تفسير سورة العلق

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة العلق من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

ولأعفرن وجهه في التراب، فأنزل الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦)...﴾ الآيات.
قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾ سبب نزوله: ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله - ﷺ - يصلي، فجاءه أبو جهل، فنهاه، فأنزل الله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾ إلى قوله ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾.
قوله تعالى: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)...﴾ الآيات، سبب نزولها: ما أخرجه الترمذي وغيره عن ابن عباس قال: كان النبي - ﷺ - يصلي، فجاءه أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟!، فزجره النبي - ﷺ -، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثرُ منى، فأنزل الله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)﴾ قال الترمذي حسن صحيح.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿اقْرَأْ﴾؛ أي (١): ما يوحى إليك يا محمد، فإن الأمر بالقراءة يقتضي المقروء قطعًا، وحيث لم يتعين.. وجب أن يكون ذلك ما يتصل بالأمر حتمًا سواء كانت السورة أول ما نزل أم لا، فليس فيه تكليف ما لا يطاق، سواء دل الأمر على الفور أم لا، والأقرب أن هذا إلى قوله: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أول ما نزل عليه - ﷺ - على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وإنما الخلاف في تمام السورة.
وعن عائشة - رضي الله عنها -: أول ما ابتُدىء به رسول الله - ﷺ - من النبوة حين أراد الله به كرامته ورحمة العباد به الرؤيا الصالحة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح؛ أي: كضيائه وإنارته، فلا يشك فيها أحد، كما لا يشك في وضوح ضياء الصبح، وإنما ابتُدىء عليه السلام بالرؤيا؛ لئلا يفجأه الملك الذي هو جبريل بالرسالة، فلا تتحملها القوة البشرية؛ لأنها لا تحتمل رؤية الملك، وإن لم يكن على صورته الأصلية، ولا على سماع صوته، ولا على ما يخبر به، فكانت الرؤيا تأنيسًا له، وكانت مدة الرؤيا ستة أشهر على ما هو أدنى مدة الحمل، ثم جاءه الملك فعبر عن عالم الرؤيا إلى عالم المثال.
(١) روح البيان.
148
فإذا كانت مدة الرؤية ذلك العدد يكون ابتداؤها في شهر ربيع الأول، وهو مولده - ﷺ -، ثم أوحي إليه في اليقظة في شهر رمضان، وكان - ﷺ - في تلك المدة إذا خلا يسمع نداء: يا محمد يا محمد، ويرى نورًا؛ أي: يقظة، وكان يخشى أن يكون الذي يناديه تابعًا من الجن، كما ينادي الكهنة، وكان في جبل حراء غار؛ وهو الجبل الذي نادى رسول الله - ﷺ - بقوله: إلى يا رسول الله لما قال له ثبير وهو على ظهره: اهبط عني يا رسول الله، فإني أخاف أن تُقتل على ظهري، وكان رسول الله - ﷺ - يتعبد في ذلك الغار ليالي ثلاثًا وسبعًا وشهرًا، ويتزود لذلك من الكعك والزيت، وذلك في تلك المدة وقبلها.
وأول من تعبد فيه من قريش جده عبد المطلب، ثم تبعه سائر المتألهين، وهم أبو أمية بن المغيرة، وورقة بن نوفل ونحوهما، وكان ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي ابن عم خديجة - رضي الله عنها - وكان قد قرأ الكتب السالفة، وكتب الكتاب العبري، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي في آواخر عمره ثم بلغ - ﷺ - رأس الأربعين، ودخلت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان جاءه الملك وهو في الغار، كما قال الإِمام الصرصري رحمه الله تعالى:
وَأَتَتْ عَلَيْهِ أَرْبَعُوْنَ فَأَشْرَقَتْ شَمْسُ النُّبُوَّةِ مِنْهُ فِيْ رَمَضَانِ
قالت عائشة - رضي الله عنها -: جاءه الملك سحر يوم الإثنين، فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارىء، قال: فأخذني فغطني؛ أي: ضمني وعصرني، ثم أرسلني، فعله ثلاث مرات، ثم قال: ﴿اقْرَأْ﴾ إلى قوله: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
وأخذ منه القاضي شريح من التابعين: إن المعلم لا يضرب الصبي على تعليم القرآن أكثر من ثلاث ضربات، فخرج - ﷺ - من الغار، حتى إذا كان في جانب من الجبل سمع صوتًا يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل، ورجع إلى خديجة يرجف فؤاده، فحدثها بما جرى، فقالت له: أبشر يابن عمي واثبت، فوالذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، ثم انطلقت إلى ورقة فأخبرته بذلك، فقال فيه:
149
فَإِنْ يَكُ حَقًّا يَا خَدِيْجَةُ فَاعْلَمِيْ حَدِيْثَكِ إِيَّانَا فَأَحْمَدُ مُرْسَلُ
وَجِبْرِيْلُ يَأَتِيْهِ وَمِيْكَالُ مَعْهُمَا مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرَحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ
يَفُوْزُ بِهِ مَنْ فَازَ عِزًّا لِدِيْنِهِ وَيشْقَى بِهِ الْغَاوِيْ الشَّقِي الْمُضَلَّلُ
فَرِيْقَانِ مِنْهُمْ فِرْقَةٌ فِيْ جِنَانِهِ وَأُخَرَى بِأَغْلَالِ الْجَحِيْمِ تُغَلَّلُ
ومكث - ﷺ - مدة لا يرى جبريل، وإنما كان كذلك؛ ليذهب عنه ما كان يجده من الرعب، وليحصل له التشوق إلى العود، وكانت مدة الفترة؛ أي: فترة الوحي بين ﴿اقْرَأْ﴾ وبين ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١)﴾، وتوفي ورقة في هذه الفترة، ودُفن بالحجون، وقد آمن به - ﷺ - وصدّقه قبل الدعوة التي هي الرسالة، ولذا قال - ﷺ -: "لقد رأيته في الجنة، وعليه ثياب الحرير"، ثم نزل: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢)﴾، فظهر الفرق بين النبوة والرسالة.
والجار والمجرور في قوله: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿اقْرَأْ﴾، ومفعول ﴿اقْرَأْ﴾ محذوف تقديره: اقرأ يا محمد ما يوحى إليك، أو ما نزل عليك، أو ما أُمرت بقراءته حال كونك متلبسًا باسم ربك، أو مستعينًا باسم ربك، أو مفتتحًا باسم ربك، أو متبركًا باسم ربك، أو مبتدئًا باسم ربك؛ ليتحقق مقارنته لجميع أجزاء المقروء؛ أي: قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم اقرأ، فعُلِم أن ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك﴾ نزلت من غير بسملة، وقد صرَّح بذلك الإِمام البخاري - رحمه الله تعالى - أمره بذلك؛ لأن ذكر اسم الله قوة له في القراءة، وأنس بمولاه، فإن الإنس بالاسم يُفضي إلى الإنس بالمسمى، والذكر باللسان يؤدي إلى الذكر بالجنان.
قال في "الكواشي": دخلت ﴿الباء﴾ في ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك﴾؛ لتدل على الملازمة والتكرير، كأخذت بالخطام، ولو قلت: أخذت الخطام لم يدل على التكرير والدوام، وقيل (١): ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ هو المفعول، وهو المأمور بقراءته، كما تقول: اقرأ الحمد لله، وقيل المعنى: اقرأ في أول كل سورةٍ وقراءةٍ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وقال الأخفش: ﴿الباء﴾ بمعنى على؛ أي: اقرأ على اسم الله، كما قالوا في قوله: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ﴾؛ أي: على اسم الله، وقال أبو عبيدة: ﴿الباء﴾: زائدة، والمعنى: اذكر اسم ربك، وقال أيضًا: الاسم صلة، والمعنى: اقرأ بعون ربك وتوفيقه، وجاء بـ ﴿اسم ربك﴾ ولم يأت بلفظ الجلالة: لما في لفظ
(١) البحر المحيط.
150
الرب من معنى الذي رباك، ونظر في مصلحتك، وجاء الخطاب؛ ليدل على الاختصاص والتأنيس؛ أي: ليس لك رب غيره.
وقرأ الجمهور (١): ﴿اقْرَأْ﴾ بهمزة ساكنة أمرًا من القراءة، وقرأ الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بحذفها، كأنه على قول من يبدل الهمزة بمناسب حركتها، فيقول: قرأ يقرأ كسعى يسعى، فلما أمر منه قيل: اقْرَ بحذف الألف، كما تقول: اسع، وفي كتاب "شمس المعارف": أول آية نزلت على وجه الأرض: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يعني: على آدم الصفي عليه السلام، فقال آدم: الآن علمت أن ذريتي لا تُعذب بالنار ما دامت عليها، ثم أنزلت على إبراهيم عليه السلام في المنجنيق، فأنجاه الله تعالى بها من النار، ثم على موسى عليه السلام فقهر بها فرعون وجنوده، ثم على سليمان عليه السلام، فقالت الملائكة: الآن والله قد تم ملكك. فهي آية الرحمة والأمان لرسله وأممهم، ولما نزلت على رسول الله - ﷺ - في سورة النمل: ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (٣٠)﴾ كانت فتحًا عظيمًا، فأمر رسول الله، فكُتبت على رؤوس السور وظهور الدفاتر وأوائل الرسالة، وحلف رب العزة بعزته أن لا يسميه عبد مؤمن على شيء إلا بورك له فيه، وكانت لقائلها حجابًا من النار، وهي تسعة عشر حرفًا تدفع تسع عشرة زبانية، وفي الخبر النبوي: "لو وُضعت السموات والأرضون وما فيهن وما بينهن في كفة، والبسملة في كفة لرجحت عليها" يعني البسملة.
وقال بعضهم: ﴿الباء﴾ في باسم الله بره تعالى على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدارين، والسين كونه سميعًا لدعاء الخلق جميعًا، والميم معناه من العرش إلى تحت الثرى مِلكه ومُلكه.
