هذه السورة مكية، وآياتها خمس وثلاثون. وفيها كثير من الأخبار والمواعظ والتذكير والدلائل التي تبين للناس حقيقة وحدانية الله وتفرده بالخلق وأن ما يدعون من دونه من الأنداد ليس إلا أوهاما وأباطيل.
وفي السورة تنديد كبير بالمشركين الظالمين الذين قالوا :﴿ للحق لما جآءهم هذا سحر مبين ﴾ والله جل جلاله يشهد لكتابه الحكيم أنه الحق المنزل من عنده، ولرسوله الأمين أنه مبعوث من لدنه، فهو ليس بدعا من الرسل، وفي السورة توصية من الله للإنسان بوالديه إحسانا مع التنبيه الظاهر إلى عظيم قدر الأم بما كابدته في أمر الولادة والأولاد من شديد العناء والشقاء.
وفي السورة تهديد مرعب ووعيد مخوف للكافرين المكذبين بأنهم يعرضون يوم القيامة على النار، ويجزون عذاب الهون بسبب استكبارهم في الأرض وفسقهم عن دين الله.
وفي السورة ذكر لنبي الله هود عليه السلام المبعوث إلى قوم عاد بالأحقاف من أرض اليمن، إذ كذبوا نبيهم تكذيبا فأخذهم الله نكال تكذيبهم، إذ أرسل عليهم ريحا عاتية تدمر كل شيء. إلى غير ذلك من الأخبار والعبر وألوان التذكير والتنبيه والتحذير.
ﰡ
﴿ حم ١ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ٢ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ٣ قل أرءيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ٤ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ٥ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ﴾.
يبين الله لعباده أنه هو منزل القرآن وأنه خالق السموات والأرض بالعدل والحكمة لا للعبث واللهو، وأن ما يعبده المشركون من آلهة مزعومة لهو افتراء وباطل. وهو قوله :﴿ حم ١ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ﴾ ﴿ حم ﴾ من فواتح السور. وذلك من متشابه القرآن الذي يوكل علمه إلى منزله سبحانه.
قوله :﴿ والذين كفروا عما أنذروا معرضون ﴾ يعني هؤلاء الكافرون المكذبون قد تولوا معرضين عما أنذروا من تخويف وتحذير. فلم يعبأ بذلك بل لجوا في تكذيبهم وجحودهم.
قوله :﴿ أو أثارة من علم ﴾ ﴿ أثارة من علم ﴾ أي بقية من علم. وقيل : أو علم يؤثر. أو يؤثر وينقل وإن لم يكن مكتوبا. وقيل : أو علامة. وأصل الكلمة من الأثر وهي الرواية. أثرت الحديث إذ ذكرته عن غيرك. حديث مأثور، أي نقله خلف عن سلف. وقيل : أو خاصة من علم أوتيتموه وأوثرتم به على غيركم. واختار الإمام الطبري رحمه الله المعنى الأول على أنه الصواب وهو : أو بقية من علم، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. فيكون المعنى : ائتوني بكتاب من قبل هذا الكتاب يشهد بصدق ما تدعون لآلهتكم أو ببقية من علم يوصل بها إلى صحة ما تزعمون ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ في دعواكم لآلهتكم ما تدعون.
يبين الله حال الكافرين من الحيرة والتردد والمكابرة لما غشي القرآن قلوبهم وأذهانهم بروعة نظمه الباهر، وكمال مضمونه العجيب فبادروا بالإنكار والتكذيب إذ رموه بالسحر. وذلك لفرط اندهاشهم وإعجابهم في قرارة نفوسهم ولشدة ما أحدثه القرآن في وجدانهم وخيالهم من شديد الهزة والذهول. وذلك قوله سبحانه :﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جآءهم هذا سحر مبين ﴾ يعني إذا تليت آيات القرآن واضحات نيرات على هؤلاء المشركين المعاندين قالوا ﴿ للحق لما جآءهم ﴾ أي قالوا للقرآن لما أنزل إليهم - وهوالحق من ربهم- :﴿ هذا سحر مبين ﴾ قالوا : إن القرآن سحر يأخذ بقلوب الذين يسمعونه فهو يفعل في الناس فعل السحر وهو مبين، أي يتبين لمن يتأمله أنه سحر. وذلك افتراء مستهجن يتقوّله المشركون المعاندون الذين ضاقت بهم سبل التحيّل والاتهام لكتاب الله الحكيم فلم يجدوا غير سبيل السحر حجة يتشبثون بها. لا جرم أن هذا إيذان واضح منهم بأن القرآن عجيب ومميز وفذ. وهم موقنون في قلوبهم بأن القرآن لا يعارض ولا يضاهي فهو ليس له نظير في النظم أو الكليم.
