمعوا ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ -: إن محمدًا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت، ويخوفنا بالبعث، واللاتِ والعزى لا تأتينا الساعة أبدًا، ولا نبعث، فقال الله: قل يا محمد: ﴿بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾، قاله مقاتل. وباقي السورة تهديد لهم وتخويف، ومن ذكر هذا السبب ظهرت به المناسبة بين هذه السورة، والسورة التي قبلها.
ومعنى الآية: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا...﴾ الخ: أي (٢): وقال الذين ستروا ما أرشدتهم إليه عقولهم من البراهين الدالة على قيام الساعة: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا، ولا بعث ولا حساب، إن هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما نحن بمبعوثين، وقد أمر الله رسوله أن يرد عليهم مؤكدًا لهم بطلان ما يدعون: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾؛ أي: قل لهم إنها وربي لآتية لا ريب فيها.
وهذه الآية إحدى آياتٍ ثلاث أمر الله فيها رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد حين أنكره من أنكر من أهل الشرك والعناد:
فإحداهن: في سورة يونس: ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)﴾.
وثانيتها: في سورة التغابن: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧)﴾.
(٢) المراغي.
ثم وصف المولى نفسه بكامل العلم، وعظيم الإحاطة بالموجودات، مما يؤكِّد إمكان البعث، فقال: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ الخ؛ أي: إن وقت مجيئها لا يعلمه سوى علام الغيوب الذي لا يغيب عن علمه شيء في السموات، ولا في الأرض، من ذرة فما دونها، ولا ما فوقها، أين كانت، وأين ذهبت، فكل ذلك محفوظ في كتاب مبين، فالعظام وإن تلاشت، واللحوم وإن تفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت، وأين تفرقت، فيعيدها كما بدأها أول مرة، وهو بكل شيء عليم،
٤ - ثم بَّين الحكمة في إعادة الأجسام، وقيام الساعة بقوله:
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، واللام (١) فيه علة لقوله: ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾، وبيان لما يقتضي إتيانها، فاللام للعلة عقلًا، وللمصلحة والحكمة شرعًا؛ أي: إتيان الساعة فائدته ومصلحته وحكمته: جزاء المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب. والإشارة بقوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ للموصول؛ أي: أولئك الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ لذنوبهم؛ أي: لهم بسبب ذلك الإيمان والعمل الصالح مغفرة؛ أي: ستر ومحو لما صدر عنهم مما لا يخلو عنه البشر ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ لا تعب فيه، ولا منَّ عليه، وهو الجنة، بخلاف رزق الدنيا، فإنه لا يأتي إلا بتسبب وتعب.
والمعنى (٢): أي يبعثهم الله سبحانه من قبورهم يوم القيامة ليثيب الذين آمنوا بالله، وعملوا بما أمرهم به، وانتهوا عما نهاهم عنه، وأولئك لهم مغفرة لذنوبهم من لدنه، وعيش هنيء في الجنة، لا تعب فيه، ولا منَّ عليه.
والخلاصة: أنَّ الحكمة تقتضي وجودها، وليس هناك مانع منها، فالعلم المحيط بالغيب موجود، فقد وجد المقتضي لوجودها، وارتفع المانع من إتيانها.
٥ - ثم ذكر فريق الكافرين الذين يعاقبون عند إتيان الساعة، فقال: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ واجتهدوا ﴿فِي﴾ إبطال ﴿آيَاتِنَا﴾، وحججنا وأدلتنا التكوينية، أو التنزيلية المنزلة على الرسل بالرد والطعن فيها، وصدِّ الناس عن التصديق بها حالة كونهم ﴿مُعَاجِزِينَ﴾؛
(٢) المراغي.
قال في "البحر": ظانين في زعمهم وتقديرهم أنهم يفوتوننا، وأن كيدهم للإسلام يتم لهم.
قرأ الجمهور (١): ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ مخففًا. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد ومجاهد وأبو عمرو والجحدري وأبو السمال: ﴿معجِّزين﴾ مثقلًا؛ أي: مثبطين للناس عن الإيمان بالآيات، مدخلين عليهم العجز في نشاطهم، وهذا هو معنى سعيهم في شأن الآيات، أو معجزين قدرة الله في زعمهم.
﴿أُولَئِكَ﴾ الساعون ﴿لَهُمْ﴾ بسبب ذلك ﴿عَذَابٌ﴾ عظيم ﴿مِنْ رِجْزٍ﴾؛ أي: من سيء العذاب، فـ ﴿مِنْ﴾ للبيان، ﴿أَلِيمٌ﴾ بالرفع صفة ﴿عَذَابٌ﴾؛ أي: شديد الإيلام. وفي "المفردات": أصل الرجز: الاضطراب، وهو في الآية كالزلزلة، والظاهر (٢) أن قوله: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾ مبتدأ، والخبر في الجملة الثانية، وهي ﴿أُولَئِكَ﴾، وقيل: ومنصوب عطفًا على ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾، والمعنى عليه: أي وليجزي الذين سعوا في إبطال أدلتنا وحججنا عنادًا منهم، وكفرًا، وظنوا أنهم يسبقوننا بأنفسهم، فلا نقدر عليهم بشديد العذاب في جهنم، وبئس المهاد؛ لما اجترحوا من السيئات، ودسوا به أنفسهم من قبيح الأعمال.
وإجمال ذلك: أن الساعة آتية لا ريب فيها؛ لينعم السعداء المؤمنون، ويعذِّب الأشقياء الكافرون.
قرأ الجمهور: ﴿أَلِيمٌ﴾ بالجر صفة لـ ﴿رِجْزٍ﴾. وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم بالرفع صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾، ونحو الآية قوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾، وقوله: ﴿لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠)﴾.
٦ - ثم استشهد باعتراف أولي العلم ممن آمن من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار وأضرابهما بصحة ما أنزل إليه؛ ليرد به على أولئك الجهلة
(٢) البحر المحيط.
﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾؛ أي: النبوة والقرآن والحكمة، والموصول مع صلته مفعول أول لـ ﴿وَيَرَى﴾. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل يفيد التوكيد، كقوله تعالى: ﴿هُوَ خَيْرًا لَهُمْ﴾. ﴿الْحَقَّ﴾ بالنصب على أنه مفعول ثان لـ ﴿يَرَى﴾، وبه قرأ الجمهور، وقرأ (٢) ابن أبي عبلة بالرفع؛ جعل ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، و ﴿الْحَقَّ﴾: خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني لـ ﴿يَرَى﴾، وهي لغة تميم، يجعلون ما هو فصل عند غيرهم مبتدأً، قاله أبو عمر الجرمي.
وقوله: ﴿وَيَهْدِي﴾ عطف على ﴿الْحَقَّ﴾، عطف فعل على اسم، كما في قوله تعالى: ﴿صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ﴾؛ أي: وقابضات، فكأنه قيل: ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك الحق، وهاديًا ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾ الله ﴿الْعَزِيزِ﴾ في ملكه ﴿الْحَمِيدِ﴾ عند خلقه الذي هو التوحيد، والتوشح بلباس التقوى، وهذا يفيد رهبةً؛ لأن العزيز يكون ذا انتقام من المكذِّب، ورغبة؛ لأن الحميد يشكر على المصدِّق، والمراد: أنه يهدي إلى دين الله، وهو التوحيد.
ومعنى الآية (٣): أي وقال الجهلة المنكرون للبعث والحشر والحساب: إنه لا رجعة بعد هذه الدنيا، وقال العالمون من أهل الكتاب، ومن أصحاب رسول الله - ﷺ -، ومن يأتي من بعدهم من أمته: إن الذي أنزل إليك من ربك مثبتًا لقيام الساعة، ومجازاة كل عامل بما عمل من خير أو شر، هو الحق الذي لا شك فيه، وأنه هو الذي يرشد من اتبعه، وعمل به إلى سبيل الله الذي لا يغالب، ولا يمانع، وهو القاهر لكل شيء، والغالب له، وهو المحمود على جميع أفعاله وأقواله، وما أنزله
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
وفي الآية: إيماء إلى أن دين الإِسلام (١)، وتوحيد الملك العلام، هو الذي يتوصل به إلى عزة الدارين، وإلى القربة والوصلة والرؤية في مقام العين.
كما أن الكفر والتكذيب يتوصل به إلى المذمة والمذلة في الدنيا والآخرة، وإلى البعد والطرد والحجاب عما تعانيه القلوب الحاضرة، والوجوه الناظرة. قال بعض الكبار: يشير بالآية إلى الفلاسفة الذين يقولون: إن محمدًا - ﷺ - كان حكيمًا من حكماء العرب، وبالحكمة أخرج هذا الناموس الأكبر، يعنون: النبوة والشريعة، ويزعمون أن القرآن كلامه، أنشأه من تلقاء نفسه، يسعون في هذا المعنى مجاهدين جهدًا تامًا في إبطال الحق، وإثبات الباطل، فلهم أسوأ الطرد والإبعاد؛ لأن القدح في النبوة ليس كالقدح في سائر الأمور، وأما الذين أوتوا العلم من عند الله تعالى موهبة منه، لا من عند الناس بالتكرار والبحث، فيعلمون أن النبوة والقرآن والحكمة هو الحق من ربهم، وإنما يرون هذه الحقيقة؛ لأنهم ينظرون بنور العلم الذي أوتوه من الحق تعالى، فإنَّ الحق لا يرى إلا بالحق، كما أن النور لا يرى إلا بالنور.
ولما كان يرى الحق بالحق.. كان الحق هاديًا لأهل الحق وطالبيه إلى طريق الحق، وذلك قوله: ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾، فهو العزيز؛ لأنه لا يوجد إلا به، وبهدايته، والحميد؛ لأنه لا يرد الطالب بغير وجدان، كما قال: "ألا من طلبني وجدني". قال موسى عليه السلام: أين أجدك يا رب؟ قال: "يا موسى، إذا قصدت إليَّ فقد وصلت إليَّ" انتهى.
٧ - ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ منكري البعث، وهم كفار قريش، قالوا بطريق الاستهزاء مخاطبًا بعضهم لبعض: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ﴾ يعنون به النبي - ﷺ -، وإنما قصدوا بالتنكير الهزء والسخرية؛ أي: هل نرشدكم إلى رجل ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾؛ أي: يخبركم بأمر عجيب، ونبأ غريب، هو: ﴿أنكم إذا﴾ متم و ﴿مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾؛ أي: وفرقت أجسادكم كل تفريق، وقطعتم كل تقطيع، وصرتم بعد موتكم رفاتًا وترابًا ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾؛ أي: تخلقون خلقًا جديدًا وتبعثون من قبوركم أحياء،
والعامل في ﴿إِذَا﴾ محذوف دلَّ عليه ما بعده؛ أي: تنشأون خلقًا جديدًا، ولا يعمل فيها مزقتم؛ لإضافتها إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا ينبئكم؛ لأن التنبئة لم تقع وقت التمزيق، بل تقدمت عليه، ولا جديد؛ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها.
قال هذا القول بعضهم لبعض؛ استهزاءً بما وعدهم الله على لسان رسوله من البعث، وأخرجوا الكلام مخرج التلهي به، والتضاحك مما يقوله من ذلك، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة كريبة نادرة؛ لما كان البعث عندهم من المحال.. جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، وأتوا باسمه عليه السلام نكرةً في قوله: هل ندلكم على رجل، وكان اسمه أشهر علم في قريش، بل في الدنيا، وإخباره بالبعث أشهر خبر؛ لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء، والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية، فلذلك نكروا اسمه، كما سبق.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ بالهمز والتشديد، وزيد بن علي بإبدال الهمزة ياءً محضةً، وحكى عنه الزمخشري: ﴿ينبئكم﴾ بالهمز من ﴿أنبأ﴾ ومعنى الآية: أي: وقال قريش بعضهم تعجبًا واستهزاءً وتهكمًا وإنكارًا: هل سمعتم برجل يقول: إنا إذا تقطعت أوصالنا، وتفرقت أبداننا، وبليت عظامنا.. نرجع كرةً أخرى أحياءً كما كنا، ونحاسب على أعمالنا، ثم نثاب على الإحسان إحسانًا، ونجزى على اجتراح الآثام آلامًا بنار تلظى، تشوي الوجوه والأجسام.
وخلاصة ذلك: أنه يقول: إذا أكلتكم الأرض، وصرتم رفاتًا وعظامًا، وقطعتكم السباع والطير.. ستحيون وتبعثون، ثم تحاسبون على ما فرِّط منكم من صالح العمل وسيِّئه.
٨ - ثم حكى سبحانه عن هؤلاء الكفار أنهم رددوا ما وعدهم به رسول الله - ﷺ - من البعث بين أمرين، فقالوا: ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ فيما قاله، وهذا أيضًا من كلام الكفار، وأصل (٢) ﴿أَفْتَرَى﴾: أافترى بهمزة الاستفهام المفتوحة الداخلة على همزة
(٢) روح البيان.
ثم رد عليهم سبحانه ما قالوه في رسوله، فقال: ﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾؛ أي: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء كما زعموا، وهو مبرَّأ منهما، بل هؤلاء القائلون الكافرون بالحشر والنشر واقعون ﴿فِي الْعَذَابِ﴾ في الآخرة ﴿و﴾ واقعون في الدنيا في ﴿الضَّلَالِ الْبَعِيدِ﴾ عن الصواب والهدى، بحيث لا يرجى الخلاص منه. ووصف الضلال بالبعد على الإسناد المجازي للمبالغة؛ إذ هو في الأصل وصف الضال. لأنه الذي يتباعد عن المنهاج القويم، وكلما ازداد بعدًا عنه.. كان أضل. وتقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه، وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم، وجعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف؛ لأن أسباب العذاب معهم، فكأنهم في وسطه، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتنبيه على أنَّ علة ما اجترؤوا عليه كفرهم بالآخرة، وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلوا ذلك خوفًا من غائلته.
وحاصل الآية (١): إثبات الجنون الحقيقي لهم، فإن الغفلة عن الوقوع في العذاب وعن الضلال الموجب لذلك جنون أي جنون، واختلال عقل أي اختلال؛ إذ لو كان فهمهم ادراكهم تامًا وكاملًا.. لفهموا حقيقة الحال، ولما اجترؤوا على سوء المقال.
قال بعضهم: كما أن الطفل الصغير يسبى إلى بعض البلاد، فينسى وطنه
والمعنى (١): أي ليس الأمر كما زعموا، ولا كما ذهبوا إليه، بل إنَّ محمدًا هو البر الرشيد الذي جاء بالحق، وإنهم هم الكذبة الجهلة الأغبياء، الذين بلغوا الغاية في اختلال العقل، وأوغلوا في الضلال، وبعدوا عن الإدراك والفهم، وليس هذا إلا الجنون بعينه، وسيؤدي ذلك بهم إلى العذاب؛ إذ هم قد أنكروا حكمة الله في خلق العالم، وكذبوه في وعده ووعيده، وتعرضوا لسخطه.
٩ - ثم ذكرهم بما يعاينون مما يدل على كمال قدرته، وفيه تنبيه لهم إلى ما يحتمل أن يقع لهم من القوارع التي تهلكهم، وتهديد على ما اجترحوا من السيئات، فقال: ﴿أَفَلَمْ يَرَوْا﴾ الهمزة فيه للاستفهام التوبيخي المضمن للإنكار، داخلة على محذوف (٢)، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أفعلوا ما فعلوا من المنكر المستتبع للعقوبة، فلم يروا ولم ينظروا ﴿إِلَى مَا﴾ أحاط بهم من ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾، وقدامهم ﴿وَ﴾ إلى ﴿ما﴾ أحاط بهم من ﴿خَلْفَهُمْ﴾ وورائهم حالة كون ما أحاط بهم ﴿مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فإنهما أحاطا بهم من جميع جوانبهم، من أمامهم وخلفهم، ويمينهم وشمالهم، حيثما كانوا وساروا، بحيث لا مفر ولا مهرب لهم.
والمعنى: أنهم إذا نظروا.. رأوا السماء خلفهم وقدامهم، وكذلك إذا نظروا في الأرض.. رأوها خلفهم وقدامهم، فالسماء والأرض محيطتان بهم، فهو القادر على أن ينزل بهم ما شاء من العذاب بسبب كفرهم وتكذيبهم لرسوله، وإنكارهم للبعث، فهذه الآية اشتملت على أمرين:
أحدهما: أن هذا الخلق الذي خلقه الله تعالى من السماء والأرض يدل على كمال القدرة على ما هو دونه من البعث، كما في قوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
(٢) روح البيان.
والأمر الآخر: التهديد لهم، بأن من خلق السماء والأرض على هذه الهيئة التي قد أحاطت بجميع المخلوقات فيهما.. قادرٌ على تعجيل العذاب لهم.
ومن المعلوم (١): أن ما بين يدي الإنسان هو كل ما يقع نظره عليه من غير أن يحوِّل وجهه إليه، وما خلفه هو كل ما لا يقع نظره عليه، حتى يحوِّل وجهه إليه، فيعم الجهات كلها.
فإن قلت: هلا ذكر الإيمان والشمائل، كما ذكرهما في قوله في الأعراف: ﴿لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾؟
فالجواب: أنه وجد هنا ما يغني عن ذكرهما من لفظ العموم، والسماء والأرض، بخلاف ما هناك. اهـ "كرخي".
ثم بيَّن المحذور المتوقع من جهة السماء والأرض، فقال: ﴿إِنْ نَشَأْ﴾ جريًا على موجب جناياتهم ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾؛ أي: نغيبها من تحتهم، كما خسفناها بقارون وأشياعه ﴿أَوْ﴾ إن نشأ ﴿نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا﴾ وقطعًا ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾، كما أسقطناها على أصحاب الأيكة؛ لأن ذلك بما ارتكبوه من الجرائم.
ومعنى إسقاط الكسف من السماء (٢): إسقاط قطع من النار، كما وقع لأصحاب الأيكة، وهم قوم شعيب، كانوا أصحاب غياض ورياض وأشجار ملتفة؛ حيث أرسل الله تعالى عليهم حرًا شديدًا، فرأوا سحابةً، فجاؤا ليستظلوا تحتها، فأمطرت عليهم النار، فاحترقوا.
والمعنى (٣): أي أفلم ينظر هؤلاء المكذبون بالمعاد، الجاحدون للبعث بعد الممات، فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فيرتدعوا عن جهلهم، ويزدجروا عن تكذيبهم، حذر أن نأمر الأرض فتخسف بهم، أو نأمر السماء فتسقط عليهم كسفًا، فإنا إن نشأ أن نفعل ذلك بهم.. فعلنا، لكنا نؤخِّره لحلمنا وعفونا؛ أي: حيثما
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وإجمال ذلك: أنه تعالى ذكرهم بأظهر شيء لديهم يعاينونه حيثما وجدوا، ولا يغيب عن أبصارهم حيثما ذهبوا، وفيه الدليل على قدرته على البعث والإحياء، فإن من قدر على خلق تلك الأجرام العظام.. لا تعجزه إعادة الأجسام، فهي إذا قيست بها.. كانت كأنها لا شيء، كما قال: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾، وفي هذا ما لا يخفي من التنبيه إلى مزيد جهلهم المشار إليه بالضلال البعيد.
وقرأ الجمهور (١): ﴿إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ﴾، و ﴿نُسْقِطْ﴾ بنون العظمة في الثلاثة، وقرأ حمزة والكسائي وابن وثاب وعيسى والأعمش وابن مطرف: بالياء التحتية في الأفعال الثلاثة؛ أي: إن يشأ الله. وقرأ الكسائي وحده بإدغام الفاء في الباء في: ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ﴾. قال أبو علي: وذلك لا يجوز؛ لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء، فلا تدغم فيها، وإن كانت الباء تدغم في الفاء، نحو: اضرب فلانًا. وقال الزمخشري: وقرأ الكسائي: ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ﴾ بالإدغام، وليست بقوية. انتهى.
قلت: والقراءة سنة متبعة، ويوجد فيها الفصيح والأفصح، وكل ذلك من تيسير الله تعالى القرآن للذكر، فلا التفات لقول أبي علي، ولا الزمخشري.
ثم ذكر ما هو كالعلة في الحثِّ على الاستدلال بذلك ليزيح إنكارهم بالبعث، فقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ إن فيما ذكر من السماء والأرض من حيث إحاطتهما بالناظر من جميع الجوانب، أو فيما تلي من الوحي الناطق بما ذكر ﴿لَآيَةً﴾؛ أي: لدلالة واضحة تدل على قدرتنا على البعث بعد الموت ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾؛ أي: راجع إلى ربه، مطيع له في أمره ونهيه، فإن من شأنه الإنابة، والرجوع إلى الله، إذا تأمل فيهما، أو في الوحي المذكور.. ينزجر عن تعاطي القبيح، وينيب إليه تعالى.
والمعنى (٢): أي إن في النظر إلى خلق السموات والأرض لدلالة لكل عبد فطن منيب إلى ربه على كمال قدرتنا على بعث الأجساد، ووقوع المعاد؛ لأن من
(٢) المراغي.
فإن قلت: لم قال هنا: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ بإفراد الآية، وقال فيما بعد: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ بجمعها، فما الفرق بين المقامين؟
قلت: إن ما هنا إشارة إلى إحياء الموتى، فناسبه الإفراد، وما بعد إشارة إلى سبأ قبيلة في البلاد، فصاروا فرقًا، فناسبه الجمع. اهـ "كرخي".
وفي الآية (١): حثٌّ بليغ على التوبة والإنابة، وزجر عن الجرم والجناية، وأن العبد الخائف لا يأمن قهر الله طرفة عين، فإن الله قادر على كل شيء، يوصل اللطف والقهر من كل ذرة من ذرات العالم. قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: إذا صدق العبد في توبته.. صار منيبًا؛ لأن الإنابة ثاني درجة التوبة. وقال أبو سعيد القرشي: المنيب: الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله. وقال بعضهم: الإنابة: الرجوع منه إليه، لا من شيء غيره، فمن رجع من غيره إليه.. ضيع أحد طرفي الإنابة، والمنيب على الحقيقة: من لم يكن له مرجع سواه، ويرجع إليه من رجوعه، ثم يرجع من رجوع رجوعه، فيبقى شبحًا لا وصف له، قائمًا بين يدي الحق، مستغرقًا في عين الجمع:
هَجَرْتُ الْخَلْقَ كُلًّا فِيْ هَوَاكَا | وَأَيْتَمْتُ الْعِيَالَ لِكَيْ أَرَاكَا |
فَلَوْ قَطَّعْتَنِيْ فِيْ الْحُبِّ إِرْبًا | لَمَا سَكَنَ الْفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا |
١٠ - ثم ذكر سبحانه وتعالى من عباده المنيبين إليه: داود وسليمان، فقال ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أعطينا داود عليه السلام ﴿مِنَّا﴾؛ أي: من
قال في "التأويلات النجمية": والفرق بين داود، وبين نبينا محمد - ﷺ -: أنه ذكر فضله في حق داود على صفة النكرة، وهي تدل على نوع من الفضل، وشيء منه، وهو الفيض الإلهي بلا واسطة، كما يدل عليه كلمة ﴿مِنَّا﴾، وقال في حق نبينا - ﷺ -: ﴿وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ والفضل الموصوف بالعظمة يدل على كمال الفضل، وكذا قوله: ﴿فَضْلُ اللَّهِ﴾ لما أضاف الفضل إلى الله.. اشتمل على جميع أنواع الفضل. انتهى.
ويجوز أن يكون التنكير للتفخيم، و ﴿مِنَّا﴾ لتأكيد فخامته الذاتية لفخامته الإضافية على أن يكون المفضل عليه غير الأنبياء، فالمعنى إذًا: ولقد آتينا داود بلا واسطة فضلًا عظيمًا على سائر الناس، كالنبوة والعلم والقوة والملك والصوت الحسن، وغير ذلك.
وقوله: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ مقول لقول محذوف هو بذل من آتينا؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقلنا للجبال: يا جبال أوبي وسبحي مع داود إذا سبح، أو هو مقول لمصدر قول محذوف بدل من ﴿فَضْلًا﴾؛ أي: ولقد آتينا داود منا فضلًا، وقَوْلنا: يا جبال أوبي معه. والتأويب على معنيين:
أحدهما: الترجيع؛ لأنه من الأوب، وهو الرجوع.
والثاني: السير بالنهار كله. فالمعنى على الأول: رجِّعي معه التسبيح، وسبِّحي مرةً بعد مرة، وذلك بأن يخلق الله تعالى فيها صوتًا مثل صوته، كما خلق الكلام في شجرة موسى عليه السلام، فكان كلما سبَّح سمع من الجبال ما يسمع من المسبح، ويعقل معنى معجزةً له. قالوا: فمن ذلك الوقت يسمع الصدى من
وقرأ الجمهور: ﴿أَوِّبِي﴾ بفتح الهمزة وتشديد الواو على صيغة الأمر من التأويب، وهو: الترجيع، أو التسبيح، أو السير، أو النوح. وقرأ ابن عباس والحسن وقتادة وابن أبي إسحاق: بضم الهمزة، أمرًا من: آب يؤوب: إذا رجع؛ أي: ارجعي معه. ﴿وَالطَّيْرَ﴾ قرأه الجمهور بالنصب عطفًا على ﴿فَضْلًا﴾ على معنى: وسخرنا له الطير؛ لأن إيتاءَها إياه: تسخيرها له، فلا حاجة إلى إضماره، ولا إلى تقدير المضاف؛ أي: تسبيح الطير، كما في "الإرشاد"، أو عطفًا على محل: ﴿يَا جِبَالُ﴾؛ لأنه منصوب تقديرًا؛ إذ المعنى: نادينا الجبال والطير. وقال سيبويه وأبو عمرو بن العلاء: انتصابه بفعل مضمر على معنى: وسخرنا له الطير. وقال الزجاج والنحاس: يجوز أن يكون مفعولًا معه، كما تقول: استوى الماء والخشبة. وقال الكسائي: إنه معطوف على ﴿فَضْلًا﴾ لكن على تقدير مضاف محذوف؛ أي: آتيناه فضلًا، وتسبيح الطير.
وقرأ السلمي والأعرج ويعقوب وأبو نوفل وابن أبي إسحاق ونصر بن عاصم ومسلمة بن عبد الملك (٢): بالرفع، عطفًا على لفظ "الجبال"، أو على المضمر في ﴿أَوِّبِي﴾ لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
نزَّل الجبال والطير منزلة العقلاء (٣)؛ حيث نوديت نداءهم؛ إذ ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئته، ومطيع لأمره، فانظر؛ إذ من طبع الصخور الجمود، ومن طبع الطير النفور، ومع هذا قد وافقته عليه السلام، فأشد منها القاسية قلوبهم، الذين لا يوافقون ذكرًا، ولا يطاوعون تسبيحًا، وينفرون من مجالس أهل الحق نفور الوحوش، بل يهجمون عليها بأقدام الإنكار، كأنهم الأعداء من الجيوش.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
وقوله: ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيد﴾ معطوف على ﴿آتَيْنَا﴾؛ أي: ولقد جعلنا الحديد لداود لينًا في نفسه، كالشمع والعجين والمبلول، يصرفه في يده كيف يشاء، من غير إحماءٍ بنار، ولا ضربٍ بمطرقة، أو جعلنا الحديد بالنسبة إلى قوته التي آتيناها إياه لينًا، كالشمع بالنسبة إلى سائر قوى البشرية، وكان داود أوتي شدة قوة في الجسد، وإن لم يكن جسيمًا، وهو أحد الوجهين لقوله: ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾ في سورة ص،
١١ - وأمرناه بـ ﴿أَنِ اعْمَلْ﴾ واصنع من الحديد لك، ولغيرك دروعًا ﴿سَابِغَاتٍ﴾؛ أي: واسعات طويلات تامات، تغطي لابسها حتى تفضل عنه، فيجرها على الأرض، وتقيه شر الحرب. والأولى جعل ﴿أَنِ﴾ هنا مصدرية، حذف منها باء الجر، لا مفسرة، وهو عليه السلام أول من اتخذها، وكانت قبل ذلك صفائح حديد مضروبة ثقالًا على لابسها.
وقرىء: ﴿صابغات﴾ بالصاد بدلًا من السين، وتقدم أنها لغة في قوله: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾. قال المفسرون: كان (١) داود عليه السلام حين ملك على بني إسرائيل يخرج متنكرًا، فيسأل الناس: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه، فقيَّض الله له ملكًا في صورة آدميّ، فسأله على عادته، فقال له الملك: نعم الرجل لولا خصلة فيه، فسأله عنها، فقال: إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال، ولو أكل من عمل يده. لتمت فضائله، فعند ذلك سأل ربه أن يسبّب له ما يستغني به عن بيت المال، فعلَّمه تعالى صنعة الدروع، فكان يعمل كل يوم درعًا ويبيعها بأربعة آلاف درهم، أو بستة آلاف، يتفق عليه وعلى عياله ألفين، ويتصدق بالباقي على فقراء بني إسرائيل.
وفي الحديث: "كان داود لا يأكل إلا من كسب يده"، وفي الآية دليل على
﴿وَقَدِّرْ﴾؛ أي: واقتصد وتوسَّطْ ﴿فِي السَّرْدِ﴾؛ أي: في نسج الدروع بحيث تناسب مساميرها لحلقاتها؛ أي: لا تجعل مسمار الدرع دقيقًا فيقلقل، ولا غليظًا فيفصم الحلق، أو المعنى: توسط عند نسج الدروع في حلقاتها؛ أي: لا تعملها صغيرة، فتضعف، ولا يقوى الدرع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة، فتثقل على لابسها، أو المعنى: اجعل (١) كل حلقة مساوية لأختها، ضيقة، لا ينفذ منها السهم لغلظها، ولا تثقل حاملها، واجعل كلها بنسبة واحدة، وقدر واحد. أو المعنى: قدر وتوسط في سرد الدروع ونسجها، ولا تصرف جميع أوقاتك إلى نسج الدروع، بل اشتغل به مقدار ما تحصل به قوتك وحوائجك، وأما باقي الأوقات.. فاصرفه إلى عبادة ربك.
قال الرازي: أي إنك غير مأمور به أمر إيجاب، وإنما هو اكتساب، والكسب يكون بقدر الحاجة، وباقي الأيام والليالي للعبادة، فقدر في ذلك العمل، ولا تشغل جميع أوقاتك بالكسب، بل حصِّل فيه القوت فحسب. انتهى.
وهذا المعنى هو المناسب لما بعده، وهو قوله: ﴿وَاعْمَلُوا﴾ يا آل داود، خطاب له ولأهله لعموم التكليف، ويجوز أن يكون أمرًا لداود فقط؛ شرفه الله بأن خاطبه خطاب الجمع. ﴿صَالِحًا﴾؛ أي: عملًا صالحًا خالصًا من الأغراض ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ لا أضيع عمل عامل منكم، فأجازيكم عليه، وهو تعليل للأمر، أو لوجوب الامتثال به، والبصير: هو المدرك لكل موجود برؤيته، ومن عرف أنه البصير.. راقبه في الحركات والسكنات، حتى لا يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره. وخاصية هذا الاسم وجود التوفيق، فمن قرأه قبل صلاة الجمعة مئة مرة.. فتح الله بصيرته، ووفَّقه لصالح القول والعمل، وإن كان الإنسان لا يخلو عن الخطأ.
قال قتادة: إن داود أول من عملها حلقًا، وكانت قبل ذلك صفائح، فكانت ثقالًا. واعمل يا داوود أنت وآلك بطاعة الله تعالى، فأجازيكم كفاء ما عملتم، ثم علل هذا الأمر بقوله: ﴿إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾؛ أي: إني مراقب لكم، مطلع عليكم، بصير بأعمالكم وأقوالكم، لا يخفى عليَّ شيء منها، وفي هذا ما لا يخفي من التنبيه والإغراء بإصلاح العمل، والإخلاص فيه.
١٢ - ثم ذكر سبحانه ما أنعم به على ولده سليمان من النبوة والملك والجاه العظيم فقال: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾؛ أي: وسخرنا لسليمان عليه السلام الريح، وهي ريح الصبا.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الرِّيحَ﴾ بالنصب على تقدير: وسخرنا لسليمان الريح، كما قاله الزجاج. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه بالرفع على الابتداء والخبر، أي: والريح مسخرة لسليمان، وقرأ الجمهور: ﴿الرِّيحَ﴾ بالإفراد، وقرأ الحسن وأبو حيوة وخالد بن إلياس: ﴿الرياح﴾ بالجمع.
﴿غُدُوُّهَا﴾؛ أي: جريها وسيرها بالغداة؛ أي: من لدن طلوع الشمس إلى زوالها، وهو وقت انتصاف النهار ﴿شَهْرٌ﴾؛ أي: مسيرة شهر؛ أي: مسير دواب الناس في شهر. ﴿وَرَوَاحُهَا﴾؛ أي: جريها وسيرها بالعشي؛ أي: من انتصاف النهار إلى الليل ﴿شَهْرٌ﴾؛ أي: مسيرة شهر، ومسافته، يعني: كانت تسير في يوم واحد
(٢) البحر المحيط.
قال مقاتل: كان ملك سليمان ما بين مصر وكابل. وقال بعضهم: جميع الأرض، وهو الموافق لما اشتهر عندهم من أنه ملك الدنيا كلها أربعة: اثنان من أهل الإِسلام، وهما: الاسكندر وسليمان، واثنان من أهل الكفر، وهما: نمرود وبختنصر.
﴿وَأَسَلْنَا﴾؛ أي: أذبنا وأجرينا ﴿لَهُ﴾؛ أي: لسليمان ﴿عَيْنَ الْقِطْرِ﴾؛ أي: عين النحاس المذاب أسأله من معدنه، كما ألان الحديد لأبيه داود، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، ولذلك سمي عينًا. وكان ذلك باليمن بقرب صنعاء. وقال القرطبي: والظاهر أن الله جعل النحاس لسليمان في معدنه عينًا تسيل كعيون المياه دلالة على نبوته. اهـ. واصطناع الناس في النحاس بعد لينه وإذابته - ولو كانت بالنار - من آثار الكرامة التي أعطيها سليمان، ولولاها ما لان النحاس أصلًا؛ لأنه قبل سليمان لم يكن يلين أصلًا بنار ولا بغيرها اهـ "شيخنا".
