تفسير سورة المائدة

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقُود ﴾١ الآية [ ١ ] : اعلم أن العقود في الشرع منقسمة إلى ما يجب الوفاء به وإلى ما لا يجب وإلى ما لا يجوز :
فأما ما لا يجوز مثل عقود الجاهلية على النصرة على الباطل في قولهم : دمي دمك، ولا مالي مالك، وأنا أجبرك، فيعاهده على أن ينصره على الباطل، ويمنع حفاً توجه عليه، فهذا لا يجب الوفاء به. والوجه الآخر : ما يتخير في الوفاء به. والوجه الثالث : ما يجب الوفاء به، والذي يجب الوفاء به، هو الذي يتضمن تحقيق حق أوْجب الله تعالى الوفاء به.
فإذا انقسمت العقود إلى باطل وصحيح، فربما يقول القائل : الأصل اتباع الشروط والعقود، نظراً إلى مطلق اللفظ، والقائل الآخر يقول : إنما يجب علينا اتباع عقود شرعية ورد الشرع بها، ولذلك قال عليه السلام :" ما بال أقوام يشترطون ما ليس في كتاب الله تعالى ؟ كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل٢ ".
ولا شك أن الذي ورد الشرع به محصور مضبوط، والذي يمكن اشتراطه مما يهجس في النفس، فمما لا نهاية له، فلا يمكن أن يقال إن الأصل وجوب الوفاء بكل ما يهجس في النفس، فيعقد عليه، بل الشرع ضبط لنا ما يجب الوفاء به، والباقي مردود، فهو كقول القائل : افعلوا الخير، لا يجوز أن يحتج به في وجوب كل خير، فإن ما لا يجب فعله من الخيرات لا نهاية له، فالمخصوص مجهول على ذلك، وكذلك المخصوص من الشروط، فإن الباطل من الشروط لا نهاية له، وإنما الجائز منها محصور، فعلى هذا لا يجوز التعلق بعموم قوله عليه السلام :
" المؤمنون عند شروطهم٣ "، ولا بمطلق قوله :﴿ أوفوا بالعقود ﴾، فهذا هو المختار فيه.
والذي هو عقد أو يسمى عقداً، ينقسم إلى ما كان على المستقبل، وإلى ما كان على الماضي، أما ما على المستقبل : مثل قول القائل : والله لأفعلن،
وأما على الماضي : كقول القائل : والله لقد كان كذا، ويقال في مثله : إنه عقد اليمين عليه، لا على معنى أنه عزم على فعل شيء، فإن اليمين يعقد على فعل الغير من غير أن يصح العزم عليه، وإنما معناه أنه يظهر المحلوف عليه، ويحيل إلى غيره تحقيقه، فينظر ما يكون من عاقبة يمينه، وفي الماضي إظهار الصدق قائم، وقصد تحقيق القول قائم، فيقال عقد اليمين، أي قصد تحقيق قوله وتصديق نفسه، فهو عقد من هذا الوجه.
يبقى أن يقال هو في علم الله تعالى غير منعقد، فيقال هو في علم الله تعالى، وإن لم يقصد تحقيق ما حلف لعلمه به، ففي المستقبل ربما لا يتصور منه العقد، ولكن يحيل العقد، وربما ظن الصدق في الماضي، فيقصد تحقيق قوله بعقد اليمين، فسمي عقداً من هذا الوجه.
واعلم أنه قد تبين بما قدمناه، أن كل عهد وعقد لا يجب الوفاء به، فمطلق قوله ﴿ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾، محمول على القيد في قوله :﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا٤، وإنما عنى به العقد مع الله سبحانه فيما أمر الله تعالى عباده بالوفاء به وإلا فكل يمين على منع النفس من مباح أو واجب، فذلك مما لا يجب الوفاء به لقوله صلى الله عليه وسلم :" من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير٥ ".
