وهي مكية.
قد تقدم في صحيح مسلم، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة " الم تَنزيلُ " السجدة، و " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " ١
وقال عبد الله بن وهب : أخبرنا ابن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة :" هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود، فلما بلغ صفة الجنان، زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أخرج نفس٢ صاحبكم - أو قال : أخيكم - الشوقُ إلى الجنة ". مرسل غريب٣.
٢ - (٢) في أ: "روح"..
٣ - (٣) وقد جاء موصولا، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٧٧٤) "مجمع البحرين" من طريق عفيف بن سالم، عن أيوب بن عتبه، عن عطاء، عن ابن عمر: أن رجلا من الحبشة، فذكر قصة طويلة وفيها: أن نزلت هذه السورة وهو عند الرسول فقال: يا رسول الله، هل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك؟ فقال النبي: "نعم" فبكى الحبشي حتى فاضت نفسه. وقال الطبراني: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف". وسيأتي الحديث عند آخر السورة من رواية الطبراني..
ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
قَدْ تَقَدَّمَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ " الم تَنزيلُ " السَّجْدَةَ، وَ " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ " (١)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ زَيْدٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ السُّورَةَ: " هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ " وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ أَسْوَدُ، فَلَمَّا بَلَغَ صِفَةَ الْجِنَانِ، زَفَرَ زَفْرَةً فَخَرَجَتْ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخْرَجَ نَفْسَ (٢) صَاحِبِكُمْ -أَوْ قَالَ: أَخِيكُمْ-الشوقُ إِلَى الْجَنَّةِ". مُرْسَلٌ غَرِيبٌ (٣).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (١) إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (٣) ﴾يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ (٤) لِحَقَارَتِهِ وَضَعْفِهِ، فَقَالَ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ ؟
ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ أَيْ: أَخْلَاطٍ. وَالْمَشْجُ وَالْمَشِيجُ: الشَّيْءُ الخَليط (٥)، بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ يَعْنِي: مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَطَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، وَحَالٍ إِلَى حَالٍ، وَلَوْنٍ إِلَى لَوْنٍ. وَهَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْأَمْشَاجُ: هُوَ اخْتِلَاطُ ماء الرجل بماء المرأة.
(٢) في أ: "روح".
(٣) وقد جاء موصولا، فرواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٧٧٤) "مجمع البحرين" من طريق عُفَيْفُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ، عن عطاء، عن ابن عمر: أن رجلا من الحبشة، فذكر قصة طويلة وفيها: أن نزلت هذه السورة وهو عند الرسول فقال: يا رسول الله، هل ترى عيني في الجنة مثل ما ترى عينك؟ فقال النبي: "نعم" فبكى الحبشى حتى فاضت نفسه. وقال الطبراني: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف". وسيأتي الحديث عند آخر السورة من رواية الطبراني.
(٤) في أ: "مذكورًا".
(٥) في م: "المختلط".
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ أَيْ: بَيَّنَّاهُ لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وَبَصَّرْنَاهُ بِهِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾ [فُصِّلَتْ: ١٧]، وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [الْبَلَدِ: ١٠]، أَيْ: بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَعَطِيَّةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَمُجَاهِدٍ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ-وَالْجُمْهُورِ.
ورُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ يَعْنِي خُرُوجَهُ مِنَ الرَّحِمِ. وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ "الْهَاءِ" فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِمَّا شَقِيٌّ وَإِمَّا سَعِيدٌ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ مُعْتقها" (١). وَتَقَدَّمَ فِي سورة "الروم" عند قوله: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الرُّومِ: ٣٠] مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يُعربَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِذَا أَعْرَبَ عَنْهُ لِسَانُهُ، فَإِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا".
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ إِلَّا بِبَابِهِ رَايَتَانِ: رايةٌ بِيَدِ مَلَك، وَرَايَةٌ بِيَدِ شَيطان، فَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُحِبّ اللهُ اتبعَه المَلَك بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الْمَلَكِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ. وَإِنْ خَرَجَ لِمَا يُسخط اللَّهَ اتَّبَعَهُ الشَّيْطَانُ بِرَايَتِهِ، فَلَمْ يَزَلْ تَحْتَ رَايَةِ الشَّيْطَانِ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ" (٢).
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ خُثَيم، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ، عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجرَة: "أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ". قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟ قَالَ: "أُمَرَاءٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي، لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ، وَلَا يستَنّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدّقهم بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَردُون عَلَى حَوْضِي. وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنهم عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَسَيَرِدُونَ عَلَى حَوْضِي. يَا كَعْبَ بْنَ عُجرَة، الصَّوْمُ جَنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَالصَّلَاةُ قُرْبَانٌ -أَوْ قَالَ: بُرْهَانٌ-يَا كعبَ بنَ عجرَة، إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْت، النَّارُ أَوْلَى بِهِ. يَا كَعْبُ، النَّاسُ غَاديان، فمبتاعُ نفسَه فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا".
