تفسير سورة العلق

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة العلق من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ
هَذِهِ السُّورَة أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن فِي قَوْل مُعْظَم الْمُفَسِّرِينَ.
نَزَلَ بِهَا جِبْرِيل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِم عَلَى حِرَاء، فَعَلَّمَهُ خَمْس آيَات مِنْ هَذِهِ السُّورَة.
وَقِيلَ : إِنَّ أَوَّل مَا نَزَلَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " [ الْمُدَّثِّر : ١ ]، قَالَهُ جَابِر بْن عَبْد اللَّه ; وَقَدْ تَقَدَّمَ.
وَقِيلَ : فَاتِحَة الْكِتَاب أَوَّل مَا نَزَلَ ; قَالَهُ أَبُو مَيْسَرَة الْهَمْدَانِيّ.
وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : أَوَّل مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآن " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ " [ الْأَنْعَام : ١٥١ ] وَالصَّحِيح الْأَوَّل.
قَالَتْ عَائِشَة : أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَة ; فَجَاءَهُ الْمَلَك فَقَالَ :" اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ عَلَق اِقْرَأْ وَرَبّك الْأَكْرَم ".
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهَا قَالَتْ : أَوَّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّادِقَة فِي النَّوْم ; فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْل فَلَق الصُّبْح، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاء، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاء، يَتَحَنَّث فِيهِ اللَّيَالِي ذَوَات الْعَدَد، قَبْل أَنْ يَرْجِع إِلَى أَهْله وَيَتَزَوَّد لِذَلِكَ ; ثُمَّ يَرْجِع إِلَى خَدِيجَة فَيَتَزَوَّد لِمِثْلِهَا ; حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقّ وَهُوَ فِي غَار حِرَاء، فَجَاءَهُ الْمَلَك، فَقَالَ :[ اِقْرَأْ ] : فَقَالَ :( مَا أَنَا بِقَارِئٍ - قَالَ - فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ) فَقَالَ :[ اِقْرَأْ ] فَقُلْت :[ مَا أَنَا بِقَارِئٍ.
فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَة حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْد، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ :" اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَان مِنْ عَلَق اِقْرَأْ وَرَبّك الْأَكْرَم.
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ.
عَلَّمَ الْإِنْسَان مَا لَمْ يَعْلَم ] الْحَدِيث بِكَامِلِهِ.
وَقَالَ أَبُو رَجَاء الْعُطَارِدِيّ : وَكَانَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ يَطُوف عَلَيْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِد " مَسْجِد الْبَصْرَة " فَيُقْعِدنَا حِلَقًا، فَيُقْرِئنَا الْقُرْآن ; فَكَأَنِّي أَنْظُر إِلَيْهِ بَيْن ثَوْبَيْنِ لَهُ أَبْيَضَيْنِ، وَعَنْهُ أَخَذْت هَذِهِ السُّورَة :" اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ ".
وَكَانَتْ أَوَّل سُورَة أَنْزَلَهَا اللَّه عَلَى مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَتْ عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا أَنَّهَا أَوَّل سُورَة أُنْزِلَتْ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ بَعْدهَا " ن وَالْقَلَم "، ثُمَّ بَعْدهَا " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " ثُمَّ بَعْدهَا " وَالضُّحَى " ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ.
وَعَنْ الزُّهْرِيّ : أَوَّل مَا نَزَلَ سُورَة :" اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك - إِلَى قَوْله - مَا لَمْ يَعْلَم "، فَحَزِنَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَعَلَ يَعْلُو شَوَاهِق الْجِبَال، فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ :[ إِنَّك نَبِيّ اللَّه ] فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَة وَقَالَ :[ دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاء بَارِدًا ] فَنَزَلَ " يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر " [ الْمُدَّثِّر : ١ ].
وَمَعْنَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اِقْرَأْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْك مِنْ الْقُرْآن مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبّك، وَهُوَ أَنْ تَذْكُر التَّسْمِيَة فِي اِبْتِدَاء كُلّ سُورَة.
فَمَحَلّ الْبَاء مِنْ " بِاسْمِ رَبّك " النَّصْب عَلَى الْحَال.
وَقِيلَ : الْبَاء بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ اِقْرَأْ عَلَى اِسْم رَبّك.
يُقَال : فَعَلَ كَذَا بِاسْمِ اللَّه، وَعَلَى اِسْم اللَّه.
وَعَلَى هَذَا فَالْمَقْرُوء مَحْذُوف، أَيْ اِقْرَأْ الْقُرْآن، وَافْتَتِحْهُ بِاسْمِ اللَّه.
وَقَالَ قَوْم : اِسْم رَبّك هُوَ الْقُرْآن، فَهُوَ يَقُول :" اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اِسْم رَبّك، وَالْبَاء زَائِدَة ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى " تَنْبُت بِالدُّهْنِ " [ الْمُؤْمِنُونَ : ٢٠ ]، وَكَمَا قَالَ :
سُود الْمَحَاجِر لَا يَقْرَأْنَ بِالسُّوَرِ
أَرَادَ : لَا يَقْرَأْنَ السُّوَر.