﴿الَّذِي خَلَقَ﴾؛ أي: اتصف بالخلق والإيجاد للمخلوقات، من خلق الخلائق، من كل شيء وصف الرب به، لتذكير أول النعماء الفائضة عليه منه تعالى، والتنبيه على أن من قدر على خلق الإنسان على ما هو عليه من الحياة، وما يتبعها من الكمالات العلمية والعملية من مادة لم تشم رائحة الحياة فضلًا من سائر الكمالات.. قادر على تعليم القراءة للحي العالم المتكلم.
(١) البحر المحيط.
151
والمعنى: أي اقرأ ما يوحى إليك يا محمد متبركًا باسم ربك الذي له الخلق والمستأثر به لا خالق سواه، فيكون ﴿خَلَقَ﴾ مُنَزَّلًا منزلة اللازم، وبه يتم مراد المقام؛ لدلالته على أن كل خلق مختص به، من المعنى: الذي خلق كل شيء، فيكون من حذف المفعول؛ للدلالة على التعميم.
وقال في "فتح الرحمن": لما ذكر الرب، وكانت العرب في الجاهلية تسمي الأصنام أربابًا، جاء بالصفة التي لا شركة للأصنام فيها، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، ومعنى الآية: أي (١): صر يا محمد قارئًا بقدرة الله الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك، فإنه - ﷺ - لم يكن قارئًا ولا كاتبًا، وقد جاءه الأمر الإلهي بأن يكون قارئًا وإن لم يكن كاتبًا، وسينزل عليه كتابًا يقرؤه وإن كان لا يكتبه.
وقصارى ذلك: أن الذي خلق الكائنات وأوجدها قادر أن يوجد فيها قراءة وإن لم يسبق لك تعلمها.
فائدة: ذكر السيوطي في "إتقانه": أن أول سورة اقرأ مشتمل على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال؛ لكونها أول ما نزل من القرآن، فإن فيها الأمر بالقراءة، وفيها البداءة باسم الله، وفيها الإشارة إلى علم الأحكام، وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾، ولهذا قيل: إنها جديرة بأن تسمى عنوان القرآن؛ لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله اهـ "ابن لقيمة على البيضاوي".
فائدة أخرى: قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ظاهره (٢) أن هذه الجملة ليست من القرآن؛ لأن الأمر بتحصيل الشيء غير ذلك الشيء، ولكن قام الإجماع على أنها من جملة القرآن خصوصًا مع إثباتها في المصاحف بخطها سلفًا وخلفًا من غير نكير، فعُلم منه أنها من جملة القرآن تأمل.
وفائدة أخرى: بسم الله تُكتب من غير ألف استغناء عنها بباء الإلصاق في اللفظ والخط؛ لكثرة الاستعمال بخلاف قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ فإنها لم تُحذف فيه؛ لقلة الاستعمال، واختلفوا في حذفها من الرحمن والقاهر، فقال الكسائي وسعيد بن الأخفش: تحذف الألف، وقال يحيى بن وثاب: لا تُحذف إلا
(١) المراغي.
(٢) الفتوحات.
152
مع اسم الله فقط؛ لأن الاستعمال إنما كثر فيه، اهـ من القرطبي في أول "تفسيره".
٢ - وقوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: بني آدم تخصيص (١) لخلق الإنسان بالذكر من بين سائر المخلوقات؛ لاستقلاله ببدائع الصنع والتدبير على القول بأن ﴿خَلَقَ﴾ الأول لازم بمعنى اتصف بالخلق واستأئر به، وأما على القول بأن خَلَقَ الأول متعد حُذف مفعوله، فهو تخصيص لخلق الإنسان بالذكر والبيان بعد التعميم تفخيمًا لشأنه؛ إذ هو أشرفهم، وعليه نزل التنزيل، وهو المأمور بالقراءة، ويجوز أن يراد بالفعل الأول أيضًا خلق الإنسان، ويقصد بتجريده عن المفعول الإبهام، ثم التفسير رومًا لتفخيم شأنه.
﴿مِنْ عَلَقٍ﴾؛ أي: خلق الإنسان من دمٍ جامد جمع علقة، كثمر وثمرة، وهي الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح؛ أي: خلقه من دم جامد رطب يعلق بما مر عليه، لبيان كمال قدرته تعالى بإظهار ما بين حالته الأولى والآخرة من التباين البين، وإيراده (٢) بلفظ الجمع حيث لم يقل: علقة بناء على أن الإنسان في معنى الجمع؛ لأن الألف فيه للاستغراق من للجنس، والمعنى: الذي خلق جنس الإنسان من جنس العلق، من لمراعاة الفواصل، ولعله هو السر في تخصيصه بالذكر من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والتراب أدل منه على كمال القدرة؛ لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية.
ولما كان خلق الإنسان أول النعم الفائضة عليه منه تعالى، وأقوم الدلائل الدالة على وجوده تعالى، وكمال قدرته وعلمه وحكمته.. وصف ذاته تعالى بذلك أولًا؛ ليسششهد - ﷺ - به على تمكينه تعالى له من القراءة، وفي "حواشي ابن الشيخ": إن الحكيم سبحانه وتعالى لو قال له حين أراد أن يبعثه رسولًا إلى المشركين: اقرأ باسم ربك الذي لا شريك له.. لأبوا أن يقبلوا ذلك منه، لكنه تعالى قدم في ذلك مقدمة تلجئهم إلى الاعتراف به حيث أمر رسوله أن يقول لهم: إنهم هم الذين خُلِقوا من العلقة ولا يمكنهم إنكاره، ثم أن يقول لهم: لا بد للفعل من فاعل، فلا يمكنهم أن يضيفوا ذلك الفعل إلى الوثن؛ لعلمهم بأنهم نحتوه، فبهذا التدريج يقرون بأني أنا المستحق للثناء دون الأوثان؛ لأن الإلهية موقوفة على الخالقية، ومن لم
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
يخلق شيئًا كيف يكون إلهًا مستحقًا للعبادة.
ومعنى قوله: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢)﴾؛ أي: إن (١) الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق، وآتاه القدرة على التسلط على كل شيء مما في هذا العالم الأرضي، وجعله يسوده بعلمه، ويسخره لخدمته قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبي - ﷺ -، قارئًا وإن لم يسبق له تعلم القراءة.
والخلاصة (٢): أن من كان قادرًا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانًا حيًا ناطقًا يسود المخلوقات الأرضية جميعها قادر أن يجعل محمدًا - ﷺ - قارئًا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة.
٣ - ثم كرر الأمر بالقراءة للتأكيد والتقرير، فقال: ﴿اقْرَأْ﴾؛ أي: افعل يا محمد ما أُمرت به من القراءة، وحكمة الأمر بالتكرير؛ لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة، وتكرار الأمر الإلهي يقوم مقام تكرير المقروء، وبذلك تفسير القراءة ملكة للنبي - ﷺ -، تدبر قوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (٦)﴾ وقيل (٣): إنه أمره بالقراءة أولًا لنفسه، ثم أمره بالقراءة ثانيًا للتبليغ، فلا يكون من باب التأكيد، والأول أولى، وجملة قوله: ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ من المبتدأ والخبر مستأنفة مسوقة لإزاحة ما اعتذر به - ﷺ - من قوله: ما أنا بقارىء، يريد أن القراءة شأن من يكتب ويقرأ، وأنا أمي لا أعرف القراءة ولا الكتابة، فقيل له: اقرأ وربك الذي أمرك بالقراءة مبتدئًا باسمه وهو الأكرم؛ أي: الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض، ولا يطلب مدحًا من ثوابًا من تخلصًا من المذمة، وأيضًا أن كل كريم، إنما أخذ الكرم منه، فكيف يساوي الأصل.
والمعنى (٤): أي وربك يا محمد أكرم من يرتجى منه الإعطاء، فيسيرٌ عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه من غير تعلُّم كتابة ولا قراءة. وقال ابن الشيخ: ﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ، و ﴿الْأَكْرَمُ﴾: صفته، و ﴿الَّذِي﴾، مع صلته في قوله: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ خبره؛ أي: علم ما علم بواسطة القلم لا غيره، فكما علم القارىء بواسطة الكتابة والقلم يعلمك بدونهما.
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) الشوكاني.
(٤) المراغي.
وفي "الخازن": وقد يكون (١) ﴿الْأَكْرَمُ﴾ بمعنى الكريم، كما جاء الأعز بمعنى العزيز، وغاية الكرم إعطاؤه الشيء من غير طلب العوض، فمن طلب العوض فليس بكريم، وليس المراد أن يكون العوض عينًا بل المدح والثواب عوض، والله سبحانه جل جلاله وتعالى عُلاهُ وشأنه يتعالى عن طلب العوض، ويستحيل ذلك في وصفه؛ لأنه أكرم الأكرمين، وقيل ﴿الْأَكْرَمُ﴾: هو الذي له الابتداء في كل كرم وإحسان، وقيل: هو الحليم عن جهل العباد، فلا يعجل عليهم بالعقوبة، وقيل: يحتمل أن يكون هذا حثًا على القراءة، والمعنى: اقرأ وربك الأكرم؛ لأنه يجزي بكل حرف عشر حسنات.