وَرَوَاهُ عَنْ عَفّان، عَنْ وُهَيب (٣)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، بِهِ (٤).
(٢) المسند (٢/٣٢٣).
(٣) في أ: "عن وهب".
(٤) المسند (٣/٣٢١).
قال ابن عباس في قوله :﴿ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ ﴾ يعني : ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. وهكذا قال عكرمة، ومجاهد، والحسن، والربيع بن أنس : الأمشاج : هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة.
وقوله :﴿ نَبْتَلِيهِ ﴾ أي : نختبره، كقوله :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ﴾ [ الملك : ٢ ]. ﴿ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ أي : جعلنا له سمعا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ (١) (مَا أَكْفَرَهُ) مَا أَشَدَّ كُفْرَهُ! وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: أَيُّ شَيْءٍ جَعَلَهُ كَافِرًا؟ أَيْ: مَا حَمَلَهُ عَلَى التَّكْذِيبِ بِالْمَعَادِ (٢).
وَقَالَ قَتَادَةُ-وَقَدْ حَكَاهُ الْبَغَوِيُّ عَنْ مُقَاتِلٍ وَالْكَلْبِيِّ-: (مَا أَكْفَرَهُ) مَا أَلْعَنَهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُ كَيْفَ خَلَقَهُ مِنَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ كَمَا بَدَأَهُ، فَقَالَ: (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أَيْ: قَدَّرَ أَجَلَهُ وَرِزْقَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ثُمَّ يَسَّرَ عَلَيْهِ خُرُوجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ (٣).
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ كَقَوْلِهِ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الْإِنْسَانِ: ٣] أَيْ: بَيَّنَّا (٤) لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وَسَهَّلْنَا عَلَيْهِ عَمَلَهُ (٥) وَهَكَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَابْنُ زَيْدٍ. وَهَذَا هُوَ الْأَرْجَحُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أَيْ: إِنَّهُ بَعْدَ خَلْقِهِ لَهُ (أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) أَيْ: جَعَلَهُ ذَا قَبْرٍ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: "قَبَرْتُ الرَّجُلَ": إِذَا وَلِيَ ذَلِكَ مِنْهُ، وَأَقْبَرَهُ اللَّهُ. وَعَضَبْتُ قَرْنَ الثَّوْرِ،
وَأَعْضَبَهُ اللَّهُ، وَبَتَرْتُ ذَنَبَ الْبَعِيرِ وَأَبْتَرَهُ اللَّهُ. وَطَرَدْتُ عَنِّي فُلَانًا، وَأَطْرَدَهُ اللَّهُ، أَيْ: جَعَلَهُ طَرِيدًا قَالَ الْأَعْشَى:
لَو أسْنَدَتْ مَيتًا إِلَى نَحْرها (٦) عَاش، وَلم يُنقَل إلى قَابِر (٧)
(٢) تفسير الطبري (٣٠/٣٥)، وقد تصرف الحافظ هنا في كلامه
(٣) تفسير الطبري (٣٠/٣٦).
(٤) في أ: "أي بيناه"
(٥) في أ: "عمله".
(٦) في م، أ: "إلى صدرها".
(٧) البيت في تفسير الطبري (٣٠/٣٦).
قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ؛ ولهذا قال :﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا ﴾
يُخْبِرُ تَعَالَى عَمَّا أَرْصَدَهُ لِلْكَافِرِينَ مِنْ خَلْقِهِ بِهِ مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ، وَهُوَ اللَّهَبُ وَالْحَرِيقُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ: ﴿إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾ [غَافِرٍ: ٧١، ٧٢].
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ (١) لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي مُزج لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مَزْجٍ ويَرْوَوْنَ بِهَا؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَ يشرَب "يَرْوَى" حَتَّى عَدَّاهُ بِالْبَاءِ، وَنَصَبَ ﴿عَيْنًا﴾ عَلَى التَّمْيِيزِ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ (٢) فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنْ عَيْنٍ كَافُورٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا بِـ ﴿يَشْرَبُ﴾ حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ ابنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ أَيْ: يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا حَيْثُ شَاؤُوا وَأَيْنَ شَاؤُوا، مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ.
وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الْإِنْبَاعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٩٠]. وَقَالَ: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا﴾ [الْكَهْفِ: ٣٣].
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا﴾ يَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا، وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يَصْرِفُونَهَا حَيْثُ شَاؤُوا.