قوله :﴿ قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا ﴾ أي قل لهم يا محمد إن افتريت هذا القرآن من تلقاء نفسي أو تخرّصته على الله كذبا فإنكم لا تغنون عني من الله شيئا إن عاقبني جزاء افترائي وتخريصي، ولستم بقادرين على أن تدفعوا عني ما ينزل بي من عذاب الله إن أصابني.
قوله :﴿ هو أعلم بما تفيضون فيه ﴾ ﴿ تفيضون ﴾ من الإفاضة وهي الاندفاع. أفاضوا في الحديث أي اندفعوا فيه١، والمعنى : هو أن الله أعلم ممن سواه بما تخوضون فيه من التكذيب بينكم لهذا القرآن. أو بما تقولونه فيه من الافتراء الباطل.
قوله :﴿ كفى به شهيدا بيني وبينكم ﴾ ﴿ شهيد ﴾ منصوب على التمييز، أي كفى بالله شاهدا علي وعليكم بما تقولونه من تكذيب لي فيما جئتكم به من عند الله، ومن افترائكم الباطل على القرآن، فالله جل وعلا يعلم أني صادق فيما جئتكم به وأنكم أنتم المبطلون ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ الله يغفر الذنوب للتائبين عن الشرك والمعاصي. وهو الرحيم بعباده المؤمنين فيكتب لهم التوفيق و السعادة في الدنيا والآخرة.
قوله :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ أي لا علم لي بالغيب عما يفعله الله بي وبكم فيما يستقبل من الزمان. فما أدري ما يصر إليه أمري وأمركم في هذه الدنيا ؟ فمن الغالب منا ومن المغلوب ؟ وهل تؤمنون أم تكفرون ؟ وهل تعاجلون بالعذاب أم تمهلون ؟ وذلك كله من أمر الدنيا. أما في الآخرة فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في الجنة حقا، بل إنه في الذروة السامقة من الفردوس الأعلى يوم القيامة.
قوله :﴿ إن أتبع إلا ما يوحى إلي ﴾ يعني ما أتبع فيما أبلغكم به وأدعوكم إليه وأحذركموه إلا يوحي به إلي ربي ﴿ ومآ أنا إلا نذير مبين ﴾ أي لست إلا مبلغا لكم دعوة ربي ومحذركم عصيانه وشديد عقابه١.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن : أرأيتم إن كان هذا القرآن منزلا من عند الله وكذبتم به فما ظنكم أن الله صانع بكم بسبب جحودكم وتكذيبكم ؟ ﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ﴾ أي شهد بصدق هذا الكتاب وأنه منزل إلي من عند الله ﴿ شاهد من بني إسرائيل ﴾ المراد بالشاهد عبد الله بن سلام. فقد قال ابن عباس : رضيت اليهود بحكم ابن سلام وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم : إن يشهد لك آمنا بك فسئل فشهد ثم أسلم. وبذلك فإن هذه الآية مدنية بخلاف السورة فإنها مكية. وفي ذلك نظر لأن السورة كلها مكية، وعبد الله بن سلام كان إسلامه في المدينة بعد الهجرة. وقيل : المراد بالشاهد رجل من بني إسرائيل آمن بالقرآن في مكة وصدّق برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :﴿ على مثله ﴾ أي شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل القرآن من المعاني الموجودة في التوراة والمطابقة لها من حيث التوحيد والبعث و النشور والحساب وغير ذلك من معاني العقيدة. قوله :﴿ فآمن واستكبرتم يعني آمن الشاهد من بني إسرائيل سواء كان عبد الله ابن سلام أو رجلا غيره من أهل الكتاب. فقد شهد بأن القرآن حق وأن محمدا صلى الله عليه وسلم مرسل من ربه للعالمين وأن اليهود يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة { واستكبرتم ﴾ أي جحدتم وكذبتم أنتم معشر اليهود برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه من ربه وهو القرآن.
