تفسير سورة النّمل

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة النمل من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة النمل مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية.

(٢٧) سورة النمل
مكية وهي ثلاث أو أربع أو خمس وتسعون آية
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣)
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ الإِشارة إلى آي السورة، والكتاب المبين إما اللوح المحفوظ وإبانته أنه خط فيه ما هو كائن فهو يبينه للناظرين فيه، وتأخيره باعتباره تعلق علمنا به وتقديمه في الحجر باعتبار الوجود، أو القرآن وإبانته لما أودع فيه من الحكم والأحكام، أو لصحته بإعجازه وعطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الأخرى وتنكيره للتعظيم. وقرئ وكتاب بالرفع على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ حالان من ال آياتُ والعامل فيهما معنى الإِشارة، أو بدلان منها أو خبران آخران أو خبران لمحذوف.
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الذين يعملون الصالحات من الصلاة والزكاة. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تتمة الصلة والواو للحال أو للعطف، وتغيير النظم للدلالة على قوة يقينهم وثباته وأنهم الأوحدون فيه، أو جملة اعتراضية كأنه قيل: وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات هم الموقنون بالآخرة، فإن تحمل المشاق إنما يكون لخوف العاقبة والوثوق على المحاسبة وتكرير الضمير للاختصاص.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤ الى ٦]
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)
إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ زين لهم أعمالهم القبيحة بأن جعلها مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، أو الأعمال الحسنة التي وجب عليهم أن يعملوها بترتيب المثوبات عليها. فَهُمْ يَعْمَهُونَ عنها لا يدركون ما يتبعها من ضر أو نفع.
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ كالقتل والأسر يوم بدر. وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشد الناس خسراناً لفوات المثوبة واستحقاق العقوبة.
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه. مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي حكيم وأي عليم، والجمع بينهما مع أن العلم داخل في الحكمة لعموم العلم ودلالة الحكمة على اتقان الفعل والإِشعار بأن علوم القرآن منها ما هي حكمة كالعقائد والشرائع ومنها ما ليس كذلك كالقصص والأخبار عن المغيبات، ثم شرع في بيان بعض تلك العلوم بقوله:
[سورة النمل (٢٧) : آية ٧]
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧)
إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً أي اذكر قصته إِذْ قالَ ويجوز أن يتعلق ب عَلِيمٍ. سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي عن حال الطريق لأنه قد ضله، وجمع الضمير إن صح أنه لم يكن معه غير امرأته لما كنى عنها بالأهل، والسين للدلالة على بعد المسافة والوعد بالإِتيان وإن أبطأ. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ شعلة نار مقبوسة، وإضافة الشهاب إليه لأنه قد يكون قبساً وغير قبس، ونونه الكوفيون ويعقوب على أن ال قَبَسٍ بدل منه أو وصف له لأنه بمعنى المقبوس، والعدتان على سبيل الظن ولذلك عبر عنهما بصيغة الترجي في «طه»، والترديد للدلالة على أنه إن لم يظفر بهما لم يعدم، أحدهما بناء على ظاهر الأمر أو ثقة بعادة الله تعالى أنه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده. لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ رجاء أن تستدفئوا بها والصلاء النار العظيمة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨ الى ٩]
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي بُورِكَ فإن النداء فيه معنى القول، أو ب أَنْ بُورِكَ على أنها مصدرية أو مخففة من الثقيلة، والتخفيف وإن اقتضى التعويض بلا أو قد أو السين أو سوف لكنه دعاء وهو يخالف غيره في أحكام كثيرة. مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها مَنْ في مكان النَّارِ وهو البقعة المباركة المذكورة في قوله تعالى: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ ومن حول مكانها والظاهر أنه عام في كل من في تلك الأرض، وفي ذلك الوادي وحواليها من أرض الشام الموسومة بالبركات لكونها مبعث الأنبياء وكفاتهم أحياء وأمواتاً وخصوصاً تلك البقعة التي كلم الله فيها موسى. وقيل المراد موسى والملائكة الحاضرون، وتصدير الخطاب بذلك بشارة بأنه قد قضى له أمر عظيم تنتشر بركته في أقطار الشأم.
وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من تمام ما نودي به لئلا يتوهم من سماع كلامه تشبيهاً وللتعجيب من عظمة ذلك الأمر، أو تعجب من موسى لما دهاه من عظمته.
يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الهاء للشأن وأَنَا اللَّهُ جملة مفسرة له، أو للمتكلم وأَنَا خبره واللَّهُ بيان له. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان لله ممهدتان لما أراد أن يظهره، يريد أنا القوي القادر على ما يبعد من الأوهام كقلب العصا حية الفاعل كل ما أفعله بحكمة وتدبير.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١)
وَأَلْقِ عَصاكَ عطف على بُورِكَ أي نودي أن بورك من في النار وأن ألق عصاك، ويدل عليه قوله وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ بعد قوله أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ بتكرير أن. فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ تتحرك باضطراب.
كَأَنَّها جَانٌّ حية خفيفة سريعة، وقرئ «جأن» على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين. وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ولم يرجع من عقب المقاتل إذا كر بعد الفرار، وإنما رعب لظنه أن ذلك الأمر أريد به ويدل عليه قوله: يَا مُوسى لاَ تَخَفْ أي من غيري ثقة بي أو مطلقاً لقوله: إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي حين يوحى إليهم من فرط الاستغراق فإنهم أخوف الناس أي من الله تعالى، أو لا يكون لهم عندي سوء عاقبة فيخافون منه.