وَقِيلَ : مَعْنَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " أَيْ اُذْكُرْ اِسْمه.
أَمَرَهُ أَنْ يَبْتَدِئ الْقِرَاءَة بِاسْمِ اللَّه.
خَلَقَ الْإِنْسَانَ
" خَلَقَ الْإِنْسَان " يَعْنِي اِبْن آدَم.
مِنْ عَلَقٍ
أَيْ مِنْ دَم ; جَمْع عَلَقَة، وَالْعَلَقَة الدَّم الْجَامِد ; وَإِذَا جَرَى فَهُوَ الْمَسْفُوح.
وَقَالَ :" مِنْ عَلَق " فَذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْجَمْع ; لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْإِنْسَانِ الْجَمْع، وَكُلّهمْ خُلِقُوا مِنْ عَلَق بَعْد النُّطْفَة.
وَالْعَلَقَة : قِطْعَة مِنْ دَم رَطْب، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَعْلَق لِرُطُوبَتِهَا بِمَا تَمُرّ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَفَّتْ لَمْ تَكُنْ عَلَقَة.
قَالَ الشَّاعِر :
تَرَكْنَاهُ يَخِرّ عَلَى يَدَيْهِ يَمُجّ عَلَيْهِمَا عَلَق الْوَتِين
وَخَصَّ الْإِنْسَان بِالذِّكْرِ تَشْرِيفًا لَهُ.
وَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّن قَدْر نِعْمَته عَلَيْهِ، بِأَنْ خَلَقَهُ مِنْ عَلَقَة مَهِينَة، حَتَّى صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا، وَعَاقِلًا مُمَيِّزًا.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
قَوْله تَعَالَى :" اِقْرَأْ " تَأْكِيد، وَتَمَّ الْكَلَام، ثُمَّ اِسْتَأْنَفَ فَقَالَ :" وَرَبّك الْأَكْرَم " أَيْ الْكَرِيم.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ : يَعْنِي الْحَلِيم عَنْ جَهْل الْعِبَاد، فَلَمْ يُعَجِّل بِعُقُوبَتِهِمْ.
وَالْأَوَّل أَشْبَه بِالْمَعْنَى ; لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ نِعَمه، دَلَّ بِهَا عَلَى كَرَمه.
وَقِيلَ :" اِقْرَأْ وَرَبّك " أَيْ اِقْرَأْ يَا مُحَمَّد وَرَبّك يُعِينك وَيُفْهِمك، وَإِنْ كُنْت غَيْر الْقَارِئ.
وَ " الْأَكْرَم " بِمَعْنَى الْمُتَجَاوِز عَنْ جَهْل الْعِبَاد.
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ
فِيهِ ثَلَاث مَسَائِل :
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :" الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ " يَعْنِي الْخَطّ وَالْكِتَابَة ; أَيْ عَلَّمَ الْإِنْسَان الْخَطّ بِالْقَلَمِ.
وَرَوَى سَعِيد عَنْ قَتَادَة قَالَ : الْقَلَم نِعْمَة مِنْ اللَّه تَعَالَى عَظِيمَة، لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَقُمْ دِين، وَلَمْ يَصْلُح عَيْش.
فَدَلَّ عَلَى كَمَال كَرَمه سُبْحَانه، بِأَنَّهُ عَلَّمَ عِبَاده مَا لَمْ يَعْلَمُوا، وَنَقَلَهُمْ مِنْ ظُلْمَة الْجَهْل إِلَى نُور الْعِلْم، وَنَبَّهَ عَلَى فَضْل عِلْم الْكِتَابَة، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنَافِع الْعَظِيمَة، الَّتِي لَا يُحِيط بِهَا إِلَّا هُوَ.
وَمَا دُوِّنَتْ الْعُلُوم، وَلَا قُيِّدَتْ الْحِكَم، وَلَا ضُبِطَتْ أَخْبَار الْأَوَّلِينَ وَمَقَالَاتهمْ، وَلَا كَتَبَ اللَّه الْمَنْزِلَة إِلَّا بِالْكِتَابَةِ ; وَلَوْلَا هِيَ مَا اِسْتَقَامَتْ أُمُور الدِّين وَالدُّنْيَا.
وَسُمِّيَ قَلَمًا لِأَنَّهُ يُقْلَم ; أَيْ يُقْطَع، وَمِنْهُ تَقْلِيم الظُّفْرِ.
وَقَالَ بَعْض الشُّعَرَاء الْمُحْدَثِينَ يَصِف الْقَلَم :
فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْر يَخْضِب رَأْسه شَيْخ لِوَصْلِ خَرِيدَة يَتَصَنَّع
لِمَ لَا أُلَاحِظهُ بِعَيْن جَلَالَة وَبِهِ إِلَى اللَّه الصَّحَائِف تُرْفَع
وَعَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر قَالَ : يَا رَسُول اللَّه، أَأَكْتُبُ مَا أَسْمَع مِنْك مِنْ الْحَدِيث ؟ قَالَ :[ نَعَمْ فَاكْتُبْ، فَإِنَّ اللَّه عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ].