نعم، اختلف أصحاب الشافعي فيما إذا نذر قربة من غير أن يستنجح بها طلبة أو يستدفع بها بلية، فمنهم من أوجب لأنها داخلة تحت قوله تعالى :﴿ وأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ ﴾، ومنهم من لم ير ذلك، لأنه ليس إلى العباد إيجاب ما لم يوجبه الله تعالى عليهم، فإن الذي وجب، إنما وجب لعلم الشرع أنه داعي إلى المستحسنات العقلية، وناهي عن المستقبحات العقلية، ولا يجوز ذلك فيما يوجبه العبد على نفسه.
والقول الآخر يقول : إن العبد إذا باشر السبب الموجب، أوجبه الله تعالى عليه، فيكون من العبد مباشرة السبب الوحيد، وكون السبب موجباً عرف بالشرع، فوجب بإيجاب الشرع، لا بغيره، وهذا بيّن.
ولعل الأظهر اندراج ذلك تحت العموم، ولا خلاف أن المباح نذره لا يوجب شيئاً، لأنه لا يتوهم كونه داعياً إلى المستحسنات العقلية، ولا أن له في الوجوب أصلاً يتوهم، كون هذا داخلاً تحته، وهذا بيّن لا غبار عليه.
ولما حلف الصديق على ما كان فعله خيراً من تركه، قيل له :﴿ وَلاَ يأتَلِ أوُلُوا الفَضْلِ مِنْكُمْ والسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولي القُرْبَى٦، فحنث الصديق عن نفسه، وكفر عن يمينه.
قوله تعالى :﴿ أُحِلّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ الآية [ ١ ] : قيل في الأنعام : إنها الإبل والبقر والغنم، وقيل يقع الأنعام على هذه الأصناف الثلاثة، وعلى الظباء وبقر الوحش، ولا يدخل فيها الحافر، لأنه أحد من يعمه الوطء، والذي يدل على تناوله للجميع، استثناؤه الصيد منها، بقوله في نسق الآية :﴿ غَيْرَ مُحِلي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، ويدل على أن الحافر ليس داخلاً في الأنعام قوله تعالى :﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ ومِنْهَا تَأْكُلُونَ٧ ثم عطف عليه قوله تعالى :﴿ وَالخَيْلَ والبِغَالَ والحَمِيرَ٨، فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام، دل على ذلك على أنها ليست منها.
وذكر ذاكرون دقيقة فقالوا : لما قال تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بالْعُقودِ ﴾، أذن ذلك بأن الإباحة مجازاة على الوفاء بالعقود، فإن الكفار محظور عليهم ذبح البهائم، فإن ذبح البهائم إنما عرفت إباحته بالسمع، والسمع إنما عرف بنبوته صلى الله عليه وسلم، فإذا تثبت ذلك، فلا يباح ذبح البهائم للكفار، وإن كانوا أهل الكتاب. وهذا بعيد، فإنه لو لم يكن مباحاً لهم، لما جاز للمسلمين تناول ذبائحهم، ويمكن أن يجاب عنه بأنه محرم أن يذبحوا، ولكن إذا ذبحوا على تسمية الكتاب حل للمسلم.
وبالجملة، هذا طريق المعتزلة، وعندنا لا يحرم قبل السمع شيء، ولا يحل أيضاً، فإن الحكم حكم الله تعالى، فلا تعلق له بما تقدم على هذا الطريق، فاعلمه.
قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾ : يحتمل أن يكون فيما قد حصل تحريمه قبل ذلك، فالباقي على الإباحة ؟ إلا ما خصه الدليل، فيكون عاماً محتجاً به. ويحتمل أن يكون المراد بقوله ﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾ : إلا ما يريد أن يحرمه، فيكون مؤذناً بورود بيان من بعد، إلا أن ذلك لا يقتضي التخصيص، ولا يتحقق فيه معنى الاستثناء، إذا لم يكن محرماً في الحال.
