تفسير سورة الأحقاف

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الأحقاف
مكية عددها خمس وثلاثون آية كوفي

﴿ حـمۤ ﴾ [آية: ١] ﴿ تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ ﴾ يقول قضاء نزول الكتاب يعني القرآن ﴿ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ﴾ في ملكه ﴿ ٱلْحَكِيمِ ﴾ [آية: ٢] في أمره.
﴿ مَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ ﴾ يعني الشمس والقمر والنجوم والسحاب والرياح ﴿ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ ﴾ لم أخلقها باطلاً لغير شىء خلقتهما لأمر هو كائن، ثم قال: ﴿ وَأَجَلٍ مُّسَمًى ﴾ يقول خلقتهم لأجل مسمى ينتهي إليه، يعني يوم القيامة، فهو الأجل المسمى. ثم قال: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة ﴿ عَمَّآ أُنذِرُواْ ﴾ في القرآن من العذاب ﴿ مُعْرِضُونَ ﴾ [آية: ٣] فلا يتفكرون.
﴿ قُلْ ﴾ يا محمد لأهل مكة ﴿ أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ ﴾ يعني تعبدون ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ من الآلهة، يعني الملائكة ﴿ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾ يعني الأرض كخلق الله إن كانوا آلهة، ثم قال: ﴿ أَمْ لَهُمْ ﴾ يقول: ألهم ﴿ شِرْكٌ ﴾ من الله ﴿ فِي ﴾ ملك ﴿ ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ كقوله:﴿ مَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ ﴾[سبأ: ٢٢] ﴿ ٱئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَـٰذَآ أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ ﴾ يقول: أو رواية " تعلمونها " من الأنبياء قبل هذا القرآن بأن له شريكاً ﴿ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آية: ٤] يعني اللات والعزى ومناة بأنهن له شركاء.
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ ﴾ يقول: فلا أحد أضل ممن يعبد ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ من الآلهة ﴿ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ ﴾ أبداً إذا دعاء يقول: لا تجيبهم الآهلة يعني الأصنام بشىء أبداً ﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾.
ثم قال: ﴿ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ ﴾ [آية: ٥] يعني الآلهة غافلون عن من يعبدها، فأخبر الله عنها في الدنيا.
ثم أخبر في الآخرة، فقال: ﴿ وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ ﴾ في الآخرة يقول: إذا جمع الناس في الآخرة ﴿ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً ﴾ يقول كانت الآلهة أعداء لمن يعبدها ﴿ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [آية: ٦] يقول: تبرأت الآلهة من عبادتهم إياها، فذلك قوله:﴿ فَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً ﴾إلى قوله:﴿ لَغَافِلِينَ ﴾في يونس [الآية: ٢٩].
قوله: ﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ بَيِّنَاتٍ ﴾ يقول: بيان الحلال والحرام ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة ﴿ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٧].
يقول: القرآن حين جاءهم قالوا: هذا سحر مبين.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ ﴾ وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا القرآن إلا شىء ابتدعته من تلقاء نفسك؟ أيعجز الله أن يبعث نبياً غيرك؟ وأنت أحقرنا وأصغرنا وأضعفنا ركناً وأقلنا حيلة، أو يرسل ملكاً، إن هذا الذي جئت به لأمر عظيم، فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ لهم: يا محمد ﴿ إِنِ ٱفْتَرَيْتُهُ ﴾ من تلقاء نفسى ﴿ فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ يقول: لا تقدرون أن تردونى من عذابه ﴿ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ يقول: الله أعلم بما تقولون في القرآن ﴿ كَفَىٰ بِهِ شَهِيداً ﴾ يقول: فلا شاهد أفضل من الله ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ بأن القرآن جاء من الله ﴿ وَهُوَ ٱلْغَفُورُ ﴾ في تأخير العذاب عنهم ﴿ ٱلرَّحِيمُ ﴾ [آية: ٨] حين لا يعجل عليم بالعقوبة. وأنزل في قول كفار مكة أما وجد الله رسولاً غيرك.