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضاً، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي. وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ ذنبه بالتوبة.

[سورة النمل (٢٧) : آية ١٢]

وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ لأنه كان بمدرعة صوف لا كم لها. وقيل الجيب القميص لأنه يجاب أي يقطع. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آفة كبرص. فِي تِسْعِ آياتٍ في جملتها أو معها على أن التسع هي، الفلق، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والطمسة، والجدب في بواديهم، والنقصان في مزارعهم ولمن عد العصا واليد من التسع أن يعد الأخيرين واحداً ولا يعد الفلق لأنه لم يبعث به إلى فرعون.
أو اذهب في تسع آيات على أنه استئناف بالإِرسال فيتعلق به. إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وعلى الأولين يتعلق بنحو مبعوثاً أو مرسلاً. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ تعليل للإرسال.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٣ الى ١٤]
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا بأن جاءهم موسى بها. مُبْصِرَةً بينة اسم فاعل أطلق للمفعول، إشعارا بأنها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت مما يبصر، أو ذات تبصر من حيث إنها تهدي والعمي لا تهتدي فضلاً عن أن تهدي، أو مبصرة كل من نظر إليها وتأمل فيها. وقرئ «مُبْصِرَةً» أي مكاناً يكثركم فيه التبصر. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريته.
وَجَحَدُوا بِها وكذبوا بها. وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ وقد استيقنتها لأن الواو للحال. ظُلْماً لأنفسهم.
وَعُلُوًّا ترفعاً عن الإِيمان وانتصابهما على العلة من جَحَدُوا. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ وهو الإِغراق في الدنيا والإِحراق في الآخرة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ١٥]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً طائفة من العلم وهو علم الحكم والشرائع، أو علماً أي علم. وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ عطفه بالواو إشعاراً بأن ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة كأنه قال: ففعلا شكراً له ما فعلا وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ. الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يعني من لم يؤت علماً أو مثل علمهما، وفيه دليل على فضل العلم وشرف أهله حيث شكرا على العلم وجعلاه أساس الفضل ولم يعتبرا دونه ما أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما، وتحريض للعالم على أن يحمد الله تعالى على ما آتاه من فضله وأن يتواضع ويعتقد أنه وإن فضل على كثير فقد فضل عليه كثير.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر. وَقالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تشهيراً لنعمة الله وتنويهاً بها ودعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفرداً كان أو مركباً وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه،
ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به. ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال: يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء، وصاحت فاختة فقال: إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب، والضمير في عُلِّمْنا وَأُوتِينا له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة، والمراد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كثرة ما أوتي كقولك:
فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء. إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ الذي لا يخفى على أحد.
وَحُشِرَ وجمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩)
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ واد بالشام كثير النمل، وتعدية الفعل إليه ب عَلى إما لأن إتيانهم كان من عال أو لأن المراد قطعة من قولهم: أتى على الشيء إذا أنفده وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا أخريات الوادي. قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ كأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرت عنهم مخافة حطمهم فتبعها غيرها فصاحت صيحة نبهت بها ما بحضرتها من النمال فتبعتها، فشبه ذلك بمخاطبة العقلاء ومناصحتهم ولذلك أجروا مجراهم مع أنه لا يمتنع أن خلق الله سبحانه وتعالى فيها العقل والنطق.
لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ نهي لهم عن الحطم، والمراد نهيها عن التوقف بحيث يحطمونها كقولهم: لا أرينك ها هنا، فهو استئناف أو بدل من الأمر لا جواب له فإن النون لا تدخله في السعة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بأنهم يحطمونكم إذ لو شعروا لم يفعلوا كأنها شعرت عصمة الأنبياء من الظلم والإِيذاء. وقيل استئناف أي فهم سليمان والقوم لا يشعرون.
فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها تعجباً من حذرها وتحذيرها واهتدائها إلى مصالحها، وسروراً بما خصه الله تعالى به من إدراك همسها وفهم غرضها ولذلك سأل توفيق شكره. وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي أكفه وأرتبطه لا ينفلت عني بحيث لا أنفك عنه، وقرأ البزي وورش بفتح ياء أَوْزِعْنِي. الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أدرج فيه ذكر والديه تكثيراً للنعمة أو تعميماً لها، فإن النعمة عليهما نعمة عليه والنعمة عليه يرجع نفعها إليهما سيما الدينية. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ إتماماً للشكر واستدامة للنعمة. وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ في عدادهم الجنة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ وتعرف الطير فلم يجد فيها الهدهد. فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ أم منقطعة كأنه لما لم يره ظن أنه حاضر ولا يراه لساتر أو غيره فقال: ما لي لا أراه، ثم احتاط فلاح له أنه غائب فأضرب عن ذلك وأخذ يقول أهو غائب كأنه يسأل عن صحة ما لاح له.
