ﰡ
- ٢ - إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً
- ٣ - إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْإِنْسَانِ، أَنَّهُ أَوْجَدَهُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا يُذْكَرُ لِحَقَارَتِهِ وضعفه، فقال تَعَالَى: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً؟﴾ ثُمَّ بيَّن ذَلِكَ فقال جلَّ جلاله: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾ أَيْ أخلاط، والمشج والمشيج، الشيء المختلط بعضه فِي بَعْضٍ، قال ابن عباس: يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ إِذَا اجْتَمَعَا وَاخْتَلَطَا، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بَعْدُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طور، وحال إلى حال، وقال عكرمة ومجاهد: الْأَمْشَاجُ هُوَ اخْتِلَاطُ مَاءِ الرَّجُلِ بِمَاءِ الْمَرْأَةِ، وقوله تعالى: ﴿نَّبْتَلِيهِ﴾ أي نختبره كقوله جلَّ جلاله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عملاً﴾، ﴿فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ أَيْ جَعَلَنَا لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا يَتَمَكَّنُ بِهِمَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَقَوْلُهُ جلَّ وعلا: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ أَيْ بَيَّنَّاهُ لَهُ وَوَضَّحْنَاهُ وبصرناه به كقوله جلَّ وعلا: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى﴾، وكقوله جلَّ وعلا: ﴿وهديناه النجدين﴾ أَيْ بَيَّنَّا لَهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَطَرِيقَ الشَّرِّ، وهذا قول عكرمة ومجاهد والجمهور، وروي عن الضحّاك والسدي ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ يَعْنِي خُرُوجَهُ مِنَ الرَّحِمِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْهَاءِ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ﴾ تَقْدِيرُهُ: فَهُوَ فِي ذَلِكَ إِمَّا شَقِيٌّ وَإِمَّا سعيد، كما جاء في الحديث الصحيح: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمَوْبِقُهَا أَوْ معتقها» (رواه مسلم من حديث أبي مالك الأشعري)، وقد تقدم من رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ
- ٥ - إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا
- ٦ - عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا
- ٧ - يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
- ٨ - وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً
- ٩ - إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً
- ١٠ - إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيرًا
- ١١ - فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا
- ١٢ - وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جنة وحريرا
يخبرتعالى عما أرصده للكافرين من خلقه، مِنَ السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ وَالسَّعِيرِ وَهُوَ اللَّهَبُ، وَالْحَرِيقُ في نار جهنم كما قال تَعَالَى: ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ﴾، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِهَؤُلَاءِ الْأَشْقِيَاءِ مِنَ السَّعِيرِ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً﴾، وَقَدْ عُلِمَ مَا فِي الْكَافُورِ مِنَ التَّبْرِيدِ وَالرَّائِحَةِ الطَّيِّبَةِ، مَعَ مَا يُضَافُ إِلَى ذَلِكَ مِنَ اللَّذَاذَةِ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ الْحَسَنُ: بَرْدُ الْكَافُورِ فِي طِيبِ الزَّنْجَبِيلِ، وَلِهَذَا قَالَ: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ أَيْ هَذَا الَّذِي مُزِجَ لِهَؤُلَاءِ الْأَبْرَارِ مِنَ الْكَافُورِ، هُوَ عَيْنٌ يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَرْفًا بِلَا مزج ويروون بها، قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الشَّرَابُ فِي طِيبِهِ كَالْكَافُورِ، وقال بعضهم: هو من عين كافور، وقوله تعالى: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ أي يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا، مِنْ قُصُورِهِمْ وَدُورِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَمَحَالِّهِمْ، وَالتَّفْجِيرُ هُوَ الاتباع، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعاً﴾، وقال: ﴿وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً﴾ وقال مجاهد: ﴿يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً﴾ يقودونها حيث شاءوا، وقال الثوري: يصرفونها حيث شاءوا، وقوله تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر، وفي الحديث: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نذر أن يعصي الله فلا يعصه» (أخرجه الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ)، وَيَتْرُكُونَ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنْهَا خِيفَةً مِنْ سُوءِ الْحِسَابِ يَوْمَ المعاد وهو اليوم الذي يكون ﴿شَرُّهُ مُسْتَطِيراً﴾ أي منتشراً عاماً على
