تفسير سورة سبأ

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة سبأ من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ سَبَإٍ
ذكر سيبويه في قولهم (لَهُ (١).. ، في علم [**الفقهاء] أن الرفع يقتضي عموم الجنس.
قوله تعالى: (وَمَا فِي الْأَرْضِ).
إنما أعاد لفظ (مَا) [لمخالفة نوع*] (مَا فِي الأَرْضِ) لنوع ما في السماء.
ابن عرفة: وهذا من العام الباقي على عمومه.
فإن قلنا: إن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال، فسيكون قوله تعالى: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ) تأكيدا.
وإن قلنا: إنه مطلق غير عام، فيجاب بثلاثة أوجه:
الأول: جواب الزمخشري على قاعدته بأن الحمد الأول [واجبٌ*] له في الدنيا على نعم متفضل بها.
والثاني: (فِي الآخِرَةِ) على نعم واجبة الإيصال إلى مستحقها؛ لأنهم يقولون: إن الطائع يجب على الله أن يثيبه.
ورده ابن عرفة: بأنه باطل على مذهبه؛ لأنهم يقولون بوجوب رعاية الأصلح، فكيف يقولون النعم متفضل بها؟
الجواب الثاني: أنهما مختلفان باختلاف المتعلق والفاعل فحمد الآخرة أكثر لدوامه، إذ هي حياة لَا موت فيها، قال الله تعالى (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) وحمد الدنيا منقطع بموت صاحبه، ثم تموت جميع الخلائق عند النفخ في الصور.
الجواب الثالث: أنهما مختلفان باختلاف السبب، فحمد الآخرة أعظم لتبيين الحقائق فيه وصيرورة الأمر [بالنظر*] ضروريا، فالمحق يرى ما أعد الله له، وما نجاه منه عيانا، فحمده حينئذ أعظم وأجل.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "لا أحصَي ثناء عليك". لَا ينبغي لنا أن نقوله كذلك، إنما نقول: [لَا يُحْصَى*] ثناءٌ عليك؛
لأن سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هو الذي اعترف بعجزه عن إحصاء الثناء عليه، مع أنه في منزلة يتوهم فيها قدرته على إحصاء الثناء عليه، إذ هو معصوم محفوظ وقع هذا فاعترف بالعجز، وإنما قال: لَا يُحْصَى ليكون النفي عاما في القائل وغيره فيكون أبلغ.
قوله تعالى: (وَهُوَ الحَكِيمُ).
قيل: المتقن، وقيل: واضع الأشياء في [محالها*]. قوله تعالى: (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا... (٢).. هذا كقوله (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخفَى)، فيرد فيه السؤال من جهة أن العطف تأكيد، والجواب كالجواب إما أنه قصد التسوية في علمه بالنوعين، وإما الاهتمام بتقديم الأخبار، فمعرفة ما هو في مظنة الخفاء، وإما الدلالة على معرفة بالمطابقة وباللزوم.
قيل لابن عرفة: ليس هذا مثله بل هو كقوله: فلان يعلم أن زوجته حامل، ولا يعلم ما في بطنها، ويعلم ما يخرج من بطنها عند خروجه، فقال: لَا بل هو مثله.
قوله تعالى: (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا).
ولم يقل: وما يعرج إليها؛ لأنه لو قال: إليها لتوهم أن أعمال العبادة تعرج إلى سماء الدنيا فقط، والمنقول أنها تعرج إلى السماوات السبع، وتصعد إلى أعلاها.
قوله تعالى: (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).
ابن عرفة: من رحمته بهم مغفرة ذنوبهم.
قيل لابن عرفة: قال بعضهم في الفرقان أربع سور استفتحت بالحمد، وخمس بالتسبيح، وسورتان بالبركة، ولم تذكر فيه لَا حول ولا قوة إلا بالله، لما ورد أنها كنز
من كنوز الجنة، والكنز من شأنه الخفاء، فرده ابن عرفة بقوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ).
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ... (٣)﴾
ابن عرفة: كل واحد منهما لصاحبه آتٍ؛ كقوله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ)، لكن الصواب استناد الإتيان إلى الموجود، وهو الذين كفروا. لأن الساعة معدومة.
قوله تعالى: (عَالِم الْغَيْبِ).