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً كنتف ريشه وإلقائه في الشمس، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ ليعتبر به أبناء جنسه. أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة تبين عذره، والحلف في الحقيقة
على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما، وقرأ ابن كثير أو «ليأتينني» بنونين الأولى مفتوحة مشددة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٢٢]
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ زماناً غير مديد يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفاً منه، وقرأ عاصم بفتح الكاف. فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ يعني حال سبأ، وفي مخاطبته إياه بذلك تنبيه له على أن في أدنى خلق الله تعالى من أحاط علماً بما لم يحط به لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر لديه علمه، وقرئ بإدغام الطاء في التاء بإطباق وبغير إطباق. وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ وقرأ ابن كثير برواية البزي وأبو عمرو وغير مصروف على تأويل القبيلة أو البلدة والقواس بهمزة ساكنة. بِنَبَإٍ يَقِينٍ بخبر متحقق
روي أنه عليه الصلاة والسلام لما أتم بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام بها ما شاء، ثم توجه إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً فوافى صنعاء ظهيرة فأعجبته نزاهة أرضها فنزل بها ثم لم يجد الماء. وكان الهدهد رائده لأنه يحسن طلب الماء.
فتفقده لذلك فلم يجده إذ حلق حين نزل سليمان فرأى هدهداً واقعاً فانحط إليه فتواصفا وطار معه لينظر ما وصف له، ثم رجع بعد العصر وحكى ما حكى، ولعل في عجائب قدرة الله وما خص به خاصة عباده أشياء أعظم من ذلك يستكبرها من يعرفها ويستنكرها من ينكرها.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريان، والضمير لسبأ أو لأهلها.
وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الملوك. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إليها أو إلى عروش أمثالها.
وقيل كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً وسمكا، أو ثمانين في ثمانين من ذهب وفضة مكللاً بالجواهر.
وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ كأنهم كانوا يعبدونها. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ عبادة الشمس وغيرها من مقابح أعمالهم. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن سبيل الحق والصواب. فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ إليه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ فصدهم لئلا يسجدوا أو زين لهم أن لا يسجدوا على أنه بدل من أَعْمالَهُمْ، أو لاَ يَهْتَدُونَ إلى أن يسجدوا بزيادة لا. وقرأ الكسائي ويعقوب إِلا بالتخفيف على أنها للتنبيه ويا للنداء ومناداه محذوف أي: ألا يا قوم اسجدوا كقوله:
وَقَالَتْ أَلاَ يَا اسْمَعْ أَعِظكَ بِخطَّةٍ فَقُلْتُ سَمِيعاً فَانْطِقِي وَأَصِيبِي
وعلى هذا صح أن يكون استئنافاً من الله أو من سليمان والوقف على لاَ يَهْتَدُونَ، فيكون أمراً بالسجود وعلى الأول ذماً على تركه وعلى الوجهين يقتضي وجوب السجود في الجملة لا عند قراءتها، وقرئ «هلا» و «هلا» بقلب الهمزة هاء و «ألا تسجدون» و «هلا تسجدون» على الخطاب. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود من التفرد بكمال القدرة والعلم حثاً على سجوده ورداً على من يسجد لغيره، والْخَبْءَ ما خفي في غيره
وإخراجه إظهاره، وهو يعم إشراق الكواكب وإنزال الأمطار وإنبات النبات بل الإِنشاء فإنه إخراج ما في الشيء بالقوة إلى الفعل والإِبداع، فإنه إخراج ما في الإِمكان والعدم إلى الوجوب والوجود ومعلوم أنه يختص بالواجب لذاته. وقرأ حفص والكسائي مَا تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ بالتاء.
اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الذي هو أول الأجرام وأعظمها والمحيط بجملتها فبين العظيمين بون.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨)
قالَ سَنَنْظُرُ سنعرف من النظر بمعنى التأمل. أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي أم كذبت والتغيير للمبالغة ومحافظة الفواصل.
اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ ثم تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه. فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ ماذا يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ من القول.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
قالَتْ أي بعد ما ألقى إليها. يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو مرسله، أو لأنه كان مختوماً أو لغرابة شأنه إذ كانت مستلقية في بيت مغلقة الأبواب فدخل الهدهد من كوة وألقاه على نحرها بحيث لم تشعر به.
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ استئناف كأنه قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه، أي إن الكتاب أو العنوان من سليمان وَإِنَّهُ أي وإن المكتوب أو المضمون. وقرئ بالفتح على الإِبدال من كِتابٌ أو التعليل لكرمه.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ أنِ مفسرة أو مصدرية فتكون بصلتها خبر محذوف أي هو أو المقصود أن لا تعلوا أو بدل من كِتابٌ. وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ مؤمنين أو منقادين، وهذا كلام في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالة على ذات الصانع تعالى وصفاته صريحاً أو التزاماً، والنهي عن الترفع الذي هو أم الرذائل والأمر بالإِسلام الجامع لأمهات الفضائل، وليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجة على رسالته حتى يكون استدعاء للتقليد فإن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أجيبوني في أمري الفتي واذكروا ما تستصوبون فيه. مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً ما أبت أمراً. حَتَّى تَشْهَدُونِ إلا بمحضركم استعطفتهم بذلك ليمالئوها على الإِجابة.
قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ بالأجساد والعدد. وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ نجدة وشجاعة. وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ موكول. فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ من المقاتلة أو الصلح نطعك ونتبع رأيك.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة وغلبة. أَفْسَدُوها تزييف لما أحست منهم من الميل إلى المقاتلة بادعائهم القوى الذاتية والعرضية، وإشعار بأنها ترى الصلح مخافة أن يتخطى سليمان خططهم فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم وعماراتهم، ثم أن الحرب سجال لا تدري عاقبتها. وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بنهب أموالهم وتخريب ديارهم إلى غير ذلك من الإِهانة والأسر. وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ تأكيد لما وصفت من حالهم وتقرير بأن ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرة، أو تصديق لها من الله عز وجل.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ بيان لما ترى تقديمه في المصالحة، والمعنى إني مرسلة رسلاً بهدية أدفعه بها عن ملكي. فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من حاله حتى أعمل بحسب ذلك.