ويحتمل أن يريد به إلا ما قد حرم عليكم مطلقاً، وسيرد بيانه، فعلى هذا يكون القدر المخصوص منه مجملاً لجهالة المخصوص، أو يجوز أن يكون الكل قد ورد دفعة واحدة، فيذكر الكلام مطلقاً إلا ما سيرد تفصيله، ويسوق الكلام إلى غايته، ويكون ذلك كمطلق يعقبه خصوص، ويسوق الكلام إلى آخره.
نعم، قوله ﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾، لا يتناول محل الصيد، فإنه لو استثنى ذلك سقط حكم الاستثناء الثماني، وهو قوله ﴿ غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ ﴾، وصار بمثابة قوله ﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾، وهو تحريم الصيد على المحرم، وذلك تعسف في التأويل، ويوجب ذلك أيضاً أن يكون الاستثناء من إباحة الأنعام مقصوراً على الصيد، وقد علمنا أن الميتة من بهيمة الأنعام مستثنى من الإباحة، فهذا تأويل لا وجه له.
وقوله ﴿ غَيْرَ مُحِلّي الصَّيْدِ ﴾ : لا يخلو إما أن يكون مستثنى مما يليه من الاستثناء، فيصير بمنزلة قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾ إلا محلي الصيد وأنتم حرم، فلو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام، لأنه مستثنى من المحظور، إن كان قوله تعالى ﴿ إلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ ﴾ سوى الصيد مما قدمناه، ويستثنى تحريمه في الثاني، وأن يكون معناه : أوفوا غير محلي الصيد، وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
١ - هي العقود التي عقدها الله على عباده وألزمهم بها من مواجب التكليف، والعقود جميع عقد وهو العهد الموثق..
٢ - رواه البراز والطبراني في المعجم الكبير عن ابن عباس رضي الله عنهما..
٣ - رواه جماعة وعلق البخاري منه المسلمون عند شروطهم. وضعفه ابن حزم وعبد الحق، وحسنه الترمذي..
٤ - سورة النحل، آية ٩١..
٥ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام سلم في صحيحه، والترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٦ - سورة النور، آية ٢٢..
٧ - سورة النحل، آية ٥..
٨ - سورة النحل، آية ٨..
قوله تعالى :﴿ يَا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَحِلوا شَعَائرَ اللهِ ﴾ الآية [ ٢ ] : روي عن ابن عباس أنها مناسك الحج، فعلى هذا تشتمل على الصفا والمروة والبدن وغيرها. وقيل معالم الله تعالى وأحكامه : شعائره، فإن شعائره مأخوذة من الأعلام، ومنه مشاعر البدن وهي الحواس، وهي أيضاً المواضع التي أشعرت بالعلامات، ومنه قول القائل : شعرت به : أي علمته، لا يشعرون : أي لا يعلمون، ومنه الشاعر، لأنه شعر بفطنته بما لا يشعر به غيره، فالشعائر العلامات.
فقوله تعالى :﴿ لاَ تُحِلوا شَعَائِرَ اللهِ ﴾ : اشتمل على جميع معالم دين الله، وهو ما أعلمنا الله تعالى من فرائض دينه وعلاماتها أن لا تتجاوز واحدة ولا تقصر فيما دونها، وهذا أشمل التأويلات.
والهدي : ما يتقرب به من الذبائح والصدقات، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" المبكر للجمعة كالمهدي بدنة. . "، إلى أن قال - " كالمهدي بيضة ١ "، فسماها هدياً، فتسمية البيضة هدياً - لا محمل له، إلا أنه أراد بالهدي الصدقة، ولذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هدياً، فعليه أن يتصدق به.