قوله تعالى: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد ﴿ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ما أنا بأول رسول بعث، قد بعث قبلي رسل كثير ﴿ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ ﴾ أيرحمنى وإياكم، أو يعذبني وإياكم ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ ﴾ يقول: ما أبتع ﴿ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ﴾ من القرآن يقول: إذا أمرت بأمر فعلته، ولا أبتدع ما لم أمر به ﴿ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٩]، يعني نذير بين هي منسوخة نسختها: ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ إلى آخر الآيات.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾ وذلك" أن خمسين رجلاً من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن سلاّم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهود: " ألستم تعلمون أن عبدالله بن سلام سيدكم وأعلمكم؟ " قالوا: بلى ومنه نقتبس، وإنا لا نؤمن بك حتى يتبعك عبدالله بن سلام، وعبدالله بن سلام يسمع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أرأيتم إن اتبعني عبدالله بن سلام وآمن بي أفتؤمنون بي؟ " فقال بعضهم: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فمن أعلمكم بعد عبدالله بن سلام "، فأتاه، فقال: " أنت أعلم اليهود "، فقال عبدالله: أعلم مني، قال: " فمن أعلم اليهود بعد عبدالله؟ " فسكت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنت أعلم اليهود بعد عبدالله "، قال: كذلك يزعمون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " فإنى أدعوكم إلى الله وإلى عبادته ودينه "، قالوا: لن نتبعك وندع دين موسى، فخرج عبدالله بن سلام من الستر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " هذا عبدا لله قد آمن بي "، فجادلهم عبدالله بن سلام ملياً، فجعل يخبرهم ببعث النبي صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة، فقال ابن صوريا: إن عبدالله بن سلام شيخ كبير قد ذهب عقله ما يتكلم إلا بما يجىء على لسانه، فذلك قوله: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾.
﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ يعني عبدالله بن سلاّم ﴿ عَلَىٰ مِثْلِهِ ﴾ يعني على مثل ما شهد عليه يامين بن يامين، كان أسلم قبل عبدالله بن سلام وكان يامين من بنى إسرائيل من أهل التوراة ﴿ فَآمَنَ ﴾ بالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: فأمن ﴿ وَٱسْتَكْبَرْتُمْ ﴾ يقول صدق ابن سلام بالنبي صلى الله عليه وسلم واستكبرتم أنتم عن الهدى عن الإيمان يعني اليهود ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٠] يعني اليهود إلى الحجة مثلها في برءاة.
ثم رجع إلى كفار مكة فقال: ﴿ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة ﴿ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ لخزاعة ﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ وذلك أنهم قالوا لو كان الذي جاء به محمد حقاً: أن القرآن من الله ما سبقونا يقول ما سبقنا إلى الإيمان به أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ ﴾ هم ﴿ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ ﴾ القرآن ﴿ إِفْكٌ ﴾ يعني كذب ﴿ قَدِيمٌ ﴾ [آية: ١١] من محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الله تعالى: ﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىٰ ﴾ ومن قبل هذا القرآن كذبوا بالتوراة لقولهم﴿ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ ﴾في القصص [القصص: ٤٨]، ثم قال: ﴿ إِمَاماً ﴾ لمن اهتدى به ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ من العذاب لمن اهتدى به ﴿ وَهَـٰذَا ﴾ القرآن ﴿ كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ ﴾ للكتب التي كانت قبله ﴿ لِّسَاناً عَرَبِيّاً ﴾ يقول أنزلناه قرآنا " عربياً " ليفقهوا ما فيه ﴿ لِّيُنذِرَ ﴾ بوعيد القرآن ﴿ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ ﴾ من كفار مشركي مكة ﴿ وَ ﴾ هذا القرآن ﴿ وَبُشْرَىٰ ﴾ لما فيه من الثواب لمن آمن به ﴿ لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٢] يعني الموحدين.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ﴾ فعرفوا ﴿ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ على المعرفة بالله ولم يرتدوا عنها ﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من العذاب ﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ١٣] من الموت، ثم أخبر بثوابهم فقال: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾
﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون ﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٤].
قوله: ﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً ﴾ يعني برا بهم نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ابن أبي قحافة، وأم أبي بكر بن أبي قحافة واسمها أم الخير بن صخر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ﴿ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً ﴾ يعني حملته في مشقة ووضعته في مشقة ﴿ وَحَمْلُهُ ﴾ في البطن تسعة أشهر ﴿ وَفِصَالُهُ ﴾ من اللبن واحداً وعشرين شهراً فهذا ﴿ ثَلاَثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ ﴾ ثماني عشرة سنة ﴿ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ فهو في القوة والشدة من ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة، صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم.