وقوله تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ﴾ قِيلَ: عَلَى حُبِّ الله تعالى لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ عَلَى الطَّعَامِ، أَيْ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ فِي حَالِ مَحَبَّتِهِمْ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حبه﴾، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾، وروى البيهقي عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ فَاشْتَهَى عِنَبًا أَوَّلَ مَا جَاءَ الْعِنَبُ، فَأَرْسَلَتْ صَفِيَّةُ يَعْنِي امْرَأَتَهُ فَاشْتَرَتْ عُنْقُودًا بِدِرْهَمٍ، فَاتَّبَعَ الرَّسُولَ سائل، فَلَمَّا دَخَلَ بِهِ قَالَ السَّائِلُ: السَّائِلَ، فَقَالَ ابن عمر: أعطوه إياه فأعطوه إياه (أخرجه البيهقي عن نافع وفيه أنها أرسلت بدرهم آخر فاشترت به فأعطاه للسائل ثم بدرهم ثالث)، وَفِي الصَّحِيحِ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ تصدَّق وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمَلُ الْغِنَى وَتَخْشَى الْفَقْرَ» أَيْ فِي حَالِ مَحَبَّتِكَ لِلْمَالِ وَحِرْصِكَ عَلَيْهِ وَحَاجَتِكَ إِلَيْهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً﴾ أَمَّا الْمِسْكِينُ وَالْيَتِيمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُمَا وَصِفَتُهُمَا، وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَقَالَ الحسن وَالضَّحَّاكُ: الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ ابْنُ عباس: كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين، يشهد لِهَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ بَدْرٍ أَنْ يُكْرِمُوا الأسارى، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغذاء، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمُ الْعَبِيدُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ لعموم الآية للمسلم والمشرك، وَقَدْ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بالإحسان إلى الأرقاء حتى كان آخر ما أوصى به أَنْ جَعَلَ يَقُولُ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» قال مجاهد: هو المحبوس، أي يطعمون الطعام لهؤلاء، وَهُمْ يَشْتَهُونَهُ وَيُحِبُّونَهُ قَائِلِينَ بِلِسَانِ الْحَالِ: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ أَيْ رَجَاءَ ثَوَابِ اللَّهِ وَرِضَاهُ ﴿لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً﴾ أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بِهَا وَلَا أَنْ تَشْكُرُونَا عِنْدَ النَّاسِ، قَالَ مجاهد: أَمَا وَاللَّهِ مَا قَالُوهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ بِهِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ رَاغِبٌ ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً﴾ أَيْ إِنَّمَا نَفْعَلُ هَذَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَنَا وَيَتَلَقَّانَا بِلُطْفِهِ في اليوم العبوس القمطرير، قال ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿عَبُوساً﴾ ضَيِّقًا ﴿قَمْطَرِيراً﴾ طَوِيلًا، وَقَالَ عكرمة: يَعْبَسُ الْكَافِرُ يومئذٍ حَتَّى يَسِيلَ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْهِ عَرَقٌ مِثْلُ الْقَطْرَانِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿عَبُوساً﴾ العابس الشفتين، ﴿قَمْطَرِيراً﴾ قال: يقبض الوجه باليسور، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: تَعْبَسُ فِيهِ الوجوه من الهول ﴿قَمْطَرِيراً﴾ تقلص الْجَبِينِ وَمَا بَيْنَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الْهَوْلِ، وَقَالَ ابن زيد: العبوس الشر، والقمطرير الشديد، وقال ابْنُ جَرِيرٍ: وَالْقَمْطَرِيرُ هُوَ الشَّدِيدُ، يُقَالُ: هُوَ يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَيَوْمٌ قُمَاطِرُ، وَيَوْمٌ عَصِيبٌ وَعَصَبْصَبٌ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّجَانُسِ الْبَلِيغِ، ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ﴾ أَيْ آمَنَهُمْ مِمَّا خَافُوا مِنْهُ، ﴿وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً﴾ أَيْ فِي وُجُوهِهِمْ، ﴿وَسُرُوراً﴾ أَيْ فِي قُلُوبِهِمْ وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ﴾ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الْوَجْهُ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر، وقالت عائشة رضي الله عنها: «دَخَلَ عليَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ﴾ أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِهِمْ أَعْطَاهُمْ وَنَوَّلَهُمْ وَبَوَّأَهُمْ ﴿جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ أَيْ مَنْزِلًا رَحْبًا، وعيشاً رغداً، ولباساً حسناً.