وقوله: ﴿وَمِنَ الْجِنِّ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: مبتدأ مؤخر؛ أي: ومن يعمل بين يدي سليمان كائن من الجن. ويجوز أن يكون ﴿مَنْ يَعْمَلُ﴾ منصوبًا بفعل مقدر، و ﴿مِنَ الْجِنِّ﴾ متعلق بهذا المقدر، أو حال من ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ويؤيد هذا الاحتمال ما في سورة ص من قوله تعالى: ﴿وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧)﴾ فإنه منصوب بـ ﴿سَخَّرْنَا﴾ المصرح به. والتقدير: وسخرنا له من يعمل بين يديه وقدامه حال كونه من الجن، وقوله: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يَعْمَلُ﴾؛ أي: يعمل له بإذن ربه؛ أي: بأمره كما ينبيء عنه قوله: ﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾؛ أي: ومن يعدل من الجن ويميل عما أمرناه به من طاعة سليمان ويعصه {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ
والمعنى: أي وسخرنا له من الجن من يبني له الأبنية وغيرها بقدرة ربه وتسخيره، ومن يخرج منهم عن طاعته.. نذقه عذابًا أليمًا في الدنيا والآخرة، وإنا لنوقن بصدق ما جاء به القرآن من استخدام سليمان للجن، ولا نعلم كيف كان يستخدمهم في أعماله، ولكن نشاهد آثار استخدامه لهم من المباني الشاهقة، والقصور العظيمة، والتماثيل البديعة.
١٣ - ثم بيَّن سبحانه ما يعمله الجن لسليمان فقال: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ﴾؛ أي: يعمل الجن لسليمان ﴿مَا يَشَاءُ﴾ سليمان ويريد ﴿مِنْ مَحَارِيبَ﴾ بيان لما يشاء، جمع: محراب، وهو البناء المرتفع الذي يرقى إليه بدرج، والقصر العالي. سمي محرابًا؛ لأنه يذب عنه، ويحارب عليه تشبيهًا بمحراب المسجد؛ لأنه يحارب فيه الشيطان، كما سيأتي البحث عنه في مبحث مفردات اللغة.
والمعنى: يبنون له ما يشاء من قصور حصينة، ومساكن شريفة، سميت بذلك؛ لأنها يذب عنها، ويحارب عليها. قال المفسرون: فبنتِ الشياطين لسليمان تدمر على زنة تنصر، وهي بلدة بالشام، والأبنية العجيبة باليمن، وهي صرواج ومرواج وبينون وسلحين وهيذة وهنيذة وفلتوم وغمدان، ونحوها. وكلها خراب الآن، وعملوا له بيت المقدس في غاية الحسن والبهاء.
قصة بناء سليمان لبيت المقدس
وروي (١): أنه أراد داود عليه السلام بنيان بيت المقدس، فبناه مرارًا، فلما فرغ منه تهدم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فأوحى الله إليه أن بيتي هذا لا يقوم على يدي من سفك الدماء، فقال داود: يا رب، ألم يكن ذلك في سبيلك؟ قال: بلى، ولكنهم أليسوا عبادي، فقال: يا رب، اجعل بنيانه على يدي من هو منى، فأوحى
ثم نرجع إلى القصة: فصلوا فيه زمانًا، وكان مولد سليمان بغزة، وملك بعد أبيه، وله اثنتا عشرة سنة، ولما كان في السنة الرابعة من ملكه في شهر أيار سنة تسع وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى عليه السلام.. ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس وإتمامه حسبما تقدم وصية أبيه إليه، وجمع حكماء الإنس والجن، وعفاريت الأرض، وعظماء الشياطين، وجعل منهم فريقًا يبنون، وفريقًا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام، وفريقًا يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان، وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة والدجاجة، وبنى مدينة بيت المقدس، وجعلها اثني عشر ربضًا، وأنزل كل ربض منها سبطًا من أسباط بني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطًا، ثم بني المسجد الأقصى بالرخام الملون، وسقفه بألواح الجواهر الثمينة، ورصع سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت، وأنبت الله شجرتين عند باب الرحمة إحداهما: تنبت الذهب، والأخرى: تنبت الفضة، فكان كل يوم ينزع من كل واحدة مئتي رطل ذهبًا وفضة، وفرش المسجد بلاطة من ذهب، وبلاطة من فضة، وبألواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ بيتٌ أبهى ولا أنور من ذلك المسجد، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. وفرغ منه في السنة الحادية عشرة من ملكه، وكان ذلك بعد هبوط آدم من الجنة بأربعة آلاف سنة وأربع مئة وأربع عشرة سنة، وبين عمارة سليمان لمسجد بيت المقدس، والهجرة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التسليمات ألفُ سنة وثمان مئة سنة، وقريب من سنتين.
ولما فرغ من بناء المسجد.. سأل الله تعالى ثلاثًا: حكمًا يوافق حكمه،
قال سعيد بن المسيب (١): لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس.. تغلقت أبوابه، فعالجها سليمان، فلم تنفتح حتى قال في دعائه: بصلوات أبي داود، وافتح الأبواب، فتفتحت فوزع له سليمان عشر آلاف من قراء بني إسرائيل، خمسة آلاف بالليل، وخمسة آلاف بالنهار، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلا والله يُعبد فيها، واستمر بيت المقدس على ما بناه سليمان أربع مئة سنة وثلاثًا وخمسين سنة، حتى قصده بختنصر، فخرب المدينة وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ جميع ما كان فيه من الذهب والفضة والجواهر، وحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، واستمر بيت المقدس خرابًا سبعين سنة، ثم أهلك بختنصر ببعوضة دخلت دماغه، وذلك أنه من كبر الدماغ وانتفاخه.. فعل ما فعل من التخريب والقتل، فجازاه الله تعالى بتسليط أضعف الحيوان على دماغه.
﴿و﴾ يعملون له ما يشاء من ﴿تَمَاثِيلَ﴾ وصور الملائكة والأنبياء على صورة القائمين والراكعين والساجدين على ما اعتادوه، فإنها كانت تعمل حينئذ في المساجد من زجاج ونحاس ورخام ونحوها؛ ليراها الناس، ويعبدوا مثل عباداتهم. ويقال (٢): إن هذه التماثيل رجال من نحاس، وسأل ربه أن ينفخ فيه فيها الروح، ليقاتلوا في سبيل الله، ولا يعمل فيهم السلاح، وكان إسنفديار منهم، كما في تفسير "القرطبي".
وروي: أنهم عملوا أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان ذراعيهما، فارتقى عليهما، وإذا قعد أظلهما النسران بأجنحتهما. اهـ. "قرطبي".
(٢) القرطبي.
واعلم (١): أن حرمة التصاوير شرع جديد، وكان اتخاذ الصور قبل هذه الأمة مباحًا، كما يدل عليه قوله - ﷺ -: "إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنو على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور"؛ أي: ليذكروا عبادتهم، فيجتهدوا في العبادة، وإنما حرِّم على هذه الأمة؛ لأن قوم رسولنا - ﷺ - كانوا يعبدون التماثيل؛ أي: الأصنام، فنهي عن الاشتغال بالتصوير، وأبغض الأشياء إلى الخواص ما عصي الله به.
وفي الحديث: "من صور صورة فإن الله معذبه حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ فيها أبدًا"، وهذا يدل على أن تصوير ذي الروح حرام. قال بعضهم: هل هو كبيرة أو لا؟ فيه خلاف: فعند من جعل الكبيرة عبارة عما ورد الوعيد عليه من الشرع.. فهو كبيرة، وأما من جعل الكبيرة منحصرة في عدد محصور: فهذا ليس من جملته، فيكون الحديث محمولًا على المستحل، أو على استحقاق العذاب المؤبد، وأما تصوير ما لا روح له: فرخص فيه، وإن كان مكروهًا من حيث إنه اشتغال بما لا يعني.
﴿و﴾ يعملون له ما يشاء من ﴿جِفَانٍ﴾ وقصاع عظيمة كائنة ﴿كَالْجَوَابِ﴾ والحياض الكبار، جمع: جفنة، وهي القصعة الكبيرة التي تشبع عددًا كثيرًا. قيل: يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل، فيأكلون منها، وكان لمطبخه كل يوم اثنا عشر ألف شاة، وألف بقرة، وكان له اثنا عشر ألف خبَّاز، واثنا عشر ألف طبَّاخ، يصلحون الطعان في تلك الجفان لكثرة القوم. قال في "الشرعة": ولا بركة في القصاع الصغار، ولتكن قصعة الطعام من خزف أو خشب، فإنهما أقرب إلى التواضع، ويحرم الأكل في الذهب والفضة، وكذا الشرب منهما. والجوابي: جمع جابية، وهو الحوض الكبير الذي يجبى؛ أي: يجمع فيه الماء للإبل.
﴿وَ﴾ يعملون له ما يشاء من ﴿قُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ جمع قدر، وهو اسم لما يُطبخ فيه اللحم، والراسيات: جمع راسية، من: رسا الشيء إذا ثبت؛ أي: وقدور ثابتات على الأثافي، لا تنزل عنها لعظمها، ولا تحرك عن أماكنها، وكان يصعد إليها بالسلالم، وكانت باليمن.
ثم أمرهم سبحانه بالعمل الصالح على العموم؛ أي: سليمان وأهله فقال: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾، وهو مقول لقول محذوف. و ﴿آلَ﴾: منصوب على النداء، والمراد به: سليمان؛ لأن هذا الكلام قد ورد في خلال قصته، وخطاب الجمع للتعظيم، أو أولاده، أو كل من ينفق عليه، أو كل من يتأتى منه الشكر من أمته، كما في "بحر العلوم".
والمعنى: أي وقلنا له، أولهم: اعملوا يا آل داود بطاعتي كالصلاة ونحوها، واعبدوني شكرًا لما أعطيتكم من الفضل وسائر النعماء، فإنه لا بد من إظهار الشكر كظهور النعمة. وسميت الصلاة ونحوها شكرًا؛ لسدها مسده. فـ ﴿شُكْرًا﴾: منصوب على العلة، أو منصوب على المصدرية لـ ﴿اعْمَلُوا﴾؛ لأن العمل للمنعم شكر له، فيكون مصدرًا من غير لفظه، أو لفعل محذوف؛ أي: اشكروا شكرًا، أو حال؛ أي: شاكرين أو مفعول به؛ أي: اعملوا شكرًا، ومعناه: إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم، فاعملوا أنتم شكرًا على طريق المشاكلة، وسميت الطاعة شكرًا؛ لأنها من جملة أنواعه.
ثم بيَّن بعد أمرهم بالشكر أن الشاكرين له من عباده قليل، فقال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾؛ أي: العامل بطاعتي، الشاكر لنعمتي قليل، وارتفاع القليل على أنه خبر مقدم، و ﴿مِنْ عِبَادِيَ﴾: صفة له، و ﴿الشَّكُورُ﴾: مبتدأ.
(٢) البحر المحيط.
روي: أن النبي - ﷺ - صعد المنبر، فتلا هذه الآية، ثم قال: "ثلاث من أوتيهن.. فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود" فقلنا: ما هُنَّ؟ فقال: "العدل في الرضا والغضب، والقصد في الفقر والغنى، وخشية الله في السر والعلانية" أخرجه الترمذي. والشكر كما يكون بالفعل يكون بالقول، ويكون بالنية كما قال:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّيْ ثَلاَثَةً | يَدِيْ وَلسَانِيْ وَالضَّمِيْرَ الْمُحَجَّبَا |
١٤ - ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا﴾ وحكمنا ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على سليمان ﴿الْمَوْتَ﴾ وألزمناه إياه، وفصلناه به عن الدنيا ﴿مَا دَلَّهُمْ﴾؛ أي: ما دل الجن وآل داود ﴿عَلَى مَوْتِهِ﴾؛ أي: على موت سليمان ﴿إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾؛ أي: إلا هامة الأكل، وسوسة الخشب المسماة بالأرضة، وهي دويبة وسوسة تأكل الخشب، ويقال لها: السرقة، أضيفت إلى فعلها، وهو الأرض بمعنى الأكل، ولذا سميت الأرض مقابل السماء أرضًا، لأنها تأكل أجساد بني آدم، يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضًا إذا أكلتها، فأرضت أرضًا ما لم يسم فاعله، فهي مأروضة حالة كونها ﴿تَأْكُلُ﴾؛ أي: تلك الدابة ﴿مِنْسَأَتَهُ﴾؛ أي: منسأة سليمان؛ أي: تأكل عصاه التي كان متكئًا عليها من النسيء، وهو التأخير في الوقت؛ لأن العصا يؤخر بها الشيء عن الطريق مثلًا، ويزجر بها نحو الكلب ويطرد.
﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ وسقط سليمان ميتًا بعد سقوط عصاه من تحته ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾؛ أي: علمت الجن علمًا يقينيًا ينتفي عنده الشكوك والشبه بعد التباس الأمر عليهم. من تبينت الشيء: إذا علمته بعد التباسه عليك ﴿أَنْ﴾ مخففة؛ أي: أنهم ﴿لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾؛ أي: ما غاب عن حواسهم كما يزعمونه ﴿مَا لَبِثُوا﴾ وأقاموا ﴿فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾؛ أي: ذي الإهانة والخزي لهم، يعني الأشغال والتكاليف الشاقة، والأعمال الصعبة التي كانوا يعملونها لسليمان عليه السلام.
والحال: أنهم لو كان لهم علم بالغيب كما يزعمون.. لعلموا موت سليمان حين مات، ولما لبثوا بعده حولًا في تسخيره إلى أن خرَّ ميتًا، فلما وقع ما وقع علموا أنهم جاهلون، لا عالمون. ويجوز أن يؤخذ تبينت من: تبين الشيء: إذا ظهر وتجلى، فتكون أن مع ما بعدها بدل اشتمال من الجن، نحو: تبين زيد جهله؛ أي: ظهر للإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب.
وقال بعضهم: كانت الشياطين تجتمع حول محرابه أينما صلى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلا احترق، فمر به شيطان، فلم يسمع صوته، ثم رجع، فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتًا، ففتحوا عنه، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، فأرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها في يوم وليلة مقدارًا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة، وكانوا يعملون بين يديه، ويحسبونه حيًا، ولو علموا أنه مات.. لما لبثوا في العذاب سنة، ثم إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام.. أتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين من الشراب.. سقيناك أطيب الشراب، ولكن ننقل إليك الماء والطين، فهم ينقلون ذلك لها حيث كانت، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. ألم ترَ إلى
قال القفال (١): قد دلت هذه الآية على أن الجن لم يسخروا إلا لسليمان، وأنهم تخلصوا بعد موته من تلك الأعمال الشاقة، وإنما تهيَّأ لهم التسخير والعمل، لأن الله تعالى زاد في أجسامهم وقواهم، وغيَّر خلقهم عن خلق الجن الذين لا يرون، ولا يقدرون على شيء من هذه الأعمال الشاقة، مثل: نقل الأجسام الثقال ونحوه؛ لأن ذلك معجزة لسليمان عليه السلام.
قال أهل التاريخ: كان سليمان عليه السلام أبيض جسيمًا وضيئًا، كثير الشعر، يلبس البياض، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة، وكانت وفاته بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة. قال بعضهم: هذا هو الصحيح؛ أي: كون وفاته بعد الفراغ من البناء، لا قبله بسنة على ما زعم بعض أهل التفسير.
وفي "التأويلات النجمية": تشير الآية إلى كمال قدرته وحكمته، وأنه هو الذي سخر الجن والإنس لمخلوق مثلهم، وهم الألوف الكثيرة، والوحوش والطيور.
ثم قضى عليه الموت، وجعلهم مسخرين لجثة بلا روح، وبحكمته جعل دابة الأرض حيوانًا ضعيفًا مثَّلها دليلًا لهذه الألوف الكثيرة من الجن والإنس تدلهم بفعلها على علم ما لم يعلموا.
وفيه أيضًا إشارة إلى أنه تعالى جعل فيها سببًا لإيمان أمة عظيمة، وبيان حال الجن أنهم لا يعلمون الغيب، وفيه إشارة أخرى: أن نبيين من الأنبياء اتكأ عصوين، وهما: موسى وسليمان، فلما قال موسى: هي عصاي أتوكأ عليها.. قال ربه: ألقها، فلما ألقاها.. جعلها ثعبانًا مبينًا، يعني: من اتكأ على غير فضل الله ورحمته يكون متكؤه ثعبانًا، ولما اتكأ سليمان على عصاه في قيام ملكه بها، واستمسك بها.. بعث الله أضعف دابة وأخسها لإبطال متكئه ومتمسكه؛ ليعلم أن من قام بغيره زال بزواله، وأنَّ كل متمسك بغير الله طاغوت من الطواغيت ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا﴾ انتهى كلامه.
ومعنى الآية (٢): أي إنما لما قضينا على سليمان بالموت.. لم يدل الجن
(٢) المراغي.
والكتاب الكريم لم يحدِّد المدة التي قضاها سليمان وهو متوكىء على عصاه، حتى علم الجن بموته، وقد روى القصاصون أنها كانت سنة، ومثل هذا لا ينبغي الركون إليه، فليس من الجائز أنَّ خدم سليمان لا يتنبهون إلى القيام بواجباته المعيشية من مأكل ومشرب وملبس ونحوها يومًا كاملًا، دون أن يحادثوه في ذلك، ويطلبوا إليه القيام بخدمته، فالمعقول أن الأرضة بدأت العصا، وسليمان لم يتنبه لذلك، وبينما هو متوكىء عليها حانت منيته، وكانت الأرضة قد فعلت فعلها في العصا، فانكسرت، فخرَّ على الأرض، فعلمت الجن كذبها إذ كانت تدعي أنها تعلم الغيب؛ إذ لو علمته ما لبثت ترهق نفسها في شاقّ الأعمال التي كلفت بها.
وقرأ الجمهور (١): ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ بسكون الراء. وقرأ أبو المتوكل (٢) وأبو الجوزاء وعاصم الجحدري: ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ بفتح الراء. وقرأ نافع وأبو عمرو وجماعة: ﴿مِنْسَأَتَهُ﴾ بألفٍ محضة، وأصله: منسأته، أبدلت الهمزة ألفًا بدلًا غير قياسي. وقال أبو عمرو: أنا لا أهمزها؛ لأني لا أعرف لها اشتقاقًا، فإن كانت مما لا تهز.. فقد احتطت، وإن كانت تهمز.. فقد يجوز لي ترك الهمزة فيما يهمز.
وقرأ ابن ذكوان وجماعة منهم: بكار والوليد أن ابن عتبة وابن مسلم: ﴿منسأته﴾ بهمزة ساكنة، وهو من تسكين التحريك تخفيفًا، وليس بقياس، وضعَّف النحاة هذه القراءة؛ لأنه يلزم فيها أن يكون ما قبل تاء التأنيث ساكنًا غير ألفًا. وقيل: قياسها: التخفيف بين بين، والراوي لم يضبط، وأنشد هارون بن موسى الأخفش الدمشقي شاهدًا على سكون هذه القراءة قول الراجز:
صَرِيْعُ خَمْرٍ قَامَ مِنْ وَكْأتِهْ | كَقَوْمَةِ الشَّيْخِ إِلى مَنْسَأَتِهْ |
(٢) زاد المسير.
الإعراب
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)﴾.
﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ، ﴿لِلَّه﴾: خبر، والجملة مستأنفة. ﴿الَّذِي﴾: نعت للجلالة. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مَا﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾، والجملة الاسمية صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿لَهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿الْحَمْدُ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿فِي الْآخِرَةِ﴾ حال من الضمير المستكن في الخبر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ على كونها صلة الموصول. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر أول ﴿الْخَبِيرُ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة، أو خبر ثالث لـ ﴿هُوَ﴾ مسوقة لتفصيل بعض ما يحيط به علمه تعالى من الأمور المتعلقة بمصالح العباد الدينية والدنيوية. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿يَعْلَمُ﴾. ﴿يَلِجُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مَا﴾، والجملة صلة الموصول، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: متعلق بـ ﴿يَلِجُ﴾. ﴿وَمَا يَخْرُجُ﴾: معطوف على ﴿مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾. ﴿مِنْهَا﴾: متعلق بـ ﴿يَخْرُجُ﴾. ﴿وَمَا يَنْزِلُ﴾، ﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾: معطوفان على ﴿مَا يَلِجُ﴾ أيضًا. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ متعلقان بـ ﴿يَنْزِلُ﴾. ﴿وَهُوَ﴾ مبتدأ. ﴿الرَّحِيمُ﴾: خبر أول.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ﴾.
﴿وَقَالَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿لَا﴾: نافية. ﴿تَأْتِينَا﴾: فعل ومفعول. ﴿السَّاعَةُ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة. ﴿بَلَى﴾: حرف جواب لإثبات النفي؛ أي: ليس الأمر إلا إتيانها. ﴿وَرَبِّي﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم: ﴿رَبِّي﴾: مقسم به مجرور بواو القسم أكد إيجاب النفي بما هو الغاية في التأكيد والتشديد، وهو القسم بالله عز وجل، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا. ﴿لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿تَأْتِيَن﴾: فعل مضارع في محل الرفع لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وهو تأكيد ثالث، والكاف: مفعول به، وفاعله: ضمير يعود على الساعة، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب على كونها مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾: صفة لـ ﴿رَبِّي﴾، أو بدل منه، ويجوز رفعه على كونه خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ، وخبره جملة ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ وقد قرىء بهما كما مرَّ.
﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
﴿لَا يَعْزُبُ﴾: فعل مضارعِ. ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به. ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾: فاعل ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: حال من ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾. ﴿وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾، أو خبره على قراءة الرفع. ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿لا﴾: نافية ﴿أَصْغَرُ﴾ - بالرفع -: معطوف على ﴿مِثْقَالُ﴾. ﴿مِنْ ذَلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿أَصْغَرُ﴾، ﴿وَلَا أَكْبَرُ﴾: معطوف على ﴿مِثْقَالُ﴾ أيضًا. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿فِي كِتَابٍ﴾: جار ومجرور، حال من ﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾، ﴿مُبِينٍ﴾ صفة وما عطف عليه تأكيدًا للنفي في ﴿لَا يَعْزُبُ﴾؛ أي: لا يعزب عنه ما ذكر إلا حالة كونه في كتاب مبين. وفي "السمين": قوله: ﴿وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ﴾، العامة على رفع أصغر وأكبر، وفيه وجهان:
والثاني: العطف على ﴿مِثْقَالُ﴾، وعلى هذا فيكون قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾ تأكيدًا للنفي في ﴿لَا يَعْزُبُ﴾ كأنه قال: لكنه في كتاب مبين، ويكون في محل الحال.
وقرأ قتادة والأعمش، ورويم عن أبي عمرو ونافع أيضًا، بفتح الراءين، وفيه وجهان:
أحدهما: أن ﴿لَا﴾ هى لا التبرئة، بُنى اسمها معها، والخبر قوله: ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ﴾.
والثاني: النسق على ﴿ذَرَّةٍ﴾ اهـ.
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)﴾.
﴿لِيَجْزِيَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل. ﴿يجزي﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لجزائه الذين، الجار والمجرور متعلق بتأتين، كأنه علة وبيان لما يقتضيه إتيانها، أو بقوله: ﴿لَا يَعْزُبُ﴾ فكأنه قال: يحصي ذلك ليجزي. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول به لـ ﴿يجزي﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ أول ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿مَغْفِرَةٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، وجملة الأول مستأنفة مسوقة لبيان مآلهم. ﴿وَرِزْقٌ﴾: معطوف على ﴿مَغْفِرَةٌ﴾، ﴿كَرِيمٌ﴾: صفة ﴿وَرِزْقٌ﴾. ﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿الذين﴾: مبتدأ أول، وجملة ﴿سَعَوْ﴾ صلة الموصول. ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿سَعَوْ﴾، ولكنه على تقدير مضاف؛ أي: في إبطال آياتنا بالطعن فيها، أو وصفها بالسحر والشعر وغير ذلك. ﴿مُعَاجِزِينَ﴾: حال من فاعل ﴿سَعَوْ﴾. ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذَابٌ﴾: مبتدأ ثالث مؤخر. ﴿مِنْ رِجْزٍ﴾ صفة لـ ﴿عَذَابٌ﴾. ﴿أَلِيمٌ﴾: صفة ثانية لـ ﴿عَذَابٌ﴾، والجملة من المبتدأ الثالث وخبره في محل الرفع خبر للمبتدأ الثاني، وجملة الثاني في محل الرفع خبر
وفي "الفتوحات": قوله: ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْ﴾ يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه مبتدأ. و ﴿أُولَئِكَ﴾ وما بعده خبره.
والثاني: أنه عطف على ﴿الَّذِينَ﴾ قبله؛ أي: ويجزي الذين سعوا، ويكون ﴿أُولَئِكَ﴾ بعده مستانفًا، و ﴿أُولَئِكَ﴾ الذي قبله، وما في حيزه معترضًا بين المتعاطفين. اهـ. "سمين".
﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)﴾.
﴿وَيَرَى﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يرى﴾: فعل مضارع مرفوع، أو: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿يرى﴾: فعل مضارع منصوب معطوف على ﴿يجزي﴾. ﴿الَّذِينَ﴾: فاعل، والجملة مستأنفة أو معطوفة. ﴿أُوتُوا﴾: فعل ونائب فاعل. ﴿الْعِلْمَ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أُوتُوا﴾ لأنه بمعنى: أعطوا، وجملة ﴿أُوتُوا﴾ صلة ﴿الَّذِينَ﴾. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿يرى﴾؛ لأنها قلبية، وجملة ﴿أُنْزِلَ﴾ صلة ﴿الَّذِي﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: حال من الضمير المستتر في ﴿أُنْزِلَ﴾، أو متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾. ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل. ﴿الْحَقَّ﴾ مفعول ثان لـ ﴿يرى﴾. ﴿وَيَهْدِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿يهدي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الَّذِي أُنْزِلَ﴾. ﴿إِلَى صِرَاطِ﴾ متعلق به. ﴿الْعَزِيزِ﴾: مضاف إليه. ﴿الْحَمِيدِ﴾: صفة ل ﴿الْعَزِيز﴾، وجملة ﴿يهدي﴾ في محل النصب معطوف على ﴿الْحَقَّ﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿يرى﴾ عطف فعل على اسم؛ لكونه في تأويل الاسم؛ أي: وهاديًا، ويجوز أن تكون الواو حالية، والجملة في محل النصب حال من ﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾، ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)﴾.
﴿وَقَالَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول؛ أي: قال بعضهم لبعض: ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام. ﴿نَدُلُّكُمْ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿الَّذِينَ﴾. {عَلَى
﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨)﴾.
يحتمل أن يكون هذا من تمام قول الكافرين، أولا؛ أي: من كلام القائلين: هل ندلكم، ويحتمل أن يكون من كلام السامع المجيب للقائل: هل ندلكم؛ كأن القائل لما قال له: هل ندلكم على رجل؟ أجابه فقال: هو يفتري على الله كذبًا... إلخ. اهـ "خطيب". ﴿أَفْتَرَى﴾: ﴿الهمزة﴾ فيه للاستفهام التقريري، واستغني بها عن همزة الوصل في التوصل إلى النطق بالساكن. ﴿أَفْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على رجل. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَفْتَرَى﴾. ﴿كَذِبًا﴾ مفعول به، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف معادل لهمزة الاستفهام ﴿بِهِ﴾: خبر مقدم. ﴿جِنَّةٌ﴾: مبتدأ مؤخر؛ أي: جنون، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿أَفْتَرَى﴾. ﴿بَلِ﴾: حرف ابتداء واضراب إبطالي. ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ. ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول. ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنُونَ﴾. ﴿فِي الْعَذَابِ﴾: خبر المبتدأ ﴿وَالضَّلَالِ﴾: عطف على ﴿الْعَذَابِ﴾. ﴿الْبَعِيدِ﴾: صفة لـ ﴿الضلال﴾، والجمة الاسمية مستأنفة.
﴿أَفَلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾ للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف يقتضيه المقام، و ﴿الفاء﴾: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أعموا فلم يروا؟ أو: الهمزة مقدمة على حرف العطف، والأصل: فألم يروا، والجملة المحذوفة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ﴿لم﴾: حرف جزم ونفي. ﴿يَرَوْا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لم﴾ ﴿إِلَى مَا﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿يَرَوْا﴾. ﴿بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَمَا﴾: معطوف على ﴿مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾. ﴿خَلْفَهُمْ﴾: صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: حال من ﴿مَا﴾ الموصولة. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿نَشَأْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿نَخْسِفْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إِن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِهِمُ﴾: متعلق بـ ﴿نَخْسِفْ﴾. ﴿الْأَرْضِ﴾: مفعول به، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿أَوْ نُسْقِطْ﴾: فعل وفاعل مستتر، معطوف على ﴿نَخْسِفْ﴾. ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿نُسْقِطْ﴾. ﴿كِسَفًا﴾: مفعول به. ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: صفة لـ ﴿كِسَفًا﴾. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾. ﴿لَآيَةً﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء. ﴿آيَةً﴾: اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر. ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آية﴾. ﴿مُنِيبٍ﴾: صفة لـ ﴿عَبْدٍ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قلبها.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم. ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿آتَيْنَا دَاوُودَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿مِنَّا﴾: حال من ﴿فَضْلًا﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿فَضْلًا﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿آتَيْنَا﴾، والجملة الفعلية جواب لقسم محذوف، وجله القسم المحذوف مستأنفة. ﴿يَا جِبَالُ﴾: منادى نكرة مقصودة في محل النصب مبني على الضم، وجملة النداء مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا يا جبال. ﴿أَوِّبِي﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، والياء: فاعل. ﴿مَعَهُ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿أَوِّبِي﴾، والجملة الفعلية مقول لذلك القول المحذوف على
﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)﴾.
﴿أَنِ﴾: حرف مصدر ونصب ﴿اعْمَلْ﴾: فعل أمر في محل النصب بـ ﴿أَنِ﴾ المصدرية مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿دَاوُودَ﴾. ﴿سَابِغَاتٍ﴾: صفة لمفعول محذوف، تقديره: دروعًا سابغات، والجملة الفعلية من ﴿أَنِ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، متعلق بفعل محذوف، تقديره: وأمرنا بعمل دروع سابغات، والجملة المحذوفة معطوفة على ﴿أَلَنَّا لَهُ﴾. ﴿وَقَدِّرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿اعْمَلْ﴾. ﴿فِي السَّرْدِ﴾: متعلق بـ ﴿قدر﴾. ﴿وَاعْمَلُوا﴾: فعل أمر وفاعل، مبني على حذف النون، والجملة مقول القول محذوف، تقديره: وقلنا له واعملوا، والقول المحذوف معطوف على أمرنا المحذوف. ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو صفة لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: بما تعملونه ﴿بَصِيرٌ﴾: خبر ﴿إِن﴾، وجملة ﴿إِن﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية. ﴿لِسُلَيْمَانَ﴾: متعلق بمحذوف، تقديره: وسخرنا لسليمان. ﴿الرِّيحَ﴾: بالنصب مفعول به لذلك الفعل المحذوف، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ﴾، أو مستأنفة، وبالرفع: مبتدأ مؤخر، ولسليمان: خبر مقدم؛ أي: والريح مسخرة لسليمان، والجملة مستأنفة. ﴿غُدُوُّهَا﴾: مبتدأ. ﴿شَهْرٌ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ﴿الرِّيحَ﴾، أو مستأنفة، وجملة ﴿وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ معطوفة على جملة ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾. ﴿وَأَسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، معطوف على سخرنا المقدَّر. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿أَسَلْنَا﴾ ﴿عَيْنَ الْقِطْرِ﴾: مفعول به. ﴿وَمِنَ الْجِنِّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة لفعل محذوف معطوف على سخرنا
﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (١٣)﴾.
﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم شرط جازم في حل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما. ﴿يَزِغْ﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿مِنْهُمْ﴾ حال من فاعل ﴿يَزِغْ﴾. ﴿عَنْ أَمْرِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَزِغْ﴾. ﴿نُذِقْهُ﴾ فعل ومفعول، مجزوم بـ ﴿مَن﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿مِنْ عَذَابِ السَّعِير﴾ متعلق بـ ﴿نُذِقْهُ﴾، وجملة ﴿مِنْ﴾ الشرطية معطوفة على جملة سخرنا المقدر. ﴿يَعْمَلُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة مفصلة لما قبلها ﴿لَهُ﴾ متعلق به. ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: ما يشاؤه سليمان. ﴿مِنْ مَحَارِيبَ﴾ حال من مفعول ﴿يَشَاءُ﴾ المحذوف. ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾: معطوف على ﴿مَحَارِيبَ﴾، وهما غير منصرفين لصيغة منتهى الجموع. ﴿وَجِفَانٍ﴾: معطوف على ﴿مَحَارِيبَ﴾. ﴿كَالْجَوَابِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿جفان﴾، وهو مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوفة تبعًا لرسم المصحف العثماني منع من ظهورها الثقل؛ لأنه اسم منقوص. ﴿وَقُدُورٍ﴾ معطوف على ﴿مَحَارِيبَ﴾. ﴿رَاسِيَاتٍ﴾: صفة ﴿قدور﴾. ﴿وَاعْمَلُوا﴾: الواو: استئنافية. ﴿اعْمَلُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مقول لقول محذوف، تقديره: وقلنا له: اعملوا يا آل داود شكرًا. ﴿آلَ دَاوُودَ﴾: منادى مضاف حذفه منه حرف النداء، وجملة النداء معترضة بين الفعل ومعموله ﴿شُكْرًا﴾: مفعول لأجله؛ أي: اعملوا صالحًا لأجل شكر الله، أو منصوب على المصدرية؛ أي: عمل شكر، فكأنه قال: اشكروا شكرًا، أو على الحال؛ أي:
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم. ﴿قَضَيْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿قَضَيْنَا﴾. ﴿الْمَوْتَ﴾: مفعول به. ﴿مَا﴾: نافية، ﴿دَلَّهُمْ﴾: فعل ماضٍ، ومفعول به. ﴿عَلَى مَوْتِهِ﴾: متعلقان به. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾: فاعل، والجملة الفعلية جواب شرط لـ ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة. ﴿تَأْكُلُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب حال من ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾. ﴿مِنْسَأَتَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه. ﴿فَلَمَّا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة. ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط. ﴿خَرَّ﴾: فعل ماضٍ، وفاعل مستتر يعود على سليمان، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾، وجملة ﴿لَمَّا﴾ معطوفة على جملة ﴿لَمَّا﴾ الأولى. ﴿أَن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿لَوْ﴾: حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. ﴿يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر كان، وجملة كان فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾. ﴿مَا﴾: نافية. ﴿لَبِثُوا﴾: فعل وفاعل. ﴿فِي الْعَذَابِ﴾: متعلق به. ﴿الْمُهِينِ﴾: صفة لـ ﴿الْعَذَابِ﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿لَّوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ الشرطية في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ المخففة، وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في محل النصب مفعول ﴿تبين﴾، والتقدير: علمت الجن عدم لبثهم في العذاب المهين، لو كان عندهم علم الغيب.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ الحمد: هو الثناء على الله بما هو أهله. ﴿الْحَكِيمُ﴾: هو الذي أحكم أمر الدارين، ودبره بحسب ما تقتضيه الحكمة. ﴿الْخَبِيرُ﴾ هو الذي يعلم
﴿يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: يدخل فيها من الولوج، وهو الدخول في مضيق.