وَقَوْلُهُ: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا﴾ أَيْ: يَتَعَبَّدُونَ لِلَّهِ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ [فِعْلِ] (٣) الطَّاعَاتِ الْوَاجِبَةِ بِأَصْلِ الشَّرْعِ، وَمَا أَوْجَبُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِطَرِيقِ النذر.
(٢) في م: "الطعام".
(٣) زيادة من م، أ.
وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي شَرُهُ مُسْتَطِيرٌ، أَيْ: مُنْتَشِرٌ عَامٌّ عَلَى النَّاسِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاشِيًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَطَارَ -وَاللَّهِ-شَرُّ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى مَلأ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: اسْتَطَارَ الصَّدْعُ فِي الزُّجَاجَةِ وَاسْتَطَالَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت فِي الفُؤا | دِ صَدْعًا، عَلَى نَأيها مُستَطيرًا (٢) |
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ قِيلَ: عَلَى حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَجَعَلُوا الضَّمِيرَ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، أَيْ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧٧]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢].
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا -أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ-فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ -يَعْنِي امْرَأَتَهُ-فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا بِدِرْهَمٍ، فَاتَّبَعَ الرسولَ السَّائِلُ، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا فَاتَّبَعَ الرسولَ السائلُ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَعْطُوهُ إِيَّاهُ. فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُ. فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ إِلَى السَّائِلِ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنْ عُدتَ لَا تصيبُ مِنْهُ خَيْرًا أَبَدًا. ثُمَّ أَرْسَلَتْ بِدِرْهَمٍ آخَرَ فَاشْتَرَتْ بِهِ (٣).
وَفِي الصَّحِيحِ: "أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تَصَدّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأْمَلُ الْغِنَى، وَتَخْشَى الْفَقْرَ" (٤) أَيْ: فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾ أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا. وَأَمَّا الْأَسِيرُ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ: مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أُسَرَاؤُهُمْ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ. وَيَشْهَدُ لِهَذَا أن رسول الله ﷺ أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الْأُسَارَى، فَكَانُوا يُقَدِّمُونَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ عِنْدَ الْغَدَاءِ، وَهَكَذَا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.
(٢) تفسير الطبري (٢٩/١٢٩).
(٣) السنن الكبرى للبيهقي (٤/١٨٥).
(٤) صحيح مسلم برقم (١٠٣٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ -وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ-لِعُمُومِ الْآيَةِ لِلْمُسْلِمِ وَالْمُشْرِكِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْمَحْبُوسُ، أَيْ: يُطْعِمُونَ لِهَؤُلَاءِ الطَّعَامَ وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ، قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ أَيْ: رجاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ ﴿لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا﴾ أَيْ: لَا نَطْلُبُ مِنْكُمْ مُجَازَاةً تُكَافِئُونَا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ.
﴿إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ أَيْ: إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ، فِي الْيَوْمِ الْعَبُوسِ الْقَمْطَرِيرِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿عَبُوسًا﴾ ضَيِّقًا، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ طَوِيلًا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ، عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: ﴿يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾ أَيْ: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يَوْمَئِذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَق مِثْلُ القَطرَان.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿عَبُوسًا﴾ الْعَابِسُ الشَّفَتَيْنِ، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ قَالَ: تَقْبِيضُ الوَجه بالبُسُور.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنَ الْهَوْلِ، ﴿قَمْطَرِيرًا﴾ تَقْلِيصُ الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ، مِنَ الْهَوْلِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعُبُوسُ: الشَّرُّ. وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ.
وَأَوْضَحُ الْعِبَارَاتِ وَأَجْلَاهَا وَأَحْلَاهَا، وَأَعْلَاهَا وَأَوْلَاهَا -قولُ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ: الشَّدِيدُ؛ يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُماطِر، وَيَوْمٌ عَصِيب وعَصَبْصَب، وَقَدِ اقْمَطَرَّ اليومُ يَقْمَطِرُّ اقْمِطْرَارًا، وَذَلِكَ أَشَدُّ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهَا فِي الْبَلَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ:
بنَي عَمّنا، هَلْ تَذكُرونَ بَلاءنَا ؟ | عَلَيكم إذَا مَا كانَ يومُ قُمَاطرُ (٢) |
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢٩/١٣١) غير منسوب.
قال الإمام مالك، عن طلحة بن عبد الملك الأيلي، عن القاسم بن مالك، عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يَعصي الله فلا يَعصِه "، رواه البخاري من حديث مالك٢.
ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد، وهو اليوم الذي شره مستطير، أي : منتشر عام على الناس إلا من رَحِمَ الله.