٤ - ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)﴾؛ أي: علم الخط والكتابة التي بها تُعرف الأمور الغائبة، وفيه تنبيه على فضل الكتابة؛ لما فيها من المنافع العظيمة؛ لأن بالكتابة ضُبطت العلوم، ودونت الحكم، وبها عُرفت أخبار الماضين وأحوالهم وسيرهم ومقالاتهم، ولولا الكتابة ما استقام أمر الدين والدنيا، قال قتادة: القلم نعمة من الله عظيمة، لولا القلم لو يقم دين ولم يصلح عيش، وسئل (٢) بعضهم عن الكلام، فقال: ريح لا يبقى، قيل له: فما قيده؟ قال: الكتابة؛ لأن القلم ينوب عن اللسان، ولا ينوب اللسان عنه، كما قال بعضهم:
الْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدُهُ قَيِّدْ صُيُوْدَكَ بِالْحِبَالِ الْوَاثِقَهْ
وقال الآخر:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلَّا سَيَبْلَى وَيُبْقِي الدَّهْرُ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفَّكَ غَيْرَ شَيءٍ يَسُرُّكَ فِيْ الْقِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ
وفيه امتنان على الإنسان بتعليم علم الخط والكتابة بالقلم، وسمي قلمًا؛ لأنه يُقَلَّم ويقص ويقطع.
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله: أأكتب ما أسمع منك من الحديث؟ قال: "نعم، فاكتب فإن الله تعالى علم بالقلم".
وعن ابن مسعود قال (٣): قال رسول الله - ﷺ -: "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) المراح.
تعلموهن الكتابة؛ - أي: حذرًا من تطلعهن إلى الرجال وحذرًا من الفتنة - لأنهن قد يكتبن لمن يهوين".
قال كعب الأحبار (١): أول من وضع الكتاب العربي والسرياني، والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته ثلاث مئة سنة كتبها في الطين ثم طبخه، فاستخرج إدريس ما كتب آدم وهذا هو الأصح.
وأما أول من كتب خط الرمل فإدريس عليه السلام، وأول من كتب بالفارسية: طهمورت ثالث ملوك الفرس، وأول من اتخذ القراطيس: يوسف عليه السلام، قال السيوطي - رحمه الله تعالى -: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، وأول ما كتب القلم: أنا التواب أتوب على من تاب.
قال بعضهم: وجه المناسبة بين الخلق من العلق وتعليم القلم أن أدنى مراتب الإنسان كونه علقة، وأعلاها كونه عالمًا، فالله تعالى امتن على الإنسان بنقله من أدنى المراتب وهي العلقة إلى أعلاها وهو تعلم العلم،
٥ - وجملة قوله: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾ بدل اشتمال من التي قبلها وتعيين للمفعول؛ أي: علم الإنسان بالقلم وبدونه من الأمور الكلية والجزئية والجلية والخفية ما لم يخطر بباله أصلًا، قيل (٢) المراد بـ ﴿الْإِنْسَانَ﴾ هنا: آدم، كما في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ وقيل: ﴿الْإِنْسَانَ﴾ هنا: رسول الله - ﷺ -، وعلى هذا فالمراد بعلمه المستقبل، فإن هذا من أوائل ما نزل، والأولى حمل ﴿الْإِنْسَانَ﴾ على العموم، كما أشرنا إليه في الحال.
وحاصل معنى قوله: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)...﴾ الآيات، أي (٣): الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشقة، كما أفهمهم بوساطة اللسان. والقلم آلة جامدة لا حياة فيها، وليس من شأنها الإفهام، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، أفيصعب عليه أن يجعل منك قارئًا مبينًا وتاليًا معلمًا، وأنت إنسان كامل، وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق، وأنه علمه بالقلم، ليبين أحوال هذا الإنسان، وأنه خلق من أحقر الأشياء، وبلغ في كماله الإنساني أن صار عالمًا بحقائق الأشياء، فكأنه قيل: تدبر أيها الإنسان تجد
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
أنك قد انتقلت من أدنى المراتب إلى أعلى الدرجات وأرفعها، ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شيء خلقه، ثم زاد الأمر بيانًا بتعداد نعمه، فقال: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾؛ أي: إن من صدر أمره بأن يكون رسوله - ﷺ - قارئًا هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم، وممتاز به عن غيره من الحيوان، وكان في بدء أمره لا يعلم شيئًا، فهل من عجيب أن يعلمك القراءة ويعلمك كثيرًا من العلوم سواها، ونفسك مستعدة لقبول ذلك، وفي الآية دليل على فضك القراءة والكتابة والعلم، ولعمرك لولا القلم ما حُفظت العلوم، ولا أحصيت الجيوش، ولضاعت الديانات، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم، ولما سجل تاريخ السابقين المسيئين منهم والمحسنين، ولا كان علمهم نبراسًا يهتدي به الخلف، ويُبنى عليه ما به ترقى الأمم وتتقدم المخترعات.
كما أن فيها دليلًا على أن الله سبحانه خلق الإنسان الحي الناطق فيما لا حياة فيه ولا نطق ولا شكل ولا صورة، وعلمه أفضل العلوم وهي الكتابة، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئًا، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان.
٦ - ﴿كَلَّا﴾ ردع (١) لمن كفر بنعمة الله تعالى عليه بطغيانه وإن لم يسبق ذكره للمبالغة في الزجر فيوقف عليه، وقال السجاوندي: يوقف على ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾؛ لأنه بمعنى حقًا، ولذا وضع علامة الوقف عليه. ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: إن جنس الإنسان ﴿لَيَطْغَى﴾؛ أي: ليتجاوز الحد ويستكبر على ربه، وهذا بيان للمردوع والمردوع عنه إن قلنا: إنها حرف ردع، قيل: إن هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل وأضرابه بعد زمان من نزول أول السورة، وهو الظاهر.
٧ - ﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧)﴾ مفعول له؛ أي: يطغى لأن رأى وعلم نفسه مستغنيًا من أبصر غناه، والمراد أنه يريد طغيانه باستغنائه بالعشيرة والأنصار والأعوان والأموال، قال مقاتل: كان أبو جهل إذا أصاب مالًا زاد في ثيابه ومركبه وطعامه وشرابه، فذلك طغيانه، وكذلك قال الكلبي.
والرؤية هنا (٢): بمعنى العلم، ولو كانت بصرية لامتنع الجمع بين ضميرين لشيء واحد في فعلها؛ لأن ضمير الفاعل في ﴿رَآهُ﴾ وضمير المفعول عائدان على
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
157
﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ لأن الجمع بين الضميرين المتصلين لشيء واحد من خواص أفعال القلوب، فتقول: رأيتني صديقك، فلا يجوز: زيد ضربه، وهما ضميرا زيد.
وقرأ الجمهور (١): ﴿أَنْ رَآهُ﴾ بألف بعد الهمزة، وهي لام الفعل، وقرأ قنبل عن ابن كثير بحذف الألف، وهي رواية ابن مجاهد عنه، قال: وهو غلط لا يجوز، وينبغي أن لا يغلّطه بل يتطلب له وجهًا، وقد حُذف الألف في نحو من هذا، قال الشاعر:
وَصَّانِيَ الْعَجَّاجُ فِيْمَا وَصَّنِيْ
يريد فيما وصاني، فحذف الألف وهي لام الفعل، وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم: أصاب الناس جهد ولو تَرَ أهل مكة، وهو حذف لا ينقاس، لكن إذا صحت الرواية به وجب قبوله، والقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها.
وقيل معنى ﴿كَلَّا﴾ حقًا كما مر عن السجاوندي، والمعنى عليه: أي (٢) حقًا، إن أمر الإنسان لعجب، فإنه متى أحس من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه، واستكبر عن الخشوع لربه وتطاول بأذى الناس، وعد نفسه فوقهم جميعًا، وقد كان من حقه أن يكون هو وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون في السراء والضراء، ويحب الخير لهم، كما يحبه لنفسه، وفي "البخاري": "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا"، وروي عن علي في نصيحته لابنه الحسن: أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: منهومان لا يشبعان طالب العلم وطالب الدنيا ولا يستويان، أما طالب العلم فيزداد في رضا الله، وأما طالب الدنيا فيزداد في الطغيان.
وتعليل طغيانه برؤيته لنفسه الاستغناء (٣)؛ للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد، روي: أن أبا جهل قال لرسول الله - ﷺ -: أتزعم أن من استغنى طغى؟ فاجعل لنا جبال مكة ذهبًا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك، فنزل جبريل، فقال: إن شئت فعلنا ذلك، ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
158
المائدة، فكف رسول الله - ﷺ - عن الدعاء إبقاءً عليهم ورحمةً لهم، وأول (١) هذه السورة يدل على مدح العلم وآخرها على مذمة المال، وكفى بذلك مرغبًا في العلم والدين، ومنفرًا عن المال والدنيا، وكان - ﷺ - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من غِنًى يُطغي وفقر يُنسي" وقد حكم (٢) سبحانه على الإنسان بالطغيان بالغنى باعتبار الأعم الأغلب، في أفراده، وإلا فإن الغنى والقوة في أيدي الأتقياء من وسائل الخير وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية؛ لأنهم يستعملونها فيما يُرضي ربهم ويعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم،
٨ - ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية، وليست نفسه بباقية، وأن مرجع الأمر كله لله سبحانه وتعالى، فقال: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨)﴾؛ أي: إلى مالك (٣) أمرك أيها الإنسان رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره استقلالًا واشتراكًا، فسترى حينئذٍ عاقبة طغيانه، والرجعى مصدر بمعنى الرجوع، والألف للتأنيث كالمرجع والرجوع، يقال: رجع إليه مرجعًا ورجوعًا ورجعى، وتقدم الجار والمجرور؛ لإفادة القصر.
والمعنى (٤): أي إن المرجع إلى ربك وحده وهو مالك أمرك وما تملك، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة، وتظهر في مظهر الذل، وتحاسب على كل ما اجترحته في حياتك الأولى قل من كثر عظم من حقر، كما قال: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)﴾
٩ - ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب، فقال: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾ والاستفهام لتعجيب المخاطب، وهو النبي - ﷺ -، وكل من يتأتى منه الرؤية، والرؤية هنا بصرية، وهي (٥) تتعدى إلى مفعولين؛ لأنها بمعنى: أخبِرْني، فالمفعول الأول: ﴿الَّذِي﴾، والمفعول الثاني: محذوف، وهو جملة استفهامية نظير الجملة الواقعة بعد ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة؛ أي: أخبِرْني يا محمد، من أيها المخاطَب الناهي من يصلي ألم يعلم أن الله يطلع على أحواله، فيجازيه بها حتى اجترأ على ما فعل؛ أي: أخبرني عن حال هذا الأحمق، فإن أمره لعجب، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد إلى أن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
(٥) المراغي.