﴿وَمَا يَعْرُجُ﴾؛ أي: يصعد. ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾؛ أي: يبعد. وفي "المصباح": عزب الشي: من بابي: قتل وضرب: إذا غاب وخفي، ومعنى ﴿لَا يَعْزُبُ عَنْهُ﴾: أي: لا يبعد عن علمه، والعازب: المتباعد في طلب الكلأ وعن أهله.
﴿مِثْقَالُ ذَرَّةٍ﴾ والمثقال: ما يوزن به، وهو من الثقل، وذلك اسم لكل صنج، كما في "المفردات". والذرة: النملة الصغيرة الحميراء، وما يرى في شعاع الشمس من ذرات الهواء؛ أي: وزن أصغر نملة، أو مقدار الهباء. ﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾؛ أي: رزق حسن لا تعب فيه، ولا منَّ عليه.
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا﴾: وفي "المفردات" السعي: المشي السريع، وهو دون العدو، ويستعمل للجد في الأمر، خيرًا كان أو شرًا.
﴿مُعَاجِزِينَ﴾؛ أي: ظانين ومقدرين أنهم يعجزوننا؛ لأنهم حسبوا أن لا بعث ولا نشور، يقال: أعجزت فلانًا، وعاجزته: جعلته عاجزًا.
﴿مِنْ رِجْزٍ﴾ الرجز بمعنى: القذر والشرك والأوثان، كما في قوله: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)﴾ سماها رجزًا؛ لأنها تؤدي إلى العذاب، وكذا سمي كيد الشيطان رجزًا في قوله: ﴿وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ﴾ لأنه سبب العذاب، وفي "المفردات": أصل الرجز: الاضطراب، وهو في الآية كالزلزلة، كما مرَّ، والرجز - بكسر الراء وضمها -: العذاب، أو سيئه، والإثم والذنب والقذر.
﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ الممزق مصدر ميمي بمعنى: التمزيق، وقياس كل ما زاد على الثلاث أن يجيء مصدره وزمانه ومكانه على زنة اسم مفعوله، ويجوز أن يكون ظرف مكان، قاله الزمخشري؛ أي: كل مكان تمزيق من القبور وبطون الوحش والطير. اهـ "خطيب". وأصل التمزيق: التفريق، يقال: مزَّق ثيابه؛ أي: فرقها، والمعنى: تنشئون خلقًا جديدًا بعد أن تمزقت وتفرقت أجسادكم كل تمزيق وتفريق، بحيث تصير ترابًا. اهـ "بيضاوي".
و ﴿جَدِيدٍ﴾ فعيل بمعنى: فاعل عند البصريين، يقال: جَدَّ الشيء فهو جاد وجديد: كقل فهو قليل، وبمعنى: مفعول عند الكوفيين، يقال: جدَّ النساج الثوب:
﴿أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾؛ أي: جنون. ﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ﴾ يقال: خسف به الأرض غاب به فيها، فالباء للتعدية ﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا﴾ الكسف، كالقطع وزنًا ومعنى، جمع: كسفة، كقطعة. قال في "المفردات": ومعني الكفة: القطعة من السحاب والقطن ونحو ذلك من الأجسام المتخلخلة، ومعنى إسقاط الكسف، من السماء: إسقاط قطع من النار، كما وقع لأصحاب الأيكة. ﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ قال في "المفردات": النوب: رجوع الشيء مرة بعد أخرى، والإنابة إلى الله: الرجوع إليه بالتوبة، وإخلاص العمل له.
﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ﴾ فعل أمر من التأويب على قراءة العامة بفتح الهمزة وتشديد الواو، وهو الترجيح، وقيل: التسبيح بلغة الحبشة، والتضعيف يحتمل أن يكون للتكثير، واختار بعضهم أن يكون للتعدي، قال: لأنَّهم فسروه برجعي معه التسبيح، ولا دليل فيه؛ لأنه تفسير معنى، أو أمر من الأوب على قراءة الحسن وابن عباس وقتادة وابن أبي إسحاق: ﴿أَوِّبِي﴾ بضم الهمزة وسكون الواو أمر من آب يؤوب؛ أي: ارجعي معه بالتسبيح. اهـ "سمين".
﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾؛ أي: جعلنا الحديد لينًا له في نفسه، كالشمع والعجين من الإلانة، أصله: من اللين ضد الخشونة.
﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾؛ أي: دروعًا واسعات طويلات. قال في "القاموس": سبغ الشيء سبوغًا: إذا طال إلى الأرض، وسبغت النعمة: إذا اتسعت، ودروع سابغة: تامة طويلة. انتهى. ومنه استعير إسباغ الضوء، أو إسباغ النعمة، كما في "المفردات".
﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾ والسرد في الأصل: خرز ما يخشن ويغلظ كخرز الجلد، ثم استعير لنظم الحديد ونسج الدروع، كما في "المفردات"، والمعنى: أي: اجعل النسج على قدر الحاجة.
﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾ قال الراغب: الشهر: مدة معروفة مشهورة بإهلال الهلال، أو
﴿عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ والقطر - بكسر العين -: النحاس المذاب.
﴿وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾؛ أي: ومن يعدل عن طاعة سليمان.
و ﴿مَحَارِيبَ﴾: جمع محراب، وهو في اللغة: كل موضع مرتفع، وقيل للذي يصلَّى فيه محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظَّم. وفي "البيضاوي": من محاريب؛ أي أبنية مرتفعة، سميت بالمحاريب؛ لأنها يذب عنها ويحارب عليها. اهـ. وكتب عليها الشهاب قوله: أبنية مرتفعة، هذا أصل معنى المحراب، وسمي باسم صاحبه؛ لأنه يحارب غيره في حمايته، ثم نقل إلى الطاق التي يقف بحذائها الإِمام، وهي مما أحدث في المساجد. وقيل للذي يصلَّى فيه محراب؛ لأنه يجب أن يرفع ويعظم. قال في "القاموس": المحراب: الغرفة، وصدر البيت، وأكرم مواضعه، ومقام الإِمام من المسجد، والموضع ينفرد به الملك فيتباعد من الناس. انتهى.
﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ جمع تمثال، وهو الصورة المصورة، أو هو ما تصنعه وتصوره مشبهًا بخلق الله من ذوات الروح. روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أظلَّه النسرأن بأجنحتهما، كما مرَّ.
﴿وَجِفَانٍ﴾ جمع: جفنة، وهي القصعة الكبير، فإن أعظم القصاع الجفنة، ثم القصعة تليها تشبع العشرة، ثم الصحفة تشبع الخمسة، ثم الميكلة تشبع الرجلين والثلاثة، ثم الصحفة تشبع الرجل، فتفسير الجفان بالصحاف كما فعله البعض منظور فيه. والجفنة خصت بوعاء الأطعمة، كما في "المفردات".
﴿كَالْجَوَابِ﴾؛ أي: كالحياض الكبار، أصله: الجوابي بالياء، كالجواري جمع جابية من الجباية؛ لاجتماع الماء فيها، وهي من الصفات الغالبة كالدابة.
قال الراغب: يقال: جبيت الماء في الحوض: جمعته، والحوض الجامع له: جابية، ومنه استعير جبيت الخراج جباية.
﴿وَقُدُورٍ﴾ جمع: قدر بكسر القاف، وهو إناء يطبخ فيه اللحم ونحوه، كما في "المفردات".
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾: القضاء الحكم، والفصل والموت: زوال القوة الحساسة.
﴿مِنْسَأَتَهُ﴾ المنساة: مفعلة اسم آلة، وهي العصا؛ لأنه ينسأ بها؛ أي: يطرد ويؤخر كالمكنسة والمكسحة والمقصعة.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تعريف طرفي الجملة في قوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ لإفادة الحصر، ومعناه: لا يستحق الحمد الكامل إلا الله، أو لإفادة الاختصاص، ومعناه: جميع أفراد المدح والثناء والشكر من كل حامد مختص به سبحانه، لا شركة لأحد فيه؛ لأنه الخالق المالك، كما يدل عليه ما بعده.
ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر في قوله: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾، وفيه أيضًا إطلاق المحمود عليه ليعم النعم الأخروية كلها. اهـ "روح".
ومنها: الطباق بين ﴿يَلِجُ﴾، و ﴿يَخْرُجُ﴾، وبين: ﴿يَنْزِلُ﴾، و ﴿يَعْرُجُ﴾، وبين: ﴿أَصْغَرُ﴾، و ﴿أَكْبَرُ﴾.
ومنها: إفادة المبالغة بصيغتي فعيل وفعول في قوله: ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾، ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾.
ومنها: المقابلة بين ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...﴾ الآية، وبين ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ فقد جعل المغفرة والرزق الكريم جزاء المحسنين، وجعل العذاب والرجز الأليم جزاء المجرمين.
ومنها: الاستفهام في قوله: ﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ﴾ للاستهزاء والسخرية؛ لأن غرضهم بهذا الكلام الاستهزاء بالرسول والسخرية به.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ﴾ لما فيه من وصف الشيء بوصف فاعله؛ إذ البعد في الأصل وصف الضال؛ لأنه الذي يتباعد عن المنهاج القويم، وكلما ازداد بعدًا منه كان أضلَّ.
ومنها: تقديم العذاب على ما يوجبه ويؤدي إليه، وهو الضلال للمسارعة إلى بيان ما يسوؤهم.
ومنها: جعل العذاب والضلال محيطين بهم إحاطة الظرف بالمظروف؛ لأن أسباب العذاب معهم، فكأنهم في وسط.
ومنها: وضع الموصول موضع ضميرهم في قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ﴾ للتنبيه على أنَّ علة ما اجترؤوا عليه كفرهم بالآخرة، وما فيها من فنون العقاب، ولولاه لما فعلوا ذلك خوفًا من غائلته اهـ "روح".
ومنها: التنكير في قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾ لغرض التفخيم؛ أي: فضلًا عظيمًا.
ومنها: تأكيد فخامته الذاتية بفخامته الإضافية في قوله: ﴿مِنَّا﴾ لما فيه من نسبة الفضل إلى الله سبحانه.
ومنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ﴾؛ أي: مسيرة شهر.
ومنها: نداء غير العاقل في قوله: ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾ تنزيلًا له منزلة العاقل.
ومنها: حذف الموصوف، وإقامة صفته مقامه تفخيمًا لشأنه في قوله: ﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ﴾؛ أي: دروعًا سابغات.
ومنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿أَنِ اعْمَلْ﴾، ﴿وَاعْمَلُوا﴾، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ﴾؛ لأن السرد في الأصل: خرز ما يخشن ويغلظ الخرز الجلد، ثم استعير لنظم الحديد، ونسج
ومنها: الطباق بين ﴿غُدُوُّهَا وَرَوَاحُهَا﴾.
ومنها: التفصيل بعد الإجمال في قوله: ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ﴾ فإنه تفصيل لقوله: ﴿مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ﴾، ويسمى: التشبيه المرسل المجمل؛ لذكر أداة التشبيه، وحذف وجه الشبه.
ومنها: تقديم المعمول على عامله لرعاية الفواصل في قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، وقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
ومنها: الإتيان بصيغة فعول في قوله: ﴿مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ لإفادة المبالغة.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ فإنه جمع التأكيد بأن، وباسمية الجملة، وباللام.
ومنها: إضافة العام إلى الخاص في قوله: ﴿دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ إن قلنا: إن الأرض بفتح الراء جمع: أرضة؛ لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدواب، كما في "الفتوحات".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)﴾
المناسبة
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر حال الشاكرين لنعمه، المنيبين إليه بذكر داود وسليمان.. أعقب ذلك بذكر ما حل بالكافرين بأنعمه، المعرضين عن ذكره وشكره، من عظيم العقاب بذكر قصة سبأ موعظةً لقريش، وتحذيرًا لمن يكفر
قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها (١): أن الله سبحانه لما حكى ما أوتوا من النعم في مساكنهم، ثم كفرانهم بها، وما جوزوا به من الخراب والدمار.. قص علينا ما أعطوه من النعم في مسايرهم ومتاجرهم، ثم جحودهم بها، ثم ما حاق بهم بسبب ذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (٢) قصص سبأ، وما كان من أمرهم من اتباع الهوى والشيطان.. أردف ذلك الإخبار بأنهم صدقوا ظن إبليس فيهم، وفي أمثالهم ممن ركنوا إلى الغواية والضلال؛ إذ تسلط عليهم، وانقادوا إلى وسوسته، وبذا امتازوا من فريق المؤمنين الذين لا سلطان للشيطان عليهم، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر ما آتاه الشاكرين من أوليائه كداود وسليمان من النعم التي لا حصر لها، وما فعله بسبأ حين بطروا النعمة، وكذبوا الرسل.. أعقب ذلك بأمر رسوله - ﷺ - أن يقول للمشركين من قوم تهكمًا بهم وتعجبًا من حالهم: ادعوا آلهتكم الذين زعمتموهم شركاء لله، فسلوهم أن يفعلوا بكم بعض أفعالنا بمن وصفنا أمرهم من إنعام أو انتقام، فإن لم يستطيعوا ذلك.. فاعلموا أنهم مبطلون.
ثم ذكر أن شأن المعبود أن يكون نافعًا للعباد، يخشى بطشه وسطوته، وهؤلاء ليس لهم شيء من ذلك؛ إذ لا تصرف لهم في شيء في السموات والأرض، لا استقلالًا، ولا شركةً، ولا هم معينون للخالق، ولا تنفع شفاعتهم لديه، فكيف تتقربون إليهم وتعبدونهم رجاء نفعهم بعد الذي علمتم من أمرهم؟!
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه بعد أن سلب عن شركائهم ملك شيء من الأكوان، وأثبت أن ذلك له وحده.. أمر نبيه أن يجعلهم يقرون بتفرده بالخلق
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام (١) الأدلة على التوحيد، وضرب لذلك الأمثال حتى لم يبق بعدها زيادة مستزيد.. شرع يذكر الرسالة، ويبين أنها عامة للناس جميعًا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فيحملهم ذلك على مخالفتك، ثم ذكر سؤال منكري البعث عن الساعة استهزاءً بها، ثم أعقب ذلك بالتهديد والوعيد لما يكون لهم فيها من شديد الأهوال.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآية: ما (٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن علي بن رباح قال: حدثني فلان أن فروة بن مُسَيْك الغُطَيْفِي قدم على رسول الله - ﷺ -، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإِسلام أفقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ...﴾ الآيات.
التفسير وأوجه القراءة
١٥ - ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ بوزن جبل (٣)؛ أي: وعزتي وجلالي لقد كان لقبيلة سبأ، وهم أولاد سبأ بن يشجب - بالجيم - على ما في "القاموس" - بن يعرب بن
(٢) لباب النقول.
(٣) روح البيان.
واشتهر على ألسنة الناس أنه - ﷺ - قال: "أن أفصح من نطق بالضاد". قال جمع من العلماء: لا أصل له، ومعناه صحيح؛ لأن المعنى: أنا أفصح العرب؛ لكونهم هم الذين ينطقون بالضاد، ولا توجد في غير لغتهم، كما في "إنسان العيون" لعلي بن برهان الدين الحلبي.
وعن (١) فروة بن مسيك المرادي قال: لما أنزل في سبأ ما أنزل.. قال رجل: يا رسول الله، وما سبأ، أأرض أم امرأة؟ قال: "ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل ولد عشرة من العرب، فتيامن منهم ستة، وتشاءم منهم أربعة، فأما الذين تشاءموا: فلخم وجذام وغسان وعاملة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحمير وكندة ومذحج وأنمار". فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال: "الذين منهم خثعم وبجيلة". أخرجه الترمذي مع زيادة، وقال: حديث حسن غريب.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿لِسَبَإٍ﴾ بالجر والتنوين على أنه اسم حي؛ أي: الحي الذين هم أولاد سبأ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ﴿لسبأ﴾ ممنوع الصرف بتأويل القبيلة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، ويقوِّي القراءة الأولى قوله: ﴿في مساكنهم﴾، ولو كان على تأويل القبيلة لقال: في مساكنها، فمما ورد على القراءة الأولى قول الشاعر:
(٢) الشوكاني.
الْوَارِدُونَ وَتَيْمٌ فِي ذُرَى سَبَأٍ | قَدْ عَضَّ أَعْنَاقَهَا جِلْدُ الْجَوَامِيْسِ |
مِنْ سَبَأَ الْحَاضِرِيْنَ مَآرِبُ إِذْ | يَبْنُونَ مِنْ دُوْنِ مَسِيْلِهِ الْعَرِمَا |
﴿فِي مَسْكَنِهِمْ﴾؛ أي: في (١) بلدهم الذي كانوا فيه باليمن، وهو مأرب كمنزل على ما في "القاموس"، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث ليال، وهي المرادة بسبأ بلدة بلقيس في سورة النمل. قال السهيلي: مأرب: اسم ملك كان يملكهم، كما أنَّ كسرى: اسم لكل من ملك الفرس، وخاقان: اسم لكل من ملك الصين، وقيصر: اسم لكل من ملك الروم، وفرعون: لكل من ملك مصر، وتبج لكل من ملك الشعر واليمن وحضرموت، والنجاشي: لكل من ملك الحبشة.
وقيل: مأرب: اسم قصر كان لهم، ذكره المسعودي. قال في "إنسان العيون": ويعرب قحطان، قيل له: أيمن؛ لأن هودًا عليه السلام قال له: أنت أيمن ولدي، وسمي اليمن يمنًا بنزوله فيه.
وقرأ الجمهور: ﴿في مساكنهم﴾ على الجمع، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. ووجه الاختيار: أنها كانت لهم منازل كثيرة، ومساكن متعددة.
وقرأ حمزة وحفص بالإفراد مع فتح الكاف، وقرأ الكسائي: بالإفراد مع كسرها، وبهذه القراءة قرأ يحيى بن وثاب والأعمش، ووجه الإفراد: أنه مصدر يشمل القليل والكثير، أو اسم مكان وأريد به معنى الجمع، وهذه المساكن التي كانت لهم هي التي يقال لها الآن: مأرب.
﴿آيَةٌ﴾؛ أي: علامة ظاهرة دالة بملاحظة الأحوال السابقة واللاحقة لتلك القبيلة من الإعطاء والترفية بمقتضى اللطف، ثم من المنع والتخريب بموجب القهر؛ أي: علامة دالة على وجود الصانع المختار، وقدرته على كل ما يشاء من الأمور البديعة، ومجازاته للمحسن والمسيء، وما يعقلها إلا العالمون، وما يعتبرها إلا العاقلون.
وقد سبق قريبًا أن قوله: ﴿جَنَّتَانِ﴾ بالرفع بدل من ﴿آيَةٌ﴾ التي هي اسم كان بدل مثنى من مفرد؛ لأن هذا المفرد يصدق علم المثنى؛ لأنهما لما تماثلتا في الدلالة، واتحدت جهتها فيهما.. صح جعلهما آيةً واحدة، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً﴾ واعتمد أبو حيان كون ﴿جَنَّتَانِ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي جنتان؛ أي: بستانان. اهـ "كرخي". أي: جماعتان من البساتين.
جماعة ﴿عَنْ يَمِينٍ﴾؛ أي: عن يمين بلدتهم ووالديهم؛ لأن بلدتهم كانت في الوادي ﴿و﴾ جماعة عن ﴿الْأَرْضِ﴾؛ أي: شمال واديهم، كل واحدة من تينك الجماعتين في تقاربها وتضامنها كأنها جنة واحدة. اهـ "أبو السعود". وفي "القرطبي": قال القشيري: ولم يرد جنتين اثنتين، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة في كل جهة بساتين كثيرة؛ أي: كانت بلادهم ذات بساتين وأشجار وثمار تستر الناس بظلالها. اهـ. أو المعنى (٣): بستانان، لكل رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله، وفي "الشوكاني": وهاتان الجنتان كانتا عن يمين واديهم وشماله، قد أحاطتا به من جهتيه، وكانت مساكنهم في الوادي، والآية: هي الجنتان، كانت المرأة تمشي فيهما، وعلى رأسها المكتل، فيمتلىء من أنواع الفواكه التي تتساقط من غير أن تمسها بيدها. وقال عبد الرحمن بن زيد: إن الآية التي كانت لأهل سبأ في مساكنهم: أنهم لم يروا فيها بعوضة ولا ذبابًا ولا برغوثًا ولا قملةً ولا عقربًا ولا حيةً، ولا غير ذلك من الهوام، وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل.. ماتت عند
(٢) القرطبي.
(٣) روح البيان.
وقوله: ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ مقول لقول محذوف؛ أي: قيل لهم على لسان نبينهم، أو على لسان الملائكة، أو بلسان الحال، ولم يكن ثَمَّ أمر، ولكن المراد: تمكينهم من تلك النعم. ويقال: كان سبأ ثلاث عشرة قرية، فبعث الله إليهم ثلاثة عشر نبيا، فقال لهم الأنبياء: كلوا من رزق ربكم؛ أي: مما رزقكم الله سبحانه من أنواع ثمار الجنتين ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ سبحانه على ما رزقكم منها باللسان والجنان والأركان، واعملوا بطاعته، واجتنبوا معاصيه.
وجملة قوله: ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُور﴾ مستأنفة مسوقة لبيان ما يوجب الشكر المأمور به؛ أي: بلدتكم (١) هذه بلدة طيبة؛ لكثرة أشجارها وثمارها، وقيل: معنى كونها طيبة: أنها لم تكن سبخة، بل لينة؛ حيث أخرجت الثمار الطيبة. وقيل: إنها طيبة الهواء والماء، كما قال الكاشفي. وفي "فتح الرحمن": وطيبتها: أنها لم يكن بها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، ولا غيرها من المؤذيات، وكان يمر بها الغريب وفي ثيابه القمل، فتموت كلها لطيب هوائها، ومن ثمة لم يكن بها آفات وأمراض أيضًا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كانت أطيب البلاد هواء وأخصبها.
﴿وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾؛ أي: وربكم الذي رزقكم ما فيها من الطيبات، وطلب منكم الشكر رب غفور لفرطات من يشكره وذنوبهم. قال مقاتل: المعنى: وربكم إن شكرتم فيما رزقكم رب غفور للذنوب، وقيل: إنما جمع لهم بين طيب البلدة والمغفرة للإشارة إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام.
وقرأ رويس بنصب الأربعة (٢). قال أحمد بن يحيى: التقدير: اسكنوا بلدة طيبة، واعبدوا ربًا. غفورًا، وقال الزمخشري: منصوب على المدح.
ومعنى الآية: أي وعزتي وجلالي، لقد كان أهل هذا الحي من ملوك اليمن في نعمة عظيمة، وسعة في الرزق، وكانت لهم حدائق غناء، وبساتين فيحاء عن يمين الوادي وشماله، وقد أرسل الله سبحانه إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزق
(٢) البحر المحيط.
١٦ - ثم أعرضوا عما أمروا به، فعوقبوا بإرسال السيل عليهم، كما ذكره بقوله: ﴿فَأَعْرَضُوا...﴾ إلخ؛ أي: ولما ذكر الله سبحانه ما كان من جانبه من الإحسان إليهم.. ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال: فأعرضوا؛ أي: عما جاء به إليهم أنبياؤهم، وكانوا ثلاثة عشر نبيًا بعدد قراهم، فدعوهم إلى الله تعالى، وذكروهم نعمه، فكذبوهم وقالوا: ما نعرف لله نعمة علينا، فقولوا لربكم فليحبس عنا هذه النعمة إن استطاع.
والمعنى: أعرض أولاد سبأ عن الوفاء، وأقبلوا على الجفاء، وكفروا النعمة، وتعرَّضوا للنقمة، وضيعوا الشكر، فبدلوا وبُدِّل لهم الحال.
ثم بيَّن كيفية الانتقام منهم فقال: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: فتحنا عليهم، وسلطنا عليهم ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾؛ أي: سيل السدّ؛ أي: ماء السيول التي اجتمعت في سدهم الذي سدوه بين الجبلين ليجتمع فيه جميع سيول اليمن، والسيل: الماء الذي يأتيك، ولم يصبك مطره، والعرم: السد الذي يحبس الماء ليعلوا على الأرض المرتفعة، قاله السدي. والمعنى: أرسلنا عليهم سيل السد.
وقال عطاء: العرم: اسم الوادي. وقال الزجاج: العرم: اسم الجرذ الذي نقب السد عليهم، وهو الذي يقال له: الخلد، فنسب إليه السيل لكونه سبب جريانه؛ لأن الله تعالى أرسل جرذانًا برية كان لها أنياب من حديد، لا يقرب منها هرة إلا قتلتها، فنقبت عليهم ذلك السدَّ، فغرقت جنانهم ومساكنهم، ويقال لذلك الجرذ: الخلد بالضم، لإقامته عند جحره، وهو الفأر الأعمى الذي لا يدرك إلا بالسمع. وقرأ عروة بن الورد: ﴿العرم﴾ بإسكان الراء مخفف العرم، كقولهم في الكَبِد: الكَبْد، ذكره في "البحر".
قال ابن عباس ووهب وغيرهما (١): كان لهم سد بنته بلقيس، وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم، فأمرت بواديهم، فسد بالصخر والقار بين الجبلين، وجعلت لهم ثلاث أبواب بعضها فوق بعض، وبنت دونه بركه ضخمة، وجعلت فيها
وقال وهب: رأوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم أن الذي يخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة، فلما جاء زمان ما أراد الله تعالى بهم من التغريق.. أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرار، فساورتها حتى استأخرت الهرة عنها، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، فتغلغلت في السد، وحفرت حتى أوهنت المسيل، وهم لا يعلمون ذلك، فلما جاء السيل وجد خللًا، فدخل منه حتى اقتلع السد، وفاض الماء حتى علا أموالهم فغرقها، ودفن بيوتهم الرمل، فغرقوا ومزقوا كل ممزق حتى صاروا مثلًا عند العرب، يقولون: ذهبوا أيدي سبأ، وتفرقوا أيادي سبأ.
وقال السهيلي في كتاب "التعريف والأعلام": كان الذي بني السدَّ سبأ بن يشجب، بناه بالرخام، وساق إليه سبعين واديًا، ومات قبل أن يستتمه، فأتم بعده. انتهى. وقال في "فتح الرحمن": فأرسلنا عليهم السيل الذي لا يطاق، فخرب السد، وملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرًا من الناس ممن لم يمكنه الفرار؛ أي: إلى الجبل، وأغرق أموالهم، فتفرقوا في البلاد، فصاروا مثلًا. انتهى. وقيل: الأوس والخزرج منهم.
﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ﴾؛ أي: عوضناهم ﴿بِجَنَّتَيْهِمْ﴾؛ أي: عن (١) جنتيهم المذكورتين، وآتيناهم بدلهما. والتبديل: جعل الشيء مكان آخر، والباء تدخل على المتروك على ما هي القاعدة المشهورة. ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ ثاني مفعولي ﴿بَدَّلْنَا﴾؛ أي: أعطينا بدل
﴿ذَوَاتَيْ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾؛ أي: صاحبتي ﴿أُكُلٍ﴾ وثمر ﴿خَمْطٍ﴾؛ أي: مرّ، ويقال في الرفع: ذواتا بالألف، وهي تثنية: ذات، مؤنث: ذي، بمعنى: الصاحب، والأكل - بضم الكاف وسكونه - اسم لما يؤكل والخمط: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة حتى لا يمكن أكله.
والمعنى: أهلكنا جنتيهم اللتين كانتا مشتملتين على تلك الفواكه الطيبة، والأنواع الحسنة، وأعطيناهم بدلهما جنتين صاحبتين ثمر مرٍّ.
وقرأ الجمهور بتنوين (١): ﴿أُكُلٍ﴾ وعدم إضافته إلى ﴿خَمْطٍ﴾. وقرأ أبو عمرو: ﴿أُكُلٍ﴾ ﴿خَمْطٍ﴾ بالإضافة؛ أي: ثمر خمط على أن يكون الخمط كل شجر مر الثمر، أو كل شجر له شوك، أو هو الأراك على ما قاله البخاري. والأكل: ثمره. وقراءة الجمهور أولى من قراءة أبي عمرو، والخمط على قراءتهم نعت لـ ﴿أُكُلٍ﴾، أو بدل منه؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه. وقال الأخفش: الإضافة أحسن في كلام العرب، مثل: ثوب خز، ودار آجر.
﴿و﴾ جنتين ذواتي ﴿أَثْلٍ﴾ لا على ﴿خَمْطٍ﴾؛ فإن الأصل هو الطرفاء، أو شجر يشبهه أعظم منه طولًا، ولا ثمر له، الواحدة: أثلة، والجمع أثلاث، وقوله: ﴿وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ معطوف أيضًا على أكل؛ أي: وذواتي شيء قليل من سدر. وقرىء: ﴿أثلًا﴾ و ﴿شيئًا﴾ بالنصب، حكاه الفضل بن إبراهيم عطفًا على ﴿جَنَّتَيْنِ﴾. ذكره أبو حيان.
قال البيضاوي (٢): وصف السدر بالقلة لما أن جناه وهو النبق مما يطيب أكله، ولذلك يغرس في البساتين. انتهى. فالسد: شجر النبق على ما في "القاموس". وقال أبو السعود: والصحيح أن السدر صنفان: صنف يؤكل من ثمره، وينتفع بورقه لغسل اليد، وصنف له ثمرة عفصة لا تؤكل أصلًا، وهو البري الذي يقال له: الضال. والمراد هاهنا هو الثاني، فكان شجرهم من خير الشجر، فصيره الله من شر الشجر بسبب أعمالهم القبيحة. انتهى.
(٢) البيضاوي.
ومعنى الآية (١): أي فأعرضوا عن طاعة ربهم، وصدوا عن اتباع ما دعتهم إليه الرسل، فأرسل الله عليهم سيلا كثيرًا ملأ الوادي، وكسر السد، وخرَّبه، وذهب بالجنان والبساتين وأهلك الحرث والنسل، ولم يبق منهم إلا شراذم قليلة تفرقت في البلاد، وبدلوا بتلك الجنان والبساتين التي سبق وصفها بساتين ليس فيها إلا بعض أشجار لا يؤبه بها، كالخمط والأثل وقليل من النبق.
١٧ - ثم بيَّن سبب ذلك العقاب بقوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ﴾ فالإشارة (٢) بـ ﴿ذَلِكَ﴾ إلى مصدر ﴿جَزَيْنَاهُمْ﴾ فمحله النصب على أنه مصدر مؤكد له؛ أي: ذلك الجزاء الفظيع جزيناهم لا جزاء آخر، أو الإشارة إلى ما ذكر من التبديل، فمحله النصب على أنه مفعول ثان له؛ أي: ذلك التبديل جزيناهم لا غيره ﴿بِمَا كَفَرُوا﴾؛ أي: بسبب كفرانهم النعمة؛ حيث نزعناها منهم، ووضعنا مكانه ضدها، أو بسبب كفرهم بالرسل.
وفي هذه الآية: دليل على بعث الأنبياء بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، فإنه روي أن الواقعة المذكورة كانت في الفترة التي بينهما، وما قيل من أنه لم يكن بينهما نبيٌّ يعني به: نبي ذو كتاب، كذا في "بحر العلوم"، فلا يشكل قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس بيني وبينه نبي"؛ أي: رسول مبعوث بشريعة مستقلة، بل كل من بعث كان مقررًا لشريعة عيسى عليه السلام.
والاستفهام في قوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي﴾ إنكاري بمعنى النفي؛ أي: وما نجازي هذا الجزاء الفظيع بسلب النعمة، ونزول النقمة ﴿إِلَّا الْكَفُورَ﴾؛ أي: إلا المبالغ في الكفران، أو في الكفر، وكفر النعمة وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها. والكفران في جحود النعمة أكثر استعمالًا والكفر في الدين أكثر، والكفور فيهما جميعًا، وقال مجاهد: إن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازي بكل عمل عمله.
(٢) روح البيان.
وفي الآية (٢): إشارة إلى أن المؤمن الشاكر يربط بشكره النعم الصورية، والمعنوية من الإيقان والتقوى والصدق والإخلاص والتوكل والأخلاق الحميدة وغير الشاكرين يزيل بكفرانه هذه النعم، فيجد بدلها الفقر والكفر والنفاق والشك والأوصاف الذميمة. ألا ترى إلى حال بلعم، فإنه لم يشكر يومًا على نعمة الإيمان والتوفيق، فوقع فيما وقع، والعياذ بالله تعالى، فلما غرس أهل الكفر في بستان القلب والروح الأشجار الخبيثة.. لم يجدوا إلا الثمار الخبيثة، فما عوملوا إلا بما استوجبوه، وما حصدوا إلا بما زرعوا، وما وقعوا إلا في الحفرة التي حفروا، كما قيل: يداك أوكتا، وفوك نفخ.
وهذا مثل مشهور يضرب لمن يتحسر ويتضجر مما يرد عليه منه، يقال: أوكأ على سقائه: إذا سنده بالوكاء، والوكاء: للقربة، وهو الخيط الذي يشد به فوها، وفي الحديث: "فمن وجد خيرًا فليحمد الله - أي: الذي هو ينبوع الرحمة والخير - ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".
فصل في سد مأرب - سد العرم
وصف هذا السد مؤرخو العرب في عصور مختلفة (٣)، وأصدق من أجاد وصفه الهمداني في كتابه: "وصف جزيرة العرب" قال: في الجنوب الغربي من مأرب سلسلة جبال هي شعاب من جبل السراة الشهير، تمتد مئات الأميال نحو الشرق الشمالي، وبين هذه الجبال أودية تصب في واد كبير يعبِّر عنه العرب بالميزاب الشرقي، وهو أعظم أودية الشرق، وشعاب هذه المواضع وأوديتها إذا أمطرت السماء تجمعت فيها السيول، وانحدرت حتى تنتهي أخيرًا إلى وادي آذنة،
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
وقد اختار السبئيُّون المضيق بين جبلي بلن، وبنوا في عرضه سورًا عظيمًا عرف بسد مأرب، أو بسد العرم؛ لأنه لا أنهار عندهم، وإنما يستقي أهلها من السيول التي تتجمع من المطر، وقد كان يذهب أكثرها في الرمال، فإذا انقضى فصل المطر.. ظمئوا وجفت أغراسهم، وربما فاض المطر فسطا على المدن والقرى، فنالهم منه أذى كثير. وبين المضيق ومدينة مأرب متسع من الأرض، تبلغ مساحة ما يحيط به من الأرض من سفوح وجبال نحو (٣٠٠٠) ميل مربع، كانت صحراء جرداء قاحلة، فأصبحت بعد تدبير المياه بالسد غياضًا وبساتين على سفحي الجبلين، وهي المعبَّر عنها بالجنتين، الجنة اليمنى، والجنة اليسرى. اهـ بتصرف.