قوله :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي لا يجعل الله الهداية والتوفيق والسداد للمشركين الجاحدين الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم وتكذيبهم بعد أن قامت الحجة الظاهرة البلجة على صدق هذا الكتاب وصدق الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ﴾ أي أن هؤلاء الضالين الجاهلين لما لم يقفوا على كمال القرآن لعجزهم وضلالهم ولم يصيبوا به الهدى عادوه ونسبوه إلى الكذب وقالوا إنه ﴿ إفك قديم ﴾ أي أكاذيب قديمة من أخبار الأولين. أو هو أساطير الأولين.
قوله :﴿ وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا ﴾ ﴿ لسانا عربيا ﴾ منصوبا على الحال. والمعنى : هذا قرآن مصدق للتوراة ولما قبله من الكتب. أو مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لسانا عربيا فصيحا واضحا ﴿ لينذر الذين ظلموا ﴾ أي لينذر هذا القرآن الظالمين المشركين فيخوفهم بأس ربهم وشديد عقابه ﴿ وبشرى للمحسنين ﴾ القرآن بشرى للمؤمنين الذين أحسنوا طاعتهم وعبادتهم لله.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٦٩..
٣ تفسير الطبري جـ ٢٦ ص ١٠، ١١ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ١٢ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ١٥٦..
هذه آيات بينات يوصي الله فيهن بالوالدين إحسانا. وفي ذلك من بالغ التكريم والتعظيم للآباء والأمهات ما ليس له في الملل والعقائد والفلسفات نظير. وذلكم هو القرآن الحكيم بآياته العجاب، وإعجازه الباهر، وأسلوبه المميز الفذ، يحرض على الاهتمام بالوالدين، ببذل الخير والتبجيل لهما، ودفع الأذى والشر وكل وجوه الإساءة عنهما، وذلك ليتبوأ الوالدان في كنف الأولاد خير منزلة من منازل الاحترام والإكرام والتقدير : وأيما إساءة بعد ذلك أو بذاءة من لسان أو إهانة لأحدهما أو كلاهما فإنه فسق عن دين الله وعصيان لرب العباد.
وتكريم الوالدين يأتي في ذروة العبادات التي يتقرب بها العبد من ربه، وذلك بجم التواضع لهما وعظيم الإحسان إليهما وأرقى الدرجات من التأدب في مخاطبتهما. وإذا لم يكن المرء مع أبويه كذلك فيوشك حينئذ أن يهوي بنفسه في جهنم. وذلكم قوله سبحانه :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا ﴾ ﴿ إحسانا ﴾ منصوب على المصدر، وتقديره : ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إحسانا١ فقد أمر الله الإنسان أن يحسن إلى والديه بالحنو عليهما والرأفة بهما وبتكريمهما. وفي سبب نزول هذه الآية روى أبو داود عن سعد ( رضي الله عنه ) قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين ؟ فلا آكل طعاما ولا أشرب شرابا حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا. ونزلت هذه الآية.
قوله :﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها ﴾ حملت الأم ولدها جنينا في بطنها في مشقة ووضعته لدى الولادة في مشقة، وفي ذلك من شديد العسر والكرب والإيلام على الأمهات ما لا يخفى. ويراد بذلك، التذكير بعظيم فضل الأم على ولدها لكي يحسن إليها ويحدب عليها بالغ الحدب وأن يبذل لها من وجوه التعظيم والاحترام ما يولجه في زمرة المؤمنين الصادقين.
قوله :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ أي أن مدة حمل الإنسان في بطن أمه ومدة فصاله وهو فطامه من الرضاع ﴿ ثلاثون شهرا ﴾ وبذلك فإن ثلاثين شهرا هي المدة من عند ابتداء الحمل إلى أن يفصل من الرضاع، أي يفطم عنه.
ويستدل بهذه الآية على أن أقل مدة الحمل هي ستة أشهر، لأن مدة الرضاع الكامل سنتان لقوله سبحانه :﴿ يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أ ن يتم الرضاعة ﴾ قال ابن عباس في ذلك، إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا. وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتى بامرأة قد ولدت لستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحد فقال له علي ( رضي الله عنه ) : ليس ذلك عليها. قال الله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ﴾ وقال تعالى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ﴾ فالرضاع أربعة وعشرون شهرا، والحمل ستة أشهر. فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها.