ينهى عبدًا من عباد الله عن صلاته، ويعتقد أنه يجب عليه طاعته وهو ليس بخالق ولا رازق، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه ويعرض عن طاعة الخالق الرازق، وقد روي أن عليًا - رضي الله عنه - رأى في المصلى قومًا يصلون قبل صلاة العيد، فقال: ما رأيت رسول الله - ﷺ - يفعل ذلك، فقيل له ألا تنهاهم، فقال: أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾، فلم يصرح بالنهي عن الصلاة احتياطًا.
١٠ - وتنكير (١) ﴿عَبْدًا﴾ لتفخيمه - ﷺ -، كأنه قيل ينهى أكمل الخلق في العبودية عن عبادة ربه، والعدول عن ينهاك إلى ﴿يَنْهَى عَبْدًا﴾ دال على أن النهي كان للعبد عن إقامة خدمة مولاه، ولا أقبح منه، قال المفسرون: ﴿الَّذِي يَنْهَى﴾ أبو جهل، والمراد بالعبد محمد - ﷺ -، وفيه تقبيح لصنعه وتشنيع لفعل، كأنه بحيث يراه كل من تتأتى منه الرؤية.
روي: أن أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش: لئن رأيت محمدًا يصلي لأطأن عنقه، وفي "التكملة": نهى محمدًا عن الصلاة، وهمّ أن يُلقي على رأسه حجرًا، فرآه في الصلاة، وهي صلاة الظهر، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقًا من نار وهولًا وأجنحة، فنزلت الآية، والمراد أجنحة الملائكة، أبصر اللعين الأجنحة، ولم يبصر أصحابها، فقال - ﷺ -: "والذي نفسي بيده لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا" وكان أبو جهل يكنى في الجاهلية بأبي الحكم لأنهم كانوا يزعمون أنه عالم ذو حكمة، ثم سمي أبا جهل في الإِسلام.
وكان - ﷺ - يدعو ويقول: "اللهم أعز الإِسلام بأبي جهل، أو بعمر" فلما أعنه الله بعمر - رضي الله عنه - دل على أن عمر أسعد قريش، كما أن أبا جهل أشقى قريش؛ إذ الأشياء تتبين باضدادها.
١١ - ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢)﴾ والرؤية هنا قلبية، معناه: أخبِرْني ذلك الناهي وهو المفعول الأول، فإن مفعولي (٢) ﴿أَرَأَيْتَ﴾ هنا محذوفان،
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
حذف الأول؛ لدلالة المفعول الأول من ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الأولى عليه، وحذف الثاني؛ لدلالة مفعول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة عليه،
١٢ - و ﴿أَوْ﴾ في قوله: ﴿أَوْ أَمَرَ﴾ بمعنى الواو، والمعنى: أخبِرْني يا محمد ذلك الناهي إن صار على الهدى وأمر بالتقوى، أما كان ذلك خيرًا له من الكفر بالله والنهي عن خدمته.
والخلاصة: أما كان الأفضل له أن يهتدي ويهدي غيره إلى خصال البر والخير، وقد كانت هذه حال النبي - ﷺ -، فعمله كان، إما في إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيامٍ وغيرهما، وإما في إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها.
كأنه تعالى يقول: تلهف يا مخاطَب عليه، كيف فوَّت على نفسه المراتب العالية، وقنع بالمراتب الدنيئة، وهو رجل عاقل ذو ثروة لا يليق به ذلك، والآية في الحقيقة تهكم بالناهي ضرورة أنه ليس في النهي عن عبادته تعالى، والأمر بعبادة الأصنام على هدًى ألبتة.
١٣ - ﴿أَرَأَيْتَ﴾ والرؤية أيضًا هنا قلبية تتعدى إلى مفعولين؛ أي: أخبِرْني ذلك الناهي ﴿إِنْ كَذَّبَ﴾ بالحق ﴿وَتَوَلَّى﴾؛ أي: أعرض عنه
١٤ - ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ﴾ ذلك الناهي ﴿بِأَنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَرَى﴾؛ أي: يراه ويجازيه على تكذيبه وإعراضه، والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ﴿لأ رأيت﴾، ومفعولها الأول محذوف، وهو يعود إلى الموصول، من اسم إشارة يشار به إليه، والمعنى: أخبِرْني يا محمد ذلك الناهي إن كذب بتلك الدلائل الواضحة وأعرض عن خدمة خالقه ألم يعلم بعقله أن الله سبحانه يرى منه هذه الأعمال القبيحة، أفلا ينزجر عنها.
والخلاصة (١): أي أنبئني عن حال هذا الكافر إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة، وأمارات القدرة الباهرة، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك، ودعا الناس إلى مثل ذلك، أفلا يخشى أن تحل به قارعة ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله، ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله، وأنه حكيم لا يُهمل عقابه، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من كل جرم، ولا يخفى ما في هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين، وقال أبو الليث - رحمه الله -: والآية
(١) المراغي.
161
عظة لجميع الناس، وتهديد لمن يمنع عن الخير وعن الطاعة، وقال ابن الشيخ في "حواشيه": وهذه (١) الآية وإن نزلت في حق أبي جهل، لكن كل من نهى عن طاعة الله تعالى فهو شريك أبي جهل في هذا الوعيد، ولا يلزم عليه المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، والأوقات المكروهة؛ لأن المنهي عنه غير الصلاة، وهي المعصية التي هي الاستيلاء على حق الغير، وإيقاع الصلاة في الوقت المكروه، فإن عدم مشروعية الوصف المقارن، وكونه مستحقًا؛ لأن ينهى عنه لا ينافي مشروعية أصل الصلاة إلا أنه لشدة الاتصال بينهما بحيث يكون النهي عن الوصف موهمًا للنهي عن الأصل احتاط فيه بعض الأكابر، حتى روي عن علي - رضي الله عنه - أنه رأى في المصلى أقوامًا يصلون قبل صلاة العيد إلى آخر ما مر.
وفي "البيضاوي": ومعنى الآيات: أخبِرْني عمن ينهى بعض عباد الله عن صلاته إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه، من أمر بالتقوى فيما يأمره من عبادة الأوثان كما يعتقده، أو إن كان على التكذيب اللحق والتولي عن الصواب، كما يقول: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤)﴾ ويطلع على أحواله، من هداه أو ضلاله ليجازيه عليه. انتهى.
وقال الفراء: المعنى: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى وهو على الهدى وأمر بالتقوى، والناهي مكذب متول عن الذكر؛ أي: فما أعجب هذا، ألم يعلم أبو جهل بأن الله تعالى يراه ويعلم فعله، فهذا تقرير وتوبيخ انتهى.
وقال التبريزى (٢): المراد بالصلاة هنا صلاة الظهر، قيل: هي أول جماعة أقيمت في الإِسلام كان معه أبو بكر وعلي وجماعة من السابقين، فمر به أبو طالب ومعه ابنه جعفر، فقال له: صل جناح ابن عمك وانصرف مسرورًا، وأنشأ أبو طالب يقول:
إِنَّ عَلِيًّا وَجَعْفَرًا ثِقَتِىْ عِنْدَ مُلِمِّ الزَّمَانِ وَالْكُرَبِ
وَاللهِ لَا أَخْذُل النَّبِيَّ وَلَا يَخْذُلُهُ مَنْ يَكُوْنُ مِنْ حَسَبِيْ
لَا تَخْذُلَا وَانْصُرَا ابْنَ عَمَّكُمَا أَخِىْ لأُمَّيْ مِنْ بَيْنِهِمُ وَأَبِيْ
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
162
ففرح رسول الله - ﷺ - بذلك، والخطاب (١) في ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الظاهر أنه للرسول - ﷺ -، وكذا ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثاني والثالث، والتناسق في الضمائر هو الذي يقتضيه النظم، وقيل: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ خطاب للكافر التفت إلى الكافر، فقال: أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدًى ودعاءً إلى الله تعالى، وأمرًا بالتقوى أتنهاه مع ذلك، والضمير في ﴿إن كَانَ﴾، وفي ﴿إن كَذَّبَ﴾ عائد على الناهي.
١٥ - ﴿كَلَّا﴾ ردع (٢) للناهي اللعين عن نهيه عن عبادة الله وأمره بعبادة اللات. ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ ﴿اللام﴾: موطئة للقسم المحذوف؛ أي: والله لئن لم ينته هذا الناهي اللعين عما هو عليه، ولم ينزجر ولم يتب ولم يسلم قبل الموت، والأصل: ينتهي بالياء المحذوفة للجازم، يقال: نهاه ينهاه نهيًا ضد أمره، فانتهى.
﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾؛ أي: لنجُزَّنَّه بناصيته إلى جهنم، أصله: لنسفعن بنون التوكيد الخفيفة، ونظيره: ﴿وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ كتب في المصحف بالألف على حكم الوقف، فإنه يوقف على هذه النون بالألف تشبيهًا لها بالتنوين، والسفع: القبض على الشيء وجذبه بعنف وشدة، والناصية: شعر مقدم الرأس، والمعنى: والله لنأخذنه في الآخرة بناصيته، ولنسحبنه بها إلى النار بمعنى: لنأمرن الزبانية ليأخذوا بناصيته، ويجروه إلى النار بالتحقير والإهانة، وكانت العرب تأنف من جر الناصية، وفي "عين المعاني": الأخذ بالناصية عبارة عن القهر والهوان، والاكتفاء بلام العهد عن الإضافة، لظهور أن المراد ناصية الناهي المذكور، ويحتمل أن يكون المراد من هذا السفع سحبه على وجهه في الدنيا يوم بدر، فيكون بشارة بأن يمكِّن المسلمين من ناصيته حتى يجروه على وجهه إذا عاد إلى النهي، فلما عاد مكنهم الله من ناصيته يوم بدر.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿لَنَسْفَعًا﴾ بالنون الخفيفة، وكتبت بالألف باعتبار الوقف؛ إذ الوقف عليها بإبدالها ألفًا وكثر ذلك حتى صارت رويًا، فكتبت ألفًا كقوله:
يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا شَيْخًا عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا
وقرأ محبوب وهارون كلاهما عن أبي عمرو: ﴿لنسفعن﴾ بالنون الشديدة،
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
163
والفاعل على كلا القراءتين الله سبحانه، وقرأ ابن مسعود: ﴿لأسفعن﴾؛ أي: يقول يا محمد أنا الذي أتولى إهانة أبي جهل اهـ. "مراح".
روي (١): أنه لما نزلت سورة الرحمن.. قال - ﷺ -: "من يقرؤها على رؤساء قريش"، فتثاقلوا فقام ابن مسعود - رضي الله عنه - وقال: أنا. فأجلسه رسول الله، ثم قال ثانيًا: "من يقرؤها عليهم" فلم يقم إلا ابن مسعود - رضي الله عنه - ثم ثالثًا، إلى أن أذن له - ﷺ -، وكان - ﷺ - يُبقي عليه لما كان يعلم من ضعفه وصغر جثته، ثم إنه وصل إليهم فرآهم مجتمعين حول الكعبة، فافتتح قراءة السورة، فقام أبو جهل، فلطمه، فشق أذنه وأدماها فانصرف وعينه تدمع، فلما رآه - ﷺ - رق قلبه وأطرق رأسه مغمومًا، فإذا جبريل جاء ضاحكًا مستبشرًا، فقال: "يا جبريل تضحك، ويبكي ابن مسعود"، فقال: سيعلم، فلما ظفر المسلمون يوم بدر التمس ابن مسعود أن يكون له حظ في الجهاد، فقال له - ﷺ -: "خذ رمحك والتمس في الجرحى، ومن كان له رمق فاقتله، فإنك تنال ثواب المجاهدين، فأخذ يطالع القتلى، فإذا أبو جهل مصروع يخور، فخاف أن تكون فيه قوة فيؤديه، فوضع الرمح على منخره من بعيد فطعنه، ولعل هذا قوله: ﴿سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (١٦)﴾، ثم لما عرف عجزه لم يقدر أن يصعد على صدره لضعفه، فارتقى إليه بحيلة، فلما رآه أبو جهل قال له: يا رويعي الغنم لقد ارتقيت مرتقى صعبًا، فقال ابن مسعود: الإِسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فقال له أبو جهل: بلِّغ صاحبك أنه لم يكن أحد أبغض إلى منه في حال مماتي، فروي أنه عليه السلام لما سمع ذلك قال: فرعوني أشد من فرعون موسى، فإنه قال: آمنت وهو قد زاد عتوًا، ثم قال: يابن مسعود اقطع بسيفي هذا؛ لأنه أحد وأَقطع، فلما قطع رأسه لم يقدر على حمله فشق أذنه وجعل الخيط فيها، وجعل يجره إلى رسول الله - ﷺ - وجبريل بين يديه يضحك ويقول: يا محمد أذن بأذن لكن الرأس هاهنا مع الأذن مقطوع، ولعل الحكيم سبحانه إنما خلقه ضعيفًا حتى لم يقول على الرأس المقطوع لوجوه:
أحدها: أن أبا جهل كلب، والكلب يُجَر ولا يحمل.
والثاني: ليشق الأذن، فيقتص الأذن بالأذن.
(١) روح البيان.
164
والثالث: ليحقق الوعيد المذكور بقوله: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ فيجر تلك الرأس على مقدمها.
قال ابن الشيخ: الناصية شعر الجبهة (١)، وقد يسمى مكان الشعر ناصية، ثم إنه تعالى كنى بها هاهنا عن الوجه والرأس، ولعل السبب في تخصيص السفع بها أن اللعين كان شديد الاهتمام بترجيل الناصية وتطييبها.
١٦ - وقوله: ﴿نَاصِيَةٍ﴾ بالجر بدل من ﴿الناصية﴾، وإنما أبدل (٢) النكرة من المعرفة؛ لوصفها بقوله: ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ وهذا على مذهب الكوفيين، فإنهم لا يجيزون إبدال النكرة من المعرفة إلا بشرط وصفها، وأما على مذهب البصريين فيجوز إبدال النكرة من المعرفة كالعكس بلا شرط وأنشدوا:
فَلاَ وَأَبِيْكَ خَيْرٍ مِنْكَ إِنِّي لَيُؤْذِيْنِي التَّحَمُّمُ وَالصَّهِيْلُ
ووصف الناصية بالكذب والخطأ على الإسناد المجازي، وهما لصاحبها حقيقة، وفيه من الجزالة ما ليس في قولك: ناصية كاذب خاطىء كأن الكافر بلغ في الكذب قولًا والخطأ فعلًا إلى حيث أن كلًا من الكذب والخطأ، ظهر من ناصيته، وكان أبو جهل كاذبًا على الله في أنه لم يرسل محمدًا، وكاذبًا في أنه ساحر ونحوه، وخاطئًا بما تعرض له - ﷺ - بأنواع الأذية.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦)﴾ بجر الثلاثة على أن ﴿نَاصِيَةٍ﴾ بدل من المعرفة، وأن ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ صفتان لـ ﴿نَاصِيَةٍ﴾، قال الزمخشري: لأنها وُصفت فاستقلت بفائدة. انتهى. وليس شرطًا في إبدال النكرة من المعرفة أن توصف عند البصريين، كما مر آنفًا، خلافًا لمن شرط ذلك من غيرهم، ولا أن يكون من لفظ الأول أيضًا خلافًا لزاعمه، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وزيد بن علي بنصبها على الذم، وقرأ الكسائي: في رواية عنه برفعها على إضمار مبتدأ؛ أي: هي ناصية.
ومعنى الآية (٤): أي لا يستمرن بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه، أقسم بعزتي وجلالي لئن لم ينته وينزجر عن هذا الطغيان، ويكف عن نهي المصلي عن
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
(٤) المراغي.
صلاته لنأخذن بناصيته، ولنذيقنه العذاب الأليم.
أَلَا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها، مع أنها في قبضة خالقها فهي تزعم ما لا حقيقة له، وإنها لخاطئة؛ لأنها طغت وتجاوزت حدها وعتت عن أمر ربها، ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية، والكاذب والمخطىء صاحبها كما مر من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء،
١٧ - وقد أُمِر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوي النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به، فقال: ﴿فَلْيَدْعُ﴾ ذلك الكافر اللعين من الدعوة ﴿نَادِيَهُ﴾؛ أي: أهل (١) ناديه ومجلسه ليعينوه، والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي: يجتمعون فيه، وقدر المضاف؛ لأن نفس المجلس والمكان يدعى ولا يسمى المكان ناديًا حتى يكون فيه أهله، ودار الندوة بمكة كانوا يجتمعون فيه للتشاور، والمعنى: فليدع عشيرته فليستنصر بهم،
١٨ - روي أن أبا جهل مر برسول الله - ﷺ - وهو يصلي، فقال: ألم ننهك؟ فأغلظ رسول الله - ﷺ -، فقال: "أتهددني وأنا أكثر أهل الوادي ناديًا" يريد كثرة من يعينه، فنزلت: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾؛ أي: الملائكة الغلاظ الشداد، كذا قال الزجاج، وهي ملائكة العذاب ليجروه إلى النار، واحد منهم يغلب على ألف ألف من أمثال أهل ناديه، قال - ﷺ -: "لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عِيانًا".
وقال الكسائي والأخفش وعيسى بن عمر (٢): ﴿الزَّبَانِيَةَ﴾ واحدهم زابن، وقال أبو عبيدة: زبينة، وقيل: واحدهم (٣) زباني، وقيل: اسم جمع لا واحد له من لفظه كأبابيل وعباديد - اسم موضع -، وأصل الزبن الدفع، والعرب تطلق هذا الاسم على من اشتد بطشه.
وقرأ الجمهور (٤): ﴿سَنَدْعُ﴾ بالنون مبنيًا للفاعل وكتبت بغير واو؛ لأنها تسقط عند الوصل لفظًا لالتقاء الساكنين، وسقطت في الكتابة تبعًا للفظ كما سيأتي، وقرأ ابن أبي عبلة: ﴿سيدعى﴾ بالياء مبنيًا للمفعول، ورفع ﴿الزَّبَانِيَةَ﴾ على النيابة عن الفاعل؛ أي: سيدعو الله سبحانه الزبانية ليجروه إلى جهنم.
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
(٤) روح البيان.
وقال قتادة: ﴿الزَّبَانِيَةَ﴾ (١) في الأصل في كلام العرب: الشُرَط كصُرَد، وجمع شرطة بالضم، وهم طائفة من أعوان الولاة، سموا بذلك؛ لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها، كما في "القاموس"، والشَرَط بالتحريك العلامة، واحدهم زبنية كعفرية، وعفرية الديك شعرة القفا التي يردها إلى يافوخه عند الهراش من الزَّبْن بالفتح، كالضرب وهو الدفع؛ لأنهم يزبنون الكفار؛ أي: يدفعونهم في جهنم بشدة وبطش، يعني: أن ملائكة العذاب سموا بما سُمي به الشرط تشبيهًا لهم بهم في البطش والقهر والعنف والدفع، وقيل: الواحد زبني، وكأنه نُسب إلى الزبن، ثم غُيِّر إلى زبانية كإنسي بكسر الهمزة، وأصلها زباني، وقيل: زبانية بتعويض التاء عن الياء بعد حذفها للمبالغة في الدفع.