إلا أن الإطلاق ينصرف إلى أحد الأصناف من الإبل والغنم، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه، وهذا شيء تلقى من عرف الشرع من قوله :﴿ فإنْ أُحْصرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ٢، أراد به الشاة. . وقد قال تعالى :﴿ يَحْكُمْ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيَاً بَالِغَ الكَعْبَةِ٣، وقد قال تعالى :﴿ فَمَنْ تَمَتّعَ بِالْعُمْرَةِ إلىَ الحَجَّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيَ٤، وأقله عند الفقهاء شاة، فإذا أطلق الهدي، تناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم.
فقوله تعالى :﴿ وَلاَ الهَدْيَ ﴾ أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم، وإحلاله : استباحته لغير ما سيق له من الفدية، وفيه دلالة على المنع من الانتفاع بالهدي بصرفه إلى جهة أخرى، ويدل على تحريم الأكل من الهدي نذراً كان أو واجباً، من إحصار أو جزاء صيد، ويمنع الأكل من هدي المتعة والقران، على ما هو مذهب الشافعي، وخالفه فيه أبو حنيفة.
وفيه تنبيه على أصل آخر، وهو أن الشافعي يقول : إذا كان مطلق الهدي يتناول الأصناف الثلاثة على خلاف ما يقتضيه حق الوضع، فهو لعرف الشرع وتقييده المطلق من الهدي بالأصناف، فإذا كان كذلك فلم نجد في عرف الشرع، إلا أن لفظ الهدي تكرر في الكتاب في مواضع، فاقتضى ذلك كون الهدي صريحاً في التقييد بالأصناف الثلاثة، وإن تناول من حيث اللغة ما سواه، كذلك لفظ الفراق والسراح من حيث تكررا في الكتاب والسنة، صارا صريحين في معنى الطلاق، وإن كان اللفظين محتملين لما سواه، وهذا بيّن ظاهر.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ الشّهْرَ الحَرَامَ٥ : عنى به الأشهر الحرم ثلاثة متوالية وواحدة مفرد، المفرد رجب، والمتوالية ذو القعدة وذو الحجة والمحرم،
وذلك منسوخ بجواز قتل الكفار في أي وقت كان٦.
وقوله :﴿ وَلاَ القَلاَئدَ٧ : نهى عن استباحة الهدي وصرفه إلى جهة أخرى، ونهى عن التعرض للقلائد : وهي أن المحرمين كانوا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحا شجر الحرم، وكان قد حرم إذ ذاك ما هذا وصفه، فنسخ ذلك في الآدمي، وقرر في البهائم على ما كان.
وإذا كان كذلك، فلا يجوز استباحته، ويجوز التصدق به، ولكن إذا فعل ذلك، فمجرد فعله لا نقول إنه حرم، ولكن لا بد من النية، وليس في الآية تعرض لها.
قوله ﴿ لاَ تُحِلُّوا شَعَائَر اللهِ ﴾ : نسخها قوله :﴿ فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ٨، و ﴿ إن جَاؤكَ فاحكُم بينَهُم بما أنزَلَ اللهُ٩.
وقوله :﴿ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ ﴾ : معناه أن الكفار كانوا إذا قلدوا أنفسهم قلادة من شعر منعته من الناس، وكان الكفار على هذه السنة، فأمر المسلمون أن لا يتعرضوا لهم، ولا يتعرض للكفار الذين يؤمون البيت، ثم أنزل الله تعالى بعد هذا :﴿ إنّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامهمْ هَذَا١٠، وقال :﴿ مَا كَانَ للمُشْرِكينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجدَ اللهِ شَاهِديِنَ عَلىَ أَنْفُسهمْ بالْكُفْرِ١١
قوله تعالى :﴿ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبهِّمْ١٢ الآية [ ٢ ] : وهو التجارة، ﴿ ورِضْوَاناً ﴾ : وهو الحج، وذلك يدل على أن الذي يقصد الحج لا يلزمه الإحرام إلا إذا أراد الحج، فإن الله تعالى يقول :﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً منْ رَبِّهمْ وَرِضْوَاناً ﴾، وهو قول للشافعي.