قوله :﴿ حتى إذا بلغ أشده ﴾ الأشد، واحد جاء على بناء الجمع. وقيل : هو جمع لا واحد له من لفظه مثل أبابيل ومذاكير٢. والأشد، هو تناهي قوة المرء واختلفوا في مدة الأشد. فقد قيل : ثلاث وثلاثون سنة. وقيل : الحلم. وقيل : ثماني عشرة سنة ﴿ وبلغ أربعين سنة ﴾ وذلك تناهي عقل الإنسان واكتمال فهمه وحلمه وتدبيره.
روى الحافظ أبو يعلى بإسناده عن عثمان ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه. وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء، وإذا بلغ ثمانين سنة ثبّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه الله تعالى في أهل بيته وكتب في السماء أسير الله في أرضه ".
قوله تعالى :﴿ قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ﴾ إذا بلغ المرء سن الأربعين وفيها يكتمل الفهم والتدبير والإرادة – دعا ربه أن ألهمني شكر نعمتك علي وعلى والدي بالهداية والتوفيق وغير ذلك من وجوه النعم.
قوله :﴿ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي ﴾ يعني وألهمني أن أعمل الصالحات التي ترضاها وأصلح لي أموري في ذريتي بأن تجعلهم صالحين مهديين عاملين بشرعك، مبتغين مرضاتك.
قوله :﴿ إني تبت إليك وإني من المسلمين ﴾ أي تبت إليك من ذنوبي التي سبقت مني في سالف أيامي وإني من المستسلمين لأمرك الخاضعين لك بالطاعة والإذعان.
٢ مختار الصحاح ص ٣٣٢..
قوله :﴿ وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ﴾ ﴿ وعد ﴾ منصوب على المصدر، مؤكد لما قبله، أي وعدهم الله وعد الحق أو الصدق ﴿ الذي كانوا يوعدون ﴾ أي الذي كانوا يوعدونه وهم في الدنيا١.
بعد أن ذكر الله حال المؤمنين المقتين الذين يحوطون آباءهم وأمهاتهم بالرعاية والعناية والتكريم ويفيضون عليهم من بالغ الحدب والتبجيل والصون – شرع يبين حال الأشقياء من الناس التاعسين الساقطين في وهدة العقوق للآباء والأمهات فيعصونهم أو يؤذونهم بالقول أو الفعل أو يسخرون من دعائهم إياهم للإيمان بيوم القيامة. وهو قوله سبحانه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ اسم الموصول ﴿ والذي ﴾ يراد به الجنس القائل ذلك القول فأخبر عنه بالجمع. فليس المراد بذلك شخص معين بل المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة من الكفر والعقوق وهو كل من دعاه أبواه إلى دين الإسلام فأبى واستكبر وكذب بيوم القيامة. يعني : والذي قال لوالديه، إذ دعواه إلى الإيمان بالله والتصديق بيوم القيامة وبعث الخلائق من قبورهم للحساب والجزاء ﴿ أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ﴾ ﴿ أف ﴾، اسم من أسماء الأفعال بمعنى أتضجر. وهي مبنية على الكسر١ يقول لهما في استكبار وتوقح وجحود ﴿ أف لكما ﴾ أتضجر وأتقذر وأجحد ما تعدانني به ﴿ أتعدانني أن أخرج ﴾ أتعدانني بالخروج من القبر بعد الممات والرفات وبعد البلى والحطام ﴿ وقد خلت القرون من قبلي ﴾ أي مضت أجيال وأمم من قبلي فهلكوا ولم أجد أحدا منهم قد بعث.