ابن عرفة: لَا خلاف أن العلم القديم لَا يختلف، وفي الحادث خلاف، فإن قلنا: إنه يتفاوت بالمبالغة في العلم القديم بالنسبة إلى العلم الحادث.
وإن قلنا: لَا يتفاوت، فالمبالغة باعتبار متعلقه، فإن قلت: ما أفاد قوله (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)، مع أن (عَالِمِ الْغَيب) يكفي عنه؟ فالجواب: أن هذه المذكورات إن كانت كبيرة الجرم [فهي ظاهرة معلقة*] فعزوبها عن المخلوقات، إنما هو حالة كونها في الغيب لم تخلق ولم تظهر للوجود، فدخلت في قوله تعالى: (عَالِمِ الْغَيبِ)، [وإن*] كانت موجودة فعزوبها، إنما هو باعتبار رجوعها في خفية عن أعين الناظرين، [ولَا تخفى*] على الله.
قوله تعالى: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
انظر تعقب أبي حيان على الزمخشري.
وقال ابن عرفة: الصواب أن هكذا من تأكيد المدح بما يشبه الذم.
كقول النابغة:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم... بهنَّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ
قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)﴾
وجه مناسبة القراءة هنا أن (الْعَزِيزِ) هو الذي لَا يمانع، فإما أن يراد أن كلامه لا يقدر أحد على ممانعته، وإما أن يكون أشار إلى أنه لَا تهتدي إلى المطالب القلبية الخفية الممتنعة عن الإدراك إلا به، و (الْحَمِيدِ) إشارة إلى حمده هذه النعمة العظيمة التي أنعم بها، وهو القرآن العظيم الهادي إلى طريق الحق.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ... (٢٠)﴾
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنها نزلت تخويفا لقريش، لأنهم اتبعوا الشيطان فيما اتبعه فيه [آباؤهم*] من الكفر، وقد هلكوا وعذبوا، [فلم [يتوقعوا*] أن ينزل بهم ما نزل بآبائهم، كعبدين عصى أحدهما سيده فعذبه، ثم عصاه الآخر فهو متوقع [عذابه*]، وأطلق قول إبليس بفعله المستقبل صدقه وهو قوله (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، ففيه دليل على أن من يعتقد صدقه من الأولياء إذا أخبر بشيء قبل وقوعه أن يقال فيه: صدق فلان في مقالته.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ... (٣١)﴾
ابن عرفة: يشار بلفظ القريب للبعيد تعظيما لأمره في قلبه، إما مدحا أو ذما، كقوله تعالى: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ)، وعكسه أن يشار [بالبعيد*] للقريب تحقيرا له في بابه، مثل (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا)، وكذلك هذا هم [يحتقرونه*]، واستعمل لفظ [إذا*] في المستقبل، وهو ظرف لما مضى.
وأجيب: بأنه أمر تقديري أي لو حضروا بين يديك ورأيتهم لرأيت عجبا، لأنه يخلص الفعل للماضي أو يكون المراد من مات منهم.
قال: وعدم إيمانهم بالقرآن [إما راجع لعدم التصديق لكونه معجزا*]، أو لعدم التصديق لما [تضمن*] من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فالأول عقلي، والثاني سمعي نظري.
قوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ).
القول دليل على أن البعض يطلق على النصف وأكثر منه.
قال: وعادتهم يقولون: عبر عنهم أولا بوصف الكفر (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ)، والظلم أعم من الكفر لصدقه عليه، وعلى ما دونه من الماضي، قال: وحكمة ذلك أنه أسند لهم المخاصمة والمراجعة وهي مبادئ التعنت والاختلاف، فلذلك قرنها بمطلق الظلم لَا بأخصه، فإن قلت: لم قال: [(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) *]، بلفظ المضارع، ثم عقبه بقوله تعالى: (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)، بالماضي؟ فالجواب: إما بأن الأول مضارع لتكرره منهم وتجدده المرة بعد المرة، فلما تكرر منهم المرة بعد المرة حينئذ أجابهم
316
أكابرهم بهذا الجواب، وإما أنه بدل وتفسير لقوله تعالى: (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ)، وهو مضارع يفسره بالمضارع.
قوله تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ).
قال الزمخشري، وابن عطية: (دَابَّةُ الْأَرْضِ) هي الأرضة، قالا: وروي أن الجن أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت منها في يوم وليلة مقدارا، فحسبوا ذلك النمو المقدر فوجدوه قد مات منذ سنة.