قال الأصفهاني: إن السد تهدم قبل الإِسلام بنحو أربع مئة سنة، وقال ياقوت: إنه هدم في نحو القرن السادس للميلاد، وقال ابن خلدون: إنه تهدم في القرن الخامس للميلاد.
١٨ - وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا﴾ معطوف على قوله: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾، وهو (١) بيان لما أوتوا من النعم البادية في مسايرهم ومتاجرهم، بعد حكاية ما أوتوا من النعم الحاضرة في مساكنهم ومحاضرهم، وما فعلوا بها من الكفران، وما فعل بهم من الجزاء تكملة لقصتهم، وإنما لم يذكر الكل معًا لما في التثنية والتكرير من زيادة تنبيه وتذكير.
والمعنى (٢): وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فنون النعم ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين بلادهم اليمنية ﴿وَبَيْنَ الْقُرَى﴾ الشامية ﴿الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾ بالمياه والأشجار والثمار والخصب والسعة في العيش للأعلى والأدنى. والمراد بها هنا: فلسطين وأريحا
(٢) روح البيان.
﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾؛ أي: قرى متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها، فهي ظاهرة لأعيق أهلها، أو راكبة متن الطريق، ظاهرة للسابلة، غير بعيدة عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، أو مرتفعة على الآكام، وهي أصح القري.
وكان متجرهم من أرضهم التي هي مأرب إلى الشام، وكانوا يبيتون بقرية، ويقيلون بأخرى حتى يرجعوا، وكانوا لا يحتاجون إلى زادٍ يحملونه من أرضهم إلى الشام، وقال الحسن: إن هذه القرى هي بين اليمن والشام، قيل: إنها كانت أربعة آلاف وسبع مئة قرية، وقيل: هي بين المدينة والشام، وقال المبرد: القرى الظاهرة: هي المعروفة، وإنما قيل لها: ظاهرة؛ لظهورها إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى، فكانت قرى ظاهرة؛ أي: معروفة، يقال: هذا أمر ظاهر؛ أي: معروف.
﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾؛ أي: وجعلنا مسافة السير بينها مقدارًا معينًا واحدًا؛ أي: جعلنا القرى في نسبة بعضها إلى بعض على مقدار معين يليق بحال أبناء السبيل، وذلك نصف يوم. وقال الفراء: أي: جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية، والمبيت في أخرى إلى أن يصل إلى الشام. قيل: كان الغادي من قرية يقيل في الأخرى، والرائح منها يبيت في أخرى إلى أن يبلغ الشام، لا يحتاج إلى حمل ماء وزاد، ولا مبيت في أرض خالية، ولا يخاف من عدو ولا سبع، وكل ذلك كان تكميلًا لما أوتوا من أنواع النعماء، وتوفيرًا لها في الحضر والسفر، وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء، ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن.. لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد.
والحاصل: أن الله سبحانه عدد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري، كما سيأتي.
وقوله: ﴿سِيرُوا فِيهَا﴾؛ أي: في تلك القرى الظاهرة على تقدير القول بلسان المقال أو الحال، فإنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه.. فكأنهم أمروا
وخلاصة ما ذكر (١): أنهم كانوا في نعمة وغبطة وعيش هنيء رغد في بلاد مرضية، وأماكن آمنة، وقرى متواصلة مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، فالمسافر لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء، بل حيث نزل وجد ماءً وثمرًا، فهو يقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في مسيرهم.
١٩ - ثم ذكر أنهم بطروا وملوا تلك النعم، وآثروا الذي هو أدنى على الذي هو خير، كما طلب بنو إسرائيل الثوم والبصل مكان السلوى والعسل، وقالوا: لو كان جني جناننا أبعد.. لكان أجدر أن نشتهيه، وسألوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز وقفازًا؛ ليركبوا فيها الرواحيل، ويتزودوا الأزواد، ويتطاولوا فيها على الفقراء، كما حكى سبحانه عنهم بقوله: ﴿رَبَّنَا بَاعِدْ﴾ بيننا؛ أي: بين بلدنا ويمننا، و ﴿بَيْنَ﴾ مقصد ﴿أَسْفَارِنَا﴾ وهو الشام؛ أي: اجعل بيننا وبين الشام مفاوز وفلوات لنركب فيها الرواحل، ونتزود الأزواد، فلما تمنوا ذلك عجل لهم الإجابة بتخريب تلك القرى المتوسطة، وجعلها بلقعًا لا يسمع فيها داع ولا مجيب ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث عرضوها للسخط والعذاب بالشرك، وترك الشكر، وعدم الاعتداد بالنعمة، وتكذيب الأنبياء.
وقرأ الجمهور من السبعة (٢): ﴿رَبَّنَا﴾ بالنصب على النداء. وقرؤوا أيضًا
(٢) الشوكاني.
قال النحاس (١): وهذه القراءات إذا اختلف معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم أنهم دعو ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا، ولهذا قال سبحانه: ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ حيث كفروا بالله، وبطروا نعمته، وتعرضوا لنقمته ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾؛ أي: عظةً واعتبارًا للناس، يتحدثون بهم ويتمثلون بهم.
أي: جعلنا أهل سبأ أخبارًا وعظةً وعبرةً لم بعدهم، بحيث يتحدث الناس بهم متعجبين من أحوالهم، ومعتبرين بعاقبتهم ومآلهم ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ﴾؛ أي: فرقناهم في كل جهة من البلاد ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾؛ أي: غاية (٢) التفريق وكامله، على أن الممزق مصدر، أو: كل مطرح ومكان تفريق، على أنه اسم مكان، وفي التعبير بالتمزيق
(٢) روح البيان.
أي: مزقناهم تمزيقًا لا غاية وراءه، بحيث تضرب به الأمثال في كل فرقة ليس بعدها وقال، فيقال: تفرَّقوا أيدي سبأ؛ أي: تفرقوا تفرق أهل هذا المكان من كل جانب، وكانوا قبائل ولدهم سبأ، فتفرقوا في البلاد. قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام. والأزد بِعُمَان، وخزاعة بتهامة، وقال الزمخشري (١): غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بِعُمَان. وفي "التحرير": وقع منهم قضاعة بمكة، وأسد بالبحرين، وخزاعة بتهامة.
وفي الحديث: أن سبأ أبو عشرة قبائل، فلما جاء السيل على مأرب، وهو اسم بلدهم.. تيامن منهم ست قبائل - أي: تبددت في بلاد اليمن -: كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار التي منها بجلية وخثعم، وطائفة قيل لها حجير، بقي عليها اسم الأب الأول، وتشاءمت أربعة: لخم وجذام وغسان وخزاعة، ومن هذه المتشائمة أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة، وغير ذلك.
والمعنى (٢): أي فجعلناهم أحاديث للناس يسمرون بها، ويعتبرون بأمرهم، وكيف مكر الله بهم، وفرَّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء، وصاروا مضرب الأمثال، فيقال للقوم يتفرقون: تفرقوا أيدي سبأ، فنزل آل جفنة بن عمرو الشام، ونزل الأوس والخزرج يثرب، ونزل أسد السراة السراة، ونزلت أزد عمان عمانًا، ثم أرسل الله على السَّدِّ السيل فهدَّمه.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ المذكور من قصتهم، وما فعل الله بهم ﴿لَآيَاتٍ﴾ عظيمة، ودلالات واضحة، وعلامات كثيرة، وعبرًا بليغة، وحججًا قاطعة على الوحدانية والقدرة. قال بعضهم: جمع الآيات؛ لأنهم صاروا فرقًا كثيرةً، كل منهم آية مستقلة ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عن المعاصي ودواعي الهوى والشهوات، وعلى البلايا والمشاق والطاعات ﴿شَكُورٍ﴾ على النعم الإلهية في كل الأوقات والحالات، أو لكل مؤمن كامل؛ لأنَّ الإيمان نصف صبر ونصف شكر؛ أو لكل من هو كثير الصبر والشكر،
(٢) المراغي.
والمعنى: أن في (١) ذلك الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب بعد النعمة والعافية عقوبة لهم على ما اجترحوه من الآثام لعبرة لكل عبد صبَّار على المصايب، شكور على النعم.
روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - قال: "عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن، إن أصابه خير حمد ربه وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر، يؤجر المؤمن في كل شيء، حتى اللقمة يرفعها إلى في امرأته". وكان مطرِّف بن الشخير يقول: نعم العبد الصبَّار الشكور الذي إذا أَعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.
قال بعض أهل المعرفة: إن طلب الدنيا شهواتها هو طلب البعد عن الله تعالى وعن جنابه، والميل إلى الدنيا والرغبة في شهواتها من خسة النفس، وركاكة العقل، وهو ظلم على النفس، فمن قطعته الدنيا عن جناب الله.. جعله الله عبرة لأهل الطلب، وأوقعه في وادي الهلاك، فلا بد من الصبر عن الدنيا وشهواتها، والشكر على نعمة العصمة وتوفيق العبودية، الله وإياكم من الراغبين إليه، والمعتمدين عليه، وعصمنا من الرجوع عن طريقه، والضلال بعد إرشاده وتوفيقه، إنه الرحمن الذي بيده القلوب وتقليبها من حال إلى حال، وتصريفها كيف يشاء في الأيام والليالي.
٢٠ - واللام في قوله (٢): ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ﴾ موطئة للقسم، وضمير ﴿عَلَيْهِمْ﴾ عائد إلى أهل سبأ لتقدم ذكرهم، والظاهر أنه راجع إلى الناس جميعًا، كما يشهد به ما بعده ﴿إِبْلِيسُ﴾ اللعين من: الإبلاس، وهو اليأس من رحمة الله ﴿ظَنَّهُ﴾؛ أي: ما ظنه بأهل سبأ من إغوائهم؛ أي: وعزتي وجلالي لقد وجد إبليس اللعين ظنه بأهل سبأ حين رأى أنهماكهم في الشهوات صادقًا ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾؛ أي: اتبع أهل سبأ الشيطان في الشرك والمعصية ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: إلا جماعة هم المؤمنون لم يتبعوه في أصل الدين، فـ ﴿مِن﴾ بيانية، وتقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو تبيعيضية؛
(٢) روح البيان.
ومعنى الآية (٢): أي ولقد ظن إبليس بهؤلاء الذي بدَّلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط - عقوبة منا لهم - ظنًا غير يقين أنهم يتبعونه ويطيعونه في معصية الله، وحين أغواهم وأطاعوه وعصوا ربهم.. تحقق صدق ظنه فيهم، إلا فريقًا من المؤمنين ثبتوا على طاعة الله ومعصية إبليس.
وقرأ ابن عباس وقتادة وطلحة والأعمش وزيد بن علي والكوفيون (٣): ﴿صَدَّقَ﴾ بتشديد الدال، وانتصب ﴿ظَنَّهُ﴾ على أنه مفعول بـ ﴿صَدَّقَ﴾، والمعنى: وجد ظنه صادقًا؛ أي: ظن شيئًا، فوقع ما ظن. وقرأ باقي السبعة بالتخفيف، فانتصب ﴿ظَنَّهُ﴾ على المصدر، أي: يظن ظنًا، أو على إسقاط الحرف؛ أي: في ظنه، أو على المفعول به، نحو قولهم: أخطأت ظني، وأصبت ظني، وظنه هذا كان حين قال: لأضلنَّهم ولأغوينهم، وهذا مما قاله ظنًا منه، فصدق هذا الظن. وقرأ زيد بن علي والزهري وجعفر بن محمد وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب وبلال بن أبي برزة بنصب ﴿إبليس﴾ ورفع ظنه أسند الفعل إلى ظنه؛ لأنه ظن ظنًا، فصار ظنه في الناس صادقًا، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه.
وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو: ﴿إبليس ظنه﴾ برفعهما فـ ﴿ظَنَّهُ﴾ بدل من ﴿إبليس﴾ بدل اشتمال.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
ومعنى الآية (١): أي وما كان لإبليس على هؤلاء القوم من حجة يضلهم بها، ولكنا أردنا ابتلاءهم واختبارهم به ليظهر حال من يؤمن بالآخرة، ويصدِّق بالثواب والعقاب، ممن هو منها في شك، فلا يوقن بمعاد، ولا يصدق بثواب، ولا عقاب. قال الحسن البصري: والله ما ضربهم بعصى، ولا أكرههم على شيء، وما كان إلا غرورًا وأماني دعاهم إليها فأجابوه.
وخلاصة ذلك: لا سلطان لإبليس على قلوب الناس، ولكني أسلطه عليهم كما أسلِّط الذباب على العيون القذرة، والأوبئة على البلاد التي لم يراع أهلها شروط النظافة في مساكنهم وملابسهم ومآكلهم، ولا أفعل ذلك إلا لحكمة، فإذا حلَّ الوباء بأرض مات من لا قدرة له على مقاومة جراثيم الأمراض، وبقي من هو قادر على المقاومة، ولديه قوة المناعة، وهكذا وسوسة الشيطان يفرق الله بها بين الثابت العقيدة والمتزلزلها، ومن انقاد لها.. فلا يلومن إلا نفسه، وهو المذنب وحده، وهكذا جميع حوادث الدنيا من مصائب وآلام، يثبت لها ذوو العزيمة
وعبارة "روح البيان" هنا: والمعنى (١): وما كان تسلُّطه عليهم إلا ليتعلق علمنا بمن يؤمن بالآخرة متميزًا ممن هو في شك منها تعلقًا حاليًا يترتب عليه الجزاء، فعلم الله قديم، وتعلقه حادث؛ إذ هو موقوف على وجود المكلف في عالم الشهادة، فلا يظن ظان بالله ظن السوء أن الله جلّ جلاله لم يكن عالمًا بأهل الكفر وأهل الإيمان، وإنما سلّط عليهم إبليس ليعلم به المؤمن من الكافر، فإن الله بكمال قدرته وحكمته خلق أهل الكفر مستعدًّا للكفر، وخلق أهل الإيمان مستعدًّا للإيمان، كما قال عليه السلام: "خلق الجنة وخلق لها أهلًا، وخلق النار وخلق لها أهلًا"، وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾، فالله تعالى كان عالمًا بحال الفريقين قبل خلقهم، وهو الذي خلقهم على ما هم به وإنما سلط الله الشيطان على بني آدم لاستخراج جواهرهم من معادن الإنسانية، كما تسلط النار على المعادن لتخليص جوهرها، فإن كان الجوهر ذهبًا فيخرج منه الذهب، وإن كان الجوهر نحاسًا فيخرج منه النحاس، فلا تقدر أن تخرج من معدن النحاس الذهب والفضة، وهو ناري يستخرج جواهرهم من معادنهم بنفخة الوساوس، فلا يقدر أن يخرج من كل معدن إلا ما هو جوهره، وقال بعضهم: العلم هنا مجاز عن التمييز، المعنى: إلا لنميّز المؤمن بالآخرة من الشاكّ فيها، فعلَّل التسلَّط بالعلم، والمراد: ما يلزمه انتهى.
﴿وَرَبُّكَ﴾ يا محمد، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من المخلوقات، ﴿حَفِيظٌ﴾؛ أي: محافظ، والمعنى: أي (٢): وربك أيها الرسول حفيظ على أعمال هؤلاء الكفار وغيرهم، لا يعزب عن علمه شيء، وهو يجازيهم جميعًا يوم القيامة بما كسبوا في الدنيا من خير أو شر، فمن أخبت لله وأناب إليه.. لاقى من الثواب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ومن دسّ نفسه الأمَّارة بالسوء، وانهمك في شهواته.. لاقى من سوء الجزاء كفاء أعماله ﴿فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (١٤) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)﴾.
(٢) المراغي.
٢٢ - ﴿قُلِ﴾ يا محمد للمشركين إظهارًا لبطلان ما هم عليه، وتبكيتًا لهم ﴿ادْعُوا﴾؛ أي: نادوا ﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾؛ أي: زعمتموهم آلهة ومفعولا ﴿زعم﴾ محذوفان لدلالة السياق عليهما، فحذف الأول وهو الضمير الراجع الموصول تخفيفًا؛ لطول الموصول بصلته، والثاني - وهو آلهة - لقيام صفته، أعني: قوله: ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ مقامه، والمعنى: ادعوا الذين عبدتموهم من دون لله فيما يهمكم من جلب نفع ودفع ضر لعلَّهم يستجيبون لكم إن صحّ دعواكم.
أي: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين من قومك موبخًا لهم، ومبينًا لهم سوء ما يصنعون: ادعوا هؤلاء الأصنام في مهام أموركم ليدفعوا الضرّ عنكم، أو يجلبوا النفع لكم لعلهم يستجيبون لكم، إن كان ذلك مكنتهم، وبيدهم مقاليد أموركم، ثم أبان خطأهم، وعظيم جرمهم فقال: ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾؛ أي: هؤلاء الآلهة لا يملكون وزن نملة صغيرة، أو وزن هباء كائنة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ من خير وشر، ونفع وضرّ، فكيف يكونون آلهة يرجى منهم نفع، أو يخشى منهم ضرّ؛ أي: لا يقدرون فيهما أمرًا ما من الأمور، فنفى عنهم ملك مثقال ذرّة، وإذا انتفى ملك الأحقر.. فملك الأعظم أولى، وذكر (٢) السموات والأرض لقصد التعميم عرفًا، يعني: أن أهل العرف يعبّرون بهما عن جميع الموجودات، كما يعبّرون بالمهاجرين والأنصار عن جميع الجماعة، أو لأن آلهتهم بعضها سماويّة كالملائكة والكواكب، وبعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشرّ سماوية وأرضية، ونحو الآية قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾.
(٢) روح البيان.
والمعنى (١): أي ليس لآلهتهم في السموات والأرض مشاركة مع الله، لا بالخلق، ولا بالملك، ولا بالتصرف، وما لله سبحانه من تلك الآلهة معين يعينه على شيء من أمر السموات والأرض، ومن فيهما.
٢٣ - ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾؛ أي: ولا تنفعهم شفاعتهم عنده تعالى، كما يزعمون، إذ لا شفاعة، ﴿عِنْدَهُ﴾ تعالى ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾؛ أي: إلا لشافع أذن له أن يشفع، وهو لا يأذن لأحد من الشفعاء من الملائكة وغيرهم أن يشفع لهؤلاء الكافرين، كما قال تعالى: ﴿لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾، والشفاعة لمثل هؤلاء لا تكون أبدًا، والشفاعة: طلب الخير من الغير للغير، كما سيأتي في مبحث اللغة مبسوطًا.
والاستثناء في قوله (٢): ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ استثناء مفرغ من أعمّ الأحوال؛ أي: لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلَّا كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين وغيرهم من أهل العلم والعمل، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلَّا لمن يستحق الشفاعة، لا للكافرين، ويجوز أن يكون المعنى: لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلا كائنة لمن أذن له؛ أي: لأجله، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة من أهل الإيمان، وأما من عداهم من غير المستحقين لها كهؤلاء الكفرة.. فلا تنفعهم شفاعة شافع أصلًا، وإن فرض وقوعها وصدورها عن الشفعاء؛ إذ لم يأذن لهم في شفاعتهم، بل في شفاعة غيرهم من المؤمنين، فعلى هذا يثبت حرمانهم من شفاعة هؤلاء الشفعاء من الملائكة وغيرهم بمنطوق النصّ، ومن شفاعة الأصنام بمفهومه؛ إذ حين حرموها من جهة القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها، فلأن يحرموها من جهة العجزة عنها أولى.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿أَذِنَ﴾ بفتح الهمزة؛ أي: أذن الله سبحانه له؛ لأن اسمه مذكور قبل هذا، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: بضمها على البناء للمفعول،
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
و ﴿حَتَّى﴾ في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ﴾ غاية (١) لمحذوف يدل عليه قوله: ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ فإنه يشعر بالاستئذان المستدعي الترقّب والانتظار للجواب، كأنه سئل: كيف يؤذن لهم؟ فقيل: يتربّصون في موقف الاستئذان والاستدعاء، ويتوقّفون على وَجَلٍ، وفزعٍ زمانًا طويلًا، حتى إذا أزيل الفزع، وكشف الخوف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن لهم، وظهرت لهم تباشير الإجابة، والمعنى: حتى إذا أزيل الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم من المؤمنين، وأما الكفرة: فهم عن موقف الاستشفاع بمعزل، وعن التفزيع عن قلوبهم بألف منزل.
﴿قَالُوا﴾؛ أي: المشفوع لهم للشافعين؛ إذ هم المحتاجون إلى الإذن، والمهتمّون بأمره، ﴿مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ﴾؛ أي: في شأن الإذن، ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الشفعاء؛ لأنهم المباشرون للاستئذان بالذات، المتوسّطون بينهم وبينه تعالى بالشفاعة. ﴿الْحَقَّ﴾؛ أي: قال ربّنا القول الحق، وهو الإذن في الشفاعة للمستحقين لها.
قرأ الجمهور (٢): ﴿فزّع﴾ مبنيًا للمفعول مشدّدًا من الفزع؛ أي: أطير الفزع عن قلوبهم، وفعَّل يأتي لمعانٍ منها: الإزالة، وهذا منه نحو: قَرّدْتُ البعير؛ أي: أزلت القراد عنه، وقرأ ابن عامر وابن مسعود وابن عباس وطلحة وأبو المتوكل الناجي وابن السميفع: ﴿فَزّع﴾ مبنيًا لفاعل مشدّدًا من الفزع أيضًا، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ للملائكة، فهو الله، وإن كان للكفار.. فالضمير لمغويهم، وكلا هاتين بتشديد الزاي من التفزيع، وهو إزالة الفزع، وقرأ الحسن: ﴿فُزع﴾ من الفزع بتخفيف الزاي مبنيًا للمفعول، و ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ في موضع رفع به، كقولك: انطلق بزيد، وأبو المتوكل أيضًا وقتادة ومجاهد: ﴿فَزّع﴾ مشددًا مبنيًا للفاعل من التفزيع، وقرأ الحسن أيضًا كذلك، إلا أنه خفف الزاي، وقرأ عبد الله بن عمر والحسن أيضًا وأبو أيوب السختياني وقتادة أيضًا وأبو مجلز: ﴿فُزِّغ﴾ مشدّد الراء المهملة مبنيًا للمفعول؛ أي: كشف عن قلوبهم الخوف، والفاعل هو الله، وقرأ ابن مسعود وعيسى: ﴿افرنقع عن قلوبهم﴾ بمعنى: انكشف
(٢) البحر المحيط.
ومعنى الآية (١): أي يقف الناس منتظرين الإذن بالشفاعة، وَجِلِين، حتى إذا أذن للشافعين، وأزيل الفزع عن قلوب المنتظرين.. قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في الإذن بالشفاعة؟ قالوا: قال ربنا القول الحق، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى.
والخلاصة: أن الشفاعة لا تنفع في حال إلا لشافع أذن له فيها من النبيين، والملائكة ونحوهم من المستأهلين لمقام الشفاعة، ويكون المشفوع له يستحق الشفاعة.
وقيل المعنى (٢): لا تنفع الشفاعة إلا من الملائكة الذين هم فزعون اليوم، مطيعون لله دون الجمادات والشياطين، وقال الحسن وابن زيد ومجاهد: معنى الآية: حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة.. قالت لهم الملائكة: ماذا قال ربكم في الدنيا؟ قالوا: الحق، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار.
ثمّ ذكر اعتراف الشفعاء بعظمة خالق الكون، وقصور كل ما سواه فقال: ﴿وَهُوَ﴾ جل شأنه: ﴿الْعَلِيُّ﴾ فوق خلقه بالقهر والاقتدار، فله أن يحكم في عباده بما يشاء، ويفعل ما يريد، لا معقّب لحكمه. ﴿الْكَبِيرُ﴾؛ أي: المتصف بالكبرياء في ذاته وصفاته، فهو الذي يُحتقر كل شيء في جنب كبريائه؛ أي: وهو سبحانه المنفرد بالعلوّ والكبرياء، لا يشاركه في ذلك أحد من خلقه، وليس لأحد منهم أن يتكلم إلا من بعد إذنه، وفي هذا تواضع منهم بعد أن رفع سبحانه أقدارهم بالإذن لهم في
(٢) الشوكاني.
٢٤ - ثمّ أمر الله سبحانه رسوله - ﷺ - أن يبكِّت المشركين ويوبخهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي قومك ﴿قُلْ﴾ استفهام توبيخ وتبكيت؛ أي: قل لهم من ﴿يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ﴾ بإنزال المطر ﴿و﴾ من ﴿الْأَرْضِ﴾ بإخراج النبات؛ أي: قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين بربهم الأوثان والأصنام من يرزقكم من السموات بإنزال الغيث عليكم حياة لحروثكم، وصلاحًا لمعايشكم، وتسخير الشمس والقمر والنجوم لمنافعكم، ومن الأرض بإخراج أقواتكم، وأقوات أنعامكم؟ فإنْ هم قالوا: لا ندري.. فأجبهم: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ يرزقكم؛ إذ لا جواب سواه عندهم أيضًا إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به عنادًا مع علمهم بصحته، ولأنهم لو تفوهوا به لقيل لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟!
والمعنى (٢): أي فإن أجابوك، وقالوا: الله.. فذلك ظاهر، وإن لم يقولوا ذلك.. فقل: الله يرزق؛ إذ لا جواب سواه، وهذا إشارة إلى أن جر النفع ليس إلا به تعالى، ومنه تعالى، فإذن إن كنتم من الخواص فاعبدوه لعُلُوِّه وكبريائه، سواء دفع عنكم ضررًا أو لم يدفع، وسواء نفعكم بخير أو لم ينفع، فإن لم تكونوا كذلك.. فاعبدوه لدفع الضر، وجر النفع.
واعلم (٣): أنَّ الرزق قسمان: ظاهر، وهو الأقوات والأطعمة المتعلق بالأبدان، وباطن، وهو المعارف المتعلقة بالأرواح، وهذا أشرف القسمين، فإن ثمرته حياة الأبد، وثمرة الرزق الظاهر قوة إلى مدة قريبة الأبد، والله تعالى هو المتولي لخلق الرزقين، والمتفضل بالإيصال إلى كلا الفريقين، ولكنه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.
ثم أمره سبحانه أن يخبرهم بأنهم على ضلاله، لكن على وجه الإنصاف في الحجة بعدما سبق تقرير من هو على الهدى، ومن هو على الضلالة، فقال:
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
أَتَهْجُوْهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ | فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ |
ومعنى الآية: إنا لعلى هدى، وإنكم لفي ضلال مبين، واختلاف الحرفين (٢)؛ لأن الهادي كمن صعد منارًا ينظر منه الأشياء، ويتطلع عليها، أو يركب جوادًا يركضه حيث يشاء، والضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك فيه لا يرى شيئًا، ولا يدري أين يتوجه، أو متردٍّ في بئر عميق، لا يستطيع الخروج منها.
والمعنى (٣): أي أن أحد الفريقين من الذين يوحِّدون الله الخالق الرازق ويخصّونه بالعبادة، والذين يعبدون الجمادات التي لا تقدر على خلق ولا رزق ولا نفع ولا ضر، لعلى أحد الأمرين: من الهدى والضلالة، ومعلوم لكل عاقل أنَّ من عبد الذي يخلق ويرزق، وينفع ويضرّ، هو الذي على الهدى، ومن عبد الذي لا يقدر على خلق ولا رزق، ولا نفع ولا ضرّ، هو الذي على الضلالة، فقد تضمن هذا الكلام بيان فريق الهدى، وهم المسلمون، وفريق الضلالة، وهم المشركون، على وجه أبلغ من التصريح، وهو الإيماء، وأوصل بالمجادل إلى الغرض مع قلة شغب الخصم، وفَلِّ شَوْكَتهِ بالهويني.
٢٥ - ثم زاد في إنصافهم في المخاصمة، فأسند الإجرام إلى أنفسهم، والعمل للمخاطبين، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين: أنتم {لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا
(٢) البيضاوي.
(٣) الشوكاني.
وهذا أبلغ في الإنصاف (١)، وأبعد من الجدل والاعتساف؛ حيث أسند فيه الإجرام، وإن أريد به الزلة وترك الأولى إلى أنفسهم مع كون أعمال المسلمين من البر الخالص، والطاعة المحضة، ومطلق العمل إلى المخاطبين، مع أن أعمالهم أكبر الكبائر والمعاصي المحضة، والمقصود: المهادنة والمتاركة، وقد نسخت هذه الآية وأمثالها بآية السيف، ونحو الآية قوله: ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
فإن قلتَ: لِمَ ترك كنتم هنا في قوله: ﴿عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، وقد ذكره في غير هذا الموضع؟
قلتُ: تركه هنا؛ لأن قوله: ﴿تَعْمَلُونَ﴾ وقع في مقابلة ﴿أَجْرَمْنَا﴾ في قوله: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾، وضمير ﴿أَجْرَمْنَا﴾ للنبي - ﷺ - والمراد غيره، وغيره صدر منه ذنب، فعبَّر عنه بالماضي، والمخاطب في ﴿تَعْمَلُونَ﴾ الكفار، وكفرهم واقع في الحال، وفي المستقبل ظاهرًا، فعبّر عنه بالمضارع، فلا يناسبه: كنتم، مع أن الخطاب في ذلك واقع في الدنيا، والخطاب في غيره نحو ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ واقع في الآخرة، فناسبه التعبير بكنتم. اهـ "فتح الرحمن".
٢٦ - ثم حذرهم وأنذرهم عاقبة أمرهم؛ إذ أمر رسوله أن يقول لهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء الكفرة ﴿يَجْمَعُ بَيْنَنَا﴾ بينكم ﴿رَبُّنَا﴾ يوم القيامة عند الحشر والحساب، ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ﴾؛ أي: يحكم ربنا، ﴿بَيْنَنَا﴾ وبينكم ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالحكم العدل، ويفصل بيننا وبينكم بعد ظهور حال كلٍّ منا ومنكم، بأن يدخل المحقين الجنة، والمبطلين النار. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه ﴿الْفَتَّاحُ﴾؛ أي: الحاكم بالحق، القاضي بالصواب، الفيصل في القضايا المنغلقة. ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما ينبغي أن يقضي به، وبمن يقضي له وعليه، ولا يخفى عليه شيء من ذلك، كما لا يخفى عليه ما عدا ذلك،
ومعنى الآية: أي قل لهم (٢): إن ربنا يوم القيامة يجمع بيننا حين الحشر والحساب، ثم يقضي بيننا بالعدل بعد ظهور حال كل منا ومنكم، وهو الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور، وهناك يجزى كل عامل بما عمل، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية، كما قال: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)﴾.
وقال الزروقي (٣): الفتاح: المتفضل بإظهار الخير والسعة على أثر ضيق، وانغلاق باب للأرواح والأشباح في الأمور الدنيوية والأخروية، وقال بعض المشايخ: الفتاح: من الفتح، وهو الإفراج عن الضيق، كالذي يفرّج تضايق الخصمين في الحق بحكمه، والذي يذهب ضيق النفس بخيره، وضيق الجهل بتعليمه، وضيق الفقر ببذله.
وقال الغزالي - رحمه الله تعالى -: الفتّاح: هو الذي بعنايته ينفتح كل منغلق وبهدايته ينكشف كل مشكل، فتارة يفتح الممالك لأنبيائه، ويخرجها من أيدي أعدائه، ويقول: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر﴾، وتارة يرفع الحجاب عن قلوب أوليائه، ويفتح لهم الأبواب إلى ملكوت سمائه، وجمال كبريائه، ويقول: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا﴾، ومن بيده مفاتيح الغيب ومفاتيح الرزق.. فبالأحرى أن يكون فتاحًا، وخاصية هذا الاسم تيسير الأمور، وتنوير القلوب، والتمكين من أسباب الفتح، فمن قرأه في إثر صلاة الفجر إحدى وسبعين مرة، ويده على صدره.. طهر قلبه، وتنور سره، وتيسير أمره، وفيه تيسير الرزق وغيره.
والعليم: مبالغة العالم، وهو من قام به العلم، ومن عرف أنه تعالى هو العالم
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
٢٧ - ثم استفسر عن شبهتهم بعد إلزامهم الحجة تبكيتًا لهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين: ﴿أَرُونِيَ﴾؛ أي: اعلموني، أو أبصروني الآلهة ﴿الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ﴾ وهم ﴿بِهِ﴾ سبحانه ﴿شُرَكَاءَ﴾ له تعالى، وهذه الرؤية (١) هي القلبية، فيكون ﴿شُرَكَاءَ﴾ هو المفعول الثالث؛ لأن الفعل تعدى بالهمزة إلى ثلاثة مفاعيل، الأول: الياء في ﴿أَرُونِيَ﴾، والثاني: الموصول والثالث: ﴿شُرَكَاءَ﴾، وعائد الموصول محذوف؛ أي: ألحقتموهم، ويجوز أن تكون هي البصرية، وتعدى الفعل بالهمزة إلى اثنين، الأول: الياء، والثاني: الموصول، ويكون ﴿شُرَكَاءَ﴾ منتصبًا على الحال.
والمقصود بأمرهم (٢): إراءة الأصنام، مع كونها بمرأى منه - ﷺ -: إظهار خطأهم العظيم، وإطلاعهم على بطلان رأيهم؛ أي: أرونيها لأنظر بأي صفة ألحقتموها بالله الذي ليس كمثله شيء، مع استحقاق العبادة، هل يخلقون، وهل يرزقون؟ وفيه مزيد تبكيت لهم بعد إلزام الحجة عليهم، ثم رد عليهم ما يدعونه من الشركاء، وأبطل ذلك فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع لهم المشاركة بعد إبطال المقايسة؛ أي: ارتدعوا عن دعوى المشاركة، بل ﴿هُوَ﴾ سبحانه وحده، أو الشأن، كما في ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (١)﴾. ﴿اللهِ﴾؛ أي: المنفرد بالإلهية. ﴿الْعَزِيزُ﴾؛ أي: الموصوف بالعزة والغلبة القاهرة. ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: الموصوف بالحكمة الباهرة، فأين شركاؤكم التي هي أخس الأشياء وأذلها من هذه الرتبة العالية.