- ١٤ - وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً - ١٥ - وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانت قواريرا
- ١٦ - قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا
- ١٧ - وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً
- ١٨ - عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا
- ١٩ - وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً
- ٢٠ - وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيرًا
- ٢١ - عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُورًا
- ٢٢ - إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا
يُخْبَرُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم فقال تعالى: ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرائك﴾ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، وَأَنَّ الْأَرَائِكَ هِيَ السُّرُرُ تَحْتَ الْحِجَالِ، وَقَوْلُهُ تعالى: ﴿لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً﴾ أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ حَرٌّ مُزْعِجٌ، وَلَا بَرْدٌ مُؤْلِمٌ، ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا﴾ أَيْ قَرِيبَةٌ إِلَيْهِمْ أَغْصَانُهَا، ﴿ذلّلت قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً﴾ أَيْ مَتَى تَعَاطَاهُ دَنَا الْقَطْفُ إليه، تدلى مِنْ أَعْلَى غُصْنِهِ كَأَنَّهُ سَامِعٌ طَائِعٌ، كَمَا قال تعالى: ﴿قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ﴾ قال مجاهد: إن قام ارتفعت معه بقدر، وإن قعد تذلّلت له حتى ينالها، وإن اضجع تذلّلت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى: ﴿تَذْلِيلاً﴾، وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا شوك ولا بعد، وقوله جلَّت عظمته: ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ﴾ أَيْ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْخَدَمُ بِأَوَانِي الطَّعَامِ، وَهِيَ مِّن فِضَّةٍ، وَأَكْوابٍ الشراب وهي الَّتِي لَا عُرَى لَهَا وَلَا خَرَاطِيمَ، وَقَوْلُهُ: ﴿قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ﴾ فَالْأَوَّلُ مَنْصُوبٌ بِخَبَرِ كَانَ، أَيْ كَانَتْ قَوَارِيرَ، وَالثَّانِي مَنْصُوبٌ إِمَّا عَلَى البدلية أو تمييز، قال ابن عباس: بَيَاضُ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، وَالْقَوَارِيرُ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ زُجَاجٍ، فَهَذِهِ الْأَكْوَابُ هِيَ مِنْ فِضَّةٍ، وَهِيَ مَعَ هَذَا شَفَّافَةٌ يُرَى مَا فِي بَاطِنِهَا مِنْ ظَاهِرِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا نَظِيرَ لَهُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ أُعْطِيتُمْ فِي الدُّنْيَا شَبَهُهُ إِلَّا قَوَارِيرَ مِنْ فضة، وقوله تعالى: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ أَيْ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا تَزِيدُ عَنْهُ وَلَا تَنْقُصُ، بَلْ هِيَ مُعَدَّةٌ لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الِاعْتِنَاءِ وَالشَّرَفِ وَالْكَرَامَةِ، وَقَالَ ابن عباس: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ قدرت للكف، وقال الضحّاك: على قدر كف الخادم، وَهَذَا لَا يُنَافِي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، فَإِنَّهَا مُقَدَّرَةٌ في القدر والري.