ثم قال :﴿ وَاذَا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا ﴾ : هذا إطلاق وإباحة لما كان قد حرم من قبل.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنآنُ قَوْمٍ ﴾١٣ الآية [ ٢ ] : معناه : أي لا يكسبنكم شنآن قوم، أي البغض، أن تتعدوا الحق إلى الباطل، والعدل إلى الظلم. .
قال صلى الله عليه وسلم :" أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك "،
وفيه دليل على أنه إنما يجوز مقابلة الظالم بما يجوز أن يكون عقوبة له وقد أذن فيه، فأما بالجنايات والمحظورات فلا يجوز معاقبته.
ذكروا أن سبب نزول الآية، أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كانوا بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، فمر بهم ناس من المشركين من أهل نجد يريدون العمرة، فقالوا : إنا نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فنزلت هذه الآية :﴿ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ١٤.
١ - رواه البخاري بسنده عن أبي هريرة..
٢ - سورة البقرة، آية ١٩٦..
٣ - سورة المائدة، الآية ٩٥..
٤ - سورة البقرة، آية ١٩٦..
٥ - سورة المائدة، آية ٢..
٦ - اختلف المفسرون في الآية حول النسخ، انظر كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان..
٧ - أي لا تحلوا ذوات القلائد. والقلائد مفردها قلادة وهي ما يقلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم..
٨ - سورة التوبة، آية ٥..
٩ - انظر الآيات ٤٢ و٤٨ و٤٩ من سورة المائدة..
١٠ - سورة التوبة، آية ٢٨..
١١ - سورة التوبة، آية ١٧..
١٢ - انظر تفسير الطبري حول هذه الآية..
١٣ - انظر تفسير النيسابوري، ج ٦، ص ٣٦..
١٤ - انظر ما قاله صاحب محاسن التأويل في هذه المسألة تحت عنوان "تنبيهات"..
قوله تعالى :﴿ حُرِّمَتْ عَلَيكُمُ المَيْتَةُ ﴾ الآية [ ٣ ] : بيناه من قبل، وكذلك الدم، وكذلك لحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وكل ذلك شرحناه في سورة البقرة، والمنخنقة كمثل.
والموقوذة : المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت، ومنه المقتول بالبندقية، كذلك فسّره ابن عمرو عدي بن حاتم قال : قلت يا رسول الله إني أرمي بالمعراض فأصيب فآكل. ؟ فقال :" إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله تعالى فأصاب فخرق فكل، وإن أصاب بعرضه فلا تأكل "، وعن عدي قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال :" ما أصاب بحده فخرق فكل، وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل١ "، فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة، وإن لم يكن مقدوراً على ذكاته، وذلك يدل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم. لا جرم قال الشافعي في قول : إن أخذ الكلب الصيد فقتله ضغطاً، فإنه لا يحل ما أصاب بعرض المعراض.
قوله تعالى :﴿ والمُتَرَدِّيَة ﴾ : هي الساقطة من أعلى جبل فتموت، وهذا الإشكال فيه، إن حصل ذلك بغير فعل الآدمي فهو ميتة، وما رداه الواحد منا، فلا يحل أيضاً، فإنه ليس ذكاة شرعية.
قوله تعالى :﴿ وما أكل السّبعُ ﴾ : يعني وما أكل السبع منه حتى يموت، ومعلوم أن الباقي لم يأكله السبع وهو المحرم، ولكن العرب يسمون ما قتله السبع وأكل منه : أكيلة السبع، فيسمون الباقي منه أكيلة السبع وهو فريسته.
فكل ما تقدم ذكره في الآية مما نهى عنه أريد به الموت، فالميتة أصل في التحريم وما عداها، من الموقوذة، والمتردية، وأكيلة السبع ملحقة بها، وإن لم يمت الحيوان حتف أنفه.