قال ابن عرفة: ما يتوهم هذا إلا لو كانت الأرضة شرعت في أكل العصا منذ سنة، ولعلها ما بدأت الأكل إلا بعد مدة طويلة.
قوله تعالى: (جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ)
اليمين والشمال نسبة وإضافة فاعتبر حاصل الوادي بالنسبة إلى الهابط من أعلاه، والطالع من أسفله، ويمين الإنسان في الأكثر هو اليد القوية السريعة الحركة غالبا والشمال ضدها، وقد تكون العكس فيمن يخلق شيئا، وهو الأيسر ويكون أعسر أيسر فالأعسر الذي يبطش بيساره دون يمناه، والأعسر الأيسر الذي يبطش بهما يديه جميعا وهو الأضبط.
قوله تعالى: (فَأَعْرَضُوا).
أول الآية أشد من آخرها، لأن ظاهر أوطان العقوبة نالتهم بنفس إعراضهم، فيتناول العاصي والكافر، لقوله تعالى: (وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ).
قوله تعالى: (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ).
قال أبو حيان: المجرور بالباء هو المأخوذ المعوض وغيره.
وقال ابن عرفة: الصواب أنك تقول: بدلت الدار بالجنان، أي أخذت الدار عوضا عن الجنان، ثم قال: الحاصل أن المقدم هو العوض، والمؤخر هو المعوض قلت: [... ].
317
فيها عن ابن عبد السلام القاضي ما نصه قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ)، قال: تعقيب الحكم بالوصف المناسب ويشعر أنه علة؛ لأن كل ما في السماوات وما في الأرض مستحق للحمد.
فإن قلت: ظاهر الآية أن السماء بسيطة إذ لو كانت [كورية*] لاكتفى بقوله تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) عن قوله (وَمَا فِي الْأَرْضِ).
قلنا: مقام الاستدلال حقه من فيه الاستئناف فالصريح بدلالة المطابقة دون دلالة الالتزام، إذ هو أقوى منها، وإنما تقدم علمه بما يلج في الأرض على علمه بما ينزل من السماء؛ لأن النزول بمنزلة الخروج والعروج كالولوج.
قوله تعالى: (قُل بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنكُمْ).
لما نفوا الساعة بدعوى مجردة عن الدلائل، قوبلوا بدعوى مقسم عليها، وإن كان القسم لَا يثبت دعوى.
قوله تعالى: (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).
قال ابن عرفة: بدأ هنا بالسماوات، قال تعالى (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
بدأ بالسماء لأن إتيانها أعظم، فلما أراد بالثاني التخويف من العذاب بدأ بالأرض، لأنها المشاهدة في حصول العذاب، وقوله تعالى: (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ)، دليل على أن الرؤية في قوله تعالى: (أَفَلَم يَرَوْا)، علمية لَا بصرية، قوله تعالى: (وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، المراد به العلم لَا حقيقة الكتاب، لئلا يلزم عليه التسلسلَ؛ لأن الكتاب إما أصغر أو أكبر، وكل أصغر وأكبر من كتاب فيلزم أن يكون من كتاب، وينتقل الكلام لذلك الكتاب فيتسلسل.
قوله تعالى: (لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ).
قال ابن عبد السلام: هذا الترتيب على الأصل، لأنه لَا يلزم من نفي الملك في الأقوى، وهو السماء، نفي الملك في الأضعف وهو الأرض، وقوله تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) فعلى عكس ذلك؛ لأن ما لَا يملك مثقال ذرة فيهما كيف يكون شريكا فيهما أو ظهيرا؟ وأجاب: بأن ذلك استعظام لنقصان عقولهم، وأنهم يعتقدون الإعانة والشرك فبين من لَا يملك مثقال ذرة، فكأنه لَا يملك مثقال ذرة، الذي هو أحرى أن يكون شريكا ولا ظهيرا كيف يعبد من دون الله؟ فإن
318
قلت: إذا انتفيت الشفاعة وانتفى النفع الحاصل عنهما فما أفاد قوله تعالى: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ).
قلت: هو كقوله
عَلَى لَاحِبٍ لَا يَهْتَدِي بِمَنَارِهِ
أي ليس ثم شفاعة ينتفع بها.
قوله تعالى: (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى).
(أو) تعني الواو [ففيه اللف والنشر*] وعلى بابها تكون من تجاهل الفارق.