ومعنى الآية (٣): أي ليس الأمر كما وصفتم فلا نظير له تعالى، ولا ندَّ، بل هو الله الواحد الأحد، ذو العزة التي بها قهر شيء، وهو الحكيم في أفعاله
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
قال بعضهم (١): والتقرب باسم العزيز في التمسك بمعناه، وذلك يرفع الهمة عن الخلائق، فإن العز فيه، ومن ذكره أربعين يومًا في كل يوم أربعين مرة.. أعانه الله تعالى وأعزه، ولم يحوجه إلى أحد من خلقه، قال السهروردي: من قرأه سبعة أيام متواليات، كل يوم ألفًا.. أهلك خصمه، وإن ذكره في وجه العسكر سبعين مرة، ويشير إليهم بيده، فإنهم ينهزمون، والتقرب باسم الحكيم أن تراعى حكمته في الأمور كلها، فتجري عليها مقدمًا ما جاء شرعًا، ثم عادة سلمت من معارض شرعي، وخاصية هذا الاسم دفع الدواهي، وفتح باب الحكمة، فمن أكثر ذكره صرف عنه ما يخشاه من الدواهي، وفتح له باب من الحكمة، والحكمة في حقنا إصابة الحق في القول والعمل، وفي حق الله تعالى: معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، قال بعضهم: الحكمة تقال بالاشتراك على معنيين: الأول: كون الحكيم بحيث يعلم الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر، والثاني: كونه بحيث تصدر منه الأفعال المحكمة الجامعة.
٢٨ - ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: وما بعثناك يا محمد إلى قومك خاصة، بل ما أرسلناك ﴿إِلَّا﴾ بعثة، وإرسالة ﴿كَافَّةً﴾؛ أي: عامة شاملة ﴿لِلنَّاسِ﴾ محيطة (٢) بأحمرهم وأسودهم، وعربهم وعجمهم، من الكف بمعنى المنع؛ لأنها إذا عمتهم وشملتهم.. فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، فانتصاب ﴿كَافَّةً﴾ على أنها صفة لمصدر محذوف، والتاء للتأنيث، والجار متعلق بها، ويجوز أن تكون حالًا من الكاف، والتاء للمبالغة كتاء علامة؛ أي: ما أرسلناك في حال من الأحوال إلا حال كونك جامعًا لهم في الإبلاغ؛ لأن الكف يلزم الجمع، قال الراغب: وما أرسلناك إلا كافًا لهم عن المعاصي، والتاء فيه للمبالغة، انتهى. ولا يجوز أن يكون حالًا من ﴿النَّاسِ﴾، لامتناع تقدم الحال على صاحبها المجرور عند الجمهور، كامتناع تقدم المجرور على الجار، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان وابن ملكون إلى جوازه، ومنه قول الشاعر:
(٢) روح البيان.
إِذَا الْمَرْءُ أَعْيَتْهُ السِّيَادَةُ نَاشِئًا | فَمَطْلَبُهَا كَهْلًا عَلَيْهِ عَسِيْرُ |
تَسَلَّيْتُ طُرًّا عَنْكُمُ بَعْدَ بَيْنِكُمْ | بِذِكْرَاكُمُ حَتَّى كَأنَّكُمُ عِنْدِيْ |
غَافِلًا تَعْرِضُ الْمَنِيةُ لِلْمَرْءِ | فَيُدْعَى وَلاَتَ حَيْنَ إِبَاءِ |
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبيُّ يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة" متفق عليه.
وفي الحديث (١): بيان الفضائل التي خص الله بها نبينا محمدًا - ﷺ - دون سائر الأنبياء، وأنَّ هذه الخمسة لم تكن لأحد ممن كان قبله من الأنبياء، وفيه اختصاصه بالرسالة العامة لكافة الخلق الإنس والجن، وكان النبي قبله يبعث إلى قومه، أو إلى بلده خاصة، فعمت رسالة نبينا محمد - ﷺ - جميع الخلق، وهذه درجة خص بها دون سائر الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام.
وانتصاب ﴿بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ على الحال من الكاف في ﴿أَرْسَلْنَاكَ﴾؛ أي: وما أرسلناك إلا حالة كونك مبشرًا لمن آمن بالجنة، وحالة كونك منذرًا ومخوفًا لمن كفر بالنار.
ومعنى الآية (٢): أي وما أرسلناك إلى قومك خاصة، بل أرسلناك إلى الخلق جميعًا، عربهم وعبهم أسودهم وأحمرهم، إنسهم وجنهم، مبشرًا من أطاعني بالثواب العظيم، ومنذرًا من عصاني بالعذاب الأليم، ونحو الآية قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا
(٢) المراغي.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾؛ أي: الكفار ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما عند الله وما لهم من النفع في إرسال الرسل، فيحملهم جهلهم على الإصرار على ما هم عليه من الغيِّ والضلال، ونحو الآية قوله: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾، وقوله: ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾.
وكرر ذكر الناس (١) تخصيصًا للجهل بنعمتي البشارة والنذارة، ونعمة الرسالة بهم، وأنهم هم الذين لا يعلمون فضل الله بذلك عليهم ولا يشكرونه، وذلك لأن العقل لا يستقل بإدراك جميع الأمور الدنيوية والدينية والأخروية، والتمييز بين المضار والمنافع، فاحتاج الناس إلى التبشير والإنذار، وبيان المشكلات من جهة أهل الوحي.
تتمة: وفي بعض الروايات من الحديث. السابق آنفًا: "فضلت علي الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم"، وهي ما يكون ألفاظه قليلة، ومعانيه كثيرة، "ونصرت بالرعب" يعني: نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعدائي، "من مسيرة شهر بيني وبينهم"، وجعل الغاية شهرًا؛ لأنه لم يكن بين بلده وبين أحد من أعدائه المحاربين له أكثر من شهر، "وأحلت لي الغنائم" يعني: أن من قبله من الأمم كانوا إذا غنموا الحيوانات.. تكون ملكًا للغانمين دون الأنبياء، فخص نبينا - ﷺ - بأخذ الخمس والصفي، وإذا غنموا غيرها من الأمتعة والأطعمة والأموال جمعوه، فتجيء نار بيضاء من السماء، فتحرقه حيث لا غلول، وخص هذه الأمة المرحومة بالقسمة بينهم، كأكل لحم القربان، فإن الله أحله لهم زيادة في أرزاقهم، ولم يحله لمن قبلهم من الأمم، "وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا" يعني: أباح الله لأمتي الصلاة حيث كانوا تخفيفًا لهم، وأباح التيمم بالتراب عند فقد الماء، ولم يبح الصلاة للأمم الماضية إلا في كنائسهم، ولم يجز التطهر لهم إلا بالماء، "وأرسلت إلى الخلق كافة"؛ أي: في زمنه وغيره ممن تقدم أو تأخر، بخلاف رسالة نوح عليه السلام، فإنها وإن كانت عامة لجميع أهل الأرض، لكنها خصت بزمانه، قال في
٢٩ - ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: المشركون من فرط جهلهم، وغاية غيهم، وشدة تعنتهم وعنادهم مخاطبين لرسول الله - ﷺ -، والمؤمنين به بطريق الاستهزاء: ﴿مَتَى﴾ يكون ﴿هَذَا الْوَعْدُ﴾ المبشر به والمنذر عنه، يعنون: الجنة والنار. ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في دعوى الوقوع والوجود.. فأخبرونا عن وقت وقوعه، ونحو الآية: ﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾،
٣٠ - ثم أمر سبحانه رسوله - ﷺ - أن يجيبهم عن سؤالهم فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ﴾ مبتدأ وخبر؛ أي: وعد يوم، وهو يوم البحث مصدر ميمي، وجملة: ﴿لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ﴾؛ أي: عن ذلك الميعاد المضروب لكم عند مفاجأته صفة لـ ﴿الميعاد﴾ إن طلبتم التأخير، ﴿سَاعَةً﴾؛ أي: مقدار أقل قليل من الزمان.
﴿وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ عليه ساعة إن طلبتم الاستعجال، وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد ما لا يخفى؛ حيث جعل الاستئخار في الاستحالة كالاستقدام الممتنع عقلًا؛ أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال، ولا التقدم إليه بالاستعجال.
فإن قلت (١): كيف انطبق هذا جوابًا لسؤالهم، مع أنهم سألوا عن تعيين وقت الوعد؛ لأن: متى، سؤال عن الوقت المعين، ولا تعرض في الجواب لتعيين الوقت؟
قلت: وجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم: أن سؤالهم، وإن كان على صورة استعلام الوقت إلا أن مرادهم الإنكار والتعنت، والجواب المطابق لمثل هذا السؤال أن يجاب بطريق التهديد على تعنتهم وإنكارهم، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخر عنه ولا تقدمًا عليه اهـ "زاده" بزيادة.
ومعنى الآية: أي قل لهم أيها الرسول (٢): إن لكم ميعاد يوم هو آتيكم لا محالة، لا تستأخرون عنه ساعة إذا جاء، فتنظروا للتوبة والإنابة، ولا تستقدمون قبله للعذاب؛ لأن الله جعل لكم أجلًا لا تعدونه.
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور: ﴿مِيعَادُ﴾ يوم بالإضافة، وقرأ ابن أبي عبلة واليزيدي: ﴿ميعاد يومًا﴾ بتنوينهما، قال الزمخشري: وأما نصب ﴿يومًا﴾ فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره: لكم ميعاد، أعني يومًا، وأريد يومًا صفته كيت وكيت، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف؛ أي: إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت، وقرأ عيسى: ﴿ميعاد﴾ منونًا، و ﴿يوم﴾: بالنصب من غير تنوين مضافًا إلى الجملة، واحتمل تخريجه على الظرف على حذف مضاف؛ أي: إنجاز وعد يوم كذا، واحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم.
الإعراب
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)﴾.
﴿لَقَدْ﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿كاَنَ﴾: فعل ناقص، ﴿لِسَبَإٍ﴾: خبرها مقدم، ﴿فِي مَسْكَنِهِمْ﴾: حال من ﴿سَبَأ﴾؛ أي: حال كونهم في مسكنهم ﴿آيَةٌ﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿كاَنَ﴾ جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم مستأنفة، ﴿جَنَّتَانِ﴾: بدل من ﴿آيَةٌ﴾ بدل كل، أو خبر لمبتدأ محذوف، ﴿عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّتَانِ﴾، ﴿كُلُوا﴾: فعل أمر وفاعل، ﴿مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كُلُوا﴾، والجملة في محل الرفع مقول لقول محذوف تقديره: وقيل لهم بلسان الحال، أو بلسان المقال: كلوا من رزق ربكم، ﴿وَاشْكُرُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿كُلُوا﴾،
﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)﴾.
﴿فَأَعْرَضُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ما قيل لهم، وأردت بيان ما فعلوا بعد ذلك.. فأقول لك: أعرضوا، ﴿أعرضوا﴾: فعل ماض وفاعل، ومتعلقه محذوف تقديره: عن شكر ربهم، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة، ﴿فَأَرْسَلْنَا﴾: ﴿الفاء﴾: حرف عطف وتفريع، ﴿أرسلنا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾: مفعول به، والجملة معطوفة مفرعة على جملة ﴿أعرضوا﴾، ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به أول معطوف على ﴿أرسلنا﴾، ﴿بِجَنَّتَيْهِمْ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿بدلنا﴾، ﴿جَنَّتَيْنِ﴾: مفعول ثان لـ ﴿بدلنا﴾، ﴿ذَوَاتَيْ﴾: صفة لـ ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ منصوب بالياء؛ لأنه جمع ذات مؤنث، ﴿ذَو﴾: بمعنى صاحب، ﴿أُكُلٍ﴾: مضاف إليه، ﴿خَمْطٍ﴾: صفة ﴿أُكُلٍ﴾، ﴿وَأَثْلٍ﴾: معطوف على ﴿أُكُلٍ﴾، ﴿وَشَيْءٍ﴾: معطوف عليه أيضًا، ﴿مِنْ سِدْرٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿شَيْءٍ﴾، ﴿قَلِيلٍ﴾: صفة ثانية له، ﴿ذَلِكَ﴾: في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿جَزَيْنَاهُمْ﴾ مقدم عليه؛ لأنه ينصب مفعولين؛ أي: جزيناهم ذلك التبديل، ﴿جَزَيْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، والجملة مستأنفة، ﴿بِمَا﴾ ﴿الباء﴾: سببية متعلقة بـ ﴿جَزَيْنَاهُمْ﴾، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية؛ أي: بسبب كفرهم، ﴿وَهَلْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري بمعنى: النفي، ﴿نُجَازِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿الْكَفُورَ﴾: مفعول به، والجملة مستأنفة.
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)﴾.
﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)﴾.
﴿فَقَالُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف جواب لما المحذوفة، والتقدير: ولما بطروا النعمة، وطغوا، وسئموا الراحة، ولم يصبروا على العافية.. تمنوا طول الأسفار، والكد في المعيشة، فقالوا: ربنا باعد بين أسفارنا، كما يشير إليه كلام القرطبي. ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف حذف منه حرف النداء، وجملة النداء مقول ﴿قالوا﴾، ﴿بَاعِدْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب النداء، ﴿بَيْنَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿بَاعِدْ﴾، ﴿أَسْفَارِنَا﴾: مضاف إليه، ﴿وَظَلَمُوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿قالوا﴾، ﴿أَنْفُسَهُمْ﴾: مفعول به: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، معطوف على ﴿ظَلَمُوا﴾، ﴿أَحَادِيثَ﴾: مفعول ثان، ﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿جَعَلْنَاهُمْ﴾، ﴿مُمَزَّقٍ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة لنيابته عن المصدر ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد، ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم لها، ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر، واللام حرف ابتداء، ﴿لِكُلِّ صَبَّار﴾: صفة لـ ﴿آيَات﴾، ﴿شَكُورٍ﴾: صفة ﴿صَبَّارٍ﴾، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة.
{وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَمَا كَانَ لَهُ
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿صَدَّقَ﴾: فعل ماض، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به، ﴿إِبْلِيسُ﴾: فاعل، ﴿ظَنَّهُ﴾: مفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، ﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿اتَّبَعُوه﴾: فعل ماضٍ، وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿صَدَّقَ﴾، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿فَرِيقًا﴾: منصوب على الاستثناء ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾: صفة لـ ﴿فَرِيقًا﴾، ﴿وَمَا﴾: الواو: حالية أو عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿لَهُ﴾: خبر كان مقدم، ﴿عَلَيْهِمْ﴾: حال من ﴿سُلْطَانٍ﴾؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿سُلْطَانٍ﴾: اسمها مؤخر، والجملة في محل النصب حال من إبليس، أو معطوفة على جملة القسم، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء متصل مفرغ من أعم العلل، تقديره: وما كان تسليطنا إياه عليهم لعلة من العلل إلا لأجل أن نعلم ونميز من يؤمن بآياتنا، ﴿لِنَعْلَمَ﴾ ﴿اللام﴾: حرف جر وتعليل، ﴿نَعْلَمَ﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل، وفاعله ضمير يعود على الله، ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ﴿نعلم﴾، ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿بِالْآخِرَةِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿يُؤْمِنُ﴾ صلة الموصول، وجملة ﴿نعلم﴾ مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بمعلول محذوف تقديره: وما كان تسليطنا إياه عليهم إلا لعلمنا وتمييزنا من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، ﴿مِمَّنْ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿نعلم﴾؛ لأنه متضمن معنى: نميز، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿مِنْهَا﴾: حال من ﴿شَكٍّ﴾؛ لأنه في الأصل صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾. ﴿فِي شَكٍّ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول، ﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿حَفِيظٌ﴾، ﴿حَفِيظٌ﴾: خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، مبني بسكون مقدر منع من ظهوره اشتغال المحل بحركة التخلص من التقاء الساكنين، والجملة مستأنفة،
﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)﴾.
﴿وَلَا تَنْفَعُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لا تنفع الشفاعة﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿عِنْدَهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَنْفَعُ﴾ أو حال من الشفاعة، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان المصير الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿لِمَنْ﴾: متعلق بـ ﴿الشَّفَاعَةُ﴾، أو بـ ﴿تَنْفَعُ﴾، ﴿أَذِنَ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على الله، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿أَذِنَ﴾، والجملة صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية لمحذوف يفهم من السياق، كأنه قيل: وكانوا يتربصون ويقفون خائفين وجلين تتقاوسهم المخاوف، وتتقاذفهم الشكوك، أيؤذن لهم أم لا؟ ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ﴾، ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، ﴿فُزِّعَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾: جار ومجرور، في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿فُزِّعَ﴾، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿مَن﴾: اسم استفهام مبتدأ، وجملة ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿مِنَ السَّمَاوَاتِ﴾ متعلق بـ ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾، ﴿وَالْأَرْضِ﴾ معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ خبره محذوف تقديره: الله يرزقنا وإياكم، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو الله، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿وَإِنَّا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إنا﴾: ناصب واسمه، ﴿أَوْ إِيَّاكُمْ﴾: معطوف على اسم ﴿إن﴾، ﴿لَعَلَى﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، ﴿على هدى﴾: جار ومجرور، خبر ﴿إن﴾؛ أي: لكائنون على هدى، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿الله يرزقنا﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلِ﴾، ﴿أَوْ فِي ضَلَالٍ﴾: معطوف على ﴿على هدى﴾، ﴿مُبِينٍ﴾: صفة ﴿ضَلَالٍ﴾، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تُسْأَلُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿عَمَّا﴾: متعلق بـ ﴿تُسْأَلُونَ﴾، و ﴿ما﴾ موصولة أو مصدرية، ﴿أَجْرَمْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة
﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿أَرُونِيَ﴾: فعل أمر والواو فاعل، والنون: للوقاية، والياء: مفعول به أول؛ لأنّ الرؤية علمية متعدية قبل النقل إلى اثنين، فلما جيء بهمزة النقل تعدت إلى ثلاثة مفاعيل. ﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرُونِيَ﴾، والجملة ﴿أَلْحَقْتُمْ﴾ صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: ألحقتموهم، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَلْحَقْتُم﴾، ﴿شُرَكَاءَ﴾: مفعول ثالث لـ ﴿أَرُونِيَ﴾، وجملة ﴿أَرُونِيَ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ويجوز أن تكون الرؤية بصرية متعدية قبل النقل إلى واحد، فلما جيء بهمزة النقل.. تعدت لاثنين، أولهما: ياء المتكلم، والثاني: الموصول، ﴿شُرَكَاءَ﴾: حال من العائد المحذوف؛ أي: بصّروني الملحقين به حال كونهم شركاء له. ﴿كَلَّا﴾ حرف ردع وزجر مبني على السكون، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب وابتداء، ﴿هُوَ﴾: ضمير الشأن مبتدأ أول ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ ثانٍ، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر أول له، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثان له، وجملة المبتدأ الثاني مع خبره خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مستأنفة، ولك أن تجعل ﴿هُوَ﴾ ضميرًا عائدًا على الله، وتعربه مبتدأ خبره ﴿اللَّهُ﴾، و ﴿الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾: صفتان للجلالة.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٢٨)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿يقولون﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مَتَى﴾: اسم استفهام في محل النصب على الظرفية الزمانية، مبني على السكون، والظرف متعلق بمحذوف خبر مقدم، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر ﴿الْوَعْدُ﴾: بدل من اسم الإشارة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لـ ﴿يقولون﴾، ﴿إِن﴾: حرف شرط، ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾: فعل ناقص واسمه وخبره في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله، تقديره: إنْ كنتم صادقين فيما وعدتمونا.. فأخبرونا متى هو، وجملة ﴿إِن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿يقولون﴾، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿لَكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِيعَادُ يَوْمٍ﴾: مبتدأ مؤخر، وهو مصدر مضاف إلى الظرف، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿تَسْتَأْخِرُونَ﴾: فعل وفاعل، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿تَسْتَأْخِرُونَ﴾، ﴿سَاعَةً﴾: طرف زمان متعلق به أيضًا، والجملة الفعلية في محل الجر صفة لـ ﴿يَوْمٍ﴾، وجملة ﴿وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ﴾: معطوفة على جملة ﴿لَا تَسْتَأْخِرُونَ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ هو: سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، والمراد به هنا: القبيلة.
﴿فِي مَسْكَنِهِمْ﴾ والمسكن: موضع السكنى، وهو: مأرب، كمنزل من بلاد
﴿آيَةٌ﴾؛ أي: علامة دالة على وجود الله ووحدانيته، وقدرته على إيجاد الغرائب والعجائب. ﴿جَنَّتَانِ﴾؛ أي: بستانان.
﴿عَنْ يَمِينٍ﴾ واليمين في الأصل: الجارحة، وهي أشرف الجوارح لقوتها، وبها تعرف من الشمال وتمتاز عنها. ﴿وَشِمَالٍ﴾: ضد اليمين. ﴿فَأَعْرَضُوا﴾؛ أي: انصرفوا عن شكر هذه النعم، يقال: أعرض: إذا أظهر عرضه؛ أي: ناحيته.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ الإرسال: مقابل الإمساك، والتخلية، وترك المنع.
﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ السيل: أصله مصدر، كالسيلان بمعنى: فاض الوادي ماء، وجعل اسمًا للماء الذي يأتيك ولم يصبك مطره، والعرم: من العرامة، وهي الشدة والصعوبة، يقال: عَرَم، كنصر وضرب وكرم وعلم عرامةً وعرامًا بالضم، فهو عارم وعرم: إذا اشتد، وعرم الرجل إذا شرس خلقه؛ أي: ساء وصعب، وأضاف السيل إلى العرم؛ أي: الصعب، وهو من إضافة الموصوف إلى صفته، بمعنى: سيل المطر العرم، أو الأمر العرم، وقيل: العرم بفتح أوله وكسر ثانية، جمع: عرمة، كذلك مثل كلم وكلمة، وهي الحجارة المركومة، كخزّان أسوان في وادي النيل لحجز المياه جنوبيّ النيل، وقيل: اسم للجرذ؛ أي: الخلد: نوع من الفئران، وقيل: المطر الشديد، وقيل: اسم للوادي، وقيل: غير ذلك من الأقوال المتلاطمة، ولن تجد كلمة اختلف فيها المفسرون كهذه الكلمة، واختار الجلال منها أن يكون العرم جمع عرمة، وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته، وهذا ما نعبّر عنه اليوم بالسدود، وهو أولى ما تفسَّر به الآية، وقد يحدث تصدّع السدود وانهيارها بأسباب مختلفة.
﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ﴾ والتبديل: جعل الشيء مكان آخر، والباء تدخل على المتروك، كما هو القاعدة المشهورة.
﴿ذَوَاتَيْ أُكُلٍ﴾ مثنى: ذوات أو ذات، ولفظ ذوات مفرد؛ لأن أصله: ذوية، فالواو عين الكلمة والياء لامها؛ لأنه مؤنث ذو وذو أصله: ذوي، فلما تحركت الياء وانفتح ما قبلها.. قلبت الفًا، فصار: ذوا، ثم حذفت الواو تخفيفًا، فعندما يراد تثنيته يجوز أن ينظر إلى لفظه الآن، فيقال: ذاتان، ويجوز أن ينظر إلى أصله،
﴿أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ بضمتين وبضم، فسكون: الثمر أو ما يؤكل، والخمط: المر والحامض، يقال: خمر خمطة؛ أي: حامضة، ولبن خمط؛ أي: متغيِّر، وفي "المختار": الخمط: ضرب من الأراك له حمل يؤكل، وعن أبي عبيدة: كل شجر ذي شوك، وقال الزجاج: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة حتى لا يمكن أكله. اهـ.
﴿وَأَثْلٍ﴾ الأثلة: السمرة، وقيل: شجر من العضاة طويلة مستقيمة الخشبة تعمل منها القصاع والأقداح، فوقعت مجازًا في قولهم: نحت أثلته إذا تنقصته، وفلان لا تنحت أثلته، ولفلان أثلة مال؛ أي: أصل مال، ثم قالوا: أثلت مالًا وتأثلته، وشرف مؤثل وأثيل، وقيل: الأثل: الطرفاء، وهو المعروف في مصر بالأتل، وفي اللغة الأرمية: غاترا، قال الفراء: يشبه الطرفاء إلا أنه أعظم منه طولًا، ومنه اتخذ منبر رسول الله - ﷺ -، وورقه كورق الطرفاء، والواحدة: أثلة، والجمع: أثلال، كما مر وفي الأرمية: بربرس.
﴿مِنْ سِدْرٍ﴾ السدر: شجر النبق يطيب أكله، ولذا يغرس في البساتين، وقيل: إن السدر صنفان، صنف يؤكل ثمره، وينتفع بورقه في غسل الأيدي، وصنف له ثمرة غضة لا تؤكل أصلًا، وهو الضال في الأرمية: قرقر غبروا.
﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُور﴾ قال في "القاموس": ﴿هَلْ﴾: كلمة استفهام، وقد يكون بمعنى الجحد وكفر النعمة، وكفرانها: سترها بترك أداء شكرها.
﴿وَبَيْنَ الْقُرَى﴾: جمع قرية، والقرية: اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس، بلدة كانت أو غيرها. ﴿بَارَكْنَا فِيهَا﴾ والبركة: ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك: ما فيه ذلك الخير.
﴿قُرًى ظَاهِرَةً﴾ أصل ظهر الشيء: أن يحصل على ظهر الأرض فلا يخفى، وبطن الشيء: أن يحصل في بطنان الأرض فيخفى، ثم صار مستعملًا في كل ما برز للبصر والبصيرة. ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ والسير: المضي في الأرض.
﴿آمِنِينَ﴾ أصل الأمن: طمأنينة النفس، وزوال الخوف.
﴿أَحَادِيثَ﴾ جمع: أحدوثة، وهي ما يتحدث به على سبيل التلهي والاستغراب، وتقديره في العربية: ذوي أحاديث، قال ابن الكمال: الأحاديث مبني على واحده المستعمل، وهو الحديث، كأنهم جمعوا حديثًا على أحدثة، ثم جمعوا الجمِع على الأحاديث، وفي "القاموس": الأحاديث: جمع حديث بمعنى الخبر.
﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾؛ أي: فرقناهم كل تفريق؛ أي: فرقناهم تفريقًا لا يتوقع بعده عود اتصال.
﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ الصبار: كثير الصبر عن الشهوات ودواعي الهوى وعلى مشاقّ الطاعات، والشكور: كثير الشكران على النعم، وهما من صيغ المبالغة.
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ﴾ وإبليس: مشتق من الإبلاس، وهو الحزن المعترض من شدة اليأس، كما في "المفردات": أبلس: يئس وتحير، ومنه: إبليس، أو هو أعجمي. انتهى.
﴿ظَنَّهُ﴾ والظن: هو الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ومظنة الشيء - بكسر الظاء -: موضع يظن فيه وجوده.
﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ الفريق: الجماعة المنفردة عن الناس.
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾؛ أي: وجد ظنه فيهم صادقًا؛ لانهماكهم في الشهوات، واستفراغ الجهد في اللذات.
﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ السلطان: القهر والغلبة، ومنه: السلطان لمن له ذلك.
﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ العلم: إدراك الشيء بحقيقته، والعالم في وصف الله تعالى هو الذي لا يخفى عليه شيء.
﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾؛ أي: محافظ عليه، فإن فعيلًا ومفاعلًا صيغتان متآخيتان في إفادة المبالغة، وقيل: معناه: أي: وكيل قائم على شؤون خلقه.
﴿الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ قال في "القاموس": الزعم - مثلثة -: القول الحق، والباطل، والكذب، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه، وفي "المفردات": الزعم: حكاية قول يكون مظنة الكذب، ولهذا جاء في القرآن في كل موضع ذمَّ القائلين به.
﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ﴾ وهي طلب العفو أو الفضل للغير من الغير، يعني: أن الشافع شفيع للمشفوع له في طلب نجاته، أو زيادة ثوابه، ولذا لا تطلق الشفاعة على دعاء الرجل لنفسه، وأما دعاء الأمة للنبي - ﷺ -، وسؤالهم له مقام الوسيلة، فلا يطلق عليه الشفاعة؛ إما لاشتراط العلو في الشفيع، وإما لاشتراط العجز في المشفوع له، وكلاهما منتفٍ هاهنا.
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ والتفزيع: إزالة الفزع، وهو انقباض ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف، وهو من جنس الجزع، ولذا لا يقال: فزعت من الله، كما يقال: خفت منه، وفي "الأساس": وفزَّع عن قلبه: كشف الفزع عنه، فالتضعيف هنا للسلب، كما يقال: قزدت البعير: أزلت قراده.
﴿عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ الإجرام: فعل الجرم، والجرم - بالضم -: الذنب، وأصله: القطع، واستعير لكل اكتساب مكروه، كما في "المفردات".
﴿أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ﴾؛ أي: أعلموني بالدليل وجه الشركة. ﴿كَلَّا﴾: كلمة للزجر عن كلام، أو فعل صدر من المخاطب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الطباق بين لفظ ﴿يَمِينٍ﴾ و ﴿وَشِمَالٍ﴾، وبين ﴿بَشِير﴾ و ﴿نَذِيرٍ﴾، وبين ﴿تَسْتَقْدِمُونَ﴾ و ﴿تَسْتَأْخِرُونَ﴾.
ومنها: المشاكلة في قوله: ﴿جَنَّتَيْنِ﴾ وهو ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في
ومنها: التهكم بهم في قوله: ﴿جَنَّتَيْنِ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا﴾ فإن كلمة ﴿سِيرُوا﴾ مشتقة من السير.
ومنها: التنكير في قوله: ﴿لَيَالِيَ وَأَيَّامًا﴾ إلماعًا إلى قصر أسفارهم، فقد كانت قصيرة؛ لأنهم يرتعون في بحبوحة من العيش، ورغد منه، لا يحتاجون إلى مواصلة الكد، وتجشم عناء الأسفار للحصول على ما يرفه عيشهم.
ومنها: التذييل في قوله: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ﴾ فإنه تذييل لقوله: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا﴾، وهو هنا أن تكون الجملة الثانية متوقفة على الأولى في إفادة المراد؛ أي: وهل يجازى ذلك الجزاء المخصوص، ومضمون الجملة الأولى أن آل سبأ جزاهم الله تعالى بكفرهم، ومضمون الثانية أن ذلك العقاب المخصوص لا يقع إلا للكفور، وفرق بين قولنا: جزيته بسبب كذا، وبين قولنا: ولا يجزى ذلك الجزاء إلا من كان بذلك السبب، ولتغايرهما يصح أن يجعل الثاني علة للأول، ولكن اختلاف مفهومهما لا ينافي تأكيد أحدهما بالآخر للزوم معنى.
ومنها: مقابلة الإيمان بالشك في قوله: ﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ إيذانًا بأن أدنى مرتبة الكفر يوقع في الورطة.
ومنها: جعل الشك ظرفًا له، وتقديم صلته عليه، والعدول إلى كلمة ﴿مِنْ﴾ مع أنه يتعدى بفي؛ للمبالغة والاشعار بشدته، وأنه لا يرجى زواله.
ومنها: المبالغة في قوله: ﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾؛ لأن فعيلًا من صيغ المبالغة.
ومنها: فن الفرائد في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾، وهو أن يأتي المتكلم في كلامه بلفظة تتنزل منزلة الفريدة من حب العقد، وهي الجوهرة التي لا نظير لها، بحيث لو سقطت من الكلام لم يسد غيرها مسدَّها، وفي لفظة: ﴿فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ من غرابة الفصاحة ما لا مزيد عليه.
ومنها: التعجيز بدعاء الجماد الذي لا يسمع ولا يحس في قوله: {قُلِ ادْعُوا
ومنها: التوبيخ والتبكيت في قوله: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: حذف الخبر لدلالة السياق عليه في قوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾؛ أي: قل الله الخالق الرازق للعباد، ودلَّ على المحذوف سياق الآية.
ومنها: المبالغة بذكر صيغ المبالغة في قوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾، وفي قوله: ﴿وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ﴾؛ لأن فعالًا وفعولًا وفعيلًا من أوزان المبالغة.
ومنها: الاستدراج في قوله: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وهو فن يعتبر من البلاغة محورها الذي تدور عليه؛ لأنه يستدرج الخصم ويضطره إلى الإذعان والتسليم، والعزوف عن المكابرة واللجاج، فإنه لما ألزمهم الحجة خاطبهم بالكلام المنصف الذي يقول من سمعه المخاطب به: قد أنصفك صاحبك، كقول الرجل لصاحبه: أنا وأنت أحدنا لكاذب، وأبرزه في صورة الإبهام لأجل الإنصاف في الكلام.
ومنها: المخالفة بين حرفي الجر في قوله: ﴿لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ لأن صاحب الحق كأنه مستعلٍ على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه، لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق قلّما يراعى مثله في الكلام، وكثيرًا ما سمعنا إذا كان الرجل يلوم أخاه أو يعاتب صديقه على أمر من الأمور، فيقول له: أنت على ضلالك القديم، كما أعهدك، فيأتي بعلى في موضع: في، وإن كان هذا جائزًا، إلا أن استعمال في هنا أولى لما أشرنا إليه، والاستعارة التصريحية واضحة.