قوله تعالى :﴿ إلاَّ مَا ذَكّيْتُمْ ﴾.
على صورة الاستثناء، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع المذكور قبله، لأن الميتة لا يرجع إليها الاستثناء، وكذلك الدم ولحم الخنزير، وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة، وكذلك قوله :﴿ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بهِ٢، فإنه محمول على المذبوح على أسماء الأصنام، فلا يقال في مثله : إلا ما ذكيتم، فلا رجوع إلى الاستثناء إلا ما قبل المنخنقة، فبقي ما قيل المنخنقة على حكم العموم، ومن قوله المنخنقة إلى موضع الاستثناء، أمكن رد الاستثناء إليه.
فيقال : المنخنقة أو الموقوذة محرمة، إلا ما أدرك زكاته وفيه حياة مستقرة، فإنه يحل بالذكاة.
يبقى أن يقال : إنما يباح ما يباح، أو يحرم ما يحرم بعد الموت، فإذا خنق شاة ثم خلاها وفيها حياة مستقرة، ثم ذبحت بعد ذلك، فلا تسمى منخنقة، وإنما تسمى مذكاة، والمنخنقة هي التي تموت بالخنق فقط، فعلى هذا يحتمل أن يقال : إلا ما ذكيتم، استثناء منقطع بمنزلة قوله : لكن ما ذكيتم، كقوله تعالى :﴿ فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌُ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمانُها إلاَّ قومَ يونس٣.
وليس في الكلام المتقدم على الاستثناء ما يقتضي الاستثناء، فإن تقدير الكلام : فهلا كانت القرية آمنت فنفعها إيمانها : أي لينفعها إيمانها عند الله وفي الدنيا، فلا تعلن له بقوم إلا قوم يونس، فإنه ليس رفعاً لشيء مما تقدم، ومعناه : لكن قوم يونس لما آمنوا، وكذلك قوله تعالى :﴿ طَهَ مَا أَنْزَلَنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقََى، إلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يخْشَى٤، وليس قوله : إلا تذكرة لمن يخشى، رفعاً لشيء من قوله : لتشقى، ولكن معناه : لكن تذكرة لمن يخشى، ومثله قوله تعالى :﴿ إلاَّ الّذِينَ ظَلَمُوا٥ على بعض الأقوال، وكذلك قوله :﴿ لا يَخَافَ لَدَي المُرْسَلُونَ إلا مَنْ ظَلَمَ٦، ومثله :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا المَوْتَ إلا المَوْتَةَ الأُولَى٧.
ويمكن أن يقال إنه استثنى على بعض الوجوه، وتقديره : حرمنا كل ما قتلتموه، وحرمنا الميتات كلها إلا السمك والجراد، وحرمنا كل دم إلا الكبد والطحال.
فعلى هذا التقدير يستقيم الاستثناء، إلا ما زكيتم، مطلق مصروف إلى ما جعل ذكاة شرعاً، وإلا فالعرب لا تفصل في الذكاة بين الموقوذة والمنخنقة، والذكاة بالحديد.
ولا تعرف العرب من الذكاة قطع الحلقوم واللثة وحالة خاصة، فظاهر الحال أنه محال على بيان مقدم.
قوله تعالى :﴿ وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ ﴾ : إنما ذكره عقيب ما تقدم، ومعنى استقسام : طلب علم ما قسم له بالأزلام، وإلزام أنفسهم ما يأمرهم به القداح بقسم اليمين، والاستقسام بالأزلام، أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أوغير ذلك من الحاجات، أجال القداح وهي الأزلام وهي ثلاثة أضرب : منها نهاني ربي، ومنها ما نهاني ربي، ومنها غفل لا كتابة عليه، فإذا خرج الغفل أجال القداح ثانية، وهذا إنما نهى الله تعالى عنه فيما يتعلق بأمور الغيب، فإنه لا تدري نفس ما يصيبها غداً، فليس للأزلام في تعريف المغيبات أثر.