روي أنها بعثت منذر بن عمرو في وفد وأرسلت معهم غلماناً على زي الجواري وجواري على زي الغلمان، وحُقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب وقالت: إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيطاً، فلما وصلوا إلى معسكره ورأوا عظمة شأنه تقاصرت إليهم نفوسهم، فلما وقفوا بين يديه وقد سبقهم جبريل بالحال فطلب الحق وأخبر عما فيه، فأمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة وأمر دودة بيضاء فأخذت الخيط ونفذت في الجزعة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ثم رد الهدية.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ أي الرسول أو ما أهدت إليه وقرئ «فلما جاءوا». قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ خطاب للرسول ومن معه، أو للرسول والمرسل على تغليب المخاطب. وقرأ حمزة ويعقوب بالإدغام وقرئ بنون واحدة وبنونين وحذف الياء. فَما آتانِيَ اللَّهُ من النبوة والملك الذي لا مزيد عليه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بفتح الياء والباقون بإسكانها وبإمالتها الكسائي وحده. خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ فلا حاجة لي إلى هديتكم ولا وقع لها عندي. بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ لأنكم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا فتفرحون بما يهدى إليكم حباً لزيادة أموالكم، أو بما تهدونه افتخاراً على أمثالكم، والإِضراب عن إنكار الإِمداد بالمال عليه وتقليله إلى بيان السبب الذي حملهم عليه، وهو قياس حاله على حالهم في قصور الهمة بالدنيا والزيادة فيها.
ارْجِعْ أيها الرسول. إِلَيْهِمْ إلى بلقيس وقومها. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بمقاومتها ولا قدرة لهم على مقابلتها وقرئ «بهم». وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من سبأ. أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العز. وَهُمْ صاغِرُونَ أسراء مهانون.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩)
قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها أراد بذلك أن يريها بعض ما خصه الله تعالى به من العجائب الدالة على عظم القدرة وصدقه في دعوى النبوة، ويختبر عقلها بأن ينكر عرشها فينظر أتعرفه أم تنكره؟.
قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فإنها إذا أتت مسلمة لم يحل أخذه إلا برضاها.
قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد. مِنَ الْجِنِّ بيان له لأنه يقال للرجل الخبيث المنكر المعفر أقرانه، وكان اسمه ذكوان أو صخرا. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ من مجلسك للحكومة وكان يجلس إلى نصف
النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ على حمله. لَقَوِيٌّ أَمِينٌ لا أختزل منه شيئاً ولا أبدله.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٤٠]
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ آصف بن برخيا وزيره، أو الخضر أو جبريل عليهما السلام أو ملك أيده الله به، أو سليمان عليه السلام نفسه فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه والخطاب في: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت كأنه استبطأه فقال له ذلك، أو أراد إظهار معجزة في نقله فتحداهم أولاً ثم أراهم أنه يتأتى له مالاً يتأتى لعفاريت الجن فضلاً عن غيرهم، والمراد ب الْكِتابِ جنس الكتب المنزلة أو اللوح، وآتِيكَ في الموضعين صالح للفعلية والاسمية، «والطرف» تحريك الأجفان للنظر فوضع موضعه ولما كان الناظر يوصف بإرسال الطرف كما في قوله:
وَكُنْت إِذَا أَرْسَلْت طَرْفَكَ رَائِدا لِقَلْبِكَ يَوْماً أَتْعَبَتْكَ المَنَاظِرُ
وصف برد الطرف والطرف بالارتداد، والمعنى أنك ترسل طرفك نحو شيء فقبل أن ترده أحضر عرشها بين يديك، وهذا غاية في الإِسراع ومثل فيه. فَلَمَّا رَآهُ أي العرش مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ حاصلاً بين يديه.
قالَ تلقياً للنعمة بالشكر على شاكلة المخلصين من عباد الله تعالى هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي تفضل به عليَّ من غير استحقاق، والإِشارة إلى التمكن من إحضار العرش في مدة إرتداد الطرف من مسيرة شهرين بنفسه أو غيره، والكلام في إمكان مثله قد مر في آية «الإسراء». لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ بأن أراه فضلاً من الله تعالى بلا حول مني ولا قوة وأقوم بحقه. أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد نفسي في البين، أو أقصر في أداء مواجبه ومحلها النصب على البدل من الياء. وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ويحط عنها عبء الواجب ويحفظها عن وصمة الكفران. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن شكره. كَرِيمٌ بالإنعام عليه ثانيا.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها بتغيير هيئته وشكله. نَنْظُرْ جواب الأمر، وقرئ بالرفع على الاستئناف.
أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ إلى معرفته أو الجواب الصواب، وقيل إلى الإِيمان بالله ورسوله إذا رأت تقدم عرشها وقد خلفته مغلقة عليه الأبواب موكلة عليها الحراس.
فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ تشبيهاً عليها زيادة في امتحان عقلها إذ ذكرت عنده بسخافة العقل.
قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل هو هو الاحتمال أن يكون مثله وذلك من كمال عقلها. وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ من تتمة كلامها كأنها ظنت أنه أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها فقالت: وأوتينا العلم بكمال قدرة الله وصحة نبوتك قبل هذه الحالة، أو المعجزة مما تقدم من الآيات. وقيل إنه من كلام سليمان عليه السلام وقومه وعطفوه على جوابها لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله حيث جوزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا، وإحضاره ثمة من المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله تعالى ولا تظهر إلا على يد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أي وأوتينا العلم بالله وقدرته وصحة ما جاء به من عنده قبلها وكنا منقادين لحكمه ولم نزل على دينه، ويكون غرضهم فيه التحدث بما أنعم الله عليهم من التقدم في ذلك شكرا الله تعالى.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]

وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي وصدها عبادتها الشمس عن التقدم إلى الإِسلام، أو وصدها الله عن عبادتها بالتوفيق للإِيمان. إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ وقرئ بالفتح على الإِبدال من فاعل صدها على الأول، أي صدها نشؤها بين أظهر الكفار أو التعليل له.
لَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
القصر وقيل عرصة الدار. لَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
روي أنه أمر قبل قدومها ببناء قصر صحنه من زجاج أبيض وأجرى من تحته الماء وألقى فيه حيوانات البحر ووضع سريره في صدره فجلس عليه، فلما أبصرته ظنته ماء راكداً فكشفت عن ساقيها.
وقرأ ابن كثير برواية قنبل «سأقيها» بالهمز حملاً على جمعه سئوق وأسؤق. الَ إِنَّهُ
إن ما تظنينه ماء. رْحٌ مُمَرَّدٌ
مملس. نْ قَوارِيرَ
من الزجاج.
لَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بعبادتي الشمس، وقيل بظني بسليمان فإنها حسبت أنه يغرقها في اللجة.
أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
فيما أمر به عباده وقد، اختلف في أنه تزوجها أو زوجها من ذي تبع ملك همدان.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بأن اعبدوا الله، وقرئ بضم النون على اتباعها الباء. فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ففاجؤوا التفرق والاختصام فآمن فريق وكفر فريق، والواو لمجموع الفريقين.
قالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة فتقولون ائتنا بما تعدنا. قَبْلَ الْحَسَنَةِ قبل التوبة فتؤخرونها إلى نزول العقاب فإنهم كانوا يقولون إن صدق إيعاده تبنا حينئذ. لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ قبل نزوله.
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها فإنها لا تقبل حينئذ.
قالُوا اطَّيَّرْنا تشاءمنا. بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ إِذ تتابعت علينا الشدائد، أو وقع بيننا الافتراق منذ اخترعتم دينكم. قالَ طائِرُكُمْ سببكم الذي جاء منه شركم. عِنْدَ اللَّهِ وهو قدره أو عملكم المكتوب عنده. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتعاقب السراء والضراء، والإِضراب من بيان طائرهم الذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ تسعة أنفس، وإنما وقع تمييزاً للتسعة باعتبار المعنى، والفرق بينه وبين النفر أنه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، والنفر من الثلاثة إلى التسعة. يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ أي شأنهم الإِفساد الخالص عن شوب الصلاح.
قالُوا أي قال بعضهم لبعض. تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر مقول أو خبر وقع بدلاً أو حالاً بإضمار قد.
لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ لنباغتن صالحاً وأهله ليلاً. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء على خطاب بعضهم لبعض، وقرئ بالياء على أن تقاسموا خبر. ثُمَّ لَنَقُولَنَّ فيه القراءات الثلاث. لِوَلِيِّهِ لولي دمه. مَا شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ فضلاً أن تولينا إهلاكهم، وهو يحتمل المصدر والزمان والمكان وكذا مَهْلِكَ في قراءة حفص فإن مفعلاً قد جاء مصدراً كمرجع. وقرأ أبو بكر بالفتح فيكون مصدراً. وَإِنَّا لَصادِقُونَ ونحلف إنا لصادقون، أو والحال إِنَّا لَصادِقُونَ فيما ذكرنا لأن الشاهد للشيء غير المباشر له عرفاً، أو لأنا ما شهدنا مهلكهم وحده بل مهلكه ومهلكهم كقولك ما رأيت ثمة رجلاً بل رجلين.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١)
وَمَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة. وَمَكَرْنا مَكْراً بأن جعلناها سبباً لإِهلاكهم. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بذلك،
روي أنه كان لصالح في الحجر مسجد في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم أنه يفرغ منا إلى ثلاث فنفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فذهبوا إلى الشعب ليقتلوه، فوقع عليهم صخرة حيالهم فطبقت عليهم فم الشعب فهلكوا ثمة وهلك الباقون في أماكنهم بالصيحة
كما أشار إليه قوله:
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ وكانَ إن جعلت ناقصة فخبرها كَيْفَ وأَنَّا دَمَّرْناهُمْ استئناف أو خبر محذوف لا خبر كانَ لعدم العائد، وإن جعلتها تامة ف- كَيْفَ حال. وقرأ الكوفيون ويعقوب أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بالفتح على أنه خبر محذوف أو بدل من اسم كانَ أو خبر له وكَيْفَ حال.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً خالية من خوى البطن إذا خلا، أو ساقطة منهدمة من خوى النجم إذا سقط، وهي حال عمل فيها معنى الإشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف. بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتعظون.
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحاً ومن معه. وَكانُوا يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي فلذلك خصوا بالنجاة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٥]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥)
وَلُوطاً واذكر لوطاً، أو وأرسلنا لوطاً لدلالة ولقد أرسلنا عليه. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ بدل على الأول وظرف على الثاني. أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تعلمون فحشها من بصر القلب واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، أو يبصرها بعضكم من بعض لأنهم كانوا يعلنون بها فتكون أفحش.
