ﰡ
ولما كان للناظر في الكيفية من التدقيق والوقوف على التحقيق في وجوه الدلالات على كمال علم الله وقدرته وإعزاز نبيه بالإرهاص لنبوته والتمكين لرسالته لتعظيم بلده وتشريف قومه ما ليس للناظر إلى مطلق الفعل قال: ﴿كيف﴾ دون أن يقول: ما ﴿فعل﴾ أي فعل من له أتم داعية إلى ذلك الفعل، وفعل الرؤية معلق عن «كيف» لما فيه من معنى الاستفهام فلا يتقدم عامله عليه، بل ناصبه فعل، وجملة الاستفهام في موضع نصب بالفعل المعلق ﴿ربك *﴾ أي المحسن إليك
يا رب لا أرجو لهم سواكا... فامنعهم أن يقربوا قراكا
- وقال:
لا هم إن المرء يم... نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم... ومحالهم عدواً محالك
جروا جميع تلادهم... في الفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم... جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه فلما أصبح أبرهة تهيأ للدخول إلى الحرم وعبأ جيشه وقدم الفيل فبرك فعالجوه فلم تفد فيه حيلة، فوجهوه إلى غير الحرم فقام يهرول فوجهوه إلى الحرم فبرك، وكان هذا دأبه في ذلك اليوم فبينما هم كذلك إذا أرسل الله تعالى عليهم طيراً أبابيل، كل طائر منها في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، الحجر منها أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة، فرمتهم بها، فكان الحجر منها يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره فهلكوا جميعاً، وأهل مكة ومن حضر من العرب في رؤوس الجبال - ينظرون إلى صنع الله تعالى بهم وإحسانه إليهم - أي أهل مكة - وكان ذلك إرهاصاً لنبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإن ذلك كان
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة الهمزة ذكر اغترار من فتن بماله حتى ظن أنه يخلده وما أعقبه ذلك، أتبع هذا أصحاب الفيل الذين غرهم تكاثرهم، وخدعهم امتدادهم في البلاد واستيلاؤهم حتى هموا بهدم البيت المكرم، فتعجلوا النقمة، وجعل الله كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، أي جماعات متفرقة، ترميهم بحجارة من سجيل حتى استأصلتهم وقطعت دابرهم فجعلهم كعصف مأكول، وأثمر لهم ذلك اغترارهم بتوفر حظهم من الخسر
ولما قرره بالكيفية تنبيهاً على ما فيها من وجوه الدلالة على مقدمات الرسالة، أشار إلى تلك الوجوه مقدماً عليها تقريراً آخر جامعاً لقصتهم ومعلماً بغصتهم فقال: ﴿ألم يجعل﴾ أي بما له من الإحسان إلى العرب لا سيما قريش ﴿كيدهم﴾ أي في تعطيل الكعبة بتخريبها وبصرف الحج إلى كنيستهم على زعمهم وقد كان كيدهم عظيماً غلبوا به من ناوأهم من العرب ﴿في تضليل *﴾ أي مظروفاً لتضييع عما قصدوا له من نسخ الحج إلى الكعبة أولاً ومن هدمها ثانياً وإبطال وبعد عن السداد وإهمال بحيث صار بكونه مظروفاً لذلك معموراً به لا مخلص له منه، وهذا مشير إلى أن كل من تعرض لشيء من حرمات الله كبيت من بيوته أو ولي من أوليائه أو عالم من علماء الدين وإن كان مقصراً نوع تقصير وقع في مكره، وعاد عليه وبال شره «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب» وإلى أن من جاهر بالمعصية أسرع إليه الهلاك بخلاف من تستر، وإلى أن الله تعالى يأتي من يريد عذابه من حيث لا يحتسب ليدوم الحذر منه ولا يؤمن
ولما كان التقدير: فمنعهم من الدخول إلى حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام فضلاً عن الوصول إلى بلده الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عطف عليه أو على «يجعل» معبراً بالماضي لأنه بمعناه وهو أصرح والتعبير به أقعد قوله؛ ﴿وأرسل﴾ وبين أنه إرسال عذاب بقوله: ﴿عليهم﴾ أي خاصة من بين من كان هناك من كفار العرب، وأشار إلى تحقيرهم وتخسيسهم عن أن يعذبهم بشيء عظيم لكونهم عظموا أنفسهم وتجبروا على خالقهم بالقصد القبيح لبيته فقال تعالى معلماً بأنه سلط عليهم ما لا يقتل مثله في العادة: ﴿طيراً﴾ وهو اسم جمع يذكر على اللفظ، ويؤنث على المعنى، وقد يقع على الواحد، ولذلك قال مبيناً الكثرة ﴿أبابيل *﴾ أي جماعات كثيرة جداً متفرقة يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى فوجاً فوجاً وزمرة زمرة، أمام كل فرقة منها طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق، قال أبو عبيدة: يقال: جاءت
ولما تشوف السامع إلى فعل الطير بهم، قال مستأنفاً: ﴿ترميهم﴾ أي الطير ﴿بحجارة﴾ أي عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم، كان كل واحد - منها في نحو مقدار العدسة، في منقار كل طائر منها واحد وفي كل رجل واحد.
ولما كان الشيء إذا كان مصنوعاً للعذاب كان أشد فعلاً فيه قال: ﴿من سجيل *﴾ أي طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو كما بين في سورة هود عليه الصلاة والسلام، قال حمزة الكرماني: قال أبو صالح: رأيت تلك الحجارة مخططة بالحمرة. ولما تسبب عن هذا المرمى هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله سبحانه وتعالى القادر على ما أراد لأنه الذي خلق الأثر قطعاً لأن مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك، قال: ﴿فجعلهم﴾ أي ربك المحسن إليك بإحسانه إلى
مقصودها الدلالة على ضد ما دلت عليه الفيل بأن إهلاك الجاحدين المعاندين لإصلاح المقربين العابدين، وهو بشارة عظيمة لقريش خاصة بإظهار شرفهم في الدارين، واسمها قريش ظاهر الدلالة على ذلك، والتعبير بقريش دون قومك أو الحمس مثلا ونحوه دال على أنهم يغلبون الناس أجمع بقوة كما يدل عليه الاسم، وبغير قوة كما دل عليه ما فعل لأجلهم من قصة الفيل: (بسم الله (ذي السبحات والحمد فله جميع الكمال) الرحمن (ذي النعم العامة بالإيجاد والبيان فهو ذو الأفضال) الرحيم (ذي الانتقام بالإبعاد والاختصاص بمن يشاء بالإسعاد بالتقريب والإجلال.