قال ابن عباس : فاشيًا. وقال قتادة : استطار - والله - شرّ ذلك اليوم حتى مَلأ السماوات والأرض.
قال ابن جرير : ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال. ومنه قول الأعشى :
فَبَانَتْ وَقَد أسْأرت في الفُؤا | د صَدْعًا، على نَأيها مُستَطيرًا٣ |
٢ - (١) صحيح البخاري برقم (٦٦٩٦، ٦٧٠٠)..
٣ - (٢) تفسير الطبري (٢٩/١٢٩)..
وروى البيهقي، من طريق الأعمش، عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب - فأرسلت صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتبع الرسولَ السائل، فلما دخل به قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ، فلما دخل قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت : والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به١.
وفي الصحيح :" أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر " ٢ أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ أما المسكين واليتيم، فقد تقدم بيانهما وصفتهما. وأما الأسير : فقال سعيد بن جبير، والحسن، والضحاك : الأسير : من أهل القبلة. وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.
وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول :" الصلاةَ وما ملكت أيمانكم " ٣.
وقال عكرمة : هم العبيد - واختاره ابن جرير - لعموم الآية للمسلم والمشرك.
م*
قال مجاهد : هو المحبوس، أي : يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ﴾
٢ - (٤) صحيح مسلم برقم (١٠٣٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ - (١) رواه أحمد في المسند (١/٧٨) من حديث على رضي الله عنه..
وروى البيهقي، من طريق الأعمش، عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنبا - أول ما جاء العنب - فأرسلت صفية - يعني امرأته - فاشترت عنقودًا بدرهم، فاتبع الرسولَ السائل، فلما دخل به قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت عنقودًا فاتبع الرسولَ السائلُ، فلما دخل قال السائل : السائل. فقال ابن عمر : أعطوه إياه. فأعطوه إياه. فأرسلت صفية إلى السائل فقالت : والله إن عُدتَ لا تصيبُ منه خيرًا أبدًا. ثم أرسلت بدرهم آخر فاشترت به١.
وفي الصحيح :" أفضل الصدقة أن تَصَدّقَ وأنت صحيح، شحيح، تأمل الغنى، وتخشى الفقر " ٢ أي : في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ أما المسكين واليتيم، فقد تقدم بيانهما وصفتهما. وأما الأسير : فقال سعيد بن جبير، والحسن، والضحاك : الأسير : من أهل القبلة. وقال ابن عباس : كان أسراؤهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء، وهكذا قال سعيد بن جبير، وعطاء، والحس، وقتادة.
وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء في غير ما حديث، حتى إنه كان آخر ما أوصى أن جعل يقول :" الصلاةَ وما ملكت أيمانكم " ٣.
وقال عكرمة : هم العبيد - واختاره ابن جرير - لعموم الآية للمسلم والمشرك.
م*
قال مجاهد : هو المحبوس، أي : يطعمون لهؤلاء الطعام وهم يشتهونه ويحبونه، قائلين بلسان الحال :﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ﴾
٢ - (٤) صحيح مسلم برقم (١٠٣٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه..
٣ - (١) رواه أحمد في المسند (١/٧٨) من حديث على رضي الله عنه..
أي : رجاءَ ثواب الله ورضاه ﴿ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾ أي : لا نطلب منكم مجازاة تكافئونا بها ولا أن تشكرونا عند الناس.
قال مجاهد وسعيد بن جبير : أما والله ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم، فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس ﴿ عَبُوسًا ﴾ ضيقا، ﴿ قَمْطَرِيرًا ﴾ طويلا.
وقال عكرمة وغيره، عنه، في قوله :﴿ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴾ أي : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطرَان.
وقال مجاهد :﴿ عَبُوسًا ﴾ العابس الشفتين، ﴿ قَمْطَرِيرًا ﴾ قال : تقبيض الوَجه بالبُسُور.
وقال سعيد بن جبير، وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول، ﴿ قَمْطَرِيرًا ﴾ تقليص الجبين وما بين العينين، من الهول.
وقال ابن زيد : العبوس : الشر. والقمطرير : الشديد.
وأوضح العبارات وأجلاها وأحلاها، وأعلاها وأولاها - قولُ ابن عباس، رضي الله عنه.
قال ابن جرير : والقمطرير هو : الشديد ؛ يقال : هو يوم قمطرير ويوم قُماطِر، ويوم عَصِيب وعَصَبْصَب، وقد اقمطرّ اليومُ يقمطرّ اقمطرارا، وذلك أشد الأيام وأطولها في البلاء والشدة، ومنه قول بعضهم :
بنَي عَمّنا، هل تَذكُرونَ بَلاءنَا؟ | عَلَيكم إذَا ما كانَ يومٌ قُمَاطرُ١ |
٢ - (٢) حديث توبة كعب بن مالك في صحيح البخاري برقم (٣٩٥١، ٤٦٧٣)، وفي صحيح مسلم برقم (٢٧٦٩)، وتقدم عند تفسير الآية: ١١٨ من سورة "التوبة"..