﴿ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ ﴾ يقول ألهمني ﴿ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ﴾ بالإسلام ﴿ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ﴾ يعني أبا قحافة بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة، وأمه أم الخير بن صخر بن عمرو، ثم قال: ﴿ وَ ﴾ ألهمنى ﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ ﴾ يقول واجعل أولادي مؤمنين فأسلموا أجمعين نظيرها أجمعين نظيرها في المؤمن قوله:﴿ وَمَن صَـلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ ﴾[غافر: ٨] يقول: من آمن، ثم قال أبو بكر: ﴿ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾ من الشرك ﴿ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ [آية: ١٥] يعني من المخلصين بالتوحيد.
ثم نعت المسلمين فقال: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ ﴾ يقول: نجزيهم بإحسانهم ولا نجزيهم بمساوئهم، والكفار يجزيهم بإساءتهم ويبطل إحسانهم لأنهم علموا ما ليس بحسنة، ثم رجع إلى المؤمنين، فقال: ﴿ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ ولا يفعل ذلك بالكافر ﴿ فِيۤ ﴾ يعني مع ﴿ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ﴾ يعني وعد الحق وهو الجنة ﴿ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ ﴾ [آية: ١٦] وعدهم الله، تعالى، الجنة في الآخرة على ألسنة الرسل في الدنيا.
وقوله: ﴿ وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ ﴾ فهو عبدالرحمن بن أبي بكر، وأمه رومان بنت عمرو بن عامر الكندي دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالعبث بعد الموت، فقال لوالديه: ﴿ أُفٍّ لَّكُمَآ ﴾ يعني قبحاً لكما الردىء من الكلام ﴿ أَتَعِدَانِنِيۤ أَنْ أُخْرَجَ ﴾ من الأرض يعني أن يبعثنى بعد الموت ﴿ وَقَدْ خَلَتِ ٱلْقُرُونُ مِن قَبْلِي ﴾ يعني الأم الخالية فلم أرا أحداً منهم يبعث، فأين عبدالله بن جدعان؟ وأين عثمان بن عمرو؟ وأين عامر بن عمرو؟ كلهم من قريش وهم أجداده، فلم أر أجداً منهم أتانا، فقال أبواه: اللهم اهده، اللهم أقبل بقلبه إليك، اللهم تب عليه، فذلك قوله: ﴿ وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ ٱللَّهَ ﴾ يعني يدعوان الله له بالهدى، أن يهديه ويقبل بقلبه، ثم يقولان: ﴿ وَيْلَكَ آمِنْ ﴾ صدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال ﴿ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ﴾ عبدالرحمن ﴿ مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ [آية: ١٧] ماهذا الذي تقولان إلا كأحاديث الأولين.
وكذبهم بقول الله، تعالى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ النفر الثلاثة ﴿ ٱلَّذِينَ ﴾ ذكرهم عبدالرحمن ﴿ حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾ يقول: وجب عليهم العذاب ﴿ فِيۤ أُمَمٍ ﴾ يعني مع أمم ﴿ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ﴾ من كفار ﴿ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾ [آية: ١٨].
وقوله تعالى: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ﴾ يعني فضائل بأعمالهم ﴿ وَلِيُوَفِّيَهُمْ ﴾ مجازة ﴿ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [آية: ١٩] في أعمالهم.
وقوله: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعني كفار مكة ﴿ عَلَى ٱلنَّارِ ﴾ حين كشف الغطاء عنها لهم فينظرون إليها يعني كفار مكة فيقال لهم: ﴿ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ ﴾ يعني الرزق والنعمة التي كنتم فيها ﴿ فِي حَيَاتِكُمُ ٱلدُّنْيَا ﴾ ولم تؤدوا شكرها ﴿ وَٱسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ﴾ يعني بالطيبات فلا نعمة لكم ﴿ فَٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ﴾ في الآخرة بأعمالكم الخبيثة ﴿ عَذَابَ ٱلْهُونِ ﴾ يعني عذاب الهوان ﴿ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ﴾ يعني بما كنتم تتكبرون ﴿ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ عن الإيمان فتعلمون فيها ﴿ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ ﴾ يعني بالمعاصي ﴿ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ ﴾ [آية: ٢٠] يعني تعصون.
وقوله: ﴿ وَٱذْكُرْ ﴾ يا محمد لأهل مكة ﴿ أَخَا عَادٍ ﴾ في النسب وليس بأخيهم في الدين، يعني هود النبي، عليه السلام.