قوله :﴿ وهما يستغيثان الله ﴾ والداه يستصرخان الله عليه من كفره ويدعوان الله له بالهداية والإقرار بالبعث ويقولان له ﴿ ويلك آمن ﴾ ﴿ ويلك ﴾، منصوب على المصدر، وهو من المصادر التي لا أفعال لها وهي : ويحك، وويسك، وويبك٢، وليس المراد هنا الدعاء على ولدهما الظالم لنفسه بل يبتغيان التحضيض له على الإيمان. أي، صدق بيوم القيامة ولا تجحد البعث والحساب ﴿ إن وعد الله حق ﴾ وعد الله صدق لا ريب فيه وهو كائن لا محالة ﴿ فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ﴾ يقول الولد الشقي الجاحد لوالديه المؤمنين الحريصين على هدايته وإيمانه : ما تقولان من قيام الساعة وبعث الموتى من قبورهم إلا أحاديث الأمم السابقة وخرافاتهم مما ليس له أصل.
٢ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٣٧١..
قوله :﴿ وليوفّيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ﴾ أي ليجزي كل واحد من الفريقين، المؤمنين والكافرين بما عمل من إحسان أو سوء دون أن يحيق بواحد منهم ظلم، فلا يبخس محسن ولا يزاد على مسيء.
قوله :﴿ فاليوم تجزون عذاب الهون ﴾ ﴿ الهون ﴾ بضم الهاء ومعناه الهوان، أي المهانة. استهان به أي استحقره١، يعني : اليوم جزاؤكم العذاب والمهانة والخزي ﴿ بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق ﴾ يعني سبب عذابكم وخسرانكم وما أنتم فيه الهوان هو استكباركم في دنياكم عن عبادة الله والإذعان لجلاله العظيم ﴿ وبما كنتم تفسقون ﴾ أي بسبب عصيانكم أمر ربكم وخروجكم عن طاعته٢.
٢ تفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٢٢ – ٢٥ وفتح القدير جـ ٤ ص ٢١ وأحكام القرآن لابن العربي جـ ٤ ص ١٦٨٦ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٢٠١..
ذلك تأنيس من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بسبب تكذيب المشركين له، فيذكّره الله بالنبيين من قبله فقد أوذوا في سبيل الله ولاقوا من قومهم المشركين الأذية والعنت. وهو كذلك تحذير من الله لهؤلاء المشركين أن يحل بهم من العقاب ما حل بمن سبقهم من الظالمين كقوم عاد، إذ كانوا موغلين في الشرك والطغيان وكانوا أشد قوة من هؤلاء المشركين. فقال سبحانه في ذلك :﴿ واذكرإذ أنذر قومه بالأحقاف ﴾ أي واذكر لقومك المشركين يا محمد، أخا عاد، وهو نبي الله هود عليه الصلاة والسلام، وقد كان أخاهم في النسب لا في الدين ﴿ إذ أنذر قومه بالأحقاف ﴾ والأحقاف جمع حقف وهو المعوج من الرمل. أو هو الكثيب المكسّر من الرمل غير الكبير وفيه اعوجاج١ والمراد بالأحقاف : ديار عاد. واختلفوا في موضعها. فقد قيل : واد بين عمان ومهرة. وقيل : واد بحضرموت من اليمن.
والمعنى : واذكر لهؤلاء المشركين قصة عاد ليعتبروا بها فيخشوا أن يحل بهم ما حل بعاد قوم هود فينقمعوا عن كفرهم وعصيانهم. أو أن يتذكر هو في نفسه قصة أخيه هود فيهون عليه تكذيب المشركين له. قوله :﴿ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ﴾ ﴿ النذر ﴾ جمع نذير وهو المبلغ رسالة ربه إلى الناس، أي وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده ﴿ ألا تعبدوا إلا الله ﴾ فقد كانت وجيبة الرسل نحو قومهم أن يحذروهم أي إشراك في عبادة الله بل عليهم إخلاص العبادة لله وحده وإفراده بالإلهية والتوحيد فهو لا إله غيره ولا رب سواه.
قوله :﴿ إني اخاف عليكم عذاب يوم عظيم ﴾ ذلك من قيل هود لقومه، وهو : إني أخاف عليكم أيها القوم بسبب شرككم وعصيانكم أمر ربكم عذاب يوم يشتد فيه الهول وتعظم فيه البلايا والخطوب وهو يوم القيامة.
و ﴿ عارضا ﴾ منصوب على الحال، يعني لما استعجلوا عذاب الله على سبيل الإنكار والجحود – فرأوه سحابا معترضا في الأفق متوجها نحو أوديتهم ﴿ قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ استبشروا به وحسبوه سحابا ممطرهم.