٣ - (٣) حديث عائشة في لحاق أسامة بأبيه زيد. رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٥٥٥)، ومسلم في صحيحه برقم (١٤٥٩)..
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الدّارَاني قال : قرئ على أبي سليمان الداراني سورة :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ ﴾ فلما بلغ القارئ إلى قوله :﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ قال بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا، ثم أنشد :
كَم قَتيل بشَهوةٍ وأسير | أفّ مِنْ مُشتَهِي خِلاف الجَميل |
شَهوَاتُ الإنْسان تورثه الذُّل | وَتُلْقيه في البَلاء الطَّويل٢ |
٢ - (٥) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٧/٨٦) ووقع صدره فيه: كم قتيل لشهوة وأسير.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا﴾ أَيْ: بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ ونَوّلهم وَبَوَّأَهُمْ ﴿جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ أَيْ: مَنْزِلًا رَحْبًا، وَعَيْشًا رَغَدًا (٤) وَلِبَاسًا حَسَنًا.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ هِشَامِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدّارَاني قَالَ: قُرِئَ عَلَى أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ سُورَةُ: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ﴾ فَلَمَّا بَلَغَ الْقَارِئُ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾ قَالَ بِمَا صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَنْشَدَ:
كَم قَتيل بشَهوةٍ وَأَسِيرٌ... أُفٍّ مِنْ مُشتَهِي خِلاف الجَميل...
شَهوَاتُ الإنْسان تُوْرِثُهُ الذُّل | وَتُلْقيه فِي البَلاء الطَّويل (٥) |
يُخْبَرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَا أُسْبِغَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَضْلِ العَميم فَقَالَ: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ﴾ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ "الصَّافَّاتِ"، وَذَكَرَ الْخِلَافِ فِي الِاتِّكَاءِ: هَلْ هُوَ الِاضْطِجَاعُ، أَوِ التَّمَرْفُقُ، أَوِ التَّرَبُّعُ أَوِ التَّمَكُّنُ فِي الْجُلُوسِ؟ وَأَنَّ الْأَرَائِكَ هِيَ السُّرر تَحْتَ الْحِجَالِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا﴾ أَيْ: لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ، بَلْ هِيَ مِزَاجٌ وَاحِدٌ دَائِمٌ سَرْمَدْيّ، ﴿لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا﴾ [الكهف: ١٠٨].
(٢) حديث توبه كعب بن مالك في صحيح البخاري برقم (٣٩٥١، ٤٦٧٣)، وفي صحيح مسلم برقم (٢٧٦٩)، وتقدم عند تفسير الآية: ١١٨ من سورة "التوبة".
(٣) حديث عائشة في لحاق أسامة بأبيه زيد. رواه البخاري في صحيحه برقم (٣٥٥٥)، ومسلم في صحيحه برقم (١٤٥٩).
(٤) في م: "رغيدا".
(٥) انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (٢٧/٨٦) ووقع صدره فيه:
كم قتيل لشهوة وأسير
قَالَ (١) مُجَاهِدٌ: ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا﴾ إِنْ قَامَ ارْتَفَعَتْ بقَدْره، وَإِنْ قَعَدَ تَدَلَّتْ (٢) لَهُ حَتَّى يَنَالَهَا، وَإِنِ اضْطَجَعَ تَدَلَّت (٣) لَهُ حَتَّى يَنَالَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿تَذْلِيلا﴾
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا شوكٌ وَلَا بُعدُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرْضُ الْجَنَّةِ مِنْ وَرق، وَتُرَابُهَا الْمِسْكُ، وَأُصُولُ شَجَرِهَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَأَفْنَانُهَا مِنَ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ، والوَرَق وَالثَّمَرِ بَيْنَ ذَلِكَ. فَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا قَائِمًا لَمْ يُؤْذِهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا قَاعِدًا لَمْ يُؤْذِهِ، وَمَنْ أَكَلَ مِنْهَا مُضْطَجِعًا لَمْ يُؤْذِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ﴾ أَيْ: يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الخَدَم بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَأَكْوَابِ الشَّرَابِ وَهِيَ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا وَلَا خَرَاطِيمَ.