﴿ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِٱلأَحْقَافِ ﴾ والأحقاف الرمل عند دك الرمل باليمن في حضرموت ﴿ وَقَدْ خَلَتِ ﴾ يعني مضت ﴿ ٱلنُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ﴾ يعني الرسل من بين يديه ﴿ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ ﴾ بقوله قد مضت الرسل إلى قومهم من قبل هود، كان منهم نوح، عليه السلام، وإدريس جد أبي نوح، ثم قال ومن بعد هود، يعني قد مضت الرسل إلى قومهم: ﴿ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ يقول لم يعبث الله رسولا من قبل هود، ولا بعده إلا أمر بعبادة الله، جل وعز.
﴿ إِنَّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾ [آية: ٢١] في الدنيا لشدته.
﴿ قَالُوۤاْ ﴾ اليهود: ﴿ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا ﴾ يعني لتصدنا وتكذبنا ﴿ عَنْ ﴾ عبادة ﴿ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ ﴾ من العذاب ﴿ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾ [آية: ٢٢] بأن العذاب نازل بنا، فرد عليهم هود:
﴿ قَالَ إِنَّمَا ٱلْعِلْمُ عِندَ ٱللَّهِ ﴾ يعني نزول العذاب بكم علمه عند الله إذا شاء أنزله ﴿ وَأُبَلِّغُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ ﴾ إليكم من نزول العذاب بكم ﴿ وَلَـٰكِنِّيۤ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ ﴾ [آية: ٢٣] العذاب.
﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ ﴾: العذاب ﴿ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ ﴾ والعارض بعذ السحابة التي لم تطبق السماء التى يرى ما فيها من المطر ﴿ قَالُواْ ﴾ لهود: ﴿ هَـٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ﴾ لأن المطر كان حبس عنهم وكانت السحابة إذا جاءت من قبل ذلك الوادي مطروا، قال: هود: ليس هذا العارض ممطركم ﴿ بَلْ هُوَ ﴾ ولكنه ﴿ مَا ٱسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ ﴾ لكم ﴿ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٢٤] يعني وجع.
وكان استعجالهم حين قالوا: يا هود﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾[الأعراف: ٧٠]، وكانوا أهل عمود سيارة في الربيع فإذا هاج العمود رجعوا إلى منازلهم وكانوا من قبيلة آدم بن شيم بن سام بن نوح، وكانوا أصهاره، كان طول أحدهم اثنى عشر ذراعاً، وكان فيهم الملك، فلما كذبوا هوداً حبس الله عنهم المطر ثلاث سنين فلما دنا هلاكهم أوحى الله إلى الخزان، خزان الريح أن أرسلوا عليهم من الريح مثل منخر الثور. فقالت الخزان: يا رب، إذا تنسف الريح الأرض ومن عليها، قال: أرسلوا عليها مثل خرق الخاتم، يعني على قدر حلقة الخاتم، ففعلوا فجاءت ريح باردة شديدة تسمى الدبور من وراء كاوك الرمل وكان المطر يأتيهم من تلك الناحية فيما مضى فمن ثم: قالوا هذا عارض ممطرنا، فعمد هو فخط على نفسه، وعلى المؤمنين خطا إلى أصل شجرة ينبع من ساقها عين فلم يدخل عليهم من الريح إلا النسيم الطيب، وجعلت الريح شدتها تجىء بالطعن بين السماء والأرض، فلما رأوا أنها ريح قالوا: يا هود، إن ريحك هذا لا تزيل أقدامنا، وقالوا: من أشد منا قوة، يعني بطشاً فقاموا صفوفاً فاستقبلوها بصدورهم فأزالت الريح أقدامهم، فقالوا: ياهود، إن ريحك هذه تزيل أقدامنا فألقتهم الريح لوجوهم ونفست عليهم الرمل حتى إنه يسمع أنين أحدهم من تحت الرمل، فذلك قوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾[فصلت: ١٥]، وقال لهم هود حين جاءتهم الريح إنها: ﴿ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا ﴾ يعني تهلك كل شىء من عاد بأمر ربهما من الناس والأموال والدواب، بإذن ربها يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَأْصْبَحُواْ لاَ يُرَىٰ إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ ﴾ بالشجر ولم يبق لهم شىء ﴿ كَذَلِكَ ﴾ يقول هكذا ﴿ نَجْزِي ﴾ بالعذاب ﴿ ٱلْقَوْمَ ٱلْمُجْرِمِينَ ﴾ [آية: ٢٥] بتكذيبهم وهاجت الريح غدوة وسكنت بالعشي اليوم الثامن عند غروب الشمس، فذلك قوله:﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ ﴾[الحاقة: ٧] يعني كاملة دائمة متتابعة، قال النبى صلى الله عليه وسلم:" نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور، ثم بعث الله طيراً سوداً فالتقطتهم حتى ألقتهم في البحر ".