قوله تعالى: (لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا).
نزلت بمكة فبل شريعة الجهاد، وسائر الأحكام، لأن هذا الأمر لم يبق بعد كذلك.
قوله تعالى: (كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ).
الكلام إما وقع في إثبات الشركاء له في إثبات الله تعالى أو نفيه، حتى يضرب عن مقالتهم إلى إثباتهم، وإنما المعنى بل الوحدانية لله تعالى.
قوله تعالى: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ).
المراد به متعلقه، والوعد والوعيد بمعنى واحد بخلاف [الميعاد*].
قال: وعبر عن المراجعة [بالقول*] دون الكلام، لأن القول غير مقيد، قيل له: لم
عطف، (وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا (٣٣).. بالواو، والأصل في المراجعة عدم العطف، كما
في قوله تعالى: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) الآية، وقد جعله ابن مالك في المصباح من البديع وأنشد عليه، فأجاب: بأن الجملة التي دخلت عليها معطوفة على كلامهم، وليست جوابا عما قبلها، فلم تدخل واو في المراجعة وبتقدير أن يكون جوابا، وأنها دخلت في المراجعة فليس بممتنع، ولم يثبت امتناعه عن القرب، والشعر الذي ذكره ابن مالك مولد، وإنما وقع ذلك في آية موسى عليه السلام مع فرعون عليه اللعنة.
قلت: هكذا ذكره السكاكي، وذلك منه قوله تعالى: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ)، قال: لما قال (فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ)، كأنه قيل: فما قال لهم، قال المجيب: (قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)، ثم قال (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ)، فكأنه قيل: فما قالوا له حين رأوه، كذلك قال (قَالُوا لَا تَخَف).
قال ابن عبد السلام: قوله تعالى: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) أضاف المكر إلى الليل، وإن كان لَا يصح منه ذلك تنزيلا للمكر فيه منزلة الماكر.
قوله تعالى: (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ)
شدد عليهم في التوبيخ، لأنهم عبدوا غير الملائكة، فإذا وبخوا على عبادة أكرم خلق الله فأحرى أن يوبخوا على ما دون الملائكة انتهى.
قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافةً لِلنَّاسِ).
قال شيخنا ابن عرفة: فرد أن رسالة نوح عليه السلام عامة أيضا، ويجاب: إما بأن محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بعث للإنس والجن، ورسالة نوح عليه السلام خاصة بالإنس، وأما نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم آمن به من قبله، لأن كل نبي أخبر به بخلاف نوح عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥)﴾
قال الزمخشري: (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) بالفقر لكثرة أموالنا.
وضعفه ابن عطية قال: وإنما المراد نحن في الآخرة لكثرة أموالنا وأولادنا، إما اعتناء بنا وإكراما من الله تعالى لنا، وإكرامه لنا في الدنيا دليل على رضاه عنا، وعلى إكرامه لنا في الآخرة بعدم العذاب، فهو قياس منهم فيكون (وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ)، نتيجة عن قولهم (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا).
وقيل: إنه استئناف [مستقل*] بنفسه فعقبه بقوله (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)، فيبسط الرزق ليس منحصرا في الإكرام، بل قد [يكون إملاء*]، كقوله تعالى: (إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا).
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَمْوَالُكُم وَلَا أَوْلادُكُمْ... (٣٧)﴾
قال ابن عرفة: تكرير (لا) في العطف محض تأكيد، إذ لو جعلناها تأسيسا لزم عليه المفهوم، إذ لَا يلزم من نفي التقريب عن كل مرفوع منهما نفي التقرب عنهما مجتمعين.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠)﴾
قرر عليهم عبادة الكفار لهم على جهة الاستهزاء بالكفار، فأجابوا: بأنهم كانوا يعبدون الجن إما لإتباعهم في عبادة الملائكة ووسوسة الشيطان، فكأنهم عبدوا الجن، وإما لكون الملائكة غير راضين بعبادتهم لهم. وقوله (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)
إشارة إلى الأتباع والمتبوعين، وهم رؤساؤهم وسوس لهم الشيطان فاتبعوه وآمنوا به واتبعوهم مقلدون لهم، فلم يؤمنوا بالجن قبل ذلك رؤساؤهم في ذلك.