وَقَوْلُهُ (٤) :﴿قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِخَبَرِ "كَانَ" أَيْ: كَانَتْ قَوَارِيرَ. وَالثَّانِي مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى الْبَدَلِيَّةِ (٥) أَوْ تَمْيِيزٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: بَيَاضُ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، وَالْقَوَارِيرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ زُجَاجٍ. فَهَذِهِ الْأَكْوَابُ هِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ هَذَا شَفَّافَةٌ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهُهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ أَيْ: عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ، لَا تَزِيدُ عَنْهُ وَلَا تَنْقُصُ، بَلْ هِيَ مُعَدّة لِذَلِكَ، مُقَدَّرَةٌ بِحَسْبِ رِيِّ صَاحِبِهَا. هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ أَبْزَى، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَقَتَادَةَ، وَالشَّعْبِيِّ، وَابْنِ زَيْدٍ. وَقَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ.
وَقَالَ العَوفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ قُدِّرَتْ لِلْكَفِّ. وَهَكَذَا قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى قَدْرِ أكُفّ الخُدّام. وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فِي القَدْر وَالرِّيِّ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا﴾ (٦) أَيْ: وَيُسْقَوْنَ -يَعْنِي الْأَبْرَارَ أَيْضًا-فِي هَذِهِ الْأَكْوَابِ ﴿كَأْسًا﴾ أَيْ: خَمْرًا، ﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا﴾ فَتَارَةً يُمزَج لَهُمُ الشَّرَابُ بالكافور
(٢) في أ: "تذللت".
(٣) في أ: "تذللت".
(٤) في م، أ: "وهذه".
(٥) في أ: "على البداية".
(٦) في أ: "كان مزاجه" وهو خطأ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَةِ سَيْلِهَا وحِدّة جَريها.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا﴾ عَيْنٌ سَلِسَة مُستَقِيد (١) مَاؤُهَا.
وَحَكَى ابنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِسَلَاسَتِهَا فِي الحَلْق. وَاخْتَارَ هُوَ أَنَّهَا تَعُمّ ذَلِكَ كلَّه، وَهُوَ كَمَا قَالَ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ أَيْ: يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ للخدْمَة ولدانٌ مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ ﴿مُخَلَّدُونَ﴾ أَيْ: عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ مُخَلَّدُونَ عَلَيْهَا، لَا يَتَغَيَّرُونَ عَنْهَا، لَا تَزِيدُ أَعْمَارُهُمْ عَنْ تِلْكَ السِّنِّ. وَمَنْ فَسَرَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مُخَرّصُونَ فِي آذَانِهِمُ الْأَقْرِطَةَ، فَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنِ الْمَعْنَى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ هُوَ الَّذِي يَلِيقُ لَهُ ذَلِكَ دُونَ الْكَبِيرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا﴾ أَيْ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ فِي انْتِشَارِهِمْ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ السَّادَةِ، وَكَثْرَتِهِمْ، وَصَبَاحَةِ وُجُوهِهِمْ، وَحُسْنِ أَلْوَانِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَحُلِيِّهِمْ، حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا. وَلَا يَكُونُ فِي التَّشْبِيهِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا، وَلَا فِي الْمَنْظَرِ أَحْسَنُ مِنَ اللُّؤْلُؤِ الْمَنْثُورِ عَلَى الْمَكَانِ الْحَسَنِ.
قَالَ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: مَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ خَادِمٍ، كُلُّ خَادِمٍ عَلَى عَمَلٍ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ﴾ أَيْ: وَإِذَا رَأَيْتَ يَا مُحَمَّدُ، ﴿ثَمَّ﴾ أَيْ: هُنَاكَ (٢)، يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا وسَعَتها وَارْتِفَاعِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الحَبْرَة وَالسُّرُورِ، ﴿رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا﴾ أَيْ: مَمْلَكَةً لِلَّهِ هُناك عَظِيمَةً وَسُلْطَانًا بَاهِرًا.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لِآخَرِ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا، وَآخَرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَيْهَا: إِنَّ لَكَ مثلَ الدُّنْيَا وَعَشْرَةَ أَمْثَالِهَا.
وَقَدْ قَدّمنا (٣) فِي الْحَدِيثِ المَرويّ مِنْ طَرِيقِ ثُوَير بْنِ أَبِي فَاخِتَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً لَمَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ مَسِيرَةَ أَلْفَيْ (٤) سَنَةٍ يَنْظُرُ إِلَى أَقْصَاهُ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى أَدْنَاهُ". فَإِذَا كَانَ هَذَا عَطَاؤُهُ تَعَالَى لِأَدْنَى مَنْ يَكُونُ فِي الْجَنَّةِ، فَمَا ظَنُّكَ بِمَا هُوَ أَعْلَى مَنْزِلَةً، وَأَحْظَى عِنْدَهُ تَعَالَى.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ هَاهُنَا حَدِيثًا غَرِيبًا جِدًّا فَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن
(٢) في أ: "أي هنالك".