ثم خوف كفار مكة فقال: ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ ﴾ يعني عاداً ﴿ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ ﴾ يا أهل مكة ﴿ فِيهِ ﴾ يعني في الذي أعطيناكم في الأرض من الخير والتمكن في الدنيا، يعني مكناكم في الأرض يا أهل مكة ﴿ وَجَعَلْنَا لَهُمْ ﴾ في الخير والتمكين في الأرض ﴿ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً ﴾ يعني القلوب كما جعلنا لكم أهل مكة ﴿ فَمَآ أَغْنَىٰ عَنْهُمْ ﴾ من العذاب ﴿ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ ﴾ يقول لم تغن عنهم ما جعلنا من العذاب ﴿ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ ﴾ يعني عذاب الله تعالى.
﴿ وَحَاقَ بِهِم ﴾ يعني ووجب لهم سور العذاب بـ ﴿ مَّا كَانُواْ بِهِ ﴾ يعني العذاب ﴿ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [آية: ٢٦] هذا مثل ضربه الله لقريش حين قالوا: إنه غير كائن.
قوله: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا ﴾ بالعذاب ﴿ مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ ٱلْقُرَىٰ ﴾ يعني القرون قوم نوح، وقوم صالح، وقوم لوط، فأما قوم لوط فهم بين المدينة والشام، وأما عاد فكانوا باليمن. قوله: ﴿ وَصَرَّفْنَا ٱلآيَاتِ ﴾ في أمور شتى يقول: نبعث مع كل نبي إلى أمته آية ليست لغيرهم ﴿ لَعَلَّهُمْ ﴾ يقول لكي ﴿ يَرْجِعُونَ ﴾ [آية: ٢٧] من الكفر إلى الإيمان فلم يتوبوا فأهلكهم الله بالعذاب.
قوله: ﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ قُرْبَاناً آلِهَةَ ﴾ يقول فهلا منعتهم آلهتهم من العذاب الذي نزل بهم ﴿ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ ﴾ يعني بل ضلت عنهم الآلهة فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم ﴿ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ ﴾ يعني كذبهم بأنها آلهة ﴿ وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [آية: ٢٨] في قولهم من الشرك.
قوله: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ ﴾ يعني وجهنا إليك يا محمد ﴿ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ ﴾ فقرأ من الجن تسعة نفر من أشراف الجن وساداتهم من أهل اليمن من قرية يقال لها: نصيبين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخلة يقرأ القرآن من صلاة الفجر.
﴿ فَلَمَّا حَضَرُوهُ ﴾ فلما حضروا النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ قَالُوۤاْ ﴾ قال بعضهم لبعض: ﴿ أَنصِتُواْ ﴾ للقرآن، وكادوا أن يرتكبوه من الحرص، فذلك قوله:﴿ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾[الجن: ١٩] ﴿ فَلَمَّا قُضِيَ ﴾ يقول فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته ﴿ وَلَّوْاْ ﴾ يعني انصرفوا ﴿ إِلَىٰ قَوْمِهِم ﴾ يعني الجن ﴿ مُّنذِرِينَ ﴾ [آية: ٢٩]، يعني مؤمنين.
﴿ قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ إِنَّا سَمِعْنَا ﴾ محمداً صلى الله عليه وسلم يتلوه ﴿ كِتَاباً ﴾ يعني يقرأ محمد صلى الله عليه وسلم كتاباً، يعني شيئاً عجباً، يعني قرآنا ﴿ أُنزِلَ ﴾ على محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ ﴾ عليه السلام، وكانوا مؤمنين بموسى ﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ يقول يصدق كتاب محمد صلى الله عليه وسلم الكتب التي كانت أنزلت على الأنبياء ﴿ يَهْدِيۤ ﴾ يعني يدعو كتاب محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إِلَى ٱلْحَقِّ ﴾ يعني إلى الهدى ﴿ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ٣٠] يعني يدعوا إلى الدين المستقيم وهو الإسلام، فلما أتوا قومهم قالوا لهم: ﴿ يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ ﴾
﴿ يٰقَوْمَنَآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ ٱللَّهِ وَآمِنُواْ بِهِ ﴾ يقول أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وصدقوا به ﴿ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٣١] يعني ويؤمنكم من عذاب وجيع.