وَرَوَى مُجَاهِد عَنْ أَبِي عُمَر قَالَ : خَلَقَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَرْبَعَة أَشْيَاء بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِسَائِرِ الْحَيَوَان : كُنْ فَكَانَ : الْقَلَم، وَالْعَرْش، وَجَنَّة عَدْن، وَآدَم عَلَيْهِ السَّلَام.
وَفِيمَنْ عَلَّمَهُ بِالْقَلَمِ ثَلَاثَة أَقَاوِيل : أَحَدهَا : أَنَّهُ آدَم عَلَيْهِ السَّلَام ; لِأَنَّهُ أَوَّل مَنْ كَتَبَ، قَالَهُ كَعْب الْأَحْبَار.
الثَّانِي : أَنَّهُ إِدْرِيس، وَهُوَ أَوَّل مَنْ كَتَبَ.
قَالَهُ الضَّحَّاك.
الثَّالِث : أَنَّهُ أَدْخَلَ كُلّ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ ; لِأَنَّهُ مَا عُلِّمَ إِلَّا بِتَعْلِيمِ اللَّه سُبْحَانه، وَجَمَعَ بِذَلِكَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي خَلْقه، وَبَيَّنَ نِعْمَته عَلَيْهِ فِي تَعْلِيمه ; اِسْتِكْمَالًا لِلنِّعْمَةِ عَلَيْهِ.
الثَّانِيَة : صَحَّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة، قَالَ :( لَمَّا خَلَقَ اللَّه الْخَلْق كَتَبَ فِي كِتَابه - فَهُوَ عِنْده فَوْق الْعَرْش : إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِب غَضَبِي ).
وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام أَنَّهُ قَالَ :( أَوَّل مَا خَلَقَ اللَّه : الْقَلَم، فَقَالَ لَهُ اُكْتُبْ، فَكَتَبَ مَا يَكُون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَهُوَ عِنْده فِي الذِّكْر فَوْق عَرْشه ).
وَفِي الصَّحِيح مِنْ حَدِيث اِبْن مَسْعُود : أَنَّهُ سَمِعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول :( إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة، بَعَثَ اللَّه إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعهَا وَبَصَرهَا وَجِلْدهَا وَلَحْمهَا وَعَظْمهَا، ثُمَّ يَقُول، يَا رَبّ، أَذَكَر أَمْ أُنْثَى ؟ فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ وَيَكْتُب الْمَلَك ثُمَّ يَقُول : يَا رَبّ أَجَله، فَيَقُول رَبّك مَا شَاءَ، وَيَكْتُب الْمَلَك، ثُمَّ يَقُول يَا رَبّ رِزْقه، فَيَقْضِي رَبّك مَا شَاءَ، وَيَكْتُب الْمَلَك، ثُمَّ يَخْرُج الْمَلَك بِالصَّحِيفَةِ فِي يَده، فَلَا يَزِيد عَلَى مَا أُمِرَ وَلَا يَنْقُص، وَقَالَ تَعَالَى :" إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ.
كِرَامًا كَاتِبِينَ " ( الِانْفِطَار : ١٠ ).
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَالْأَقْلَام فِي الْأَصْل ثَلَاثَة : الْقَلَم الْأَوَّل : الَّذِي خَلَقَهُ اللَّه بِيَدِهِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُب.
وَالْقَلَم الثَّانِي : أَقْلَام الْمَلَائِكَة، جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ يَكْتُبُونَ بِهَا الْمَقَادِير وَالْكَوَائِن وَالْأَعْمَال.
وَالْقَلَم الثَّالِث : أَقْلَام النَّاس، جَعَلَهَا اللَّه بِأَيْدِيهِمْ، يَكْتُبُونَ بِهَا كَلَامهمْ، وَيَصِلُونَ بِهَا مَآرِبهمْ.
وَفِي الْكِتَابَة فَضَائِل جَمَّة.
وَالْكِتَابَة مِنْ جُمْلَة الْبَيَان، وَالْبَيَان مِمَّا اِخْتَصَّ بِهِ الْآدَمِيّ.
الثَّالِثَة : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : كَانَتْ الْعَرَب أَقَلّ الْخَلْق مَعْرِفَة بِالْكِتَابِ، وَأَقَلّ الْعَرَب مَعْرِفَة بِهِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; صُرِفَ عَنْ عِلْمه ; لِيَكُونَ ذَلِكَ أَثْبَت لِمُعْجِزَتِهِ، وَأَقْوَى فِي حُجَّته، وَقَدْ مَضَى هَذَا مُبَيَّنًا فِي سُورَة " الْعَنْكَبُوت ".
وَرَوَى حَمَّاد بْن سَلَمَة عَنْ الزُّبَيْر بْن عَبْد السَّلَام، عَنْ أَيُّوب بْن عَبْد اللَّه الْفِهْرِيّ، عَنْ عَبْد اللَّه بْن مَسْعُود قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَا تُسْكِنُوا نِسَاءَكُمْ الْغُرَف، وَلَا تُعَلِّمُوهُنَّ الْكِتَابَة ].
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا حَذَّرَهُمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِسْكَانهنَّ الْغُرَف تَطَلُّعًا إِلَى الرَّجُل ; وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْصِين لَهُنَّ وَلَا تَسَتُّر.
وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ لَا يَمْلِكْنَ أَنْفُسهنَّ حَتَّى يُشْرِفْنَ عَلَى الرَّجُل ; فَتَحْدُث الْفِتْنَة وَالْبَلَاء ; فَحَذَّرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا لَهُنَّ غُرَفًا ذَرِيعَة إِلَى الْفِتْنَة.
وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَيْسَ لِلنِّسَاءِ خَيْر لَهُنَّ مِنْ أَلَّا يَرَاهُنَّ الرِّجَال، وَلَا يَرَيْنَ الرِّجَال ].
وَذَلِكَ أَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ الرَّجُل، فَنَهْمَتهَا فِي الرَّجُل، وَالرَّجُل خُلِقَتْ فِيهِ الشَّهْوَة، وَجُعِلَتْ سَكَنًا لَهُ، فَغَيْر مَأْمُون كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا فِي صَاحِبه.
وَكَذَلِكَ تَعْلِيم الْكِتَابَة رُبَّمَا كَانَتْ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ، وَذَلِكَ إِذَا عُلِّمَتْ الْكِتَابَة كَتَبَتْ إِلَى مَنْ تَهْوَى.
وَالْكِتَابَة عَيْن مِنْ الْعُيُون، بِهَا يُبْصِر الشَّاهِد الْغَائِب، وَالْخَطّ هُوَ آثَار يَده.
وَفِي ذَلِكَ تَعْبِير عَنْ الضَّمِير بِمَا لَا يَنْطَلِق بِهِ اللِّسَان، فَهُوَ أَبْلَغ مِنْ اللِّسَان.
فَأَحَبَّ رَسُوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْقَطِع عَنْهُنَّ أَسْبَاب الْفِتْنَة ; تَحْصِينًا لَهُنَّ، وَطَهَارَة لِقُلُوبِهِنَّ.
عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
قِيلَ :" الْإِنْسَان " هُنَا آدَم عَلَيْهِ السَّلَام.
عَلَّمَهُ أَسْمَاء كُلّ شَيْء ; حَسَب مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآن فِي قَوْله تَعَالَى :" وَعَلَّمَ آدَم الْأَسْمَاء كُلّهَا ".
فَلَمْ يَبْقَ شَيْء إِلَّا وَعَلَّمَ سُبْحَانه آدَم اِسْمه بِكُلِّ لُغَة، وَذَكَرَهُ آدَم لِلْمَلَائِكَةِ كَمَا عُلِّمَهُ.
وَبِذَلِكَ ظَهَرَ فَضْله، وَتَبَيَّنَ قَدْره، وَثَبَتَتْ نُبُوَّته، وَقَامَتْ حُجَّة اللَّه عَلَى الْمَلَائِكَة وَحُجَّته، وَامْتَثَلَتْ الْمَلَائِكَة الْأَمْر لِمَا رَأَتْ مِنْ شَرَف الْحَال، وَرَأَتْ مِنْ جَلَال الْقُدْرَة، وَسَمِعَتْ مِنْ عَظِيم الْأَمْر.
ثُمَّ تَوَارَثَتْ ذَلِكَ ذُرِّيَّته خَلَفًا بَعْد سَلَف، وَتَنَاقَلُوهُ قَوْمًا عَنْ قَوْم.
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي سُورَة " الْبَقَرَة " مُسْتَوْفًى وَالْحَمْد لِلَّهِ.
وَقِيلَ :" الْإِنْسَان " هُنَا الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; دَلِيله قَوْله تَعَالَى :" وَعَلَّمَك مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَم " [ النِّسَاء : ١١٣ ].
وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَاد بِ " عَلَّمَك " الْمُسْتَقْبَل ; فَإِنَّ هَذَا مِنْ أَوَائِل مَا نَزَلَ.
وَقِيلَ : هُوَ عَامّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" وَاَللَّه أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُون أُمَّهَاتكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا " [ النَّحْل : ٧٨ ].
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى
قِيلَ : إِنَّهُ نَزَلَ فِي أَبِي جَهْل.
وَقِيلَ : نَزَلَتْ السُّورَة كُلّهَا فِي أَبِي جَهْل ; نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الصَّلَاة ; فَأَمَرَ اللَّه نَبِيّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد وَيَقْرَأ بِاسْمِ الرَّبّ.
وَعَلَى هَذَا فَلَيْسَتْ السُّورَة مِنْ أَوَائِل مَا نَزَلَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُون خَمْس آيَات مِنْ أَوَّلهَا أَوَّل مَا نَزَلَتْ، ثُمَّ نَزَلَتْ الْبَقِيَّة فِي شَأْن أَبِي جَهْل، وَأَمَرَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضَمِّ ذَلِكَ إِلَى أَوَّل السُّورَة ; لِأَنَّ تَأْلِيف السُّوَر جَرَى بِأَمْرٍ مِنْ اللَّه.
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى :" وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه " [ الْبَقَرَة : ٢٨١ ] آخِر مَا نَزَلَ، ثُمَّ هُوَ مَضْمُوم إِلَى مَا نَزَلَ قَبْله بِزَمَانٍ طَوِيل.