فاستنبط بعض الجاهلين من هذا الرد على الشافعي في الاقتراع بين المماليك في العتق، ولم يعلم هذا الجاهل، أن ما قاله الشافعي بناء على الأخبار الصحيحة، ليس مما يعترض عليه بالنهي عن الاستقسام بالأزلام، فإن العتق حكم شرع، فيجوز أن يجعل الشرع خروج القرعة علماً على حصول العتق قطعاً للخصومة، أو لمصلحة يراها، ولا يساوي ذلك قول القائل : إذا فعلت كذا أو قلت كذا، فذلك يدل في المستقبل على أمر من الأمور، فلا يجوز أن يجعل خروج الاقتراع علماً على شيء يتجدد في المستقبل، ويجوز أن يجعل خروج العتق علماً على العتق قطعاً فظهر افتراق البابين٨.
١ - أخرجه ابن ماجة في سننه، ج ٢، ص ١٠٧٢، رقم ٣٢١٥..
٢ - الإهلال: رفع الصوت..
٣ - سورة يونس، آية ٩٨..
٤ - سورة طه، آية ١ و٢..
٥ - سورة البقرة، آية ١٥٠..
٦ - سورة النمل، آية ١٠ و١١..
٧ - سورة الدخان، آية ٥٦..
٨ - انظر النيسابوري، ج ٦، ص ٣٧-٣٩..
قوله تعالى :﴿ يسألونك مَاذَا أُحِل لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ ﴾ الآية [ ٤ ] :
ذكروا في الطيبات قولين : أحدهما : أنها بمعنى الحلال، وذلك أن ضد الطيب وهو الخبيث، والخبيث حرام، فإذا الطيب هو الحلال، والأصل فيه الاستلذاذ، فيشبه الحلال في انتفاء المضرة منها جميعا، وقال تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ١ يعني الحلال، وقال :﴿ يُحِلُّ لَهُمُ الطَيِّبَاتِ ويُحرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ﴾٢ وهي المحرمات، وهذا فيه بعد من وجه، فإنه إن كان الطيب بمعنى الحلال، فتقديره : يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم الحلال، فيكون معناه، إعادة العبارة عما سألوا عنه من غير زيادة بيان، فيكون بمثابة من يقول : يسألونك ماذا أحل لهم، قل أحل لهم ما أحل لكم، وهو لا يليق بيان صاحب الشريعة، وكذلك في قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّها الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيِّبَاتِ ﴾ ليس المراد به الحلال فقط، وكذلك قوله :﴿ يُحِلُّ لَهُمْ الطّيِّباتِ ﴾، ومعنى الجميع ما يستطاب من المأكولات، ليس أنه التعبير عن نفس الشيء.
وأبان بذلك أنه على مناقضة اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله :﴿ فَبِظُلمٍ مِنَ الّذِينَ هَادُوا حَرَّمنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلّتْ لَهُمْ٣ : فقال مخبراً عن هذا الدين، إن هذا الدين يحل لهم الطيبات، ويتضمن التسهيل، ودفع الإصر والأغلال التي كانت على المتقدمين.
وهذا حسن بين في إبانة معنى الآية، على خلاف ما قالوه من المعنى الآخر، ولما كان كذلك قال الشافعي : أبان الله تعالى أنه أحل الطيبات، والطباع فيما يستطاب من الأشياء واستخبائها مختلفة، فوجب اعتبار حال فريق من الفرق الذين بعث الرسول إليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم بعث إلى أمم مختلفة لهمم والأخلاق والطباع، ولا يمكن اعتبار استطابة الأمم على اختلافها، فجعلت العرب الذين هم قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلاً، وجعل من عداهم تبعاً لهم، فكل ما تستطيبه العرب هو حلال، كالثعلب والضب، وما لا فلا.