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً بيان لإتيانهم الفاحشة وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، والتنبيه على أن الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. مِنْ دُونِ النِّساءِ اللاتي خلقن لذلك. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تفعلون فعل من يجهل قبحها، أو يكون سفيهاً لا يميز بين الحسن والقبيح، أو تجهلون العاقبة والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.

[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتنزهون عن أفعالنا، أو عن الأقذار ويعدون فعلنا قذراً.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ قدرنا كونها من الباقين في العذاب.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ مر مثله.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٥٩]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم. بعد ما قص عليه القصص الدالة على كمال قدرته وعظم شأنه وما خص به رسله من الآيات الكبرى والانتصار من العدا- بتحميده والسلام على المصطفين من عباده شكراً على ما أنعم عليهم، أو علمه ما جهل من أحوالهم وعرفاناً لفضلهم وحق تقدمهم واجتهادهم في الدين، أو لوطاً بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الفواحش والنجاة من الهلاك. آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ إلزام لهم وتهكم بهم وتسفيه لرأيهم، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه رأساً حتى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كل خير. وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٠]
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠)
أَمَّنْ بل أمن خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ التي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع. وقرأ «أمن» بالتخفيف على أنه بدل من الله. وَأَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم. مِنَ السَّماءِ ماء فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ عدل به من الغيبة إلى التكلم لتأكيد اختصاص الفعل بذاته، والتنبيه على أن إنبات الحدائق البهية المختلفة الأنواع المتباعدة الطباع من المواد المتشابهة لا يقدر عليه غيره كما أشار إليه بقوله: مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها شجر الحدائق وهي البساتين من الإحداق وهو الإحاطة. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل له شريكاً، وهو المنفرد بالخلق والتكوين. وقرئ «أإلهاً» بإضمار فعل مثل أتدعون أو أتشركون وبتوسيط مدة بين الهمزتين وإخراج الثانية بين بين. بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحق الذي هو التوحيد.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦١]
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (٦١)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وجعلها قراراً بإبداء بعضها من الماء وتسويتها بحيث يتأتى استقرار الإِنسان والدواب عليها. وَجَعَلَ خِلالَها وسطها. أَنْهاراً جارية. وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ جبالاً تتكون فيها المعادن وتنبع من حضيضها المنابع. وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب والمالح، أو خليجي فارس والروم. حاجِزاً برزخاً وقد مر بيانه في سورة «الفرقان». أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق فيشركون به.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٢ الى ٦٣]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ المضطر الذي أحوجه شدة ما به إلى اللجإ إلى الله تعالى من الاضطرار، وهو إفتعال من الضرورة واللام فيه للجنس لا للاستغراق فلا يلزم منه إجابة كل مضطر. وَيَكْشِفُ السُّوءَ ويدفع عن الإِنسان ما يسوءه. وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ خلفاء فيها بأن ورثكم سكناها والتصرف فيها ممن قبلكم. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ الذي خصكم بهذه النعم العامة والخاصة. قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ أي تذكرون آلاءه تذكراً قليلاً، وما مزيدة والمراد بالقلة العدم أو الحقارة المزيحة للفائدة. وقرأ أبو عمرو وهشام وروح بالياء وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بالنجوم وعلامات الأرض، وال ظُلُماتِ ظلمات الليالي وإضافتها إلى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ للملابسة، أو مشتبهات الطرق يقال طريقة ظلماء وعمياء للتي لا منار بها. وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني المطر، ولو صح أن السبب الأكثر في تكون الرياح معاودة الأدخنة الصاعدة من الطبقة الباردة لإِنكسار حرها وتمويجها الهواء فلا شك أن الأسباب الفاعلية والقابلية لذلك من خلق الله تعالى، والفاعل للسبب فعل للمسبب. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على مثل ذلك. تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تعالى الله القادر الخالق عن مشاركة العاجز المخلوق.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٤]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤)
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ والكفرة وإن أنكروا الإِعادة فهم محجوجون بالحجج الدالة عليها. وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي بأسباب سماوية وأرضية. أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ يفعل ذلك. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على أن غيره يقدر على شيء من ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم فإن كمال القدرة من لوازم الألوهية.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٥]
قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥)
قُلْ لاَّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ لما بين اختصاصه تعالى بالقدرة التامة الفائقة العامة أتبعه ما هو كاللازم له، وهو التفرد بعلم الغيب والاستثناء منقطع، ورفع المستثنى على اللغة التميمية للدلالة على أنه تعالى إن كان ممن في السموات والأرض ففيها من يعلم الغيب مبالغة في نفيه عنهم، أو متصل على أن المراد ممن فى السموات والأرض من تعلق علمه بها واطلع عليها اطلاع الحاضر فيها، فإنه يعم الله تعالى وأولي العلم من خلقه وهو موصول أو موصوف. وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ متى ينشرون مركبة من «أي» «وآن»، وقرئت بكسر الهمزة والضمير لمن وقيل للكفرة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٦٦]
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ لما نفى عنهم علم الغيب وأكد ذلك بنفي شعورهم بما هو مآلهم لا محالة بالغ فيه، بأن أضرب عنه وبين أن ما انتهى وتكامل فيه أسباب علمهم من الحجج والآيات وهو أن القيامة كائنة لا محالة لا يعلمونه كما ينبغي. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها كمن تحير في الأمر لا يجد عليه دليلاً.
بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ لا يدركون دلائلها لاختلال بصيرتهم، وهذا وإن اختص بالمشركين ممن في السموات
والأرض نسب إلى جميعهم كما يسند فعل البعض إلى الكل، والإِضرابات الثلاث تنزيل لأحوالهم، وقيل الأول إضراب عن نفي الشعور بوقت القيامة عنهم إلى وصفهم باستحكام علمهم في أمر الآخرة تهكماً بهم، وقيل أدرك بمعنى انتهى واضمحل من قولهم أدركت الثمرة لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص بَلِ ادَّارَكَ بمعنى تتابع حتى استحكم، أو تتابع حتى انقطع من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وأبو بكر «أدرك» وأصلهما تفاعل وافتعل. وقرئ «أأدرك» و «أم أدرك» بهمزتين «وءاأدرك» بألف بينهما و «بل أدرك» و «بل تدارك» و «بلى أأدرك» و «بلى أأدرك» و «أم أدرك» و «أم تدارك»، وما فيه استفهام صريح أو مضمن من ذلك فإنكار وما فيه بلى فإثبات لشعورهم وتفسير له بالإِدراك على التهكم، وما بعده إضراب عن التفسير مبالغة في نفيه ودلالة على أن شعورهم بها أنهم شاكون فيها بَلِ إنهم مِنْها عَمُونَ أوْ رَدَّ وإنكار لشعورهم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ كالبيان لعمههم والعامل في إذا ما دل عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ، وهو نخرج لا مخرجون لأن كلاً من الهمزة وإن واللام مانعة من عمله فيما قبلها، وتكرير الهمزة للمبالغة في الإِنكار، والمراد بالإِخراج الإِخراج من الأجداث أو من حال الفناء إلى الحياة، وقرأ نافع «إذا كنا» بهمزة واحدة مكسورة، وقرأ ابن عامر والكسائي «إننا لمخرجون» بنونين على الخبر.
لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ من قبل وعد محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وتقديم هذا على نحن لأن المقصود بالذكر هو البعث وحيث أخر فالمقصود به المبعوث. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ التي هي كالأسمار.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تهديد لهم على التكذيب وتخويف بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذبين قبلهم، والتعبير عنهم ب الْمُجْرِمِينَ ليكون لطفاً بالمؤمنين في ترك الجرائم.
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على تكذبيهم وإعراضهم. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ في حرج صدر، وقرأ ابن كثير بكسر الضاد وهما لغتان، وقرئ ضيق أي أمر ضيق. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم فإن الله يعصمك من الناس.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ العذاب الموعود. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ تبعكم ولحقكم، واللام مزيدة للتأكيد أو الفعل مضمن معنى فعل يتعدى باللام مثل دنا. وقرئ بالفتح وهو لغة فيه. بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله وهو عذاب يوم بدر، وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك كالجزم بها وإنما يطلقونها إظهاراً لوقارهم وإشعاراً بأن الرمز منهم كالتصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله تعالى ووعيده.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لتأخير عقوبتهم على المعاصي، والفضل والفاضلة الأفضال وجمعها فضول وفواضل. وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ لا يعرفون حق النعمة فيه فلا يشكرونه بل يستعجلون بجهلهم وقوعه.
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ما تخفيه وقرئ بفتح التاء من كننت أي سترت. وَما يُعْلِنُونَ من عداوتك فيجازيهم عليه.
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ خافية فيهما، وهما من الصفات الغالبة والتاء فيهما للمبالغة كما في الراوية، أو اسمان لما يغيب ويخفى كالتاء في عافية وعاقبة. إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بين أو مُبِينٍ ما فيه لما يطالعه، والمراد اللوح أو القضاء على الاستعارة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كالتشبيه والتنزيه وأحوال الجنة والنار وعزير والمسيح.
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فإنهم المنتفعون به.
إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بين بني إسرائيل. بِحُكْمِهِ بما يحكم به وهو الحق، بحكمته ويدل عليه أنه قرئ بحكمه. وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يرد قضاؤه. الْعَلِيمُ بحقيقة ما يقضى فيه، وحكمه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ولا تبال بمعاداتهم. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ وصاحب الحق حقيق بالوثوق بحفظ الله ونصره.
إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى تعليل اخر للأمر بالتوكل من حيث إنه يقطع طعمه عن مشايعتهم ومعاضدتهم رأساً، وإنما شبهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع ما يتلى عليهم كما شبهوا بالصم في قوله: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فإن إسماعهم في هذه الحالة أبعد. وقرأ ابن كثير وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ حيث الهداية لا تحصل إلا بالبصر. وقرأ حمزة وحده «وما أنت تهدي العمي». إِنْ تُسْمِعُ أي ما يجدي إسماعك. إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا من هو في علم الله كذلك.
فَهُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٢]
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ إذا دنا وقوع معناه وهو ما وعدوا به من البعث والعذاب. أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وهي الجساسة روي أن طولها ستون ذراعاً ولها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان، لا يفوتها
هارب ولا يدركها طالب.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام سئل من أين مخرجها فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله، يعني المسجد الحرام.
تُكَلِّمُهُمْ من الكلام، وقيل من الكلم إذ قرئ «تُكَلّمُهُمْ».
وروي أنها تخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما الصلاة والسلام، فتنكت بالعصا في مسجد المؤمن نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وبالخاتم في أنف الكافر نكتة سوداء فيسود وجهه.
أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا خروجها وسائر أحوالها فإنها من آيات الله تعالى، وقيل القرآن، وقرأ الكوفيون أن الناس بالفتح. لاَ يُوقِنُونَ لا يتيقنون، وهو حكاية معنى قولها أو حكايتها لقول الله عز وجل أو علة خروجها، أو تكلمها على حذف الجار.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٥]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً يعني يوم القيامة. مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان للفوج أي فوجاً مكذبين، ومِنْ الأولى للتبعيض لأن أمة كل نبي وأهل كل قرن شامل للمصدقين والمكذبين. فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا، وهو عبارة عن كثرة عددهم وتباعد أطرافهم.
حَتَّى إِذا جاؤُ إلى المحشر. قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال أي أكذبتم بها بادئ الرأي غير ناظرين فيها نظراً يحيط علمكم بكنهها وأنها حقيقة بالتصديق أو التكذيب، أو للعطف أي أجمعتم بين التكذيب بها وعدم إلقاء الأذهان لتحققها. أَمَّا ذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أم أي شيء كنتم تعملونه بعد ذلك، وهو للتبكيت إذ لم يفعلوا غير التكذيب من الجهل فلا يقدرون أن يقولوا فعلنا غير ذلك.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ حل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بعد ذلك. بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله. فَهُمْ لاَ يَنْطِقُونَ باعتذار لشغلهم بالعذاب.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٦]
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦)
أَلَمْ يَرَوْا ليتحقق لهم التوحيد ويرشدهم إلى تجويز الحشر وبعثة الرسل، لأن تعاقب النور والظلمة على وجه مخصوص غير متعين بذاته لا يكون إلا بقدرة قاهر، وأن من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادة واحدة قدر على إبدال الموت بالحياة في مواد الأبدان، وأن من جعل النهار ليبصروا فيه سبباً من أسباب معاشهم لعله لا يخل بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم ومعادهم. أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ بالنوم والقرار. وَالنَّهارَ مُبْصِراً فإن أصله ليبصروا فيه فبولغ فيه بجعل الإِبصار حالاً من أحواله المجعول عليها بحيث لا ينفك عنها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لدلالتها على الأمور الثلاثة.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٧]
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ في الصور أو القرن، وقيل إنه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق. فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الهول وعبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع بأن يثبت قلبه. قيل هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل الحور والخزنة وحملة العرش، وقيل الشهداء، وقيل موسى عليه الصلاة والسلام لأنه صعق مرة ولعل المراد ما يعم ذلك.
وَكُلٌّ أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية، أو راجعون إلى أمره وقرأ حمزة وحفص أَتَوْهُ على
الفعل، وقرئ «أتاه» على التوحيد للفظ الكل. داخِرِينَ صاغرين وقرئ «دخرين».
[سورة النمل (٢٧) : آية ٨٨]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨)
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ثابتة في مكانها. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ في السرعة، وذلك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تبين حركتها. صُنْعَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه وهو لمضمون الجملة المتقدمة كقوله وَعَدَ اللَّهُ. الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أحكم خلقه وسواه على ما ينبغي. إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال وبواطنها فيجازيكم عليها كما قال:
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إذ ثبت له الشريف بالخسيس والباقي بالفاني وسبعمائة بواحدة، وقيل خَيْرٌ مِنْها أي خير حاصل من جهتها وهو الجنة، وقرأ ابن كثير وأبو عمر وهشام خَبِيرٌ بِمَا يَفْعَلُونَ بالياء والباقون بالتاء. وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ يعني به خوف عذاب يوم القيامة، وبالأول ما يلحق الإِنسان من التهيب لما يرى من الأهوال والعظائم ولذلك يعم الكافر والمؤمن، وقرأ الكوفيون بالتنوين لأن المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم، وآمن يتعدى بالجار وبنفسه كقوله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ. وقرأ الكوفيون ونافع يَوْمَئِذٍ بفتح الميم والباقون بكسرها.
وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل بالشرك. فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ فكبوا فيها على وجوههم، ويجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم كما أريدت بالأيدي في قوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات أو بإضمار القول أي قيل لهم ذلك.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بأن يقول لهم ذلك بعد ما بين المبدأ والمعاد وشرح أحوال القيامة، إشعاراً بأنه قد أتم الدعوة وقد كملت وما عليه بعد إلا الاشتغال بشأنه والاستغراق في عبادة ربه، وتخصيص مكة بهذه الإِضافة تشريف لها وتعظيم لشأنها وقرئ «التي حرمها».
وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقاً وملكاً. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين أو الثابتين على ملة الإسلام.
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئاً فشيئاً، أو اتباعه وقرئ «واتل عليهم» «وأن أتل». فَمَنِ اهْتَدى باتباعه إياي في ذلك، فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإن منافعه عائدة إليه.
وَمَنْ ضَلَّ بمخالفتي. فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فلا علي من وبال ضلاله شيء إذ مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ وقد بلغت.
[سورة النمل (٢٧) : آية ٩٣]
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوة أو على ما علمني ووفقني للعمل به. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ القاهرة في
169
الدنيا كوقعة بدر وخروج دابة الأرض، أو في الآخرة. فَتَعْرِفُونَها أنها آيات الله ولكن حين لا تنفعكم المعرفة. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا تحسبوا أن تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالياء.
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة طس كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق سليمان وكذب به وهوداً وصالحاً وإبراهيم وشعيباً، ويخرج من قبره وهو ينادي لا إله إلا الله».
170
Icon