قوله :﴿ بل هو ما استعجلتم به ﴾ يعني هو الذي استعجلتموه، حيث قلتم من قبل ﴿ فأتنا بما تعدنا ﴾.
قوله :﴿ ريح فيها عذاب أليم ﴾ ﴿ ريح ﴾، بدل من " ما " أو خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هو ريح. وجملة ﴿ فيها عذاب أليم ﴾ صفة لريح. ثم وصف تلك الريح التي تحمل العذاب الماحق ﴿ تدمر كل شيء بأمر ربها ﴾.
قوله :﴿ فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ﴾ دمرت عليهم الريح العاتية تدميرا فجعلتهم صرعى وأمالت عليهم الرمال فكانوا تحت الرمال سبع ليال وثمانية أيام حسوما١ فباتوا بعد ذلك أثرا بعد عين، فأصبحوا لا يرى منهم أحد إلا مساكنهم الخاوية، فبادوا جميعا ولم تبق منهم باقية. من أجل ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه الكراهية خشية أن يكون ذلك عذابا لا رحمة. وكان يقول : " مايؤمنني أن يكون فيه عذاب. قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا " وروى مسلم في صحيحه عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : " اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به. وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ".
قوله :﴿ كذلك نجزي القوم المجرمين ﴾ الكاف في اسم الإشارة في موضع نصب صفة لمصدر محذوف، أي مثل هذا العقاب يعاقب الله الظالمين العتاة الذين فسقوا عن أمر الله٢.
٢ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ١٦١ وتفسير القرطبي جـ ١٦ ص ٢٠٦- ٢٠٨ وتفسير الطبري جـ ٢٦ ص ١٦، ١٧ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٢٨..
﴿ إن ﴾ تحتمل وجهين. أحدهما : أنها زائدة. وتقدير الكلام : ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه. وثانيهما : أنهما : أنها بمعنى ما، النافية. أي ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال والسعة وقوة الأبدان وطول الأعمار. وهذا المعنى أظهر.
قوله :﴿ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ﴾ يعني أنعمنا عليهم بأسباب التأمل والاعتبار والنظر فما آمنوا ولا اتعظوا. فقد وهبناهم السمع ليستمعوا الذكر والموعظة. ووهبناهم الأبصار ليروا آيات الله في الآفاق وفي الحياة ليستيقنوا. ووهبناهم العقول ليتفكروا ويتدبروا ويوقنوا أن الله حق. وهبناهم ذلك كله ليؤمنوا ويعتبروا ويزدجروا لكنهم صرفوا كل هذه القوى في طلب اللذات والشهوات فما أغنى عنهم ما وهبناهم من عذاب الله شيئا ﴿ إذ كانوا يجحدون بآيات الله ﴾ وذلك تعليل لعدم استفادتهم من القوى المذكورة، أي لم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، لأنهم كانوا يجحدون بآيات الله.
قوله :﴿ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون ﴾ كانوا يسخرون من العذاب الذي توعدهم به نبيهم فنزل بهم ما كانوا به، وهو العذاب، وفي ذلك تخويف لهؤلاء المشركين أن يصيبهم مثل ما أصاب قوم عاد من العذاب.
قوله :﴿ وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ﴾ أي بينا لهل تلك القرى مختلف الحجج والدلائل والبينات ليتعظوا ويزدجروا لكنهم أبوا واستكبروا، فأهلكناهم بكفرهم وذنوبهم.
والمعنى : هلا نصرهم آلهتهم المزعومة التي تقربوا بها إلى الله – بزعمهم- لتكون لهم عنده شفعاء فتنقذهم من بأس الله وعذابه إذا نزل بهم. والمراد أن هؤلاء المشركين العرب لو كانت آلهتهم تنفعهم أو تغنيهم من الله شيئا لنفعت الذين من قبلهم من الأمم لما أتاهم بأس الله. قوله :﴿ بل ضلوا عنهم ﴾ أي تركتهم آلهتهم وخذلتهم فلم تنفعهم ولم تغن عنهم من عذاب الله شيئا.