فائدة: اجتمعت المصاحف العثمانية على حذف الواو من ﴿سَنَدْعُ﴾ خطًا، ولا موجب للحذف لفظًا من القواعد العربية، ولعله للمشاكلة مع ﴿فَلْيَدْعُ﴾ أو للتشبيه بالأمر في أن الدعاء أمر لا بد منه.
وقال ابن خالويه: في إعراب الثلاثين آية الأصل سندعو بالواو، غير أن الواو ساكنة فاستثقلتها اللام ساكنة، فسقطت الواو في المصحف من ﴿سَنَدْعُ﴾، و ﴿يدع الإنسان﴾ و ﴿يمح الله الباطل﴾، وكذلك الياء من ﴿وَادِ النَّمْلِ﴾، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، والعلة ما أنباتك من بنائهم الخط على اللفظ. انتهى.
والمعنى: أي فليجمع (٢) أمثاله ممن ينتدي معهم؛ ليمنع المصلين المخلصين ويؤذي أهل الحق الصادقين، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط ربه عز وجل، واستحق التنكيل به، وسندعو له من جنودنا كل قوي متين لا قبل له بمغالبته في الدنيا أو يرديه في النار في الآخرة، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله تعالى على تعذيب العصاة من خلقه، وسُموا ﴿زبانية﴾؛ لأنهم يزبنون الكفار في النار؛ أي: يدفعونهم إليها
١٩ - ثم بالغ في زجر الكافر عن صلفه وكبريائه، ونفي قدرته على ما تهدد به، فقال: ﴿كَلَّا﴾ ردع (٣) بعد ردع للناهي المذكور، وزجر له إثر زجر، فهو متصل بما قبله، ولذا جعلوا الوقف عليه وقفًا مطلقًا.
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
167
﴿لَا تُطِعْهُ﴾ يا محمد؛ أي: لا تطع ذلك الكافر الناهي لك عن الصلاة؛ أي: دم على ما أنت عليه من معاصاة ذلك الناهي الكاذب الخاطىء، كقوله تعالى: ﴿فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨)﴾ و ﴿وَاسْجُدْ﴾ لربك؛ أي: وواظب على سجودك وصلاتك غير مكترث به ولا مبال له. ﴿وَاقْتَرِبْ﴾؛ أي: وتقرب بذلك السجود إلى ربك وابتغ المنزلة عنده.
وقال زيد بن أسلم: واسجد أنت يا محمد واقترب أنت يا أبا جهل من النار، والأول أولى.
وفي الحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد، فأكثروا من الدعاء في السجود" وكلمة ما مصدرية، وأقرب مبتدأ حذف خبره، ويكون تامة؛ أي: أقرب وجود العبد من ربه حاصل وقت سجوده، وهذا السجود الظاهر أن المراد به الصلاة، وقيل: سجود التلاوة، ويدل على هذا ما ثبت عنه - ﷺ - من السجود عند تلاوة هذه الآية كما مر وسيأتي.
وهذه الآية: محل السجود عند الأئمة الثلاثة خلافًا لمالك، فإنه كان يسجد فيها في خاصية نفسه، وهم على أصولهم في قولهم بالوجوب والسنية، وهذه السجدة من عزائم سجود التلاوة عند الشافعي، فيسن للقارىء والمستمع أن يسجد عند قراءتها يدل عليه ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سجدنا مع رسول الله في: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، و ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (١)﴾ أخرجه مسلم.
وللسجدة أقسام: سجدة الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو؛ وهذه مشهورة، وسجدة التعظيم لجلال الله وكبريائه، وسجدة التضرع إليه خوفًا وطمعًا، وسجدة الشكر له، وسجدة المناجاة، وهذه مستحبة في الأصح صادرة عن الملائكة، وعن رسول - ﷺ - وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة واللام، وقال أبو حنيفة ومالك: سجود الشكر مكروه، فيقتصر على الحمد والشكر باللسان، وقال الإمامان: هي قربة يثاب فاعلها.
الإعراب
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)﴾.
168
﴿اقْرَأْ﴾: فعل أمر مبني على السكون، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿اقْرَأْ﴾؛ أي: حالة كونك مفتتحًا أو متبركًا أو مبتدئًا، وقيل ﴿الباء﴾: زائدة؛ أي: اقرأ اسم ربك واذكره. ﴿الَّذِي﴾: صفة للرب، وجملة ﴿خَلَقَ﴾ صلته لا محل لها من الإعراب، والضمير المستتر فيه يعود على الموصول ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر ومفعول به، والجملة الفعلية بدل من الجملة التي قبلها، ويجوز أن تكون توكيدًا لفظيًا أكد الصلة وحدها. ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقَ﴾. ﴿اقْرَأْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر مؤكد لـ ﴿اقْرَأْ﴾ الأول. ﴿وَرَبُّكَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية أو حالية. ﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْأَكْرَمُ﴾: خبره، والجملة مستأنفة، أو حال من فاعل ﴿اقْرَأْ﴾، وقال ابن خالويه: ﴿وَرَبُّكَ﴾: مبتدأ. ﴿الْأَكْرَمُ﴾: صفة، وجملة ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ﴾ خبره، والجملة مستأنفة، والأول أولى. ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤)﴾: خبر ثان لـ ﴿ربك﴾، وأعربه ابن خالويه نعتًا ثانيًا لـ ﴿ربك﴾، ولسنا نرى هذا الرأي، وجملة ﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ صلة الموصول، وفاعل ﴿عَلَّمَ﴾ ضمير مستتر يعود على الله، ومفعولاه محذوفان؛ أي: علم الإنسان الخط بالقلم، و ﴿بِالْقَلَمِ﴾: متعلق بـ ﴿عَلَّمَ﴾، وفي الحقيقة أنه متعلق بالخط.
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠)﴾.
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، ومفعول به أول، والجملة تأكيد لجملة ﴿عَلَّمَ﴾ الأولى، من بدل، من خبر كما مر آنفًا. ﴿مَا﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿عَلَّمَ﴾، وجملة ﴿لَمْ يَعْلَمْ﴾ صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: ما لم يعلمه. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿الْإِنْسَانَ﴾: اسمها. ﴿لَيَطْغَى﴾: ﴿اللام﴾: حرف ابتداء، و ﴿يطغى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة. ﴿أنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿رَآهُ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾ تقديره: هو، والهاء ضمير متصل في محل النصب مفعول أول لـ ﴿رأى﴾. ﴿اسْتَغْنَى﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾، والجملة الفعلية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿رأى﴾؛ لأنها
169
علمية نحو: ظننتني صديقك تقديره: أن رأى نفسه مستغنيًا، وجملة ﴿رأى﴾ صلة ﴿أَن﴾ المصدرية، و ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول لأجله، أي: إن الإنسان ليطغى رؤية نفسه مستغنيًا؛ أي: لأجل رؤيتها غنية بالمال من الجاه من الخدم. ﴿إنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد ﴿إِلَى رَبِّكَ﴾: خبر مقدم لها. ﴿الرُّجْعَى﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿أَنْ﴾: مستأنفة مسوقة لمخاطبة الإنسان الطاغي بطريق الالتفات. ﴿أَرَأَيْتَ﴾: فعل وفاعل بمعنى: أخبرني يتعدى إلى مفعولين، والهمزة فيه للاستفهام التعجبي. ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول أول لـ ﴿رأيت﴾. ﴿يَنْهَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصوف. ﴿عَبْدًا﴾: مفعول به لـ ﴿يَنْهَى﴾، والجملة صلة الموصول. ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان مجرد عن معنى الشرط في محل النصب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَنْهَى﴾، وجملة ﴿صَلَّى﴾ في محل الخفض بإضافة إذا إليها، ومفعول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ محذوف، لدلالة مفعول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة عليه تقديره: أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى ألم يعلم بأن الله يراه فيجازيه، وجملة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ مستأنفة مسوقة لتعجيب المخاطَب عن حال هذا الناهي وحمقه وجهله.
﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤)﴾.