ومنها: الأمر في قوله: ﴿أَرُونِيَ﴾ أمرهم بإراءته الأصنام مع كونها بمرأى منه إظهارًا لخطئهم، وإطلاعهم على بطلان رأيهم.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ لأن الإجرام في الأصل: القطع ثم استعير لكل اكتساب مكروه.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٣٣) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله (١) سبحانه لما ذكر الأصول الثلاثة، وهو: التوحيد والرسالة والحشر، وكانوا كافرين بها جميعًا.. ذكر شأن جماعة من المشركين جاهروا بإنكار القرآن، وبكل كتاب سبقه من الكتب السماوية السالفة، ويستتبع ذلك أنهم لا يؤمنون بما جاء فيها من البعث والحشر والحساب والجزاء، ثم ذكر ما سيكون من الحوار بين الضالين ومضليهم من الكفار، وما يسرونه من
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر قول المشركين لرسوله: لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالذي بين يديه، بعد أن طال به الأمد في دعوتهم حتى لحقه من ذلك الغم الكثير، كما قال: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦)﴾.. سلاه على ما ابتلي به من مخالفة مترفي قومه له، وعداوتهم إياه بالتأسي بمن قبله من الرسل، فهو ليس بدعًا من بينهم، فما من نبي بعث في قرية إلا كذبه مترفوها، واتبعه ضعفاؤها، كما قال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾، ثم ذكر حجتهم بأنهم لا حاجة لهم إلى الإيمان به، فما هم فيه من مال وولد برهان ساطع على محبة الله إياهم، فرد عليهم بأن بسط الرزق وتقتيره، كما يكون للبر.. يكون للفاجر؛ لأن ذلك مرتبط بسنن طبيعية، وأسباب قدرها سبحانه في هذه الحياة، فمن أحسن استعمالها استفاد منها، ثم ذكر أن المتقين يمتّعون إذ ذاك بغرف الجنان، وهم في أمن ودعة، وأن الذين يصدون عن سبيل الله في نار جهنم يصلونها أبدًا، ثم وعد المنفقين في سبيل الله بالإخلاف، وأوعد الممسكين بالإتلاف.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر (١) أنَّ حال النبي - ﷺ - مع قومه ليس بدعًا بين الرسل، فحاله معهم كحال من تقدمه منهم مع أقوامهم، فكلهم كذبوا، وكلهم أوذوا في سبيل الله، ثم أعقب ذلك بأن ردّ عليهم بأن كثرة الأموال والأولاد لا صلة لها بمحبة الله تعالى، ولا سخطه.. أردف ذلك ما يكون من حالهم يوم القيامة من التقريع والتأنيب بسؤال الملائكة لمعبوداتهم أمامهم: هل هؤلاء كانوا يعبدونكم؟ فيجيبون: بأنهم كانوا يعبدون الشياطين بوسوستهم لهم، ثم بيَّن أنهم في ذلك اليوم لا يقع لهم نفع ممن كانوا يرجون من الأوثان والأصنام، ويقال لهم على طريق
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا...﴾ الآيات، سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق سفيان عن عاصم عن ابن رزين قال: كان رجلان شريكان، خرح أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي - ﷺ -.. كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دلني عليه، وكان يقرأ بعض الكتب، فأتى النبي - ﷺ -، فقال: إلام تدعو فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ فقال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤)﴾، فأرسل إليه النبي - ﷺ -: أن الله قد أنزل تصديق ما قلت.
التفسير وأوجه القراءة
٣١ - ثمّ ذكر سبحانه طرفًا من قبائح الكفار، ونوعًا من أنواع كفرهم، فقال: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: كفار قريش، ﴿لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ الذي ينزل على محمد ﴿وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ أي: ولا بما نزل قبله من الكتب القديمة الدالة على البعث، كالتوراة والإنجيل.
والمعني (٢): أي وقال قوم من مشركي العرب: لن نؤمن بهذا القرآن، ولا بالكتب التي سبقته، ولا بما اشتملت عليه من أمور الغيب التي تتصل بالآخرة من بعث وحساب وجزاء.
روي: أن كفار مكة سألوا أهل الكاتب عن وصف الرسول - ﷺ -، فأخبروهم أنهم يجدون صفته في كتبهم، فأغضبهم ذلك، وقالوا ما قالوا.
(٢) المراغي.
وفي "السمين" (٢) قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾: مفعول ﴿تَرَى﴾، وجواب ﴿لَوْ﴾ محذوفان للعلم؛ أي: ولو ترى يا محمد حال الظالمين وقت وقوفهم عند ربهم، راجعًا بعضهم إلى بعض القول.. لرأيت حالًا فظيعةً، وأمرًا منكرًا، وجملة ﴿يَرْجِعُ﴾ حال من ضمير ﴿مَوْقُوفُونَ﴾ والقول منصوب بـ ﴿يَرْجِعُ﴾؛ لأنه يتعدى قال تعالى: ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ﴾، وجملة قوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ تفسير لقوله: ﴿يَرْجِعُ﴾، فلا محل له من الإعراب، أو بدل منه؛ أي: حالة كون الاتباع الذين عدوا ضعفاء وقهروا يقولون: ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾؛ أي: للرؤساء الذين بالغوا في الكبر والتعظم عن عبادة الله تعالى، وقبول قوله المنزل على أنبيائه، واستتبعوا الضعفاء في الغي والضلال: ﴿لَوْلَا أَنْتُمْ﴾ موجودون؛ أي: لولا إضلالكم وصدكم إيانا عن الإيمان، ﴿لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ بالله ورسوله؛ أي: أنتم منعتمونا من الإيمان واتّباع الرسول.
ومعنى الآية (٣): أي ولو ترى أيها الرسول حال أولئك الكافرين، وما هم فيه من مهانة وذلة، يحاور بعضهم بعضًا، ويتلاومون على ما كان بينهم من سوء
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
٣٢ - ثم حكى سبحانه رد الرؤساء عليهم بقوله: ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وهو واقع في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا؟ فقيل: قال الرؤساء الذين استكبروا عن الإيمان ﴿لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ منكرين لكونهم الصادين لهم عن الإيمان، مثبتين ذلك لأنفسهم؛ أي: للمستضعفين ﴿أَنَحْنُ﴾ معاشر الرؤساء ﴿صَدَدْنَاكُمْ﴾؛ أي: منعناكم وصرفناكم أيها الأتباع ﴿عَنِ الْهُدَى﴾ والإيمان ﴿بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ﴾ الهدى، قال العمادى: وإنما وقعت ﴿إِذْ﴾ مضافًا إليها، وإن كانت من الظروف اللازمة للظرفية، لأنه يتوسع في الزمان ما لا يتوسع في غيره، فأضيف إليه الزمان. اهـ. وقيل: إن ﴿إِذْ﴾ هنا بمعنى: أن المصدرية؛ أي: لم نصدكم عنه، كقولك: ما أنا قلت هذا، تريد: لم أقله، مع أنه مقول لغيري، فإن دخول همزة الاستفهام الإنكاري على الضمير يفيد نفي الفعل عن المتكلم، وثبوته لغيره، كما قال: ﴿بَلْ كُنْتُمْ﴾ أنتم ﴿مُجْرِمِينَ﴾؛ أي: راسخين في الإجرام والإشراك، فبسبب ذلك صددتم أنفسكم عن الإيمان، وآثرتم التقليد، وفي هذا تنبيه للكفار على أن طاعة بعضهم لبعض في الدنيا تصير سبب عداوة في الآخرة، وتبرىء بعضهم من بعض، قال أبو السعود: فأنكروا كونهم الصادين لهم عن الإيمان، وأثبتوا أنهم هم الصادون لأنفسهم بسبب كونهم راسخين في الإجرام. اهـ.
والمعنى: أي قال الذين استكبروا في الدنيا، وصاروا رؤساء في الكفر والضلالة للذين استضعفوا، فكانوا أتباعًا لأهل الضلال منهم: أنحن منعناكم من اتباع الحق بعد أن جاءكم من عند الله تعالى، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها اجرامكم وإيثاركم الكفر على الإيمان.
والخلاصة: أننا لم نحل بينكم وبين الإيمان لو صممتم على الدخول فيه، بل كنتم مجرمين، فمنعكم إيثاركم الكفر على الإيمان من اتباع الهدى،
٣٣ - ثم حكي ردّ المستضعفين على قول المستكبرين بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ عطف على الجملة الاستئنافية.
قلت: لأنّ الذين استضعفوا مرَّ أولًا كلامهم، فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين، فعطف على كلامهم الأول، اهـ "كشاف". أي: قال الذين استضعفوا ﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ ردًا لما أجابوا به عليهم، ودفعًا لما نسبوه إليهم من صدهم لأنفسهم: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ إضراب على إضرابهم، وإبطال له؛ أي: لم يكن إجرامنا الصاد لنا، بل مكركم لنا ليلًا ونهارًا هو الصاد لنا، والمكر (٢): صرف الغير عما يقصده بحيلة؛ أي: بل صدّنا مكركم بنا في الليل والنهار، وحملكم إيانا على الشرك والأوزار، فحذف المضاف إليه، وأقيم الظرف مقامه اتساعًا، يعني: في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين مجازًا.
والمعنى: أنَّ المستكبرين لما أنكروا أن يكونوا السبب، وأثبتوا أن ذلك باختيارهم.. كر عليهم المستضعفون بقولهم: بل مكر الليل والنهار، فأبطلوا إضرابهم بإضرابهم، كأنهم قالوا: بل من جهة مكركم لنا ليلًا ونهارًا، أو حملكم إيانا على الشرك، واتخاذ الأنداد، اهـ "عمادي".
وقرأ قتادة ويحيى بن يعمر (٣): ﴿بل مكرٌ﴾ بالتنوين، ﴿الليلَ والنهارَ﴾ بالنصب على الظرفية، والتقدير: بل مكر كائن في الليل والنهار، وقرأ سعيد بن جبير بن محمد وأبو رزين وابن يعمر أيضًا: ﴿مكرٌّ﴾ بفتح الكاف وتشديد الراء مضافًا مرفوعًا بمعنى: الكرور من كر يكر إذا جاء وذهب، ومعناه: كرور الليل والنهار واختلافهما، ومقصودهم الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء بالكفر بالله تعالى، وقرأ ابن جبير أيضًا وطلحة وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج: كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر؛ أي: صددتمونا مكر الليل والنهار؛ أي: في مكرهما، ومعناه: دائمًا.
وقوله: ﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا﴾ ظرف للمكر؛ أي: بل صدَّنا مكركم الدائم في الليل
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
وإجمال ذلك: ما صدَّنا إلا مكركم أيها الرؤساء بالليل والنهار، حتى أزلتمونا عن عبادة الله، فأنتم كنتم تغروننا وتنموننا وتخيروننا أننا على الهدى، وأنا على شيء، وكل ذلك باطل وكذب، ثم ذكر مآل أمرهم وسوء عاقبتهم، فقال: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ والضمير فيه راجع إلى الفريقين؛ أي: وأضمر كل من الفريقين المستكبرين والمستضعفين الندامة والحسرة على ما فرط منهم في الدنيا من الكفر وأخفوها عن غيرهم، أو أخفاها كل منهم عن الآخر مخافة الشماتة، ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾؛ أي: حين رأوا العذاب وعاينوه؛ إذ هم بهتوا مما عاينوا، فلم يستطيعوا أن ينطقوا ببنت شفة.
والخلاصة: أنهم ندموا على ما فرّطوا من طاعة الله في الدنيا حين شاهدوا عذابه الذي أعدّه لهم، وقيل: المعنى: أضمر الفريقان الندامة على ما فعلا من الضلال والإضلال حين ما نفعتهم الندامة، وأخفاها كل منهما عن الآخر مخافة التعيير، أو المعنى: أظهروا الندامة، فإنه من الأضداد، يكون تارة بمعنى الإخفاء، وتارة بمعنى: الإظهار؛ إذ الهمزة تصلح للإثبات والسلب، كما في أشكيته، وهو المناسب لحالهم، ومنه قول أمرىء القيس:
تَجَاوَزْتُ أَحْرَاسًا وَأَهْوَالَ مَعْشَرٍ | عَلَى حِرَاصٌ لَوْ يُسِرُّونَ مُقْتَلِيْ |
٣٤ - ولما قص الله سبحانه حال من تقدم من الكفار.. أتبعه بما فيه التسلية لرسوله، وبيان أنَّ كفر الأمم السابقة بمن أرسل إليهم من الرسل هو كائن مستمر في الأعصر الأول، فقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ وبعثنا، ﴿فِي قَرْيَةٍ﴾ من القرى، وبلدة من البلدان. قال في "كشف الأسرار": القرية: العصر تقري أهلها وتجمعهم. ﴿مِنْ نَذِيرٍ﴾؛ أي: نبيًا ينذر أهلها ويحذرهم عقاب الله، وجملة قوله: ﴿إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ في محل النصب على الحال؛ أي: إلا قال رؤساء تلك القرية المتكبرون المتنعمون بالدنيا؛ أي: إلا قال رؤساؤها وأغنياؤها وجبابرتها وقادة الشر فيها لرسلهم: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ﴾ على زعمكم من التوحيد والإيمان، ﴿كَافِرُونَ﴾؛ أي: منكرون على مقابلة الجمع بالجمع، وهذه الآية جاءت لتسلية رسول الله - ﷺ -؛ أي: يا محمد (١) هذه سيرة أغنياء الأمم الماضية، فلا يهمنَّك أمر أكابر قومك، فتخصيص المتنعمين بالتكذيب مع اشتراك الكل فيه؛ إما لأنهم المتبوعون، أو لأنّ الداعي الأعظم إلى التكذيب والإنكار هو التنعم المستتبع للاستكبار.
ومعنى الآية (٢): أي وما بعثنا إلى أهل قرية نذيرًا ينذرهم بأسنا أن ينزل بهم على معصيتهم إيانا، إلا قال كبراؤها وأولوا النعمة والثروة فيها: إنا لا نؤمن بما بعثتم به من التوحيد والبراءة من الآلهة والأنداد، وليس في ذلك من عجيب، فإن المنغمسين في الشهوات يحملهم التكبر والتفاخر بزينة الحياة الدنيا على النفور من الكمال الروحي، ومن تثقيف النفوس بالإيمان والحكمة، فالضدان لا يجتمعان، انغماس في الشهوة، وعلم وحكمة وثروة مادية وثروة روحية.
٣٥ - ثم ذكر تفاخرهم بما
(٢) المراغي.
أي: وقال المستكبرون في كل قرية أرسلنا فيها نذيرًا: إنا ذوو عدد عديد من الأولاد وكثرة الأموال، فنحن لا نعذب؛ لأن ذلك دليل على محبة الله لنا وعنايته بنا، مرادهم: أن الله فضلنا عليكم بالأولاد والأموال في الدنيا، وذلك يدل على أنه قد رضي ما نحن عليه من الدين، وما نحن بمعذبين في الآخرة بعد إحسانه إلينا في الدنيا، ورضاه عنا. هيهات هيهات إنهم قد ضلوا ضلالًا بعيدًا، وأخطؤوا في القياس: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ﴾.
وخلاصة آرائهم: نحن في نعمة لا تشوبها نقمة، وذلك دليل على كرامتنا عند الله ورضاه عنا؛ إذ لو كان ما نحن فيه من الشرك وغيره مما تدعونا إلى تركه مخالفًا لما يرضيه.. لما كنا فيما نحن فيه من نعمة وبسطة في العيش، وكثرة الأولاد،
٣٦ - فرد الله عليهم مقالتهم آمرًا رسوله أن يبين لهم خطأهم بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ردًا عليهم. ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسعه، ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ أن يبسطه له، ويوسعه عليه من مؤمن وكافر. ﴿وَيَقْدِرُ﴾؛ أي: يضيق على من يشاء أن يقدره، ويضيقه عليه من مؤمن وكافر حسب اقتضاء مشيئته المبنية على الحكم البالغة، فلا ينقاس على ذلك أمر الثواب والعقاب اللذين مناطهما الطاعة وعدمها، فليس في التوسيع دلالة على الإكرام، كما أنه ليس في التضييق دلالة على الإهانة، وفي الحديث: "الدنيا عرض حاضر، يأكل منها بر وفاجر، والآخرة وعد صادق، يحكم فيها ملك قاهر".
والمعنى: قل لهم أيها الرسول: إن ربي يبسط الرزق من معاش ورياش في الدنيا لمن يشاء من خلقه، ويضيّق على من يشاء، لا لمحبة فيمن بسط له ذلك، ولا لخير فيه، ولا لزلفى استحق بها ذلك، ولا لبغض منه لمن قدر عليه، ولا لمقت منه له، ولكنه يفعل ذلك لسنن وضعها لكسب المال، في هذه الحياة، فمن سلك سبيلها وصل إلى ما يبغي، ومن أخطأها وضل.. لم ينل شيئًا من حظوظها، ولا رابطة بين الثراء ومحبة الله. ألا ترى أنه ربما وسع سبحانه على العاصي، وضيَّق على
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ وهم أهل الغفلة والخذلان، ومن جملة هؤلاء الأكثر من قاس أمر الآخرة على الأولى ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ حكمة البسط والقدر، فيزعمون أنَّ مدار البسط هو الشرف والكرامة، ومدار القدر هو الذل والهوان، ولا يدرون أن الأول كثيرًا ما يكون بطريق الاستدراك، والثاني بطريق الابتلاء، ورفع الدرجات حتى تحير بعضهم واعترض على الله في البسط لأناس، والتضييق منه على آخرين، ومن ثم قال ابن الراوندي:
كَمْ عَاقِلٍ عَاقِلٍ أعْيَتْ مَذَاهِبُهُ | وَجَاهِلٍ جَاهِلٍ تَلْقَاهُ مَرْزُوْقَا |
هَذَا الَّذِيْ تَرَكَ الأَوْهَامَ حَائرَةً | وَصَيَّرَ الْعَالِمَ النِّحْرِيْرَ زِنْدِيْقَا |
وقرأ الجمهور (١): ﴿بِالَّتِي﴾، فإن جمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة، وقرأ الحسن: ﴿باللاتي﴾ جمعًا، وهو أيضًا راجع للأموال والأولاد، وقرىء ﴿بالذي﴾. و ﴿زُلْفَى﴾ في قوله: ﴿تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ مفعول مطلق معنوي لتقربكم منصوب به؛ أي: وليست أموالكم، ولا أولادكم بالخصلة التي تقربكم عندنا تقريبًا، بل الذي يقربكم إلينا التقوى والعمل الصالح، وقرأ الضحاك: ﴿زلَفًا﴾ بفتح اللام وتنوين الفاء، جمع: زلفة، وهي القربة. وقوله: ﴿إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ استثناء من مفعول ﴿تُقَرِّبُكُمْ﴾؛ أي: وما الأموال والأولاد تقرب أحدًا إلا المؤمن الصالح الذي أنفق أمواله في سبيل الله، وعلم أولاده الخير، وربَّاهم على الصلاح والطاعة. وقال أبو حيان: والظاهر أنه استثناء منقطع، وهو منصوب على الاستثناء؛ أي: لكن من آمن وعمل صالحًا، فإيمانه وعمله يقربانه، والإشارة بقوله: ﴿فَأُولَئِكَ﴾ إلى ﴿مَنْ﴾، والجمع باعتبار معناها، أي: فأولئك المؤمنون العاملون ثابت ﴿لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ﴾ على أن الجار والمجرور خبر لما بعده، والجملة خبر لـ ﴿أُولَئِكَ﴾، وإضافة الجزاء إلى الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول، أصله: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف؛ أي: تضعيف الأعمال، ثم جزاء الضعف، ثم جزاء الضعف، ومعناه: أن يضاعف لهم الواحدة من حسناتهم عشرًا، فما فوقها إلى سبع مئة إلى ما لا يحصى، أو من إضافة الموصوف إلى صفته، والمعنى عليه: فأولئك لهم الجزاء المضاعف. ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾؛ أي: بسبب ما عملوا من الصالحات، ﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ﴾ أي في غرفات الجنة، وهي قصورها ومنازلها الرفيعة، ﴿آمِنُونَ﴾ من جميع ما يكرهون من المصائب والآفات، كالموت والهرم والمرض والعدو وغير ذلك.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿جَزَاءُ الضِّعْفِ﴾ على الإضافة، أضيف فيه المصدر إلى المفعول، وقرأ قتادة والزهري ويعقوب ونصر بن عاصم: برفعهما؛ ﴿جزاء الضعف﴾ على أن الضعف بدل من ﴿جزاء﴾، وروي عن يعقوب: أنه قرأ ﴿جزاء﴾ بالنصب منونًا، ﴿والضعف﴾ بالرفع على تقدير فأولئك لهم الضعف جزاء، أي حال
(٢) الشوكاني.
ومعنى الآية (١): أي وما أموالكم التي تفتخرون بها على الناس، ولا أولادكم الذين تتكبرون بهم بالتي تقربكم منا، لكن من آمن وعمل صالحًا، فإيمانهم وعملهم يقربانهم منى، وأولئك أضاعف لهم ثواب أعمالهم، فأجازيهم بالحسنة عشر أمثالها، أو أكثر إلى سبع مئة ضعف، وهم في غرفات الجنات آمنون من كل خوف وأذى، ومن كل شر يحذر منه. روي عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إن في الجنة لغرفًا ترى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها"، فقال أعرابي: لمن هي؟ قال: "لمن طيب الكلام، وأطعم الطعام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام". وفي الآية إشارة إلى أنه لا تستحق الزلفى عند الله بالمال والأولاد مما زين للناس حبه، وحب غير الله يوجب البعد عن الله، فالأولى للعاقل أن يأخذ الباقي ويترك الفاني.
٣٨ - ولما ذكر سبحانه حال المؤمنين.. ذكر حال الكافرين، فقال: ﴿وَالَّذِينَ﴾ وهم كفار قريش، ﴿يَسْعَوْنَ﴾ ويبادرون، ﴿فِي آيَاتِنَا﴾ القرآنية، بالرد والطعن فيها، ويجتهدون في إبطالها حال كونهم ﴿مُعَاجِزِينَ﴾؛ أي: ظانين أنهم يعجزوننا ويفوتوننا، فلا يكون لهم مؤاخذة بمقابلة ذلك ﴿أُولَئِكَ﴾ المجتهدون في إبطال آياتنا ﴿فِي الْعَذَابِ﴾؛ أي: في عذاب جهنم ﴿مُحْضَرُونَ﴾ تحضرهم الزبانية إليها، لا يجدون عنها محيصًا؛ أي: مدخلون في العذاب، مخلدون فيه، لا يغيبون عنه، ولا ينفعهم ما اعتمدوا عليه من الشفعاء.
٣٩ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد لأولئك المفتخرين بالأموال والأولاد: ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾ ويوسعه ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾ البسط له ﴿مِنْ عِبَادِهِ﴾؛ أي: يوسعه عليه تارة، ﴿وَيَقْدِرُ لَهُ﴾؛ أي: يضيقه عليه تارة أخرى ابتلاءً وحكمةً، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، وما سبق في شخصين، فلا تكرار؛ أي: بل فيه تقرير؛ لأن التوسع والتقتير ليسا لكرامة ولا هوان، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد. اهـ "شهاب". وقيل: "تكرار لما تقدم لقصد التأكيد للحجة والدفع لما قاله الكفرة،
ومعنى الآية: أي قل لهم أيها الرسول: إن ربي يوسع الرزق على من يشاء من عباده حينًا، ويضيقه عليه حينًا آخر، فلا تخشوا الفقر، وأنفقوا في سبيله، وتقربوا إليه بأموالكم لتنالكم نفحة من رحمته، وما أنفقتم من شيء فيما أمركم به ربكم، وأباحه لكم.. فهو يخلفه عليكم، ويعوضكم بدلًا منه في الدنيا وفي الآخرة ثوابًا كل خلف دونه.
وفي الحديث: "أنفق بلالًا، ولا تخشى من ذي العرش إقلالًا" وعن مجاهد أنه خصه بالآخرة؛ إذ قال: "إذا كان لأحدٍ شيء فيلقتصد"، ويتأول هذه الآية: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ فإن الرزق مقسوم، ولعل ما قسم له منه قليل، وهو ينفق نفقة الموسع عليه. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ فترزقون من حيث لا تحتسبون، ولا رازق غيره. روى الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ما من يوم
٤٠ - والظرف في قوله: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾ منصوب باذكر مقدرًا، أو متصل بقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ﴾؛ أي: ولو تراهم أيضًا يوم نحشرهم جميعًا للحساب العابد والمعبود، والمستكبر والمستضعف؛ أي: واذكر يا محمد لقومك يوم يحشر الله؛ أي: يجمع المستكبرين والمستضعفين، وما كانوا يعبدون من دون الله حال كونهم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين لا يشذ منهم أحد ﴿ثُمَّ يَقُولُ﴾ سبحانه ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾ توبيخًا للمشركين العابدين، وإقناطًا لهم من شفاعتهم، كم زعموا، وقرأ الجمهور: ﴿نحشرهم﴾، ﴿نقول﴾ بالنون فيهما، وحفص بالياء، ذكره أبو حيان.
﴿أَهَؤُلَاءِ﴾ الكفار ﴿إِيَّاكُمْ﴾ يا ملائكتي ﴿كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ في الدنيا، وهذا استفهام تقريع وتقرير للكفار، و ﴿إِيَّاكُمْ﴾ منصوب بـ ﴿يَعْبُدُونَ﴾، وتخصيص الملائكة مع أنَّ بعض الكفار قد عبد غيرهم من الشياطين والأصنام؛ لأنهم أشرف معبودات المشركين.
٤١ - ﴿قَالُوا﴾؛ أي: الملائكة متنزهين عن ذلك، وهو استئناف بياني، ﴿سُبْحَانَكَ﴾؛ أي: تنزيهًا لك عن الشرك ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا﴾؛ أي: أنت الذي نواليه ونطيعه ونعبده ﴿مِنْ دُونِهِمْ﴾؛ أي: من دون المشركين ما اتخذناهم عابدين، ولا توليناهم، وليس لنا غيرك وليًا، أي: نحن نتولاك ولا نتولاهم، فبيَّنوا بإثبات موالاة الله، ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم، ثم أضربوا عن ذلك، ونفوا أنهم عبدوهم حقيقة بقولهم: ﴿بَلْ كَانُوا﴾؛ أي: بل كان هؤلاء المشركون في الدنيا من جهلهم وغوايتهم، ﴿يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾؛ أي: الشياطين؛ حيث أطاعوهم في عبادة غير الله تعالى، وقيل: كانوا يتمثلون لهم ويتخيلون أنهم الملائكة فيعبدونهم، وعبَّر عن الشياطين بالجن؛ لاستتارهم عن الحواس، ولذا أطلقه بعضهم على الملائكة أيضًا، وجزم الكرماني: بأنهم عبدوا الجن كما عبدوا الشياطين، فإذًا الكلام على ظاهره، فلا حاجة إلى التأويل. ﴿أَكْثَرُهُمْ﴾؛ أي: أكثر المشركين، قيل: الأكثر (١) هاهنا بمعنى الكل، والضمير للمشركين، كما هو الظاهر من السياق؛ أي: كل المشركين، وقال بعضهم: الضمير للإنس، والأكثر على معناه؛ أي: أكثر الإنس،
والجواب: أنهم لم يدَّعوا الإحاطة؛ إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع عليهم الملائكة، أو أنهم حكموا على الأكثر بإيمانهم بالجن، لأن الإيمان من عمل القلب، فلم يذكروا الإطلاع على جميع أعمال قلوبهم؛ لأن ذلك لله تعالى. اهـ.
ومعنى الآية: أي واذكر أيها الرسول لقومك يوم يحشر ربك العابدين المستكبرين منهم، والمستضعفين مع المعبودين من الملائكة وغيرهم، ثم تسأل الملائكة: أأنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم، وهذا سؤال وجّه إلى الملائكة ظاهرًا، والمراد منه: تقريع المشركين، وتيئيسهم مما علقوا عليه أطماعهم من شفاعتهم لهم، فهو وارد على نهج قوله تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى براء مما وجه إليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير، ولكن جاء ليقول ويقولوا، وشمال ويجيبوا، فيكون توبيخهم أشد، وتعييرهم أبلغ، وخجلهم أعظم. ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قالت الملائكة: تعاليت ربنا وتقدست عن أن يكون معك إله، نحن عبيدك، نتبرأ إليك من هؤلاء، وأنت الذي نواليه دونهم، فلا موالاة بيننا وبينهم.
والخلاصة: أننا برآء من عبادتهم والرضا بهم، ثم بيَّن أنهم ما عبدوهم على الحقيقة بقوله: ﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ﴾؛ أي: بل هم كانوا يعبدون الشياطين؛ لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان، وأضلوهم، وأكثر المشركين مؤمنون بالجن، مصدقون لهم فيما يقولون؛ إذ كانوا يعبدون غير الله بوسوستهم، ويستغيثون بهم في قضاء حاجاتهم، كما هو مشهور لدى أرباب العزائم والسحرة.
٤٢ - ولما أبطل تمسكهم بهم بعد تقريعهم وتأنيبهم.. زادهم أسى وحسرة، فقال: ﴿فَالْيَوْمَ﴾؛ أي: يوم الحشر، والفاء: ليست لترتيب ما بعدها من الحكم على جواب
أي: فهي للترتيب الذكري، والأظهر كونها استئنافية. ﴿لَا يَمْلِكُ﴾؛ أي: لا يقدر. ﴿بَعْضُكُمْ﴾ يعني: المعبودين. ﴿لِبَعْضٍ﴾ يعني: العابدين، ﴿نَفْعًا﴾ بالشفاعة وإدخال الجنة. ﴿وَلَا ضَرًّا﴾؛ أي: ضررًا بالتعذيب، أو دفع ضرر؛ إذ الأمر فيه كله لله؛ لأن الدار دار جزاء، ولا يجازي الخلق أحدٌ غير الله. قال في "الإرشاد": تقييد هذا الحكم بذلك اليوم مع ثبوته على الإطلاق؛ لانعقاد رجائهم على تحقيق النفع يومئذ، وهذا الكلام من جملة ما يقال للملائكة عند جوابهم بالتنزه والتبري مما نسب إليهم الكفرة، يخاطبون على رؤوس الأشهاد إظهارًا لعجزهم، وقصورهم عند عبدتهم، وتنصيصًا على ما يوجب خيبة رجائهم بالكلية.
وقوله: ﴿وَنَقُولُ﴾ معطوف على قوله (١): لا يملك؛ أي: واليوم نقول، ﴿لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر والتكذيب، فوضعوهما موضع الإيمان والتصديق، وقيل (٢): عطف على ﴿يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ﴾، لا على ﴿يَمْلِكُ﴾ كما قيل؛ لأنه ما يقال يوم القيامة خطابًا للملائكة مترتبًا على جوابهم المحكي، وهذا حكاية لرسول الله - ﷺ - لما سيقال للعبدة يومئذ، إثر حكاية ما سيقال للملائكة.
﴿ذُوقُوا﴾ وباشروا وادخلوا ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ﴾ في الدنيا ﴿بِهَا﴾؛ أي: بتلك النار، متعلق بقوله: ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وتصرون على القول بأنها غير كائنة، فقد وردتموها، وبطل ظنكم ودعواكم.
ومعنى الآية: أي فاليوم لا يقع لكم نفع ممن كنتم ترجون نفعه من الأوثان، والأنداد الذين ادخرتم عبادتهم لشدائدكم وكروبكم؛ لأن الأمر في ذلك اليوم لله الواحد القهار، لا يملك أحد فيه منفعةً لأحد، ولا مضرةً له، ونقول للمشركين تهكمًا بهم: ذوقوا عذاب النار التي كنتم تكذبون بها في دنياكم، فها أنتم أولاء قد وردتموها، وسمعتم شهيقها وزفيرها، وليس الخُبْرُ كالخَبَرِ، ولا السماع كالمعانية، فعضوا بنان الندم أسى وحسرة على ما قدمتم في دنياكم، فجنيتم صابه وعلقمه في
(٢) روح البيان.
فإن قلت (١): وقع الموصول هنا وصفًا للمضاف إليه الذي هو النار، وفي السجدة وقع وصفًا للمضاف إليه الذي هو النار، وفي السجدة وقع وصفًا للمضاف الذي هو العذاب؛ حيث قال هناك: ﴿عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾، فما الفرق بين الموضعين؟
قلتُ: الفرق بينهما: أنهم ثمة كانوا ملابسين للعذاب، كما صرح به في النظم؛ حيث قال: ﴿كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا﴾، فوصف لهم ما لابسوه، وما هنا عند رؤيتهم النار عقب الحشر، فوصف لهم ما عاينوه، وكونه هنا وصفًا للمضاف على أن تأنيثه مكتسب نكلف. اهـ "شهاب".
الإعراب
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى﴾.
﴿وَقَالَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿لَنْ نُؤْمِنَ﴾: ناصب وفعل مضارع منصوب بـ ﴿لَنْ﴾، وفاعله ضمير يعود على الذين كفروا، أعني: المتكلمين ﴿بِهَذَا﴾: متعلق به، ﴿الْقُرْآنِ﴾، بدل منه، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: زائدة زيدت لتأكيد نفي ما قبلها، ﴿بِالَّذِي﴾: معطوف على قوله: ﴿بِهَذَا﴾. ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بمحذوف وقع صلة الموصول. ﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لو﴾: شرطية ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، ومفعول ﴿تَرَى﴾، وجواب ﴿لو﴾ الشرطية محذوفان، تقديره: ولو ترى يا محمد حال الظالمين وقت وقوفهم عند ربهم.. لرأيت أمرًا فظيعًا، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾.
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)﴾.
﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، استئنافًا بيانًا، ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿لِلَّذِينَ﴾ متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، ﴿اسْتُضْعِفُوا﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، ﴿أَنَحْنُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿نَحْنُ﴾: مبتدأ، ﴿صَدَدْنَاكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، ﴿عَنِ الْهُدَى﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿بَعْدَ﴾: منصوب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿الْهُدَى﴾ ﴿بَعْدَ﴾: مضاف توسعًا في الظروف، ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، في محل الجر مضاف إليه مبني على السكون، وقيل: ﴿إِذْ﴾ هنا بمعنى: أن المصدرية، وهو مفهوم تفسير الزمخشري. ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل مستتر يعود على ﴿الْهُدَى﴾، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾ ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب للإضراب الإبطالي، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مُجْرِمِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾.
﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَأَسَرُّوا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، أو حالية، ﴿أَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة مستأنفة، أو حال من ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ و ﴿الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾، ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى: حين، متعلق بـ ﴿أسروا﴾، ﴿رَأَوُا الْعَذَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾، ﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، ﴿فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿جعلنا﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام الإنكاري، ﴿يُجْزَوْنَ﴾: فعل مضارع ونائب فاعل، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر واستثناء مفرغ، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿يُجْزَوْنَ﴾، والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَرْسَلْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿فِي قَرْيَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَرْسَلْنَا﴾، ﴿مِن﴾: زائدة، ﴿نَذِيرٍ﴾: مفعول به، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب حال من ﴿قَرْيَةٍ﴾، وسوَّغ مجيء الحال من النكرة: وقوعها في معرض النفي ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿كَافِرُونَ﴾، ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾: فعل مغير الصيغة، ونائب فاعل، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿أُرْسِلْتُمْ﴾، وهو العائد على ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿كَافِرُونَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾، ﴿نَحْنُ أَكْثَرُ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿أَمْوَالًا﴾: تمييز محول عن المبتدأ، منصوب باسم التفضيل، ﴿وَأَوْلَادًا﴾: معطوف على ﴿أَمْوَالًا﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾، ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿ما﴾: حجازية، ﴿نَحْنُ﴾: اسمها ﴿بِمُعَذَّبِينَ﴾: خبرها، والباء زائدة، وجملة ﴿مَا﴾ معطوفة على الجملة التي قبلها، ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿إن﴾: حرف نصب، ﴿رَبِّي﴾: اسم ﴿إن﴾، ﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ﴾: فعل وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿لِمَنْ﴾: متعلق بـ ﴿يَبْسُطُ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِن﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وجملة ﴿يَشَاءُ﴾ صلة ﴿مَنْ﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: لمن يشاء البسط له، وجملة ﴿وَيَقْدِرُ﴾ معطوف على جملة ﴿يَبْسُطُ﴾، ﴿وَلَكِنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو حالية، ﴿لكن﴾: حرف نصب واستدراك، ﴿أَكْثَرَ النَّاسِ﴾: اسمها، وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ خبرها، والجملة الاستدراكية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إنَّ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾ أو حال من فاعل ﴿يَبْسُطُ﴾، والرابط محذوف تقديره: ولكن أكثر الناس لا يعلمون حكمة بسطه وقبضه.
﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧)﴾.
﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٣٩)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ أول، ﴿يَسْعَوْنَ﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول، ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿يَسْعَوْنَ﴾، ﴿مُعَاجِزِينَ﴾: حال من فاعل ﴿يَسْعَوْنَ﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثانٍ، ﴿فِي الْعَذَابِ﴾ متعلق بـ ﴿مُحْضَرُونَ﴾،
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿يوم﴾: منصوب على الظرفية، متعلق بمحذوف تقديره: واذكر يوم يحشرهم، ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾: فعل وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿جَمِيعًا﴾: حال من مفعول ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يحشر﴾، ﴿لِلْمَلَائِكَةِ﴾: متعلق بـ ﴿يَقُولُ﴾، ﴿أَهَؤُلَاءِ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التوبيخي، ﴿هؤلاء﴾: مبتدأ، ﴿إِيَّاكُمْ﴾: مفعول به مقدم لـ ﴿يَعْبُدُونَ﴾، ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه، وجملة ﴿يَعْبُدُونَ﴾: خبره، وجملة ﴿كان﴾ في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب، ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة،
﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)﴾.
﴿فَالْيَوْمَ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿اليوم﴾: ظرف متعلق بـ ﴿يَمْلِكُ﴾، ﴿لَا﴾: نافية، ﴿يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة، ﴿لِبَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿نَفْعًا﴾، و ﴿نَفْعًا﴾: مفعول به، ﴿وَلَا ضَرًّا﴾: معطوف على ﴿نَفْعًا﴾، ﴿وَنَقُولُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿نقول﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿لَا يَمْلِكُ﴾، وقيل: معطوف على قوله: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ كما مرَّ في مبحث التفسير، ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿نقول﴾، ﴿ظَلَمُوا﴾: صلة الموصول، ﴿ذُوقُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿عَذَابَ النَّارِ﴾: مفعول به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول ﴿نقول﴾، ﴿الَّتِي﴾: صفة لـ ﴿النَّارِ﴾، ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿تُكَذِّبُونَ﴾، وجملة ﴿تُكَذِّبُونَ﴾: خبر ﴿كان﴾، وجملة ﴿كان﴾ صلة الموصول.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مَوْقُوفُونَ﴾؛ أي: محبوسون في موقف الحساب، جمع: موقوف، اسم مفعول من وقف الثلاثي المتعدي، وفي "المصباح": وقفت الدابة تقف وقفًا ووقوفًا: سكنت ووقفتها أنا يتعدى، ولا يتعدى، ووقفت الرجل عن الشيء وقفًا: منعته عنه، اهـ، وبابه: وعد، كما في "المختار".
﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾؛ أي: عدوا ضعفاء، وقهروا، واستفعل هنا بمعنى: الفعل المجرد، وفي ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾ للمبالغة في معنى الثلاثي؛ أي: بالغوا في
﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة. اهـ "روح". والحيلة: ما يتوصل به إلى المقصود بطريق خفي. اهـ "قسطلاني".
﴿أَنْدَادًا﴾ جمع: ند، كأضداد جمع ضد، والند: المثل والشبه.
﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ النداة: التحسر في أمر فائت.
﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ﴾ جمع غل، قال القهستاني: الغل: الطوق من حديد، الجامع لليد إلى العنق، المانع عن تحرك الرأس. انتهى، وهو معتاد بين الظلمة، قال الفقيه: إنه في زماننا جرت العادة بذلك، إذا خيف من الإباق، كما في "الكبرى" ولا يكره أن يجعل قيدًا في رجل عبده؛ لأنه سنة المسلمين في السفهاء، وأهل الفساد، فلا يكره في العبد؛ إذ فيه تحرز من إباقه وصيانة لماله، وحل ربطه بالحبل ونحوه. اهـ من "روح البيان".
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ﴾ قال في "كشف الأسرار": القرية: المصر تقري أهلها وتجمعهم، كما سبق. اهـ.
﴿إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ المترف: كمكرم: المتنعم والموسع العيش والنعمة، من الترفة بالضم، وهو التوسع في النعمة يقال: أترفه: نعمه، وأترفته النعمة: أطغته..
﴿تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾: مصدر من معنى العامل؛ إذ التقدير: تقربكم قربى، والزلفى والزلفة، والقربى والقربة بمعنى واحد. وقال الأخفش: زلفى: اسم مصدر، كأنه قال: بالتي تقربكم عندنا تقريبًا، وقرأ الضحاك: ﴿زلفا﴾ بضم الزاي وفتح اللام على أنها جمع زلفة كقربة وقرب جمع المصدر، لاختلاف أنواعه. اهـ "سمين".
﴿جَزَاءُ الضِّعْفِ﴾ مصدر مضاف إلى مفعوله؛ أي: أن يجازيهم الله الضعف، أو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: لهم الجزاء المضاعف. ﴿فِي الْغُرُفَاتِ﴾ جمع غرفة، وهي البيت فوق البناء، يعني: كل بناء يكون علوًا فوق سفل.
﴿يَسْعَوْنَ﴾ من سعى إذا جد واجتهد في الشيء.
﴿مُعَاجِزِينَ﴾ من المعاجزة، والمفاعلة ليست على بابها؛ أي: ظانين ومعتقدين
﴿مُحْضَرُونَ﴾ اسم مفعول من الإحضار.
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ يقال: نفق الشيء مضى ونفد؛ إما بالبيع نحو نفق البيع نفاقًا، وإما بالموت نحو نفقت الدابة نفوقًا، واما بالغناء نحو نفقت الدراهم تنفق وأنفقتها.
﴿فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ يقال: أخلف الله له وعليه: إذا أبدل له ما ذهب عنه. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ وأورد على هذا وعلى نظائره ابن عبد السلام في أماليه، كما نقله السيوطي في شرح السنن: أنه لا بد من مشاركة المفضل للمفضل عليه في أصل الفعل حقيقةً لا صورة.
وأجيب بأن الرازقين بمعنى الموصعلين للرزق والواهبين له بجعله حقيقة في هذا، كما صرح به الراغب؛ حيث قال: الرزق: العطاء البخاري، والرازق يقال لخالق الرزق ومعطيه، فيقال رازق لغيره تعالى، ولا يقال لغير الله تعالى رزاق، ولا حاجة إلى ما قيل من أنه من عموم المجاز، أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. اهـ "شهاب".
فائدة: وفي "التأويلات النجمية": يشير إلى أنه خير المنفقين؛ لأن خيرية المنفق بقدر خيرية النفقة، فما ينفق كل منفق في النفقة.. فهو فانٍ، وما ينفق الله من نفقة ليخلفه با فهي باقية، والباقيات خير من الفانيات انتهى.
قال في "بحر العلوم": لما كان إقامة مصالح العباد من أجل الطاعات وأشرف العبادات؛ لأنها من وظيفة الأنبياء والصالحين.. دلهم الله سبحانه في الآية على طرف منها حثًا عليها، كما قال - ﷺ -، حثًا لأمته عليها: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله، قال العسكري: هذا على التوسع والمجاز، كأن الله تعالى لما كان المتضمِّن لأرزاق العباد والكافل بها.. كان الخلق كالعيال له.
وفي الحديث: "إن لله أملاكًا خلقهم كيف يشاء، وصورهم على ما يشاء تحت عرشه، ألهمهم أن ينادوا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في كل يوم مرتين: ألا من وسع على عياله وجيرانه.. وسع الله عليه في الدنيا والآخرة، ألا من ضيَّق.. ضيق الله عليه، ألا إن الله قد أعطاكم لنفقة درهم على عيالكم خير من سبعين قنطارًا
وفي الحديث: "كل معروف صدقة، وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له به صدقة، وما وقى به الرجل عرضه كتب له به صدقة"، ومعنى كل معروف صدقة: أن الإنفاق لا ينحصر في المال، بل يتناول كل بر من الأموال والأقوال والأفعال والعلوم والمعارف، وإنفاق العلوم والمعارف أفضل وأشرف؛ لأن نفع الأموال للأجساد، ونفع العلوم والمعارف للقلوب والأرواح، ومعنى ما وقي به عرضه: ما أعطى الشاعر وذا اللسان المتقى.
وفي الحديث: "ينادي مناد كل ليلة: لا دواء للموت، وينادي آخر: ابنوا للخراب، وينادي منادٍ: هب للمنفق خلفًا وينادي مناد: هب للممسك تلفًا".
وفي الحديث: "يؤجر ابن آدم في نفقته كلها إلا شيئًا وضعه في الماء والطين" قال القنوي، في شرح هذا الحديث؛ وهذا الحديث - وإن كان من حيث الصيغة مطلقًا - فالأحوال والقرائن تخصصه، وذلك أن بناء المساجد في الرباطات ومواضع العبادات يؤجر الباني لها عليها بلا خلاف، فالمراد بالمذكور هنا إنما هو البناء الذي لم يقصد صاحبه إلا التنزه والانفساح والاستراحة والرياء والسمعة، وإذا كان كذلك فمطمح همة الباني ومقصده لا يتجاوز هذا العالم، فلا يكون لبنائه ثمرة، ولا نتيجة في الآخرة؛ لأنه لم يقصد بما فعله أمرًا وراء هذه الدار، فأفعاله أعراض زائلة لا موجب لتعدِّيها من هنا إلى الآخرة، فلا إثمار لها، فلا أجر. انتهى.
﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا﴾: مضاف لمفعوله؛ أي: متولي أمورنا، والولي: خلاف العدو.
﴿ذُوقُوا﴾ الذوق في الأصل، وإن كان فيما يقل تناوله كالأكل، لا فيما يكثر تناوله، إلا أنه مستصلح للكثير، كما هنا.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإيجاز بالحذف في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ﴾؛ لأنه حذف فيه
ومنها: الإجمال في قوله: ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾، ثم التفسير في قوله: ﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ إلى آخره.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ﴾؛ أي: لم نصدّكم.
ومنها: الطباق بين ﴿اسْتُضْعِفُوا﴾، و ﴿اسْتَكْبَرُوا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾؛ لأن الإجرام حقيقة في قطع الأجسام، ثم استعير لاكتساب كل مكروه وسوء.
ومنها: التعبير عما في المستقبل بلفظ الماضي في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ إشارةً إلى تحقق وقوعه.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ لما فيه من إسناد ما للفاعل إلى ظرفه، نحو: نهاره صائم، وليله قائم، وليل ماكر.
ومنها: التعبير بالماضي عما في المستقبل في قوله: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾، وفي قوله: ﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ﴾ إشارةً إلى تحقق وقوعه؛ لأن المعنى: ونجعل الأغلال يوم القيامة في أعناق الذين كفروا.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ حيث لم يقل في أعناقهم؛ للتنويه بذمهم، والتنبيه على موجب أغلالهم.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ﴾؛ أي: في أهل قرية.
ومنها: مقابلة الجمع بالجمع في قوله: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ﴾.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ مبالغة في تحقيق الحق وتقرير ما سبق، وكان مقتضى السياق: وما أموالهم... إلخ.
ومنها: المقابلة بين عاقبة الأبرار والفجار في قوله: {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ
ومنها: التكرار لغرض التأكيد على ما قيل في قوله: ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ الخ.
ومنها: أسلوب التقريع والتوبيخ في قوله: ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ الخطاب للملائكة تقريعًا للمشركين.
ومنها: تقديم المفعول على عامله في قوله: ﴿إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ لرعاية الفاصلة، ولأنه أبلغ في الخطاب، ولو أتى بالضمير متصلًا كان التركيب يعبدونكم، ولم تكن فاصلة.
ومنها: الإضافة للتشريف قوله: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿نَفْعًا﴾، و ﴿ضَرًّا﴾ في قوله: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ﴾.
ومنها: الإيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه في قوله: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه، أي: ما أموالكم بالتي تقربكم، ولا أولادكم بالذين يقربونكم عندنا.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر أن المشركين هم أهل النار يوم القيامة، وأنه يقال لهم يومئذ: ذوقوا عذابها الذي كنتم به تكذبون.. أعقب ذلك بذكر ما لأجله استحقوا هذا العذاب، وهو صدهم عن دعوة رسول الله - ﷺ - بقولهم في القرآن: إنه إفك مفترى، وأنه سحر واضح لا شك فيه، وقد كان فيما حل بالأمم قبلهم مزدجر لهم لو أرادوا، فقد بلغوا من القوة ما بلغوا، وحين أرسل إليهم الرسل كذبوهم، فأخذوا أخذ عزيز مقتدر، ثم أنذرهم سوء عاقبة ما هم فيه، وأوصاهم، بأن يشمروا عن ساعد الجد طلبًا للحق، متفرقين اثنين اثنين، وواحدًا واحدًا، ثم يتفكروا ليعلموا أن صاحبهم ليس بالمجنون، بل هو نذير لهم يخوفهم بأس الله وعذابه الشديد يوم القيامة، وقد كان لهم من حاله ما يرغبهم في دعوته، فهو لا يطلب منهم أجرًا، ولا يريد منهم جزاء، وإنما مثوبته عند ربه المطلع على كل شيء، ثم أبان لهم أن الحق قد وضح، وجاءت أعلام الشريعة. كفلق الصبح نورًا وضياءً، ولا
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه، لما أبطل شبههم، ورد عليهم بما لم يبقَ بعده مستزاد لمستزيد.. هددهم بشديد العقاب إن هم أصروا على عنادهم واستكبارهم، ثم ذكر أنهم حين معاينة العذاب يقولون: آمنا بالرسول، وأنى لهم ذلك، وقد فات الأوان، وقد كان ذلك في مكنتهم في دار الدنيا لو أرادوا، أما الآن فإن ذلك لا يجديهم فتيلًا ولا قطميرًا من جراء ما كانوا فيه من شك مريب في الحياة الأولى، وتلك سنة الله في أشباههم من قبل.
التفسير وأوجه القراءة
٤٣ - ﴿وَإِذَا تُتْلَى﴾؛ أي: وإذا قرئت بلسان رسولنا محمد - ﷺ -. ﴿عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على مشركي مكة. ﴿آيَاتُنَا﴾ القرآنية الناطقة بحقيقة التوحيد وبطلان الشرك حالة كونها، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾؛ أي: واضحات الدلالات، ظاهرات المعاني ﴿قَالُوا﴾؛ أي: قال كفار مكة مشيرين إلى النبي - ﷺ -: ﴿مَا هَذَا﴾ التالي لها ﴿إِلَّا رَجُلٌ﴾ حقير لا يعبأ بكلامه، تنكيره للتهكم والتلهي، وإلا فرسول الله - ﷺ - كان علمًا مشهورًا بينهم. ﴿يُرِيدُ﴾ ويقصد ﴿أَنْ يَصُدَّكُمْ﴾ ويمنعكم ويصرفكم ﴿عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ﴾ وأسلافكم من الأصنام منذ أزمنة متطاولة، فيستتبعكم بما يستبدعه من غير أن يكون هناك دين إلهي، وإضافة (١) الآباء إلى المخاطبين لا إلى أنفسهم لتحريك عرق العصبية منهم مبالغةً في تقريرهم على الشرك، وتنفيرهم عن التوحيد.
والمعنى (٢): وإذا تتلى على المشركين آيات الكتاب الكريم دالة على التوحيد وبطلان الشرك.. قالوا: إن هذا الرجل يريد أن يلفتكم عن الدين الحق دين الآباء والأجداد، ليجعلكم من أتباعه دون أن يكون له حجة على ما يدَّعي، وبرهان يدل على صحة ما يسلك من سبيل، ثم زادوا إنكارهم توكيدًا، وأيأسوا الرسول من الطمع في إيمانهم ﴿وَقَالُوا﴾ ثانيًا: ﴿مَا هَذَا﴾ القرآن الذي يدعي محمد أنه وحي من
(٢) المراغي.
ثم شددوا في الإنكار، فجعلوه سحرًا بيِّنًا لا شك فيه عندهم، كما حكي عنهم بقوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ثالثًا: ﴿لِلْحَقِّ﴾؛ أي: للقرآن؛ أي: في شأنه على أن العطف لاختلاف العنوان، بأن يراد بالأول وهو قولهم: ﴿إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾ معناه، وبالثاني وهو قولهم: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ نظمه المعجز، وقيل: إن طائفة منهم قالوا: إنه إفك، وطائفة قالوا: إنه سحر، وقيل: المراد بالحق هنا: التوحيد، وأمور الإِسلام، وقيل: المراد بالذين كفروا المذكور أولًا: جميع الكفار؛ لأن إنكار القرآن والمعجزة كان متفقًا عليه بين أهل الكتاب والمشركين، وبالثاني المشركون؛ لأنهم أنكروا التوحيد على القول بأن المراد بالحق: التوحيد؛ أي: وقال الذين كفروا للحق والقرآن ﴿لَمَّا جَاءَهُمْ﴾؛ أي: حينما جاءهم من الله تعالى، ومعنى التوقع في ﴿لَمَّا﴾: أنهم كذبوا به وجحدوه على البديهة ساعة أتاهم، وأول ما سمعوه قبل التدبر والتأمل. ﴿إن﴾ بمعنى ما النافية؛ أي ما ﴿هَذَا﴾ القرآن ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: خيال ظاهر سحريته لا شبهة فيه.
والمعنى على القول: بأن المراد بالحق التوحيد والشرائع؛ أي (١): وقال المشركون لما جاء به النبي - ﷺ - من عند ربه مشتملًا على الهدى والشرائع التي وجهتهم في حياتهم الاجتماعية ونظم المعيشة وجهة جديدة، تكون بها سعادتهم في معاشهم ومعادهم، وغيَّرت الطريق التي ورثوها عن الآباء والأجداد: ما هذا إلا سحر مبين لا خفاء فيه عندنا، وقد أعمى أبصارنا، وأضلَّ أحلامنا، فلم نستطيع أن ندفعه بكل سبيل، ولا يزال يلج القلوب ويقتحمها، ويداخل النفوس ويستحوذ عليها، ونحن في حيرة لا نجد طريقًا للتغلب عليه بالوسائل التي نعرفها، وهي بين أيدينا.
٤٤ - فرد الله سبحانه عليهم منكرًا دعواهم أن دينهم هو الدين الحق، بقوله: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: مشركي العرب. ﴿مِنْ كُتُبٍ﴾؛ أي: كتبًا، فإن ﴿مِنْ﴾ الاستغراقية داخلة على المفعول للتأكيد؛ أي: وما أعطينا كفار مكة كتبًا دالةً على صحة الإشراك ﴿يَدْرُسُونَهَا﴾؛ أي: يقرؤونها، كما في قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)﴾، وقوله: ﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١)﴾، وفي إيراد الكتب بصيغة الجمع تنبيه على أنه لا بد لمثل تلك من نظائر الأدلة. والدرس: قراءة الكتاب مع التدبر فيه، كما سيأتي في مبحث اللغة، وقرأ الجمهور: ﴿يدرسونها﴾ مضارع درس الثلاثي من باب نصر، وقرأ أبو حيوة: بفتح الدال وشدها وكسر الراء مضارع ادرس افتعل من الدرس، ومعناه: يتدارسونها، وعن أبي حيوة أيضًا: يدرسونها من التدريس، وهو تكرير الدرس، ذكره أبو حيان. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ﴾؛ أي: إلى مشركي مكة ﴿قَبْلَكَ﴾ يا محمد ﴿مِنْ نَذِيرٍ﴾؛ أي: رسول يدعوهم إلى الإشراك، وينذرهم بالعقاب إن لم يشركوا.
وإذا انتفت الكتب الدالة على الإشراك (١)، والرسول الجائي به، فمن أين لهم هذه الشبهة، وهذا في غاية تجهيلهم وتسفيه رأيهم، اهـ "بيضاوي". فالمنفي إنما هو وصف الكتب المذكورة، ووصف النذير المذكور لا أصل الكتب، ولا أصل إرسال الرسول.
وهناك تفسير آخر ذكره الشهاب حاصله (٢): أن المنفي أصل الكتب، وأصل إرسال الرسل، وذلك لأن العرب كانوا في فترة؛ إذ لم يبعث لهم نبي بعد إسماعيل، وقد انقضت رسالته بموته.
وحاصل المعنى على هذا: أنه لا عذر لهم في الشرك، ولا في عدم تصديقك، بخلاف أهل الكتاب، فإن لهم نوع عذر؛ لأن لهم دينًا وكتابًا، فيشق
(٢) الشهاب.
ومعنى الآية: أي إن الدين الصحيح إنما يأتي بوحي من عند الله، وبكتاب يتزل على الرسول، ليبلِّغه للناس، ويبين لهم فيه ما جاء به من الشرائع والآداب والفضائل التي تكون بها سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، وهم أمة أمية لم يأتهم كتاب قبل القرآن، ولم يبعث إليهم رسول قبل محمد، فمن أين أتاهم أن الدين الحق هو الذي يرشد إلى صحة الإشراك بالله، وينفي توحيد الخالق، حتى يكون لهم معذرة فيما يدعون، وحجة على صحة ما يعتقدون، ولا يخفى ما في هذا من التهكم بهم، والتجهيل لهم.
٤٥ - وبعد أن بشر وأنذر وأبان بالحجة والبرهان ما كان فيه المقنع لهم - لو كانوا يعقلون - سلك بهم سبيل التهديد والوعيد، وضرب لهم المثل بالأمم التي كانت قبلهم وسلكت سبيلهم، ولم تجدها الآيات والنذر، فحل بها بأس الله، وأتاها العذاب من حيث لا تحتسب، فقال: ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾؛ أي: من قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية، والقرون المتقدمة، كما كذبك قومك من قريش. ﴿وَمَا بَلَغُوا﴾؛ أي: وما بلغ كفار مكة، وما وصلوا ﴿مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾؛ أي: عشر ما أعطينا أولئك المتقدمين من قوة الأجسام، وكثرة الأموال والأولاد، وطول الأعمال، فأهلكهم الله تعالى كعاد وثمود، فالمعشار: بمعنى العشر، كالمرباع بمعنى: الربع، وقيل: الضمير في ﴿بَلَغُوا﴾ لكفار الأمم الماضية، والمعنى عليه: وما بلغ أولئك المتقدمون عشر ما آتينا هؤلاء المكذبين لك من البينات والهدى، والأول أولى، وقيل: إن المعنى: ما بلغ من قبلهم معشار ما آتينا هؤلاء من البينات والهدى والعلم والحجة والبرهان؛ أي: وما بلغ الذين من قبلهم من الأمم معشار ما أعطينا قوم محمد - ﷺ - من البيان والبرهان، فإن محمدًا أفضل من جميع الرسل وأفصح، وبرهانه أوفى، وبيانه أشفى، وكتابه أكمل من سائر الكتب وأوضح، ثم إن المتقدمين لما كذَّبوا الكتب والرسل.. أنكر عليهم، وكيف لا أنكر على هؤلاء الأمة، وقد كذبوا بأفصح الرسل وأوضح السبل. اهـ "المراح". ﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي﴾ معطوف على ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ على طريق التفسير والتفصيل، كقوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا﴾ إلخ، وما بينهما حال، أو اعتراض، اهـ "أبو
وعبارة "الشوكاني": والأولى أن يكون من عطف الخاص على العام؛ لأن التكذيب الأول لما حذف منه المتعلق للتكذيب.. أفاد العموم، فمعناه: كذبوا الكتب المنزلة، والرسل المرسلة، والمعجزات الواضحة، وتكذيب الرسل أخص منه، وإن كان مستلزمًا له، فقد روعيت الدلالة اللفظية، لا الدلالة الالتزامية. وقوله: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ معطوف على محذوف، قدَّره البيضاوى بقوله: فحين كذبوا رسلي.. جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال، فكيف كان نكيري لهم؛ أي: إنكاري عليهم؛ أي: هو واقع موقعه، فهو في غاية العدل، خالٍ عن الجور والظلم، فأي شيء خطر هؤلاء، بجنب أولئك، فليحذروا من مثل ذلك بتصديق محمد - ﷺ -، والنكير: اسم مصدر بمعنى الإنكار؛ أي: إنكار المنكر وإزالته بالعقوبة في الدنيا، جعل تدميرهم إنكارًا تنزيلًا للفعل منزلة القول، كما في قول الشاعر:
وَنَشْتُمُ بِالأفْعَالِ لَا بِالتَّكَلُّمِ
اهـ "شهاب".
قال أبو حيان (١): ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ تعظيم للأمر، وليست استفهامًا مجردًا، وفيه تهديد لقريش؛ أي: إنهم معرضون لنكير مثله، والنكير: مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعل، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، وحذفت الياء من نكير تخفيفًا؛ لأن الكسرة أجزأت عنها.
ومعنى الآية (٢): أي ولقد كان فيمن قبلهم من الأمم البائدة، والقرون الخالية قوم نوح وعاد وثمود، وقد بلغوا من القوة والبأس ما لم يبلغوا معشاره، فكذبوا رسلي حين أرسلوا إليهم، فحل بهم النكال والوبال، ودمروا تدميرًا، ولم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا، وإنهم ليشاهدون آثارهم في حلهم وترحالهم، في غدوهم ورواحهم، كما قال في آية أخرى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧)
(٢) المراغي.
والخلاصة: أن فيما حل بمن قبلهم من المثلات نكالًا لهم على تكذيبهم رسلهم لعبرة لهم لو كانوا يعقلون،
٤٦ - ثم أطال لهم الحبل، ومد لهم الباع، وأنصفهم في الخصومة فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين، ﴿إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾؛ أي: ما أذكركم وما أنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ﴿أَنْ تَقُومُوا﴾ من مجلس رسول الله - ﷺ -، وتتفرقوا من مجمعكم عنده، فالقيام على حقيقته بمعنى القيام على الرجلين ضد الجلوس، ويجوز أن يكون بمعنى القيام بالأمر، والاهتمام بطلب الحق، والمعنى: إنما أعظكم بخصلة واحدة إن فعلتموها أصبتم الحق، وتخلصتم إليه، وهي أن تقوموا. ﴿لِلَّهِ﴾؛ أي: لوجه الله تعالى، وطلب رضاه خالصًا، لا لحمية ولا عصبية ولا للمراء والرياء والتقليد، بل لطلب ظهور الحق حال كونكم متفرقين ﴿مَثْنَى﴾؛ أي: اثنين اثنين ﴿و﴾ متفرقين ﴿فُرَادَى﴾؛ أي: فردًا فردًا واحدًا واحدًا ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ معطوف على ﴿تَقُومُوا﴾؛ أي: ثم تتدبروا وتتأملوا في أمر محمد - ﷺ -، وما جاء به، فتعلموا ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ﴾ محمد - ﷺ - ﴿مِنْ جِنَّةٍ﴾؛ أي: من جنون يحمله على دعوى النبوة العامة، كما ظننتم، وفائدة التقييد (١) بالاثنين والفرادى: أن الاثنين إذا التجأ إلى الله تعالى، وبحثا طلبًا للحق مع الإنصاف.. هُدِيا إليه، وكذا الواحد إذ تفكر في نفسه مجردًا عن الهوى بخلاف كثرة الجمع، فإنه يقل فيها الإنصاف غالبًا، ويكثر الخلاف، ويثور غبار الغضب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب.
وفي تقديم ﴿مَثْنَى﴾ إيذان بأنه أوفق وأقرب من الاطمئنان، فإن الاثنين إذا قعدا بطريق المشاورة في شأن الرسول - ﷺ - وصحة نبوته، من غير هوى وعصبية، وعرض كل منهما محصول فكره على الآخر.. أدى النظر الصحيح إلى التصديق، ويحصل العلم على العلم. قال الشاعر:
إِذَا اجْتَمَعُوا جَاؤُوا بِكُلِّ غَرِيْبَةٍ | فَيَزْدَادُ بَعْضُ الْقَومِ مِنْ بِعْضِهِم عِلْمَا |
(٢) الخازن.
والمعنى (١): أي قل لهم يا محمد: إني أرشدكم أيها القوم، وأنصح لكم أن لا تبادروا بالتكذيب عنادًا واستكبارًا، بل اتئدوا وتفكروا مليًّا فيما دعوتكم إليه، وجدّوا واجتهدوا في طلب الحق خالصًا؛ إما واحدًا فواحدًا، وإما اثنين فاثنين، لعلكم تصلون إلى الحق، وتهتدون إلى قصد السبيل، وتكونون قد أنصفتم الحقيقة، وأمطتم الحجب التي غشّت أبصاركم، ورانت على قلوبكم، فلم تجعل للحق منفذًا.
وإنما طلب إليهم التفكر، وهم متفرقون اثنين اثنين، أو واحدًا فواحدًا؛ لأنّ في الازدحام تهويش الخاطر، والمنع من إطالة التفكير، وتخليط الكلام، وقلة الإنصاف، وفيما يشاهد كل يوم من الاضطراب، وتبلبل الأفكار في الجماعات الكثيرة حين الجدل والخصومة، ما يؤيد صدق هذا، ثم أبان لهم أن نتيجة الفكر ستؤدي بهم إلى أن يعترفوا بما يرشد إليه النظر الصحيح، فقال: ﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ إذ ما جاء به من ذلك الأمر العظيم الذي فيه سعادة البشر في دنياهم وآخرتهم لا يتصدّى لادعائه إلا أحد رجلين؛ إما مجنون لا يبالي بافتضاحه حين مطالبته بالبرهان وظهور عجزه، وإما نبيّ مؤيد من عند الله بالمجعزات الدالة على صدقه، وإنكم قد علمتم أن محمدًا أرجح الناس عقلًا، وأصدق الناس قولًا، وأزكاهم نفسًا، وأجمعهم للكمال النفسي والعقلي، فوجب عليكم أن تصدّقوه في دعوته، وقد قرنها بالمعجزات الدالة على ذلك، وفي التعبير بصاحبكم إيماء إلى أنه معروف لهم، مشهور لديهم، فهو قد نشأ بين ظهرانيهم، وعلموا ما له من صفات الفضل
وإذا استبان بالدليل أنَّه ليس بالمجنون في كل ما يقول ويدّعي.. اتضح أنه صادق، كما قال سبحانه: ﴿إِن﴾؛ أي: ما ﴿هُوَ﴾؛ أي: صاحبكم ﴿إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ﴾؛ أي: مخوّف لكم بلسان ينطق بالحق، ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾؛ أي: قدام عذاب الآخرة، إن عصيتموه؛ لأنه مبعوث في نسم الساعة؛ أي: أوّلها وقربها، وذلك لأنّ النسم النفس، ومن قرب منك يصل إليك نفسه، وقيل: المعنى: أي (١): ما محمد إلا رسول مخوف لكم بعذاب حاضر يمسكم عن قريب قبل عذاب شديد في الآخرة إن لم تؤمنوا به؛ أي: ما هذا الوصول بالكاذب، بل هو نذير لكم بعقاب الله حين تقدمون عليه لكفركم به وعصيانكم أمره، وإنما جعل إنذاره بين يدي عذاب شديد؛ لأنّ محمدًا - ﷺ - مبعوث قرب الساعة، كما جاء في الحديث: "بعثت أنا والساعة جميعًا إن كادت لتسبقني".
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: صعد النبي - ﷺ - الصفا ذات يوم، فقال: "يا صباحاه"، فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك؟ فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبّحكم أو يمسيكم، أما كنتم تصدّقوني" قالوا: بلى، قال - ﷺ -: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١)﴾.
٤٧ - ولما نفى عن رسوله الجنون، وأثبت له النبوّة.. أمر الله سبحانه رسوله أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا، ولا رغبة فيها، حتى تنقطع عندهم الشكوك، ويرتفع الريب، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿مَا﴾؛ أي: أيُّ شيء ﴿سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: من جُعْلٍ على تبليغ الرسالة ﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾ والمراد: نفي السؤال بالكلية؛ أي: لا أسالكم على إنذاركم أجرًا، كقول من قال لمن لم يعطه شيئًا: إن أعطيتني شيئًا.. فخذه، وقال بعضهم؛ لما نزل قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾.. قال عليه السلام لمشركي مكة: "لا تؤذوني في قرابتي"، فكفوا عن ذلك، فلما سبّ آلهتهم.. قالوا لم ينصفنا يسألنا أن لا نؤذيه في قرابته، وهو يؤذينا بذكر آلهتنا بسوء، فنزل: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ﴾
ومعنى الآية: أي قل لهم يا محمد: إني لا أريد منكم أجرًا ولا عطاءً على أداء رسالة ربي إليك، ونصحي لكم، وأمري بعبادته، إنما أطلب ثواب ذلك من الله تعالى، وهو العلم بجميع الأشياء، فيعلم صدقي وخلوص نيتي، وإذا علم أن الذي حمله على ركوب الصعاب واقتحام الأخطار ليس أمرًا دنيويًا.. ثبت أن الذي حفزه عليها هو أمر الله تعالى له، وقد صدع به: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ وبهذا ثبت أنه نبيّ،
٤٨ - ولما استبان أنه ليس بالمجنون، ولا هو بطالب الدنيا.. عُلِم أن الذي جاء به هبط إليه من السماء، وقذف به الوحي إليه، وأمره أن يبلغه إليهم، كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمن أنكر التوحيد والرسالة: ﴿إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ﴾ ويرمي ﴿بِالْحَقِّ﴾ أي: بالوحي على من يشاء من عباده؛ أي: يلقي الوحي وينزله على من يجتبيه من عباده، فالاجتباء ليس لعلة، والاصطفاء ليس لحيلة، والمعنى: أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله، أو المعنى: يرمي بالحق الباطل فيدمغه ويزيله.
﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ قرأ الجمهور (٢): ﴿عَلَّامُ﴾ بالرفع، والظاهر: أنه خبر ثانٍ لـ ﴿أَنِ﴾، وقيل: خبر لمبتدأ محذوف، وقيل: بل من الضمير المستكن في ﴿يَقْذِفُ﴾، وقرأ عيسى بن عمرو ابن أبي إسحاق وزيد بن علي وابن أبي عبلة وأبو حيوة وحرب عن طلحة: بالنصب نعتًا لاسم ﴿إِن﴾، أو بدلًا منه، أو على المدح، قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر، كقوله: ﴿إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾
(٢) البحر المحيط.