(٣) عند تفسير الآية: ٢٣ من سورة "القيامة".
(٤) في أ: "مسيرة ألف".
قال١ مجاهد :﴿ وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ﴾ إن قام ارتفعت بقَدْره، وإن قعد تَدَلَّتْ٢ له حتى ينالها، وإن اضطجع تَدَلَّت٣ له حتى ينالها، فذلك قوله :﴿ تَذْلِيلا ﴾
وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوكٌ ولا بُعدٌ.
وقال مجاهد : أرض الجنة من وَرق، وترابها المسك، وأصول شجرها من ذهب وفضة، وأفنانها من اللؤلؤ الرطب والزبرجد والياقوت، والوَرَق والثمر بين ذلك. فمن أكل منها قائما لم يؤذه، ومن أكل منها قاعدا لم يؤذه، ومن أكل منها مضطجعًا لم يؤذه.
٢ - (٢) في أ: "تذللت"..
٣ - (٣) في أ: "تذللت"..
قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن البصري، وغير واحد : بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج. فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.
قال ابن المبارك، عن إسماعيل، عن رجل، عن ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلا قد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴾ أي : على قدر ريّهم، لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي مُعَدّة لذلك، مقدرة بحسب ريّ صاحبها. هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، وقتادة، وابن أبزى، وعبد الله بن عُبَيد الله بن عمير، وقتادة، والشعبي، وابن زيد. وقاله ابن جرير وغير واحد. وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة.
وقال العَوفي، عن ابن عباس :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴾ قدرت للكف. وهكذا قال الربيع بن أنس. وقال الضحاك : على قدر أكُفّ الخُدّام. وهذا لا ينافي القول الأول، فإنها مقدرة في القَدْر والرّي.
٢ - (٥) في أ: "على البداية"..
قال عكرمة : اسم عين في الجنة. وقال مجاهد : سميت بذلك لسلاسة سيلها وحِدّة جَريها.
وقال قتادة :﴿ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ﴾ عين سَلِسَة مُستَقِيد١ ماؤها.
وحكى ابنُ جرير عن بعضهم أنها سميت بذلك لسلاستها في الحَلْق. واختار هو أنها تَعُمّ ذلك كلَّه، وهو كما قال.
قال قتاده، عن أبي أيوب، عن عبد الله بن عمرو : ما من أهل الجنة من أحد إلا يسعى عليه ألف خادم، كل خادم على عمل ما عليه صاحبه.
وقوله :﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ﴾ أي : وإذا رأيت يا محمد، ﴿ ثَمَّ ﴾ أي : هناك١، يعني في الجنة ونعيمها وسَعَتها وارتفاعها وما فيها من الحَبْرَة والسرور، ﴿ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ أي : مملكةً لله هُناك عظيمةً وسلطانًا باهرًا.
وثبت في الصحيح أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجا منها، وآخر أهل الجنة دخولا إليها : إن لك مثلَ الدنيا وعشرة أمثالها.
وقد قَدّمنا٢ في الحديث المَرويّ من طريق ثُوَير بن أبي فاختة، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي٣ سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه ". فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة، فما ظنك بما هو أعلى منزلة، وأحظى عنده تعالى.
وقد روى الطبراني هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال : حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عفيف٤ بن سالم، عن أيوب بن عتبة، عن عطاء، عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال له رسول الله :" سل واستفهم ". فقال : يا رسول الله، فُضّلْتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيتَ إن آمنتُ بما آمنتَ به وعملتُ بمثل ما عملتَ به، إني لكائن معكَ في الجنة ؟ قال :" نعم، والذي نفسي بيده، إنه لَيُرَى بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام ". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من قال : لا إله إلا الله، كان له بها عَهدٌ عند الله، ومن قال : سبحان الله وبحمده، كتب له مائة ألف حسنة، وأربعة وعشرون ألف حسنة ". فقال رجل : كيف نهلك بعد هذا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وُضِعَ على جبل لأثقله، فتقوم النعمة - أو : نعَم الله - فتكاد تستنفذ ذلك كله، إلا أن يَتَغَمّده الله برحمته ". ونزلت هذه السورة :﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ﴾ إلى قوله :﴿ وَمُلْكًا كَبِيرًا ﴾ فقال الحبشي : وإن عيني لترى ما ترى عيناك في الجنة ؟ قال :" نعم ". فاستبكى حتى فاضت نفسه. قال ابن عمر : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُدليه في حُفرَته بيده٥.
٢ - (٣) عند تفسير الآية: ٢٣ من سورة "القيامة"..