﴿أَرَأَيْتَ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام، ﴿رأيت﴾: فعل وفاعل، ومعناه: أخبرني، ومفعولاها محذوفان تقديرهما: أرأيت هذا الناهي ألم يعلم بأن الله يراه ويجازيه، حذف الأول منهما لدلالة المفعول الأول لـ ﴿رأيت﴾ الأولى عليه، وحذف الثاني، لدلالة مفعول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة عليه، وجملة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ مؤكدة لـ ﴿أرأيت﴾ الأولى. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، واسمها ضمير مستتر يعود على العبد المنهي. ﴿عَلَى الْهُدَى﴾: خبرها. ﴿أَوْ﴾: حرف عطف بمعنى الواو. ﴿أَمَرَ﴾: فعل ماض معطوف على ﴿كَانَ﴾، وفاعله ضمير يعود على العبد المنهي. ﴿بِالتَّقْوَى﴾: متعلق بـ ﴿أَمَرَ﴾، وجواب الشرط محذوف دل عليه الجملة الاستفهامية الآتية في ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة تقديره: إن كان على الهدى، من أمر بالتقوى أفلم يعلم ذلك الناهي بأن الله يراه ويجازيه، والجملة الشرطية جملة معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿أَرَأَيْتَ﴾: فعل
170
وفاعل بمعنى: أخبرني، و ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التعجبي، وجملة ﴿أَرَأَيْتَ﴾ جملة استفهامية مؤكِّدة للأولى أيضًا، والمفعول الأول لـ ﴿رأيت﴾ محذوف دل عليه المفعول الأول لـ ﴿رأيت﴾ الأولى، والثاني الجملة الاستفهامية المذكورة بعدها، والتقدير: أرأيت هذا الناهي ألم يعلم بأن الله يرى. ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿كَذَّبَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إِن﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الناهي؛ ﴿وَتَوَلَّى﴾: معطوف على ﴿كَذَّبَ﴾، وجواب الشرط محذوف دلت عليه الجملة الاستفهامية بعده، تقديره: إن كذب ذلك الناهي وتولى أفلم يعلم بأن الله يراه ويجازيه، وجملة الشرط جملة معترضة لا محل لها من الإعراب، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ﴾ جواب الشرط؛ قلت: صح كما صح في قولك: إن أكرمتك أتكرمني، وإن أحسن إليك زيد هل تحسن إليه، ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿يَعْلَمْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾، وفاعله ضمير مستتر يعود على الناهي. ﴿يَرَى﴾ ﴿الباء﴾: زائدة، ﴿أن﴾: حرف نصب ومصدر وتوكيد. ﴿اللَّهَ﴾: اسمها. ﴿يَرَى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ومفعوله محذوف تقديره: بأن الله يراه، وهي بصرية تتعدى إلى مفعول واحد، وجملة ﴿يَرَى﴾ في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿أَنَّ﴾ مع معموليها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿يَعْلَمْ﴾ تقديره: ألم يعلم ذلك الناهي رؤية الله إياه، وجملة ﴿يَعْلَمْ﴾ في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أَرَأَيْتَ﴾. وقد ذكرت ﴿أَرَأَيْتَ﴾ هنا ثلاث مرات، وقد صرح بعد الثالثة، منها بجملة الاستفهامية فتكون في موضع المفعول الثاني لها، ومفعولها الأول محذوف، وهو ضمير يعود على ﴿الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا﴾ الواقع مفعولًا أول لـ ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الأولى، وأما ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الأولى فمفعولها الأول ﴿الَّذِي﴾، ومفعولها الثاني محذوف، وهو جملة استفهامية نظير الجملة الواقعة بعد ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثانية، فلم يذكر لها مفعول لا أول، ولا ثان، فحذف الأول لدلالة المفعول الأول لـ ﴿رأيت﴾ الأولى عليه، وحذف الثاني لدلالة مفعول ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الثالثة عليه، فقد حذف الثاني من ﴿أَرَأَيْتَ﴾ الأولى، والأول من الثالثة، والاثنان من الثانية، وليس ذلك من باب التنازع؛ لأن التنازع يستدعي إضمارًا، والجمل لا تضمر إنما تضمر المفردات، وإنما ذلك من باب الحذف للدلالة.
{كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ
171
الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)}.
﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر لأبي جهل، ﴿لَئِنْ﴾ ﴿اللام﴾ موطئة للقسم؛ لأنها دخلت على أداة الشرط؛ للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على القسم قبلها لا على الشرط، ومن ثم سمى اللام المؤذنة الموطئة؛ لأنها وطئت الجواب للقسم؛ أي: مهدته له، ﴿إن﴾: حرف شرط جازم ﴿لَمْ﴾: حرف جزم ونفي وقلب. ﴿يَنْتَهِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على الكافر الناهي، والجملة في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿لَنَسْفَعًا﴾: اللام رابطة لجواب القسم مؤكِّدة للأولى، ﴿نسفعن﴾: فعل مضارع في محل الرفع؛ لتجرده عن الناصب والجازم مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الخفيفة، ونون التوكيد - المكتوبة ألفًا نظرًا إلى حالة الوقف عليها؛ لأن الوقف عليها هكذا - حرف لا محل لها مبني على الفتح، وفاعله ضمير مستتر فيه يعود على الله تقديره: نحن ﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾: متعلق بـ ﴿نسفعا﴾، والجملة الفعلية جواب القسم لا محل لها من الإعراب جريًا على القاعدة المقررة عندهم من أنه إذا اجتمع شرط وقسم يكون الجواب للمقدم منهما، وجملة القسم مع جوابه مستأنفة، وجواب الشرط محذوف، دل عليه جواب القسم تقديره: إن لم ينته نسفعن بالناصية، وجملة الشرط معترضة لا محل لها من الإعراب؛ لاعتراضها بين القسم وجوابه. ﴿نَاصِيَةٍ﴾: بدل من ﴿الناصية﴾، وجاز إبدالها من المعرفة وهي نكرة؛ لأنها وصفت. ﴿كَاذِبَةٍ﴾: صفة أولى لـ ﴿نَاصِيَةٍ﴾. ﴿خَاطِئَةٍ﴾ صفة ثانية لها. ﴿فَلْيَدْعُ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا استمر هذا الملعون الأحمق على مكابرته وعناده، وأردت بيان ما نقول له.. فأقول لك: ﴿ليدع ناديه﴾، و ﴿اللام﴾: لام أمر وجزم، ﴿يدع﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهي الواو، وفاعله ضمير مستتر فيه تقديره: هو. ﴿نَادِيَهُ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿سَنَدْعُ﴾: ﴿السين﴾: حرف استقبال، ﴿ندع﴾: فعل مضارع مرفوع، وعلامة رفعه ضمة مقدرة على الواو المحذوفة لفظًا؛ لالتقاء الساكنين المحذوفة خطًا تبعًا لخط المصحف العثماني، منع من ظهورها الثقل؛ لأنه فعل معتل بالواو، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبًا يعود على الله،
172
تقديره: نحن. ﴿الزَّبَانِيَةَ﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿كَلَّا﴾: حرف ردع وزجر مؤكد للأول. ﴿لَا﴾: ناهية جازمة. ﴿تُطِعْهُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، ومفعول به مجزوم بـ ﴿لَا﴾ الناهية، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة. ﴿وَاسْجُدْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اسجد﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة معطوفة على جملة النهي. ﴿وَاقْتَرِبْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿اقترب﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة معطوفة على جملة ﴿وَاسْجُدْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ العلق: الدم، وهو اسم جنس جمعي وقيل: جمع علقة كثمر وثمرة، وهي: الدم الجامد، وإذا جرى فهو المسفوح؛ أي: دم جامد رطب يعلق بما مر عليه، أصله: مبني، وفي "الشهاب": هو اسم جنس جمعي، وقول المفسرين: إنه جمع علقة؛ إما على وجه التسمح، أو جمع لغوي، وفي "المصباح": العلق: المني فينتقل طورًا بعد طور، فيصير دمًا غليظًا متجمدًا، ثم ينتقل طورًا آخر فيصير لحمًا، وهو المضغة، وعبارة "القاموس": العلق محركة، الدم عامة، أو الشديد العمرة، أو الغليظ أو الجامد، والقطعة منه بهاء، وكل ما علق بالشيء، والطين الذي يعلق باليد، والخصومة والمحبة اللازمتان، وذو علق جبل لبني أسد لهم فيه يوم على ربيعة بن مالك، ودويبة في الماء تمتص الدم إلى آخر ما جاء في هذه المادة المطولة.
فائدة: اعلم أن اسم الجنس مطلقًا موضوع للماهية من حيث هي، ثم إن صدق على القليل والكثير كماء وضرب، سمي إفراديًا، وإن دل على أكثر من اثنين، وفرق بينه وبين واحده بالتاء بأن يتفقا في الهيئة والحروف ما عداها كتمر وتمرة، أو بالياء كروم ورومي، سمي جمعيًا والفرق بينه وبين مشابهه من الجمع كتخم وتخمة بأن الغالب في ضميره التذكير مراعاة للفظه، وفي الجمع التأنيث، وكونه جمعيًا إنما هو بحسب الاستعمال، فلا ينافي في وضعه للماهية من حيث هي، فالحاصل: أن اسم الجنس الجمعي ما دل على أكثر من اثنين، وفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة، أو بالياء كروم ورومي، واسم الجنس الإفرادي ما دل على القليل والكثير، كماء وضرب، واسم الجمع ما دل على أكثر من اثنين، ولا واحد له من لفظه كقوم
173
ورهط وإبل ونساء وطائفة وجماعة، أوله واحد من لفظه مع كونه ليس من أوزان المجموع، كركب وصحب اهـ، من "الخضري على ابن عقيل" مع التصرف.
﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ وهو الزائد في الكرم على كل كريم، فإنه ينعم بلا غرض ولا يطلب مدحًا.
﴿عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ والقلم ما تكتب به، سمي بالقلم؛ لأنه يقلم ويقص أولًا، ثم يقطع رأسه ثانيًا، ويكون من القصب الفارسي بنوعيه ومن شجرة مريم وغيرهما، وهذا بالنظر إلى ما في العصر الأول، ومنه تقليم الأظافر، قال بعض الشعراء المُحْدَثين يصف القلم:
فَكَأَنَّهُ وَالْحِبْرُ يَخْضُبُ رَأسَهُ شَيْخٌ لِوَصْلِ خَرِيْدَةٍ يَتَصَنَّعُ
أَلَّا أُلاحِظَهُ بِعَيْنِ جَلاَلَةٍ وَبِهِ إِلَى اللهِ الصَّحَائِفُ تُرْفَعُ
﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨)﴾ الرجعى: مصدر لرجع الثلاثي، كالرجوع والمرجع، والألف فيه للتأنيث، نظير ذكرى ورقبى.
﴿لَيَطْغَى﴾ فيه إعلال بالقلب، أصله: يَطْغَيُ بوزن يفعل، قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ رآه أصله: رَأَيَهُ قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، وأصل استغنى استَغْنَيَ بوزن استفعل قلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩)﴾ أصله: يَنْهَيُ بوزن يفعل، قلبت ياؤه ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿إِذَا صَلَّى﴾ أصله: صَلَّيَ بوزن فَعَّل، أُعل بقلب الياء ألفًا لتحركها بعد فتح.
﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ أصله: ينتهي، حذفت منه الياء للجازم، فوزنه: يفتع.