وَ " كَلَّا " بِمَعْنَى حَقًّا ; إِذْ لَيْسَ قَبْله شَيْء.
وَالْإِنْسَان هُنَا أَبُو جَهْل.
وَالطُّغْيَان : مُجَاوَزَة الْحَدّ فِي الْعِصْيَان.
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى
" أَنْ رَآهُ " أَيْ لِأَنْ رَأَى نَفْسه اِسْتَغْنَى ; أَيْ صَارَ ذَا مَال وَثَرْوَة.
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس فِي رِوَايَة أَبِي صَالِح عَنْهُ، قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة وَسَمِعَ بِهَا الْمُشْرِكُونَ، أَتَاهُ أَبُو جَهْل فَقَالَ : يَا مُحَمَّد تَزْعُم أَنَّهُ مَنْ اِسْتَغْنَى طَغَى ; فَاجْعَلْ لَنَا جِبَال مَكَّة ذَهَبًا، لَعَلَّنَا نَأْخُذ مِنْهَا، فَنَطْغَى فَنَدَع دِيننَا وَنَتَّبِع دِينك.
قَالَ فَأَتَاهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ :( يَا مُحَمَّد خَيِّرْهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنْ شَاءُوا فَعَلْنَا بِهِمْ مَا أَرَادُوهُ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَعَلْنَا بِهِمْ كَمَا فَعَلْنَا بِأَصْحَابِ الْمَائِدَة ).
فَعَلِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْقَوْم لَا يَقْبَلُونَ ذَلِكَ ; فَكَفَّ عَنْهُمْ إِبْقَاء عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ :" أَنْ رَآهُ اِسْتَغْنَى " بِالْعَشِيرَةِ وَالْأَنْصَار وَالْأَعْوَان.
وَحَذَفَ اللَّام مِنْ قَوْله " أَنْ رَآهُ " كَمَا يُقَال : إِنَّكُمْ لَتَطْغَوْنَ إِنْ رَأَيْتُمْ غِنَاكُمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاء : لَمْ يَقُلْ رَأَى نَفْسه، كَمَا قِيلَ قَتَلَ نَفْسه ; لِأَنَّ رَأَى مِنْ الْأَفْعَال الَّتِي تُرِيد اِسْمًا وَخَبَرًا، نَحْو الظَّنّ وَالْحِسْبَان، فَلَا يُقْتَصَر فِيهِ عَلَى مَفْعُول وَاحِد.
وَالْعَرَب تَطْرَح النَّفْس مِنْ هَذَا الْجِنْس تَقُول : رَأَيْتنِي وَحَسِبْتنِي، وَمَتَى تَرَاك خَارِجًا، وَمَتَى تَظُنّك خَارِجًا.
وَقَرَأَ مُجَاهِد وَحُمَيْد وَقُنْبُل عَنْ اِبْن كَثِير " أَنْ رَأَهُ اِسْتَغْنَى " بِقَصْرِ الْهَمْزَة.
الْبَاقُونَ " رَآهُ " بِمَدِّهَا، وَهُوَ الِاخْتِيَار.
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى
أَيْ مَرْجِع مَنْ هَذَا وَصْفه، فَنُجَازِيه.
وَالرُّجْعَى وَالْمَرْجِع وَالرُّجُوع : مَصَادِر ; يُقَال : رَجَعَ إِلَيْهِ رُجُوعًا وَمَرْجِعًا وَرُجْعَى عَلَى وَزْن فُعْلَى.
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى
وَهُوَ أَبُو جَهْل
عَبْدًا إِذَا صَلَّى
وَهُوَ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَإِنَّ أَبَا جَهْل قَالَ : إِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه ; قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَة.
فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَات تَعَجُّبًا مِنْهُ.
وَقِيلَ : فِي الْكَلَام حَذْف ; وَالْمَعْنَى : أَمِنَ هَذَا النَّاهِي عَنْ الصَّلَاة مِنْ الْعُقُوبَة.
أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى
أَيْ أَرَأَيْت يَا أَبَا جَهْل إِنْ كَانَ مُحَمَّد عَلَى هَذِهِ الصِّفَة، أَلَيْسَ نَاهِيه عَنْ التَّقْوَى وَالصَّلَاة هَالِكًا ؟
أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى
أَيْ أَرَأَيْت يَا أَبَا جَهْل إِنْ كَانَ مُحَمَّد عَلَى هَذِهِ الصِّفَة، أَلَيْسَ نَاهِيه عَنْ التَّقْوَى وَالصَّلَاة هَالِكًا ؟
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى
يَعْنِي أَبَا جَهْل كَذَّبَ بِكِتَابِ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَأَعْرَضَ عَنْ الْإِيمَان.
وَقَالَ الْفَرَّاء : الْمَعْنَى " أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى " وَهُوَ عَلَى الْهُدَى، وَأَمَرَ بِالتَّقْوَى، وَالنَّاهِي مُكَذِّب مُتَوَلٍّ عَنْ الذِّكْر ; أَيْ فَمَا أَعْجَب هَذَا
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى
ثُمَّ يَقُول : وَيْله أَلَمْ يَعْلَم أَبُو جَهْل بِأَنَّ اللَّه يَرَى ; أَيْ يَرَاهُ وَيَعْلَم فِعْله ; فَهُوَ تَقْرِير وَتَوْبِيخ.