وقوله تعالى: ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾ أَيْ وَيُسْقَوْنَ - يَعْنِي الْأَبْرَارَ أَيْضًا - فِي هَذِهِ الْأَكْوَابِ ﴿كَأْساً﴾ أَيْ خَمْرًا، ﴿كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً﴾ فَتَارَةً يُمْزَجُ لَهُمُ الشَّرَابُ بِالْكَافُورِ وَهُوَ بَارِدٌ، وَتَارَةً بِالزَّنْجَبِيلِ وَهُوَ حَارٌّ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ، وَهَؤُلَاءِ يُمْزَجُ لَهُمْ مِنْ هَذَا تَارَةً وَمِنْ هَذَا تَارَةً، وَأَمَّا الْمُقَرَّبُونَ فَإِنَّهُمْ يَشْرَبُونَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا صِرْفًا كَمَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَقَدْ تقدم قوله جل وعلا: ﴿عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله﴾، وقال ههنا: ﴿عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً﴾ أَيِ الزَّنْجَبِيلُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا، قَالَ عِكْرِمَةُ، اسْمُ عَيْنٍ فِي الْجَنَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لسلاسة مسيلها وحدة جريها، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً﴾ أَيْ يَطُوفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ لِلْخِدْمَةِ وِلْدَانٌ مِنْ وِلْدَانِ الْجَنَّةِ ﴿مُّخَلَّدُونَ﴾ أَيْ عَلَى حَالَةٍ
وقوله جلَّ جلاله: ﴿عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ﴾ أَيْ لِبَاسُ أهل الجنة فيها الحرير (السندس) وَهُوَ رَفِيعُ الْحَرِيرِ كَالْقُمْصَانِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَلِي أبدانهم، و (الاستبرق) وهو مَا فِيهِ بَرِيقٌ وَلَمَعَانٌ وَهُوَ مِمَّا يَلِي الظَّاهِرَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي اللِّبَاسِ، ﴿وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ﴾ وَهَذِهِ صِفَةُ الْأَبْرَارِ، وَأَمَّا المقربون فكما قال تعالى: ﴿يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حرير﴾ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى زِينَةَ الظَّاهِرِ بِالْحَرِيرِ وَالْحُلِيِّ قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً﴾ أَيْ طَهَّرَ بَوَاطِنَهُمْ مِنَ الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ، وَالْغِلِّ وَالْأَذَى وسائر الأخلق الرديئة، كَمَا رَوَيْنَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أنه قال: إذ انْتَهَى أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ وَجَدُوا هُنَالِكَ عَيْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا أُلْهِمُوا ذَلِكَ فَشَرِبُوا مِنْ إِحْدَاهُمَا، فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنْ أَذًى، ثُمَّ اغْتَسَلُوا مِنَ الأُخرى، فَجَرَتْ عَلَيْهِمْ نضرة النعيم، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لَهُمْ وأحساناً إليهم كما قال تَعَالَى: ﴿كُلُواْ وَاشْرَبُوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الخالية﴾، وكقوله تعالى: ﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً﴾ أي جزاكم الله تعالى عَلَى الْقَلِيلِ بِالْكَثِيرِ.
- ٢٤ - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً
- ٢٥ - وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا
- ٢٦ - وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلًا
- ٢٧ - إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا
- ٢٨ - نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا
- ٢٩ - إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً
- ٣٠ - وما تشاؤون إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
- ٣١ - يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
يَقُولُ تَعَالَى مُمْتَنًّا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما أنزله عليه من القرآن الكريم، ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ أَيْ كَمَا أَكْرَمْتُكَ بِمَا أَنْزَلْتُ عَلَيْكَ فَاصْبِرْ عَلَى قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيُدَبِّرُكَ بِحُسْنِ تَدْبِيرِهِ، ﴿وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً﴾
[مقدمة]
روى البخاري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ بِمِنًى، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ: ﴿وَالْمُرْسَلَاتِ﴾ فَإِنَّهُ لَيَتْلُوهَا وَإِنِّي لِأَتَلَقَّاهَا مِنْ فِيهِ، وَإِنَّ فاه لرطب بها، إذا وَثَبَتْ عَلَيْنَا حَيَّةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْتُلُوهَا» فَابْتَدَرْنَاهَا، فَذَهَبَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وُقِيَتْ شَرَّكُمْ كَمَا وقيتم شرها» (أخرجه البخاري، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ بِهِ). وَقَالَ الإمام أحمد: ثّنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّهِ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ في المغرب بالمرسلات عُرفاً، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أُمّ الْفَضْلِ سَمِعَتْهُ يَقْرَأُ: ﴿والمرسلات عُرفاً﴾ فقالت: يا بني أذكرتني بِقِرَاءَتِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، أَنَّهَا لَآخِرُ مَا سَمِعْتُ من رسول الله يَقْرَأُ بِهَا فِي الْمَغْرِبِ (أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من طريق مالك عن الزهري).