قوله تعالى: ﴿لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا... (٤٢)﴾
الأقسام أربعة: جلب النفع والضر ودفعهما معا، وجلب النفع ودفع الضر وعكسه، والنفي متسلط على الجميع، وهل المراد بالبعض الثاني حقيقة له، فكأنه يقول: لا يملك بعضكم لغيره نفعا، أو المراد به العموم، أي لَا يملك بعضكم لإنسان بالإطلاق، أي لا يملك لنفسه ولا لغيره، وهذا أولى لعمومه، وقدم النفع على الضر لأن جلب النفع مهم، ودفع الضر أهم، وعدم الاتصاف بالمهم لَا يستلزم عدم القدرة على ما هو أهم منه، فجاء هذا على الأصل، لأن الأصل أنه لَا يملك، وعلى تقدير ابن عطية فيقال لهم: يكون معطوفا عليه (بَيِّنَاتٍ) يدل على أن القرآن لَا ينسخ [بالسُّنَّة*]، لأن النسخ بيان، والآية دلت على أنها بينة في أنصبتها.
قوله تعالى: ﴿مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ... (٤٣)﴾
[يرد عليه*] القول بالموجب، وهو أنه كذلك هو في نفس الأمر وهو الذي أراد، لكن وجه احتجاجهم بهذا أنه من الدليل السوفسطائي، وقد ذكر المناطقة أنه لم ترد في القرآن ولا في كلام فصيح، لكن مرادهم أنه لم يرد من كلام الله تعالى، وهذا إنما هو حكاية عن هؤلاء، وتقريره أنهم اعتقدوا أن الخروج عن ملة الآباء قبيح، لَا يحل ولا يجوز، وهذا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قصد صدهم عن ملة آبائهم، فلذلك كفروا به وابتدءوا هم بهذه المقالة من باب إثارة الغضب كقول القائل:
يا ابن الذي طاعته عصمة... وحبُّه مفترض واجب
إن الذي شرفت من أجله... يزعم هذا أنه كاذب
قوله تعالى: (مُفْتَرًى).
إن قلت: ما فائدته، فالجواب: بين وجهين:
الأول: الإفك، قول الباطل عمدا أو سهوا، والافتراء تعمد الكذب.
الثاني: الإفك، هو القول الباطل في [نفسه*]، وإن كان قائله صادقا في مقالته مثل أن يخبرك شخص عن [**عمرو يقام زيد]، وهو صادق في الإخبار عن عمرو، ولكن ذلك الكلام في [نفسه*] كذب، فلما قال: (مفترى)؛ أفاد أن الكلام في [نفسه*] كذب، وأن ناقله كذب أيضا على المنقول عنه في حكايته.
قوله تعالى: (لِلْحَقِّ).
الزمخشري: [لامان الجر ولام التعريف*] (١).
قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا... (٤٤)﴾
دلت الآية على أنهم في تكذيبهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير مستندين إلى كتاب منزل، ولا إلى إخبار رسول، ولا إلى خبر تواتر، لأن الذين من قبلهم قد كذبوا، وإذا كذبوا انقطع التواتر، لأن شرطه صدق المخبرين، أما المكذبون فلا.
فإن قلت: إنهم لم يشترطوا في التواتر صدق المخبرين، بل قالوا: إن خبر الكفار البالغين عدد التواتر يفيد العلم، فالجواب: إنما ذلك إذا أخبروا عن أمر شاهدوه، وأما النقل فلا، لأن الكفار البالغين عدد التواتر نقلوا لهم ذلك عن قوم كذبوا بينهم، فلا يعتمد على قولهم بوجه لقوله (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ).
وإنما احتيج إلى ذكر الثلاثة، لأن الرسول لَا يستلزم الكتاب، إذ قد يكون رسولا بغير كتاب منزل عليه.
فإن قلت: لم وصف الكتب بـ يدرسونها، مع أن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، فيبقى المفهوم، فالجواب: أن الكتب ما ينتفع بها إلا بالنظر وبالدرس وإلا فوجودها كالعدم، فهذه لازمة أو هو مفهوم خرج مخرج الغالب فلا يعتبر.
قوله تعالى: ﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي... (٤٥)﴾
إن قلت: ما أفاد بعد قوله تعالى: (وَكَذبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)، فالجواب: بوجوه:
الأول: أن هذا مقيد، والأول مطلق.
الثاني: والمراد بالأول تكذيبهم المعجزات، وبالثاني تكذيب الرسل.