وَقِيلَ : كُلّ وَاحِد مِنْ " أَرَأَيْت " بَدَل مِنْ الْأَوَّل.
وَ " أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّه يَرَى " الْخَبَر.
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
أَيْ أَبُو جَهْل عَنْ أَذَاك يَا مُحَمَّد.
لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ
" لَنَسْفَعًا " أَيْ لَنَأْخُذَنَّ " بِالنَّاصِيَةِ " فَلَنُذِلَّنَّهُ.
وَقِيلَ : لَنَأْخُذَنَّ بِنَاصِيَتِهِ يَوْم الْقِيَامَة، وَتُطْوَى مَعَ قَدَمَيْهِ، وَيُطْرَح فِي النَّار، كَمَا قَالَ تَعَالَى :" فَيُؤْخَذ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَام " [ الرَّحْمَن : ٤١ ].
فَالْآيَة - وَإِنْ كَانَتْ فِي أَبِي جَهْل - فَهِيَ عِظَة لِلنَّاسِ، وَتَهْدِيد لِمَنْ يَمْتَنِع أَوْ يَمْنَع غَيْره عَنْ الطَّاعَة.
وَأَهْل اللُّغَة يَقُولُونَ : سَفَعْت بِالشَّيْءِ : إِذَا قَبَضْت عَلَيْهِ وَجَذَبْته جَذْبًا شَدِيدًا.
وَيُقَال : سَفَعَ بِنَاصِيَةِ فَرَسه.
قَالَ :
قَوْم إِذَا كَثُرَ الصِّيَاح رَأَيْتهمْ مِنْ بَيْن مُلْجِم مُهْره أَوْ سَافِع
وَقِيلَ : هُوَ مَأْخُوذ مِنْ سَفَعَتْهُ النَّار وَالشَّمْس : إِذَا غَيَّرَتْ وَجْهه إِلَى حَال تَسْوِيد ; كَمَا قَالَ :
أَثَافِيّ سُفْعًا فِي مُعَرَّس مِرْجَل وَنُؤْي كَجِذْمِ الْحَوْض أَثْلَم خَاشِع
وَالنَّاصِيَة : شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس.
وَقَدْ يُعَبَّر بِهَا عَنْ جُمْلَة الْإِنْسَان ; كَمَا يُقَال : هَذِهِ نَاصِيَة مُبَارَكَة ; إِشَارَة إِلَى جَمِيع الْإِنْسَان.
وَخَصَّ النَّاصِيَة بِالذِّكْرِ عَلَى عَادَة الْعَرَب فِيمَنْ أَرَادُوا إِذْلَاله وَإِهَانَته أَخَذُوا بِنَاصِيَتِهِ.
وَقَالَ الْمُبَرِّد : السَّفْع : الْجَذْب بِشِدَّةٍ ; أَيْ لَنَجُرَّنَّ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى النَّار.
وَقِيلَ : السَّفْع الضَّرْب ; أَيْ لَنَلْطِمَنَّ وَجْهه.
وَكُلّه مُتَقَارِب الْمَعْنَى.
أَيْ يُجْمَع عَلَيْهِ الضَّرْب عِنْد الْأَخْذ ; ثُمَّ يُجَرّ إِلَى جَهَنَّم.
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ
ثُمَّ قَالَ عَلَى الْبَدَل :" نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطِئَة " أَيْ نَاصِيَة أَبِي جَهْل كَاذِبَة فِي قَوْلهَا، خَاطِئَة فِي فِعْلهَا.
وَالْخَاطِئ مُعَاقَب مَأْخُوذ.
وَالْمُخْطِئ غَيْر مَأْخُوذ.
وَوَصْف النَّاصِيَة بِالْكَاذِبَةِ الْخَاطِئَة كَوَصْفِ الْوُجُوه بِالنَّظَرِ فِي قَوْله تَعَالَى :" إِلَى رَبّهَا نَاظِرَة " [ الْقِيَامَة : ٢٣ ].
وَقِيلَ : أَيْ صَاحِبهَا كَاذِب خَاطِئ ; كَمَا يُقَال : نَهَاره صَائِم، وَلَيْله قَائِم ; أَيْ هُوَ صَائِم فِي نَهَاره، ثُمَّ قَائِم فِي لَيْله.
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ
أَيْ أَهْل مَجْلِسه وَعَشِيرَته، فَلْيَسْتَنْصِرْ بِهِمْ.
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ
أَيْ الْمَلَائِكَة الْغِلَاط الشِّدَاد - عَنْ اِبْن عَبَّاس وَغَيْره - وَاحِدهمْ زِبْنِيّ ; قَالَهُ الْكِسَائِيّ.
وَقَالَ الْأَخْفَش : زَابِن.
أَبُو عُبَيْدَة : زِبْنِيَة.
وَقِيلَ : زَبَانِيّ.
وَقِيلَ : هُوَ اِسْم لِلْجَمْعِ ; كَالْأَبَابِيلِ وَالْعَبَادِيد.