﴿ وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ ٱللَّهِ ﴾ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان ﴿ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي ٱلأَرْضَ ﴾ يقول فليس بسابق الله فيقول هرباً في الأرض حتى يجزيه بعمله الخبيث ﴿ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ ﴾ يعني ليس له أقرباء يمعنونه من الله، عز وجل ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ الذين لا يجيبون إلى الإيمان. ﴿ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ﴾ [آية: ٣٢] يعني بين هذا قول الجن التسعة" فأقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من الذين أنذروا مع التسعة تكلمه سبعين رجلاً من الجن من العام المقبل فلقوا النبي صلى الله عليه وسلم بالبطحاء، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن وأمرهم ونهاهم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليل قبل أن يلقاهم لأصحابه: " ليقم معى منكم رجل ليس في قلبه مثقال حبة خردل من شك " فقام عبدالله بن مسعود ومعه إدواة فيها نبيذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن مسعود: " قم مكانك "، وخط النبي صلى الله عليه وسلم خطاً، وقال: " لا تبرح حتى أرجع إليك إن شاء الله، ثم قال: إن سمعت صوتاً أو جبلة أو شيئاً يفزعك فلا تخرج من مكانك " فوقف عبدالله حتى أصبح، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم الشعب، وقال له: " لاتخرج من الخط فإن أنت خرجت اختطفت الليلة "، وانطلق النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ عليهم القرآن ويعلمهم ويؤدبهم واختصم رجلا منهم في دم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفعوا أصواتهم فسمع ابن مسعود الصوت فقال: والله لآتينه فلعل كفار قريش أن يكونوا مكروا به فلما أراد الخروج من الخط ذكر وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج ووقف عبدالله حتى أصبح، والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب يعلمهم ويؤدبهم حتى أصبح فانصرف الجن وأتى النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود فقال عبدالله: يا نبي الله، ما زلت قائماً حتى رجعت إلي، وقد سمعت أصواتاً مرتفعة حتى هممت بالخروج فذكرت قولك فأقمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " اختصموا في قتلى لهم كانوا أصابوها في الجاهلية فقضيت بينهم، ثم قال: أمعك طهور "؟ قال نعم: نبيذ في إدواة، فقال: " ثمرة طيبة وماء طهور عذاب، صب علي " فصب عليه ابن مسعود، فتوضأ منه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أراد أن يصليا أقبل الرجلان، اللذان اختصما في الدم حتى وقفا عليه رآهما النبي صلى الله عليه وسلم ظن أنهم رجعا يختصمان في الدم، فقال: " مالكما ألم أقض بينكما؟ " قالا: يا رسول الله، إنا جئنا نصلي معك ونقتدي بك فقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة، وقام ابن مسعود والرجلان من الجن ورءا النبي صلى الله عليه وسلم فصلوا معه فذلك قوله: ﴿ وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً ﴾ [الجن: ١٩] من حبهم إياه، ثم انصرفوا من عنده مؤمنين فلم يبعث الله، عز وجل، نبياً إلى الإنس والجن قبل محمد صلى الله عليه وسلم. فقالوا: يا رسول الله، مر لنا برزق حتى نتزود في سفرنا؟ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم فإن لكم أن يعود العظم لحماً والبعر حباً هذا لكم إلى يوم القيامة فلا يحل للمسلم أن يستنجى بالعظم ولا بالبعر، ولا بالرجيع "، يعني رجيع الدواب، ولم يبعث الله نبياً إلى الجن والأنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن مسعود: لقد رأيت رجالا مستنكرين طولا سودا كأنهم من أزد شنوءة لو خرجت من ذلك الخط لظننت أني سأختطف.