(١) النص هكذا في الكشاف:
"لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وما في اللامين من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وفي لما من المبادهة بالكفر: دليل على صدور الكلام عن إنكار عظيم وغضب شديد، وتعجيب من أمرهم بليغ، كأنه قال: وقال أولئك الكفرة المتمرّدون بجراءتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق النير قبل أن يذوقوه". اهـ الكشاف. ٣/ ٥٨٨).
وأجاب الزمخشري: بأنه لما كان معنى قوله تعالى: (وَكَذبَ الُّذِينَ مِن قَبلِهِمْ)، [وفعل الذين من قبلهم التكذيب، وأقدموا عليه: جعل تكذيب الرسل مسببا عنه ونظيره*] أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: ﴿مَثْنَى وَفُرَادَى... (٤٦)﴾
إن قلت: قدم (مَثْنَى) على (وَفُرَادَى) وكان العكس، فالجواب: أن مفعول التكذيب بالنظر والاستدلال مع الجماعة أقرب من حصوله حالة الانفراد، والآية خرجت مخرج الوعظ والتذكير، فكان تقديم الاثنين من الواحد.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ... (٤٧)﴾
إما أن يقتضي النفي [نفى مسألة الأجر رأسا*]، [والثاني: أن يريد بالأجر ما أراد في قوله تعالى قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا*]، وفي الآية دليل بجواز أخذ الأجرة على رواية الأحاديث.
وفيه خلاف حكاه ابن الصلاح، قيل: تجوز، وقيل: لَا تجوز، واختار بعض المتأخرين إن كان يشغله عن [معاشه*] فجائز، [وإلا لم يجز*]، وأما الحديث الواحد فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغه، وانظر بما تقدم في آخر سورة البقرة، ووجه الدليل من هذه الآية أن الأصل الناشئ حين يدل الدليل على التخصيص، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لَا يتوهم سؤاله إلا عن ما هو جائز.
قوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).
إن أريد بالشهادة مجرد العلم والكشف والإطلاع فهو عام باق على عمومه، ويكون فيه دليل على تعلق علمه بالجزئيات والكليات، وإن أريد بها الشهادة الملزومة للمجازاة مستثنى، فلا يصح كونه بدلا، وأيضا فقد فرقوا بين العطف على مواضع أن، وبين العطف على مواضع إن واسمها، فالعطف على مواضع اسمها لَا يجوز عند الأكثر، لعدم [المجوز*]؛ لأن الرفع امتنع بدخول (إن) والعطف على موضعها هي واسمها جائز، لأن موضعها رفع، فالصواب: أن (عَلَّامُ) خبر ابتداء مضمر، أي هو علام، والمبالغة إما باعتبار كثرة معلوماته، أو باعتبار الكيفية، وأنه في [أعلى*] درجات العلم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (٤٩)﴾
يحتمل أن يكون فيه حذف التقابل.
قوله تعالى: (قُلْ جَاءَ الْحَقُّ).
[والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل، كقوله تعالى: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ وعن ابن مسعود رضى الله عنه: دخل النبي ﷺ مكة وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة، ويقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ*]
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي... (٥٠)﴾
إن قلت: فيه دليل أنه عليه السلام غير مجتهد، فالجواب: أن اجتهاده راجع إلى الوحي.
قوله تعالى: ﴿آمَنَّا بِهِ... (٥٢)﴾
إنشاء لا خبر.
قوله تعالى: (مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ).
أي كيف يصح إيمانهم، والدار ليست دار تكليف، فلا ينفعهم إيمانهم بحال.
قوله تعالى: ﴿مِنْ قَبْلُ... (٥٣)﴾
تدل على أول الأزمنة القبلية، فأفادت الآية أنهم ماتوا على الكفر، لأن ابتداء الغاية بحسب مآلهم، وحالهم حينئذ أمر الآخرة، فأفادت من أن ابتداء أمر الآخرة حينئذ في حقهم الكفر، وهو انتهاء أمر الدنيا، فهم ماتوا كفارا في شك، والمراد به الشك اللغوي لَا استواء الطرفين كما هو اصطلاحا، فيتناول الظن، وهو تنبيه بالأدنى عن الأعلى، لأنه إذا كان الشاك يناله هذا الوعيد فأحرى من جزم.
* * *
Icon