﴿لَا تُطِعْهُ﴾ أصله: تُطْوِعْه، نقلت حركة الواو إلى الطاء، فسكنت فدخل الجازم عليه، فسُكن آخر الفعل، فالتقى ساكنان، فحذفت الواو، فوزنه: تفله.
﴿لَنَسْفَعًا﴾ السفع: الأخذ والقبض على الشيء وجذبه بشدة، وفي "المختار": سفع بناصيته؛ أي: أخذ، ومنه قوله تعالى: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾، وسفعته النار والسموم إذا لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون البشرة، وبابهما: قطع، والناصية شعر مقدم
174
الرأس اهـ. "خازن"، وتطلق على مقدم الرأس، وإن لم يكن فيه شعر.
﴿خَاطِئَةٍ﴾ في فعلها، وفي "المصباح": والخطأ مهموز بفتحتين ضد الصواب، وهو اسم من أخطأ فهو مخطىء قال أبو عبيدة: خَطِىءَ خطأ من باب علم، وأخطأ بمعنى واحد لمن يذنب على غير عمد، وقال غيره: خطىء في الدين وأخطأ في كل شيء عامدًا كان من غير عامد، وقيل: خطىء إذا تعمد ما نهي عنه فهو خاطئ، وأخطأ، إذا أراد الصواب فصار إلى غيره، فإن أراد إلى غير الصواب وفعله.. قيل: قصده أو تعمده، والخطأ الذنب تسمية بالمصدر اهـ.
﴿نَادِيَهُ﴾ وفي "المصباح": ندا القوم ندوًا - من باب غزا - اجتمعوا، ومنه اشتُق النادي وهو مجلس القوم للتحدث، وفي "المختار": ناداه جالسه في النادي، وتنادَوا تجالسوا في النادي، والنَّدِي على وزن فعيل مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك الندوة والنادي والمنتدى، فإن تفرق القوم عنه فليس بندي، ومنه سميت دار الندوة التي بناها قصي بمكة؛ لأنهم كانوا ينتدون فيها؛ أي: يجتمعون للمشاورة اهـ.
﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)﴾ واحدها: زِبْنِية - بكسر أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه -، وتخفيف الياء من الزَّبْن وهو: الدفع، من زبني على النسب، وأصله زبَّاني بتشديد الياء، فالتاء عوض عن الياء اهـ. "بيضاوي"، وفي "المختار": واحد الزبانية، زبان من زابان اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإطناب بتكرير الفعل في قوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وقوله: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣)﴾ لمزيد الاهتمام بشأن القراءة والعلم.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿خَلَقَ﴾ و ﴿عَلَقٍ﴾.
ومنها: إيراده بلفظ الجمع، حيث لم يقل علقة بناء على أن الإنسان في معنى الجمع؛ لأن الألف فيه للاستغراق، أو لمراعاة الفواصل، ولعله هو السر في تخصيصه بالذكر من بين سائر أطوار الفطرة الإنسانية مع كون النطفة والتراب أدل منه على كمال القدرة؛ لكونهما أبعد منه بالنسبة إلى الإنسانية.
175
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾.
ومنها: تعليل طغيان الإنسان برؤيته لنفسه الاستغناء؛ للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا﴾ كنى بالعبد عن رسول الله - ﷺ -.
ومنها: تنكير عبد لتفخيمه - ﷺ -، كأنه قيل: ينهى أكمل الخلق في العبودية عن عبادة ربه.
ومنها: العدول عن ينهاك إلى ﴿يَنْهَى عَبْدًا﴾؛ للدلالة على أن النهي للعبد كان عن إقامة خدمة مولاه، ولا أقبح منه.
ومنها: الاستفهام للتعجيب من شأن الناهي في قوله: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩)﴾ وقوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١)﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥)﴾ فإن الناصية عبارة عن الشخص نفسه، فهو من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾، فقد أسند الكذب والخطأ إلى الناصية، وفي الحقيقة أنهما وصف لصاحبها، وفيه من الجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء، كان الكافر بلغ في الكذب قولًا والخطأ فعلًا إلى حيث أن كلًّا من الكذب والخطأ ظهر من ناصيته، وكان أبو جهل كاذبًا على الله في أنه لم يرسل محمدًا، وكاذبًا في أنه شاعر كاهن ساحر مثلًا، وخاطئًا بما تعرض له - ﷺ - بأنواع الأذية.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧)﴾ والمراد أهل النادي، فالنادي لا يدعى، وإنما يدعى أهله، فأطلق المحل وأريد الحال، فالمجاز مرسل علاقته المحلية، والنادي هو المجلس الذي ينتدي فيه القوم؛ أي: يجتمعون فيه كما مر.
ومنها: الزيادة والحذف على عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
176
خلاصة ما في هذه السورة الكريمة من المقاصد
اشتملت هذه السورة على ثلاثة مقاصد:
١ - حكمة الله تعالى في خلق الإنسان، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.
٢ - إنه لكرمه وعظيم إحسانه عَلَّمه من البيان ما لم يعلم، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما في الأرض.
٣ - بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان، فإذا رأى نفسه غنيًا صلف وتجبر واستكبر (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) تمَّ تفسير هذه السورة في عصر يوم الجمعة اليوم الثاني من شهر ذي الحجة من شهور سنة: ١٤١٦: ألف وأربع مئة وست عشرة من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
177
سورة القدر
سورة القدر مكية عند أكثر المفسرين (١)، نزلت بعد سورة عبس، كذا قال الماوردي، وقال الثعلبي: هي مدنية في قول أكثر المفسرين، وذكر الواقدي: أنها أول سورة نزلت بالمدينة، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن الزبير وعائشة أنها نزلت بمكة، قال الخازن: والقول بأنها مدنية أصح، وهي خمس آيات وثلاثون كلمة، ومئة واثنا عشر حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (٢): أن في تلك أمر رسول الله - ﷺ - بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وفي هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله، وأنه من عند ربه ذي العظمة والسلطان العلم بمصالح الناس، وبما يسعدهم في دينهم ودنياهم، وأنه أنزله في ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة، قال أبو حيان: فكأنه تعالى قال: اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾ انتهى.
فضلها: وروي في فضلها أنه - ﷺ - قال: "من قرأ سورة القدر أعطي من الأجر كمن صام رمضان، وأحيا ليلة القدر" ذكره البيضاوي، وهو موضوع لا أصل له.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم: سورة القدر كلها محكمة، لا ناسخ فيها ولا منسوخ، وسميت سورة القدر؛ لذكر لفظ القدر فيها.
تسميتها: وسميت ليلة القدر؛ إما لتقدير الأمور وقضائها فيها؛ أي: إظهار تقديرها للملائكة بأن يكتب لهم ما قدره في تلك السنة ويعرفهم إياه، وليس المراد منه: أنه يحدثه في تلك الليلة؛ لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل، فالقدر بمعنى التقدير، وهو جعل الشيء على مقدار مخصوص، ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة البالغة، قيل: للحسين بن
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
178
الفضل: أليس قد قدر الله المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض؛ قال: نعم، قيل له: فما معنى ليلة القدر؛ قال: سَوْق المقادير إلى المواقيت، وتنفيذ القضاء المقدر.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إن الله سبحانه يقدر في ليلة القدر، ويكتب كل ما يكون في تلك السنة من مطر ورزق وإحياء وإماتة وغيرها إلى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة، فيسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة، فيدفع نسخة الأرزاق والنباتات والأمطار إلى ميكائيل، ونسخة الحروب والرياح والزلازل والصواعق والخسف إلى جبريل، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
فَكَمْ مِنْ فَتَى يُمْسِيْ وُيُصْبِحُ آمِنًا وَقَدْ نُسِجَتْ أَكْفَانُهُ وَهْوَ لَا يَدْرِيْ
وَكَمْ مِنْ شيُوْخٍ تَرَتَجِي طُوْلَ عُمْرِهِمْ وَقَدْ رَهَقَتْ أَجْسَادَهُمْ ظُلْمَةُ الْقَبْرِ
وَكَمْ مِنْ عَرُوْسِ زيَّنُوْهَا لِزَوْجِهَا وَقَدْ قُبِضَتْ أَرْوَاحُهُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ
وإما لخطرها وشرفها على سائر الليالي، فالقدر بمعنى المنزلة والشرف إما باعتبار العامل على معنى أن من أتى بالطاعة فيها صار ذا قدر وشرف، وإما باعتبار نفس العمل على معنى أن الطاعة الواقعة في تلك الليلة لها قدر وشرف زائد.
وعن أبي بكر الوراق - رحمه الله تعالى - سميت ليلة القدر؛ لأنه نزل فيها كتاب ذو قدر، على رسول ذي قدر، لأمة لها قدر، ولعله تعالى إنما ذكر لفظ القدر في هذه السورة ثلاث مرات لهذا السبب، وقال الخليل - رحمه الله تعالى - سميت ليلة القدر؛ أي: ليلة الضيق؛ لأن الأرض تضيَّق فيها بالملائكة، فالقدر بمعنى الضيق، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
179

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾.
أسباب النزول
سبب نزولها (١): ما أخرجه ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد أن رسول الله - ﷺ - ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فأنزله الله سبحانه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾ التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح، ثم يجاهد العدو في النهار حتى يمسي، فعمل ذلك ألف شهر فأنزل الله: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)﴾ عملها ذلك الرجل.
وفي الحديث (٢): "أن أربعة من الأنبياء عبدوا الله ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين أيوب وزكريا وحزقيل ويوشع، فعجب الصحابة من ذلك، فقرأ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)...﴾ السورة، فسروا بذلك.
تقدمة: تبين ميقات هذه الليلة المباركة (٣): أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسول الله - ﷺ - في أربعة مواضع من كتابه الكريم، والقرآن يفسر بعضه بعضًا:
١ - قوله في سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)﴾.
٢ - قوله في سورة الدخان: {حم (١) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ
(١) لباب النقول.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
180
Icon