وَقَالَ قَتَادَة : هُمْ الشُّرَّط فِي كَلَام الْعَرَب.
وَهُوَ مَأْخُوذ مِنْ الزَّبْن وَهُوَ الدَّفْع ; وَمِنْهُ الْمُزَابَنَة فِي الْبَيْع.
وَقِيلَ : إِنَّمَا سُمُّوا الزَّبَانِيَة لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ بِأَرْجُلِهِمْ، كَمَا يَعْمَلُونَ بِأَيْدِيهِمْ ; حَكَاهُ أَبُو اللَّيْث السَّمَرْقَنْدِيّ - رَحِمَهُ اللَّه - قَالَ : وَرُوِيَ فِي الْخَبَر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَرَأَ هَذِهِ السُّورَة، وَبَلَغَ إِلَى قَوْله تَعَالَى :" لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ " قَالَ أَبُو جَهْل : أَنَا أَدْعُو قَوْمِي حَتَّى يَمْنَعُوا عَنِّي رَبّك.
فَقَالَ اللَّه تَعَالَى :" فَلْيَدْعُ نَادِيه، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة ".
فَلَمَّا سَمِعَ ذِكْر الزَّبَانِيَة رَجَعَ فَزِعًا ; فَقِيلَ لَهُ : خَشِيت مِنْهُ قَالَ لَا وَلَكِنْ رَأَيْت عِنْده فَارِسًا يُهَدِّدنِي بِالزَّبَانِيَةِ.
فَمَا أَدْرِي مَا الزَّبَانِيَة، وَمَالَ إِلَيَّ الْفَارِس، فَخَشِيت مِنْهُ أَنْ يَأْكُلنِي.
وَفِي الْأَخْبَار أَنَّ الزَّبَانِيَة رُءُوسهمْ فِي السَّمَاء وَأَرْجُلهمْ فِي الْأَرْض، فَهُمْ يَدْفَعُونَ الْكُفَّار فِي جَهَنَّم وَقِيلَ : إِنَّهُمْ أَعْظَم الْمَلَائِكَة خَلْقًا، وَأَشَدّهمْ بَطْشًا.
وَالْعَرَب تُطْلِق هَذَا الِاسْم عَلَى مَنْ اِشْتَدَّ بَطْشه.
قَالَ الشَّاعِر :
مَطَاعِيم فِي الْقُصْوَى مَطَاعِين فِي الْوَغَى زَبَانِيَة غُلْب عِطَام حُلُومهَا
وَعَنْ عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس :" سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة " قَالَ : قَالَ أَبُو جَهْل : لَئِنْ رَأَيْت مُحَمَّدًا يُصَلِّي لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه.
فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَة عِيَانًا ].
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيث حَسَن صَحِيح غَرِيب.
وَرَوَى عِكْرِمَة عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : مَرَّ أَبُو جَهْل عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي عِنْد الْمَقَام، فَقَالَ : أَلَمْ أَنْهَك عَنْ هَذَا يَا مُحَمَّد فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; فَقَالَ أَبُو جَهْل : بِأَيِّ شَيْء تُهَدِّدنِي يَا مُحَمَّد، وَاَللَّه إِنِّي لَأَكْثَر أَهْل الْوَادِي هَذَا نَادِيًا ; فَأَنْزَلَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ :" فَلْيَدْعُ نَادِيه.
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَة ".
قَالَ اِبْن عَبَّاس : وَاَللَّه لَوْ دَعَا نَادِيه لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَة الْعَذَاب مِنْ سَاعَته.
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ : حَسَن غَرِيب صَحِيح.
وَالنَّادِي فِي كَلَام الْعَرَب : الْمَجْلِس الَّذِي يَنْتَدِي فِيهِ الْقَوْم ; أَيْ يَجْتَمِعُونَ، وَالْمُرَاد أَهْل النَّادِي ; كَمَا قَالَ جَرِير :
لَهُمْ مَجْلِس صُهْب السِّبَال أَذِلَّة
وَقَالَ زُهَيْر :
وَفِيهِمْ مَقَامَات حِسَان وُجُوههمْ
وَقَالَ آخَر :
وَاسْتُبَّ بَعْدك يَا كُلَيْب الْمَجْلِس
وَقَدْ نَادَيْت الرَّجُل أُنَادِيه إِذَا جَالَسْته.
قَالَ زُهَيْر :
كَلَّا
أَيْ لَيْسَ الْأَمْر عَلَى مَا يَظُنّهُ أَبُو جَهْل.
لَا تُطِعْهُ
أَيْ فِيمَا دَعَاك إِلَيْهِ مِنْ تَرْك الصَّلَاة.
وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ
أَيْ صَلِّ لِلَّهِ " وَاقْتَرِبْ " أَيْ تَقَرَّبْ إِلَى اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالطَّاعَةِ وَالْعِبَادَة.
وَقِيلَ : الْمَعْنَى : إِذَا سَجَدْت فَاقْتَرِبْ مِنْ اللَّه بِالدُّعَاءِ.