٣ - (٤) في أ: "مسيرة ألف"..
٤ - (١) في م، أ، هـ: "حدثنا عقبة" والمثبت من المعجم الأوسط للطبراني..
٥ - (٢) المعجم الأوسط برقم (٤٧٧٤) "مجمع البحرين"، وقال: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف"..
ولما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال٢ بعده :﴿ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ﴾ أي : طهر بواطنهم من الحَسَد والحقد والغل والأذى وسائر الأخلاق الرّديَّة، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهلُ الجنة إلى باب الجنة وَجَدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما [ فأذهب الله ]٣ ما في بطونهم من أذى، ثم اغتسلوا من الأخرى فَجَرت عليهم نضرةُ النعيم.
٢ - (٤) في أ: "فقال"..
٣ - (٥) مكانها في هـ، كلمة غير واضحة، والمثبت من م، أ..
وقوله :﴿ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا ﴾ أي : جزاكم الله على القليل بالكثير.
وَقَوْلُهُ: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ أَيْ: لِبَاسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا الْحَرِيرُ، وَمِنْهُ سُنْدُسٌ، وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِي أَبْدَانَهُمْ، وَالْإِسْتَبْرَقُ مِنْهُ مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ، وَهُوَ مِمَّا يَلِي الظَّاهِرَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللِّبَاسِ (٣) ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَكَمَا قَالَ: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ [الْحَجِّ: ٢٣]
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى زِينَةَ الظَّاهِرِ بِالْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ قَالَ (٤) بَعْدَهُ: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا﴾ أَيْ: طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الحَسَد وَالْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْأَذَى وَسَائِرِ الْأَخْلَاقِ الرّديَّة، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْتَهَى أهلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَجَدوا هُنَالِكَ عَيْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا أُلْهِمُوا ذَلِكَ فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا [فَأَذْهَبَ اللَّهُ] (٥) مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ اغْتَسَلُوا مِنَ الْأُخْرَى فَجَرت عَلَيْهِمْ نضرةُ النَّعِيمِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُمْ وَإِحْسَانًا إِلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ [الْحَاقَّةِ: ٢٤] وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ٤٣]
وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ أَيْ: جَزَاكُمُ اللَّهُ عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ.
﴿إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزيلا (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا (٢٥) ﴾
(٢) المعجم الأوسط برقم (٤٧٧٤) "مجمع البحرين"، وقال: "لا يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عفيف".
(٣) في أ: "في الملبس".
(٤) في أ: "فقال".
(٥) مكانها في هـ، كلمة غير واضحة، والمثبت من م، أ.
﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا﴾ أَيْ: أولَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ.
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٧٩] وَكَقَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا﴾ [الْمُزَّمِّلِ: ١-٤].
ثُمَّ قَالَ: مُنْكِرًا عَلَى الْكُفَّارِ وَمَنْ أَشْبَهَهُمْ فِي حُبّ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَالِانْصِبَابِ إِلَيْهَا، وَتَرْكِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلا﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي خَلْقَهم. ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا﴾ أَيْ: وَإِذَا شِئْنَا بَعَثْنَاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وبَدلناهم فَأَعَدْنَاهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْبُدَاءَةِ عَلَى الرَّجْعَةِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ: ﴿وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا﴾ [أَيْ] (٢) : وَإِذَا شِئْنَا أَتَيْنَا بِقَوْمٍ آخَرِينَ غَيْرِهِمْ، كَقَوْلِهِ: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ (٣) قَدِيرًا﴾ [النِّسَاءِ: ١٣٣] وَكَقَوْلِهِ: ﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ١٩، ٢٠، وَفَاطِرٍ ١٦، ١٧].
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذِهِ﴾ يَعْنِي: هَذِهِ السُّورَةَ ﴿تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا﴾ أَيْ طَرِيقًا وَمَسْلَكًا، أَيْ: مَنْ شَاءَ اهْتَدَى بِالْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا﴾ [النساء: ٣٩].
(٢) زيادة من م.
(٣) في أ: "وكان الله على كل شيء" وهو خطأ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ أَيْ: يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يَهْدِهِ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
[آخِرُ سورة "الإنسان"] (٢) [والله أعلم] (٣)
(٢) زيادة من م، أ.
(٣) زيادة من أ.
وقال ابن زيد، وابن جرير :﴿ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلا ﴾ [ أي ]١ : وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم، كقوله :﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ٢ قَدِيرًا ﴾ [ النساء : ١٣٣ ] وكقوله :﴿ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٩، ٢٠، وفاطر ١٦، ١٧ ].
٢ - (٣) في أ: "وكان الله على كل شيء" وهو خطأ..