أي: عالم (١) بكل ما غاب عن خلقه في السموات والأرض، قولًا كان أو فعلًا أو غيرهما، وفي "التأويلات": إنما ذكر الغيوب بلفظ الجمع؛ لأنه عالم بغيب كل أحد، وهو ما في ضمير كل أحد، وأنه تعالى عالم بما يكون في ضمير أولاد كل أحد إلى يوم القيامة، وإنما قال علّام بلفظ المبالغة ليتناول علم معلومات الغيوب في الحالات المختلفة كما هي بلا تغيّر في العلم عند تغير المعلومات من حال إلى حال، بحيث لا يشغله شأن حال عن حال.
والمعنى: أي قل يا محمد لمن أنكر التوحيد ورسالة الأنبياء والبعث: إنّ ربّي يلقي الوحي وينزله على قلب من يجتبيه من عباده، وهو العلم بمن يصطفيهم، كما قال سبحانه: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾، وقال: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، وقد يكون المعنى كما روي عن ابن عباس: إنّ ربي يقذف الباطل بالحق؛ أي: يورده عليه، حتى يبطله ويزيل آثاره، ويشيع الحق في الآفاق، ولا يخفى ما في هذا من عدة بإظهار الإِسلام ونشره بين الناس، وتبلُّج نوره في الكون، ونحوه: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ﴾
٤٩ - ثمّ أكد ما سلف بأمر رسوله - ﷺ - أن يخبر قومه بأنّ الإِسلام سيعلو على سائر الأديان، وأن غيره سيضمحل ويزول، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾؛ أي: الإِسلام والتوحيد، وزال الشرك وذهب ﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ﴾ الجديد من الإبداء، بمعنى الابتداء والاستئناف؛ أي: وما يظهر الباطل الجديد الذي لم يسبق ﴿وَمَا يُعِيدُ﴾ الباطل القديم الذي سبق بعد ذهابه من الإعادة بمعنى العود؛ أي: وما يعود الباطل القديم الذي اتصف به المشركون أولًا؛ أي: ذهب الباطل ذهابًا لم يبقَ منه إقبال ولا إدبار، ولا إبداء ولا إعادة.
روى ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - ﷺ - دخل مكة، وحول الكعبة ثلاث مئة وستون صنمًا، فجعل يطعهنا بعود في يده، ويقول: " ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١)﴾، ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩)﴾ ".
والمعنى: أي قل (٢): جاء الإِسلام، ورفعت رايته، وعلا ذكره، وذهب الباطل، فلم تبقَ منه بقيّة تبدىء شيئًا أو تعيده، وأصله في هلاك الحيّ، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداءٌ؛ أي: فعل أمر ابتداء ولا إعادة؛ أي: فعله ثانيًا، وأنشدوا لعبيد بن الأبرص.
أَقْفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ | فَالْيَوْمَ لَا يُبْدِيء وَلَا يُعِيْدُ |
وفيه (٣): إشارة إلى أنّ منشأ الضلالة نفس الإنسان، فإذ أوكلت النفس إلى
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
روى الشيخان عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا قريبًا مجيبًا".
والخلاصة: أنّ الخير كله من الله، وفيما أنزله عليَّ من الوحي والحق المبين،
٥١ - ثم ذكر سبحانه حالًا من أحوال الكفار، فقال: ﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد، أو يا من يفهم الخطاب، ويليق به ﴿إِذْ فَزِعُوا﴾؛ أي: حين يفزع الكفار ويخافون مما نزل بهم، قيل (١): المراد: فزعهم عند نزول الموت بهم، وقال الحسن: هو فزعهم في القبور من الصيحة، وقال قتادة: هو فزعهم إذا خرجوا من قبورهم، وقال السدي: هو فزعهم يوم بدر حين ضربت أعناقهم بسيوف الملائكة، فلم يستطيعوا فرارًا، ولا رجوعًا إلى التوبة، وقال ابن مغفّل: هو فزعهم إذا عاينوا عقاب الله يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير: هو فزعهم من الخسف الذي يخسف بهم في البيداء، فيبقى رجل منهم، فيخير الناس بما لقي أصحابه فيفزعون.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ ثمانين ألفًا - وهم السفيانيّ وقومه - يخرجون في آخر الزمان، فيقصدون بالكعبة ليخرّبوها، فإذا دخلوا البيداء، وهي أرض ملساء بين الحرمين - كما في "القاموس" - خسف بهم، فلا ينجو منهم إلَّا
﴿فَلَا فَوْتَ﴾ لهم من عذاب الله، ولا نجاة بهرب، أو بتحصن، ويدركهم ما فزعوا منه ﴿وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار، أو من صحراء بدر إلى قليبها؛ أي: بئرها القديمة، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم، وحيث كانوا، فهم قريب من الله، والجملة معطوفة على فزعوا؛ أي: ولو ترى يا محمد إذ يفزع الكفار، فلا يفوتني أحد منهم، ويؤخذون من مكان قريب.. لرأيت أمرًا فظيعًا، وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَلَا فَوْتَ﴾ مبنيًا على الفتح، و ﴿أُخِذُوا﴾ فعلًا ماضيًا، والظاهر: عطفه على ﴿فَزِعُوا﴾، وقيل: على ﴿فَلَا فَوْتَ﴾؛ لأن معناه: فلا يفوتوا وأخذوا، وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه وطلحة: ﴿فَلَا فَوْتَ﴾، و ﴿أخذ﴾ مصدرين منوّنين، وقرأ أبي: ﴿فَلَا فَوْتَ﴾ مبنيًا، و ﴿أخذ﴾ مصدرًا منوّنًا، ومن رفع ﴿أخذ﴾.. فخبر مبتدأ؛ أي: وحالهما أخذ، أو مبتدأ؛ أي: وهناك أخذ، ذكره أبو حيان؛ أي: ولو رأيت أيها الرسول هؤلاء المكذبين حين يفزعون مما رأوا من العذاب الشديد.. لرأيت من الأمر ما يعجز القول عن وصفه، فهم لا يمكنون من الهرب، ولا يفوتون ذلك العذاب، ولا يجدون ملجأ ولا مأوى يبتعدون فيه، ويؤخذون حين الفزع من مكان قريب؛ أي: من الموقف إلى النار، ولم يمكَّنوا أن يُمْعِنوا في الهرب.
وفي "الفتوحات": وقوله: ﴿وَأُخِذُوا﴾، وقوله: ﴿وَقَالُوا﴾، وقوله: ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ﴾ الثلاثة معطوفة على ﴿فَزِعُوا﴾، والأربعة بمعنى الاستقبال، وعبّر فيها بالماضي لتحقق الوقوع. اهـ "شيخنا".
٥٢ - ﴿وَقَالُوا﴾؛ أي: ويقول الكفار عند معاينة العذاب في
(٢) البحر المحيط.
والتناوش: التناول السهل، وقال ابن عباس: التناوش: الرجوع إلى الدنيا، وقرأ الجمهور: ﴿التَّنَاوُشُ﴾ بالواو، وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وأبو بكر: بالهمزة، ويجوز أن يكونا مادّتين إحداهما النون والواو والشين، والأخرى النون والهمزة والشين، وسيأتي البحث عنه في المفردات.
٥٣ - وجملة قوله: ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ﴾؛ أي: بمحمد، أو بالعذاب الشديد الذي أنذرهم إياه، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل ذلك اليوم في وقت التكليف في محل نصب على الحال من فاعل ﴿قَالُوا﴾؛ أي: وقالوا آمنا به، والحال أنهم قد كفروا بما آمنوا به الآن من قبل هذا الوقت، وذلك حال كونهم في الدنيا.
يعني: تابوا وقد أغلقت الأبواب، وندموا وقد تقطعت الأسباب، فليس إلا الخسران والندم والعذاب والألم.
فَخَلِّ سَبِيْلَ الْعَيْنِ بَعْدَكَ لِلْبُكَا | فَلَيْسَ لأَيَّامِ الصَّفَاءِ رُجُوْعُ |
وإما معطوف على ﴿قَالُوا﴾؛ أي: ويقولون: آمنا به، ويقذفون بالغيب الخ، بناء على أنه تمثيل لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدنيا.
وقيل: هو مستأنف؛ أي: يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسًا إيمانها، فمثّلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطّلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم: آمنّا في الآخرة، وذلك مطلب مستبعد بحال من يقذف شيئًا من مكان بعيد، لا مجال للنظر في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه، لكونه غائبًا عنه بعيدًا.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾ مبنيًا للفاعل على حكاية حال ماضية، وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو: ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾ مبنيًا للمفعول، قال مجاهد: ويرجمهم بما يكرون من السماء، وقال الزمخشري: أي: يأتيهم به؛ أي: بالغيب شياطينهم، ويلقِّنونهم إياه، صوقيل: يرمون في النار، وقال أبو الفضل الرازي: يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون، ومعناه: يجازون بسوء أعمالهم، ولا علم لهم بما أتاهم.
٥٤ - ﴿وَحِيلَ﴾؛ أي: حجز ﴿بَيْنَهُمْ﴾؛ أي أوقعت الحيلولة والمنع بين هؤلاء الكفار ﴿وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ ويحبّون من نفع الإيمان يومئذ، والنجاة به من النار، والفوز بالجنة، وقيل: حيل بينهم وبين ما يشتهون في الدنيا من أموالهم وأهليهم، أو حيل بينهم وما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا، كما حكي عنهم بقوله: ﴿فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا﴾. ﴿كَمَا فُعِلَ﴾ ذلك المنع والحيلولة ﴿بِأَشْيَاعِهِمْ﴾؛ أي: بمن
وقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ﴾ وتهمة مما وجب الإيمان واليقين به، كالتوحيد والبعث ونزول العذاب على تقدير الإصرار، تعليل لما قبله. ﴿مُرِيبٍ﴾ صفة لشك؛ أي: موقع لهم ذلك الشك في الريبة والتهمة من أمر الرسل والبعث والجنة والنار، (١) من: أرابه إذا أوقعه في الريبة، أو ذي ريبة من أراب الرجل إذا صار ذا ريبة، ودخل فيها، وكلاهما مجاز في الإسناد، إلا أن بينهما فرقًا وهو أن المريب من الأول منقول ممن يصلح أن يكون مريبًا من الأشخاص والأعيان إلى المعنى، وهو الشك، أي: يكون صفة من أوقع في الريب حقيقة، وقد جعل في الآية صفة نفس الشك الذي هو معنى من المعاني، والمريب من الثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك؛ أي: إنهم كانوا في شكّ ذي شكّ، كما تقول: شعر شاعر، وعجب عجيب، وإنما الشاعر في الحقيقة صاحب الشعر، وإنما أسند الشاعرية إلى الشعر للمبالغة، وإذا كان حال الكفرة الشك في الدنيا.. فلا ينفعهم اليقين في الآخرة؛ لأنه حاصل بعد معاينة العذاب، والخروج من موطن التكليف، وقد ذمّوا في هذه الآيات بالشكّ والكفر والرجم بالغيب.
والمعنى (٢): أي وحجز بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحًا، كما قال: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا﴾ ثم بين أن هذه سنة الله في أمثالهم ممن كذبوا الرسل من قبلهم، فقال: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: فعلنا بهم كما فعلنا بالأمم الماضية التي كذّبت رسلها، فتمنوا حين رأوا بأس الله أن لو آمنوا، ولكن لم يقبل منهم، ثم علّل عدم قبول إيمانهم حينئذ بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾؛ أي: لأنهم كانوا في الدار الأولى شاكين فيما أخبرت به الرسل من البعث والجزاء، وقد تغلغل الشكّ في قلوبهم حين صاروا لا يطمئنّون إلى شيء مما جاءوا به، وفي (٣)
(٢) المراغي.
(٣) النسفي.
الإعراب
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾.
﴿وَإِذَا﴾: الواو: استئنافية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، مضمّن معنى الشرط، ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغيّر الصيغة، ﴿عَلَيْهِمْ﴾ متعلق بـ ﴿تُتْلَى﴾، ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل لـ ﴿تُتْلَى﴾، ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من ﴿آيَاتُنَا﴾، والجملة الفعلية في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها، والتالي هو النبي عليه الصلاة والسلام ﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ الشرطية مستأنفة لا محل لها من الأعراب ﴿مَا﴾ نافية، ﴿هَذَا﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿رَجُلٌ﴾: خبر المبتدأ والجملة في محل نصب مقول قالوا، وجملة ﴿يُرِيدُ﴾: صفة للرجل، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿يَصُدَّكُمْ﴾: فعل مضارع ومفعول به، وفاعله ضمير يعود إلى ﴿رَجُلٌ﴾، و ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع ما في حيّزها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية لـ ﴿يُرِيدُ﴾؛ أي: يريد صدّكم، ﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَصُدَّكُمْ﴾. ﴿كَانَ﴾: زائدة، أو شأنية، أو ناقصة، ويضمر لها ضمير يعود على الآباء، والمسألة حينئذ من باب التنازع، وأعمل الثاني لقربه، ولو أعمل الأول لقال: يعبدونه، ﴿يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ على القول الأخير، وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة الموصول، ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿قَالُوا﴾ الأول، ﴿مَا﴾: نافية. ﴿هَذَا﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿إِفْكٌ﴾: خبر، ﴿مُفْتَرًى﴾: صفة ﴿إِفْكٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)﴾.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ما قبله، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿لِلْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، ﴿لَمَّا﴾: ظرف بمعنى: حين، متعلق بـ ﴿قَالَ﴾،
﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥)﴾.
﴿وَكَذَّبَ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، أو استئنافية، ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، معطوف على قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، أو مستأنفة، ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور، صلة الموصول، ﴿وَمَا﴾: الواو: حالية، ﴿ما﴾ نافية. ﴿بَلَغُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿مِعْشَارَ﴾: مفعول به، {﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿آتَيْنَاهُمْ﴾ صلة الموصول، والعائد، محذوف تقديره: ما آتيناهموه، وجملة ﴿بَلَغُوا﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿كَذَّبَ﴾، ولكنها حالة سببيّة، ﴿فَكَذَّبُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفسيرية ﴿كذبوا رسلي﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ عطف تفسير، ﴿فَكَيْفَ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة على محذوف تقديره: فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير، فكيف كان نكير، والجملة المحذوفة مستأنفة، ﴿كيف﴾: اسم استفهام للاستفهام التعجّبي في محل النصب خبر كان مقدم عليها وجوبًا، ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص، ﴿نَكِيرِ﴾: اسمها مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة اجتزاء عنها بالكسرة، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة المناسبة، ﴿نَكِيرِ﴾: مضاف، وياء المتكلم المحذوفة في محل الجر مضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿أَعِظُكُمْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر ومفعول به، ﴿بِوَاحِدَةٍ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾، ﴿أَن﴾: حرف نصب ومصدر ﴿تَقُومُوا﴾: فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تَقُومُوا﴾، والجملة الفعلية مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور على كونه عطف بيان من ﴿وَاحِدَة﴾، أو بدل منها، أو مرفوع على كونه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هي قيامكم لله مثنى وفرادي، ﴿مَثْنَى﴾: حال من فاعل ﴿تَقُومُوا﴾، ﴿وَفُرَادَى﴾: معطوف عليه؛ أي: حالة كونكم اثنين اثنين، وفردًا فردًا، ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وترتيب، ﴿تَتَفَكَّرُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿تَقُومُوا﴾، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿بِصَاحِبِكُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿جِنَّةٍ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ﴿تَتَفَكَّرُوا﴾ معلقة عنها بـ ﴿مَا﴾ النافية، ولكنها على إسقاط في، كما في "الشهاب"، ﴿إن﴾: نافية، ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿نَّذِيرٍ﴾: خبر المبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿نَّذِيرٍ﴾، ﴿بَيْنَ﴾: منصوب على الظرفية الاعتبارية، وهو مضاف ﴿يَدَيْ﴾ مضاف إليه مجرور بالياء، وهو مضاف ﴿عَذَابٍ﴾: مضاف إليه ﴿شَدِيدٍ﴾: صفة عذاب، والظرف متعلق بمحذوف حال من ﴿نَّذِيرٍ﴾.
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿مَا﴾: اسم شرط في محل النصب مفعول ثانٍ لـ ﴿سَأَلْتُكُمْ﴾ مقدَّم عليه، ﴿سَأَلْتُكُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها، ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾: حال من ﴿مَا﴾ الشرطية ﴿فَهُوَ﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿هو﴾: مبتدأ، ﴿لَكُمْ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الجزم بـ ﴿مَا﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿مَا﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿أَجْرِيَ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: خبر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾،
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿إِنَّ رَبِّي﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿يَقْذِفُ﴾ خبره، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَقْذِفُ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿عَلَّامُ﴾: خبر ثان لـ ﴿إِنَّ﴾، أو خبر مبتدأ محذوف، ﴿الْغُيُوبِ﴾: مضاف إليه. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة، ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، ﴿وَمَا﴾: الواو: عاطفة، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿يُبْدِئُ الْبَاطِلُ﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿جَاءَ الْحَقُّ﴾، ﴿وَمَا يُعِيدُ﴾: معطوف على ﴿يُبْدِئُ﴾.
﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر وفاعل مستتر، والجلمة مستأنفة، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿ضَلَلْتُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، ﴿فَإِنَّمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿إِنَّمَا﴾: حرف مكفوف وكاف، ﴿أَضِلُّ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد، ﴿عَلَى نَفْسِي﴾: متعلق بـ ﴿أَضِلُّ﴾، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إِنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾، وهي في قوة بنفسي، فيصح مقابلتها مع ما بعدها، ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ﴾: الواو: عاطفة، ﴿إِنْ﴾: حرف شرط، ﴿اهْتَدَيْتُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إِنْ﴾ على كونه فعل شرط لها، ﴿فَبِمَا﴾: ﴿الفاء﴾: رابطة الجواب، ﴿الباء﴾: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية، أو موصولة في محل الجر بالباء، ﴿يُوحِي﴾: فعل مضارع، ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق بـ ﴿يُوحِي﴾، ﴿رَبِّي﴾: فاعل ﴿يُوحِي﴾، والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾ المصدرية، أو الموصولة، والتقدير على الأول: فبسبب إيحاء ربّي إليّ، وعلى الثاني: فبسبب الذي يوحيه إليّ ربي، الجار والمجرور خير لمبتدأ محذوف معلوم مما قبله، تقديره: فاهتدائي كائن بسبب إيحاء ربّي إليّ، أو
﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢)﴾.
﴿وَلَوْ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿لَوْ﴾: حرف شرط غير جازم، ﴿تَرَى﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد، أو على أيِّ مخاطب، و ﴿تَرَى﴾: بصرية مفعولها محذوف ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى متعلق بـ ﴿تَرَى﴾ ﴿فَزِعُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، وجواب ﴿لو﴾ محذوف تقديره: ولو ترى حالهم وقت فزعهم.. لرأيت أمرًا عظيمًا مذهلًا، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة مسوقة لتقرير حال الكفار عند فزعهم، ﴿فَلَا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، أو استئنافية، ﴿لا﴾: نافية للجنس، ﴿فَوْتَ﴾: في محل النصب، وخبرها محذوف، تقدير: فلا فوت كائن لهم، والجملة في محل الجرّ معطوفة على جملة ﴿فَزِعُوا﴾، أو مستأنفة، ﴿وَأُخِذُوا﴾ فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿فَزِعُوا﴾، ﴿مِنْ مَكَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿أخذوا﴾، ﴿قَرِيبٍ﴾: صفة ﴿مكان﴾، ﴿وَقَالُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿فَزِعُوا﴾، ﴿آمَنَّا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿آمَنَّا﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَأَنَّى﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿أَنَّى﴾: اسم استفهام للاستفهام الاستبعاديّ، بمعنى: من أين، أو: كيف، في محل الرفع خبر مقدم، ﴿لَهُمُ﴾: جار ومجرور حال من ﴿التَّنَاوُشُ﴾، ﴿التَّنَاوُشُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿مِنْ مَكَانٍ﴾: متعلق بـ ﴿التَّنَاوُشُ﴾، ﴿بَعِيدٍ﴾: صفة ﴿مَكَانٍ﴾، والجملة الاسمية جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)﴾.
﴿وَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿كَفَرُوا﴾: فعل وفاعل، ﴿بِهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ في محل النصب حال من فاعل ﴿قَالُوا﴾، ﴿وَيَقْذِفُونَ﴾: فعل
التصريف ومفردات اللغة
﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾ الإفك: أشد الكذب، والكذب: ما خالف الواقع. ﴿مُفْتَرًى﴾: المنسوب إلى الله تعالى، فهو تأسيس، لا تأكيد. ﴿إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ والسحر: من سحر يسحر، إذا خدع أحدًا، وجعله مدهوشًا متحيرًا، وهذا إنما يكون بأن يفعل الساحر شيئًا يعجز عن فعله ادراكه المسحور عليه، كما في "شرح الأمالي".
وفي "الفتوحات المكية": السحر: مأخوذ من السحر، وهو ما بين الفجر الأول والفجر الثاني، واختلاطه وحقيقته اختلاط الضوء والظلمة، فما هو بليل لما خالطه من ضوء الصبح، ولا هو بنهار بعدم طلوع الشمس للأبصار، فكذلك ما فعله
﴿مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ والدرس: قراءة الكتاب بإمعان النظر فيه طلبًا لدرك معناه، والتدريس: تكرير الدرس، قال الراغب في "المفردات": درس الشيء، معناه: بقي أثره، وبقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، ولذلك فسر الدروس بالانمحاء، وكذا درس الكتاب، ودرست العلم: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان تناول ذلك بمداومة القراءة.. عبر عن إدامة القراءة بالدرس.
﴿مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ قال في "القاموس": والعشير: جزء من عشرة، كالمعشار والعشر، وتابعه من نقل عنه كالمنجد وغيره، وقال في "الكشاف": والمعشار: كالمرباع، وهما: العشر والربع، وعبارة "البحر": المعشار: مفعال من العشر، ولم يبقَ على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره، وغير المرباع، ومعناهما: العشر والربع، وقال قوم: المعشار: عشر العشر، وقال الماوردي: المعشار هنا: هو عشر العشير، والعشير: هو عشر العشر، فيكون جزءًا من ألف، قال: وهو الأظهر؛ لأن المراد به المبالغة في التقليل، قال الشوكاني: مراعاة المبالغة في التقليل لا يسوغ لأجلها الخروج عن المعنى العربي، وقال الجوهري: معشار الشيء: عشره، كما قاله صاحب "القاموس"، وهذا هو المعنى المعروف المعتبر هنا. ﴿نَكِيرِ﴾ والنكير: مصدر كالإنكار، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل، والفعل على وزن أفعال كالنذير والعذير من أنذر وأعذر، ذكره في "البحر".
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ﴾ الوعظ: زجر يقترن به تخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والعظة والموعظة الاسم. اهـ.
﴿وَفُرَادَى﴾ قال الراغب: الفرد: الذي لا يختلط به غيره، فهم أعم من الوتر، وأخص من الواحد، وجمعه: فرادى انتهى. وفي "المختار": الفرد: الوتر، وجمعه: أفراد، وفرادى بالضم على غير القياس، كأنه جمع فردان.
﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ التفكر: طلب المعنى بالقلب. ﴿مِنْ جِنَّةٍ﴾؛ أي: جنون.
فَهْيَ تَنُوْشُ الْحَوْضَ نَوْشًا مِنْ عُلاَ | نَوْشًا بِهِ تَقْطَعُ أَجْوَازَ الْفَلاَ |
﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ﴾؛ أي: يرجمون بالظنون التي لا علم لهم بها، والعرب تقول لكل من تكلم بما لا يستيقنه: هو يقذف بالغيب. ﴿بِأَشْيَاعِهِمْ﴾؛ أي: بأشباههم ونظرائهم، جمع شيع، وشيع جمع شيعة فالأشياع جمع الجمع، كما في "القرطبي" وشيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم أمرهم واحد يتبع بعضهم رأي بعض فهم شيع.
﴿فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾؛ أي: موقع في الريبة والظنة، يقال: أراب الرجل؛ أي: صار ذا ريبة، فهو مريب، ومن قال: هو من الريب الذي هو الشك والتهمة، قال: يقال شك مريب، كما يقال: عجيب عجيب، وشعر شاعر في التأكيد. اهـ "قرطبي".
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التنكير في قوله: ﴿مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ﴾ للتهكم والتلهي.
ومنها: إضافة الآباء إلى ضمير المخاطبين، لا إلى أنفسهم في قوله: {عَمَّا كَانَ
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إظهارًا للغضب عليهم، ودلالة على أن هذا القول لا يجترىء عليه إلا المتمادون في الكفر، المنهمكون في الغي والباطل، وكان التركيب أن يقال: وقالوا؛ لتقدم المرجع، وفيه تكرار الفعل، وهو قولهم دلالة على الإنكار عليهم.
ومنها: زيادة ﴿مِنْ﴾ الاستغراقية في قوله: ﴿مِنْ كُتُبٍ﴾ لتأكيد النفي.
ومنها: إيراد ﴿كُتُبٍ﴾ بصيغة الجمع تنبيهًا على أنه لا بد لمثل تلك الشبهة من نظائر الأدلة.
ومنها: الطباق بين ﴿مَثْنَى﴾ ﴿وَفُرَادَى﴾ فهو طباق بديع أُتي به احترازًا من القيام جماعة؛ لأن في الاجتماع تشويشًا للخواطر.
ومنها: الاستعارة في قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ استعار لفظ اليدين لما يكون من الأهوال والشدائد أمام الإنسان.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ فإنه كناية عن زهوق الباطل ومحو أثره؛ لأنه إذا هلك لم يكن له إبداء ولا إعادة.
ومنها: التعبير بالماضي عن المستقبل في قوله: ﴿إِذْ فَزِعُوا﴾؛ لأن المستقبل بالنسبة إلى الله تعالى كالماضي في تحققه.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ شبه طلبهم ما لا يكون، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة، كما يتناوله الآخر من مقياس ذراع تناولًا سهلًا لا تعب فيه في الاستحالة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية أيضًا في قوله: ﴿وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ تقريرها: أنه شبه حالهم في ذلك؛ أي: في قولهم آمنا به؛ حيث لا ينفعهم الإيمان، بحال من رمى شيئًا من مكان بعيد، وهو لا يراه، فإنه لا يتوهم إصابته، ولا لحوقه لخفائه عنه، وغاية بعده.
ومنها: حكاية الحال الماضية في قوله: ﴿يَقْذِفُونَ﴾ حيث عبر عن الماضي بلفظ المضارع.
ومنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿مُرِيبٍ﴾ لما فيه من الإسناد إلى الشيء ما لصاحبه؛ لأن الريب صفة للشاك، فأسند إلى الشك إسنادًا مجازيًا لقصد المبالغة.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على الأمور التالية:
١ - حمد الله سبحانه وتعالى، والثناء عليه بما هو أهله.
٢ - مقال المشركين في إنكار البعث، والرد عليهم بأنه آتٍ لا شك فيه.
٣ - الاستهزاء بالرسول، وحكمهم عليه بأنه إما مفتري، وإما مجنون.
٤ - النعم التي آتاها سبحانه داود وسليمان عليهما السلام.
٥ - ما كان لسبأ من النعم، ثم زوالها لكفرانهم بها، واتباعهم وسوسة الشيطان.
٦ - النعي على المشركين لعبادتهم الأوثان والأصنام مع بيان أنها لا تفيدهم يوم القيامة شيئًا.
٧ - الحجاج والجدل بين الأتباع والمتبوعين من الكافرين يوم القيامة، وإلقاء كل منهما التبعة على الآخر.
٨ - بيان أن المترفين في كل أمة هم أعداء الرسل لاعتزازهم بأموالهم وأولادهم، واعتقادهم أنهم ما آتاهم ربهم ذلك إلا لرضاه عنهم، ثم رده سبحانه عليهم.
٩ - سؤال الملائكة أمام المشركين بأنهم هل طلبوا منهم عبادتهم ليكون في ردهم ما يكفي في تبكيتهم.
١٠ - مقال المشركين عند سماع القرآن، وادعاؤهم أنه ليس بوحي من عند الله تعالى، بل الداعي مفتر ليصد الناس عن دين الإباء والأجداد.
١١ - عظتهم بما حل بمن قبلهم من الأمم.
١٢ - أمرهم بالتأمل والتدبر في الأدلة التي أمامهم لعلهم يرعوون عن غيهم.
١٣ - إثبات أن الرسول نذير مبين لا مفتر ولا مجنون.
١٤ - كون الرسول لا يطلب أجرًا على دعوته، بل أجره على الله سبحانه وتعالى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
ولما فرغت منها.. تفرغت لتفسير سورة الملائكة بقدر طاقتي مع كثرة العوائق والمعائق والعوانق، وأسأل الله سبحانه وتعالى صرف العوارض والحواجز عني، والتيسير والتسهيل لأوضح المسالك، والتوفيق لما هو المعنى لكتابه في الواقع، إنه الكريم الجواد، والهادي إلى سبيل الرشاد، والموفق لطريق الصواب والسداد، والمسؤول لكل مأمول، والمرجو لفتح أبواب القبول، ونسأله أن يختم أعمالنا بالصالحات، وأعمارنا بالشهادات، وأن يجعل مآبنا إلى فراديس الجنات آمين آمين يا رب العالمين.
سورة فاطر، وتسمى سورة الملائكة أيضًا، مكية، نزلت بعد سورة الفرقان، قال القرطبي: في قول الجميع. وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه، والبيهقي في "الدلائل" عن ابن عباس قال: أنزلت سورة فاطر بمكة.
وعدد آياتها: خمس وأربعون آية، وعدد كلماتها: تسع مئة وسبع وتسعون كلمة، وعدد حروفها: ثلاثة آلاف ومئة وثلاثون حرفًا.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الملائكة جميعها محكم إلا قوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣)﴾ الآية (٢٣) نسخ معناها، لا لفظها بآية السيف. انتهى.
المناسبة: ومناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها (١): أنه سبحانه وتعالى لما ذكر في آخر سابقتها هلاك المشركين، وإنزالهم منازل العذاب.. لزم المؤمنين حمده تعالى وشكره، كما جاء في قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)﴾.
وعبارة أبي حيان هنا (٢): مناسبة هذه السورة للسورة التي قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين أعداء المؤمنين، وإنزالهم منازل العذاب.. تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه، ووصفه بعظيم آلائه، كما في قوله: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)﴾، وقال أيضًا عند قوله: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا﴾، فأول هذه السورة تتصل بآخر السابقة؛ لأن قوله: ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ﴾ بيان لانقطاع رجاء من كان في شك مريب، ولما ذكر حالهم ذكر حال المؤمنين وبشّرهم بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وأنه يفتح لهم أبواب الرحمة. انتهى.
(٢) البحر المحيط.
التسمية: سميت بسورة فاطر أو بسورة الملائكة لذكرهما فيها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (٨) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١١) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤)﴾.المناسبة
قوله تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف نفسه بالقدرة الكاملة والإرادة النافذة.. أيد ذلك بما
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أنه وحده هو المنعم بما يشاهده كل أحد في نفسه.. أمر بذكر نعمه بالاعتراف بها والشكر لها.
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلا: أن الله سبحانه لما ذكر الأصل الأول وهو التوحيد.. ثنى بذكر الأصل الثاني وهو الرسالة، وسلى رسوله على تكذيب قومه له بأنه ليس ببدع بين الرسل، فقد كذب كثير منهم قبله، فعليه أن يتأسى بهم ويصبر على أذاهم، ثم ذكر الأصل الثالث، وهو البعث والنشور مع بيان أنه حق لا شك فيه، وأنه لا ينبغي أن يقبلوا فيه وساوس الشيطان، فإنه عدو لبني آدم، ولا يرشدهم إلا إلى الذنوب والآثام التي توصلهم إلى عذاب النار وبئس القرار.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما بين أن الشيطان يضل أتباعه ويدعوهم إلى النار.. ذكر هنا أن حزب الشيطان لهم العذاب الشديد، وأن حزب الله لهم المغفرة والأجر الكبير، ثم بين أن الضلال والهداية بيد الله بحسب ما يعلم من الاستعداد وصفاء النفوس وقبول الهداية، أو تدسيتها وارتكابها الأجرام والمعاصي، فلا تحزن على ما ترى من ضلال قومك واتباعهم لوساوس الشيطان، والله عليم بحالهم، وسيجازيهم بما يستحقون.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها (١): أن الله سبحانه لما ذكر أن الكافرين لهم عذاب شديد يوم القيامة، وأن الذين يعملون الصالحات لهم أجر كبير عند ربهم في ذلك اليوم.. أردف ذلك ببيان أن هذا اليوم لا ريب فيه، وضرب المثل الذي يدل على تحققه لا محالة، ثم ذكر أن من يريد العزة.. فليطع الله ورسوله، ولا يتعزز بعبادة
قوله تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر الأدلة على إثبات البعث، وضرب المثل لذلك بإحياء الأرض الميتة بعد إنزال الغيث عليها.. أردف هذا بذكر البراهين المختلفة على وحدانيته وعظيم قدرته بخلقه الأشياء المتحدة في الجنس المختلفة في المنافع، فهذا ماء عذب زلال يجري في الأقاليم والأمصار والبراري والقفار، يسقي منه الإنسان والحيوان، وينبت النبات الذي فيه غذاء لهما، وهذا ماء ملح أجاجٍ تسير فيه السفن الكبار، ويستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، ومن كل منهما تأكل لحمًا طريًا فيه لذة للآكلين، وهذان ليل ونهار ضياء وظلام، يدخل أحدهما في الآخر، فأخذ هذا من طول ذاك، ويزيد هذا في قصر ذاك، فيعتدلان، ثم يتقارضان صيفًا وشتاءً، وسخر الشمس والقمر والنجوم الثوابت والسيارات بمقدار معين، وعلى نهج ثابت لا يتغير، وكل ذلك بتقدير العزيز العلم.
أما ما تدعون من دونه من الأصنام والأوثان.. فلا يملكون شروى نقير، ولا يسمعون لكم دعاءً، ولا يستجيبون لدعوة، ويوم القيامة يتبرؤون منكم إذا دعوتموهم واستشفعتم بهم، ولا ينبئك بهذا إلا الخبير، وهو ربك العلم بما كان وما سيكون.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أنزلت هذه الآية