رَوَى عَطَاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :[ أَقْرَب مَا يَكُون الْعَبْد مِنْ رَبّه، وَأَحَبّه إِلَيْهِ، جَبْهَته فِي الْأَرْض سَاجِدًا لِلَّهِ ].
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهَا نِهَايَة الْعُبُودِيَّة وَالذِّلَّة ; وَلِلَّهِ غَايَة الْعِزَّة، وَلَهُ الْعِزَّة الَّتِي لَا مِقْدَار لَهَا ; فَكُلَّمَا بَعُدْت مِنْ صِفَته، قَرُبْت مِنْ جَنَّته، وَدَنَوْت مِنْ جِوَاره فِي دَاره.
وَفِي الْحَدِيث الصَّحِيح : أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :[ أَمَّا الرُّكُوع فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبّ.
وَأَمَّا السُّجُود فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاء، فَإِنَّهُ قَمِن أَنْ يُسْتَجَاب لَكُمْ ].
وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ :
وَجَار الْبَيْت وَالرَّجُل الْمُنَادِي أَمَام الْحَيّ عَقْدهمَا سَوَاء
وَإِذَا تَذَلَّلَتْ الرِّقَاب تَوَاضُعًا مِنَّا إِلَيْك فَعِزّهَا فِي ذُلّهَا
وَقَالَ زَيْد بْن أَسْلَمَ : اُسْجُدْ أَنْتَ يَا مُحَمَّد مُصَلِّيًا، وَاقْتَرِبْ أَنْتَ يَا أَبَا جَهْل مِنْ النَّار.
وَقَوْله تَعَالَى :" وَاسْجُدْ " هَذَا مِنْ السُّجُود.
يَحْتَمِل أَنْ يَكُون بِمَعْنَى السُّجُود فِي الصَّلَاة، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون سُجُود التِّلَاوَة فِي هَذِهِ السُّورَة.
قَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ :" وَالظَّاهِر أَنَّهُ سُجُود الصَّلَاة " لِقَوْلِهِ تَعَالَى :" أَرَأَيْت الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى - إِلَى قَوْله - كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ "، لَوْلَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح مِنْ رِوَايَة مُسْلِم وَغَيْره مِنْ الْأَئِمَّة عَنْ أَبِي هُرَيْرَة أَنَّهُ قَالَ : سَجَدْت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي " إِذَا السَّمَاء اِنْشَقَّتْ " [ الِانْشِقَاق : ١ ]، وَفِي " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : ١ ] سَجْدَتَيْنِ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْمُرَاد سُجُود التِّلَاوَة.
وَقَدْ رَوَى اِبْن وَهْب، عَنْ حَمَّاد بْن زَيْد، عَنْ عَاصِم بْن بَهْدَلَة، عَنْ زِرّ بْن حُبَيْش، عَنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، قَالَ : عَزَائِم السُّجُود أَرْبَع :" ألم " وَ " حم تَنْزِيل مِنْ الرَّحْمَن الرَّحِيم " وَ " النَّجْم " وَ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك ".
وَقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : وَهَذَا إِنْ صَحَّ يَلْزَم عَلَيْهِ السُّجُود الثَّانِي مِنْ سُورَة " الْحَجّ "، وَإِنْ كَانَ مُقْتَرِنًا بِالرُّكُوعِ ; لِأَنَّهُ يَكُون مَعْنَاهُ اِرْكَعُوا فِي مَوْضِع الرُّكُوع، وَاسْجُدُوا فِي مَوْضِع السُّجُود.
وَقَدْ قَالَ اِبْن نَافِع وَمُطَرِّف : وَكَانَ مَالِك يَسْجُد فِي خَاصَّة نَفْسه بِخَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَة مِنْ " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك " وَابْن وَهْب يَرَاهَا مِنْ الْعَزَائِم.
قُلْت : وَقَدْ رُوِّينَا مِنْ حَدِيث مَالِك بْن أَنَس عَنْ رَبِيعَة بْن أَبِي عَبْد الرَّحْمَن عَنْ نَافِع عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : لَمَّا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى " اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبّك الَّذِي خَلَقَ " [ الْعَلَق : ١ ] قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ :[ اُكْتُبْهَا يَا مُعَاذ ] فَأَخَذَ مُعَاذ اللَّوْح وَالْقَلَم وَالنُّون - وَهِيَ الدَّوَاة - فَكَتَبَهَا مُعَاذ ; فَلَمَّا بَلَغَ " كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ " سَجَدَ اللَّوْح، وَسَجَدَ الْقَلَم، وَسَجَدَتْ النُّون، وَهُمْ يَقُولُونَ : اللَّهُمَّ اِرْفَعْ بِهِ ذِكْرًا، اللَّهُمَّ اُحْطُطْ بِهِ وِزْرًا، اللَّهُمَّ اِغْفِرْ بِهِ ذَنْبًا.
قَالَ مُعَاذ : سَجَدْت، وَأَخْبَرْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَجَدَ.
خُتِمَتْ السُّورَة.
وَالْحَمْد لِلَّهِ عَلَى مَا فَتَحَ وَمَنَحَ وَأَعْطَى وَلَهُ الْحَمْد وَالْمِنَّة
Icon