قوله :﴿ وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ﴾ الإفك معناه الكذب٣، أي ذلك هو كذبهم وافتراؤهم، إذ كانوا يفترون الكذب بقولهم عن آلهتهم وأوثانهم إنها شفاء لهم عند ربهم تقربهم إلى الله زلفى٤.
٢ مختار الصحاح ص ٥٢٧..
٣ مختار الصاحاح ص ١٩..
٤ تفسير الطبري جـ ٢٦ ص ١٩ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٢٩، ٣٠..
الجن صنف من خلق الله خلقهم من نار، ففيهم المؤمنون وفيهم الكافرون، فهم بذلك كبني آدم، فيهم الذين آمنوا والذين كفروا. وفي هذه الآية توبيخ لمشركي قريش وتقريع لهم بسبب كفرهم بما آمنت به الجن. وفيها إخبار من الله بأن نفرا من الجن استمعوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخفّوا إلى قومهم من الجن مسرعين مدهوشين مما سمعوا وهو قوله :﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ﴾ يعني واذكر يا محمد حين وجهنا إليك نفرا من الجن ﴿ يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا ﴾ يعني لما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعض : اسكتوا، لكي يسمعوا ﴿ فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ﴾ لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تلاوة القرآن انصرفوا مبادرين إلى قومهم ليحذروهم عصيان ربهم وإنكار قرآنه. وهذا يدل على إيمانهم بالله وتصديقهم بكتاب الله بعد أن بهرتهم آياته العجاب.
قوله :﴿ ويجركم من عذاب أليم ﴾ أي وينقذكم من عذاب وجيع إن أنتم آمنتم وأنبتم إلى ربكم طائعين مذعنين.
قوله :﴿ أولئك في ضلال مبين ﴾ الإشارة عائدة إلى الذين لا يجيبون داعي الحق ويستنكفون عن طاعة الله، فهؤلاء موغلون في الباطل سادرون في غيهم الظاهر.
ذلك برهان من الله يبين فيه أن الساعة حق وأنه سبحانه محيي الموتى ليلاقوا الحساب. ذلك أن الله خلق السموات والأرض، وهذان خلقان هائلان عظيمان، وفيهما من كبير الأجرام والأشياء ما يثير العجب ويدهش البال. لا جرم أن خالق ذلك لهو قادر على إحياء الموتى. فقال :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ﴾ الهمزة للإنكار، والوار للعطف على مقدر. والمراد من هذه الآية إقامة الدلالة على أن الله تعالى قادر على إقامة الساعة وبعث الموتى، فهو خالق السموات والأرض، وخلقهما أعظم وأفخم من إعادة الحياة للأموات. ذلك أن الله القادر على الأقوى لهو أقدر على الأقل والأضعف. والمعنى : أو لم ير هؤلاء المكذبون بيوم القيامة المنكرون لبعث الناس من قبورهم أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يعجزه خلقهن – لهو قادر على إحياء الموتى ﴿ بلى إنه على كل شيء قدير ﴾ بلى إن الله قادر على فعل ما يشاء وهو سبحانه لا يعجزه شيء.
قوله :﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ أي بالدعاء عليهم أن يحيق بهم العذاب بل اصبر واحتمل كما صبر المرسلون المقربون أولو الجد والهمم العالية، فعسى أن يؤمنوا فتنشأ عنهم أمم وأجيال على منهج الله وعقيدة الإسلام.
قوله :﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾ إذا عاين الخاسرون النار وأيقنوا أنها مستقرهم ومأواهم أحسوا حينئذ كأنهم لم يلبثوا في دنياهم غير ساعة من ساعات النهار ﴿ بلاغ ﴾ مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف وتقديره : هذا بلاغ. ويجوز النصب على أنه مصدر١ يعني هذا الذي وعظتم به فيه كفاية لكم من الذكرى.
قوله :﴿ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾ أي هل يهلك إلا الخارجون عن أمر الله أو عن الاتعاظ بهذا البلاغ والعمل بمقتضاه. وبذلك لا يهلك بعذاب الله إلا الضالون الخارجون عن طاعة ربهم. وقيل : لا يهلك على الله إلا هالك. وقيل : هذه الآية أقوى آية في الرجاء٢.
٢ فتح القدير جـ ٥ ص ٢٧ وتفسير الرازي جـ ٢٨ ص ٣٤ – ٣٦..