قوله: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ يقول أو لم يعلموا ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ نزلت في" أبي خلف الجمحي عمد فأخذ عظما حائلا نخراً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أتعدنا إذا بليت عظامنا، وكنا رفاتا أن الله يبعثنا جديداً، وجعل يفت العظم ويذريه في الريح، ويقول: يا محمد، من يحيي هذا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: يحيى الله هذا، ثم يميتك، ثم يبعثك في الآخرة ويدخلك النار "، فأنزل الله تعالى يعظه ليعتبر في خلق الله فيوحده، أو لم يروا أن الله، أو لم يعلموا أن الله الذي خلق السموات والأرض، لأنهم مقرون أن الله الذي خلقهما وحده.﴿ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ في الآخرة، وهما أشد خلقاً من خلق الإنسان بعد أن يموت ولم يعى بخلقهن إذ خلقهن، يعني عن بعث الموتى نظيرها في يس، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ بَلَىٰ ﴾ يبعثهم ﴿ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من البعث وغيره ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٣٣] فلما كفر أهل مكة بالعذاب أخبرهم الله بمنزلتهم في الآخرة.
فقال: ﴿ وَيَوْمَ يُعْرَضُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَىٰ ٱلنَّارِ ﴾ يعني إذا كشف الغطاء عنها لهم فنظروا إليها. فقال الله لهم: ﴿ أَلَيْسَ هَـٰذَا ﴾ العذاب الذي ترون ﴿ بِٱلْحَقِّ قَالُواْ بَلَىٰ وَرَبِّنَا ﴾ أنه الحق.﴿ قَالَ ﴾ الله، تعالى: ﴿ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [آية: ٣٤] بالعذاب بأنه غير كائن.
قوله: ﴿ فَٱصْبِرْ ﴾ يا محمد على الأذى والتكذيب يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر ﴿ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ ﴾ يعني أولو الصبر ﴿ مِنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ يعني إبراهيم، وأيوب، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، عليهم السلام. نزلت هذه الآية يوم أحد فأمره أن يصبر على ما أصابهم و لايدعو على قومه مثل قوله:﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىٰ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾[طه: ١١٥]، ثم ذكر له صبر الأنبياء وأولى العزم من قبله من الرسل على البلاء منهم إبراهيم، خليل الرحمن عليه السلام، حين ألقي في النار، ونوح عليه السلام، على تكذيب قومه وكان يضرب حتى يغشى عليه، فإذا أفاق، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون شيئاً، وإسحاق في أمر الذبح، ويعقوب في ذهاب بصره من حزنه على يوسف حين أَلقي في الجب والسجن، وأيوب عليه السلام، في صبره على البلاء. ويونس بن متى عليه السلام، في بطن الحوت، وغيرهم صبروا على البلاء، ومنهم اثنا عشر نبياً ببيت المقدس، فأوحى الله تعالى إليهم أنى منتقم من بني إسرائيل بما صنعونا بيحيى بن زكريا فإن شئتم أن تختاروا أن أنزل بكم النقمة وأنجي بقية بني إسرائيل وإن كرهتم أنزلت النقمة والعقوبة بهم وأنجيتكم فاستقام رأيهم على أن ينزل بهم العقوبة، وهو اثنا عشر وينجي قومه فدعوا ربهم أن ينزل بهم العقوبة وينجي بني إسرائيل فلسط عليهم ملوك أهل الأرض فأهلكوهم فمنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من سلخ رأسه ووجهه، ومنهم من رفع على خشب، ومنهم من أحرق بالنار، ومنهم من شدخ رأسه وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر كما صبر هؤلاء فإنه قد نزل بهم ما لم ينزل بك. ثم قال: ﴿ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ﴾ وذلك أن كفار مكة، حين أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب سألوه متى هذا الوعد الذي تعدنا يقول الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تستعجل لهم بالعذاب ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوۤاْ ﴾ في الدينا ولم يروها ﴿ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ﴾ يوم واحد من أيام الدنيا ﴿ بَلاَغٌ ﴾ يعني تبليغ فيها يقول هذا الإمر بلاغ لهم فيها ﴿ فَهَلْ يُهْلَكُ ﴾ يالعذاب ﴿ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٣٥] يعني العاصون لله، عز وجل، فيما أمرهم من أمره ونهيه ويقال: هذا الأمر هو بلاغ لهم بل ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم، يعني وجيع لقولهم لهود:﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ ﴾[الأعراف: ٧٠].
قوله:﴿ ٱلَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي ٱلسَّاجِدِينَ ﴾[الشعراء: ٢١٨-٢١٩]، يعني صلاتك مع المصلين في جماعة، الذي استخرجك من أصلاب الرجال وأرحام النساء وأخرجك من صلب عبدالله طيباً.
Icon