فبين الشافعي علة حل لحم الضب، فإن الضب مستطاب عند العرب وإن كان لا تشتهيه نفوس العجم، فهذا تمام ما أردنا بيانه من هذا المعنى.
قوله تعالى :﴿ وَمَا عَلّمْتُمْ مِنَ الجَوَارِحِ مَكَلِّبِينَ٤ : اعلم أن في ظاهر الآية وقفة للمتأمل، فإن الله تعالى قال : يسألونك ماذا أحل لهم - ثم قال في الجواب - قل أحل لكم الطيبات وما علمتم، . . . فيقتضي أن يكون الحل المسئول عنه متناولاً للمعلم من الجوارح المكلبين، وذلك ليس مذهباً لنا ولا لأحد، فإن الذي يبيح لحم الكلب إن صح ذلك عن مالك، فلا يخصص الإباحة بالمعلم، فقل هذا في الكلام حذف وتقديره : قل أحل لكم الطيبات - ومن جملته - صيد ما علمتم من الجوارح، ويدل عليه ما روي عن عدي بن حاتم قال : لما سألت رسول الله عن صيد الكلب، لم يدر ما يقول حتى نزلت :﴿ وَمَا عَلّمتُم مِن الجَوَارحِ مُكَلّبِينَ ﴾.
وذكر بعض من صنف في أحكام القرآن٥، ما يدل على أن الآية تناولت ما علمنا من الجوارح، وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير، وذلك يوجب إباحة سائر الانتفاع، فدل على جواز بيع الكلب والجوارح والانتفاع بها بسائر وجوه المنافع، إلا ما خصه الدليل وهو الأكل، وهذا في غاية البعد عن الحق، فإن قول الله تعالى :﴿ يسألونك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ لم يتناول السؤال عن وجوه الانتفاع بالأعيان في البياعات والهبات والإجارات، فإنه لو كان كذلك، لم يكن جوابه ذكر الطيبات وما علمتم من الجوارح، ثم يقول في مساق ذلك :﴿ فَكُلُوا مّما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾، ولا يتعرض لسائر وجوه الانتفاع من البيع والهبة، يدل على ذلك أن السؤال إنما يتناول الأكل فقط، والجواب كان عن ذلك، وكيف ينتظم في الكلام أن يسأل عما ينتفع به من الأشياء، فيذكر في خلال ذلك الكلب بمعنى البيع، وصيد الكلب بمعنى الأكل، وليس جواز البيع في المعلم لكونه معلماً، فإن غير المعلم مثله من كلب الحراثة والحراسة وغيرهما ؟
وقوله :﴿ وَمَا عَلمْتُم مِنَ الجَوارِحِ ﴾ : يقتضي بمطلقة جواز تناول كل ما اصطاده الكلب المعلم لمالكه، وإن لم يجرحه، وهو قول الشافعي.
وقوله تعالى مكلبين مع قوله من الجوارح، يتناول الكلب والفهد والصقر، لأن اسم الجوارح يقع على الجميع، وروي عن علي في بعض السواد أنه قال : لا يصلح ما قتله البزاة، وذلك خلاف الإجماع، واسم الجوارح يقع على كل ما يجرح أو يجترح، أو إن عنى به الكواسب للصيد على أهلها، كالكلاب وسباع الطيور والتي تصطاده وغيرها، وأحدها جارح، وبه سميت الجارحة لأنه يكتسب بها، ومنه قوله :﴿ أَمْ حَسِبَ الّذِينَ اجْتَرَحُوا السّيِّئَاتِ٦، وذلك يدل على جواز الاصطياد لكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع، والمخلب من الطير، وقيل في الطير إنها تجرح أو تخلب، وإذا ثبت ذلك فقوله " مكلبين " أي مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، والتكليب هو التضرية، يقال كلب يكلب إذا ضرى بالناس، ولا تخصيص في ذلك للكلاب دون غيرها من الجوارح.
وإذا كانت التضرية شاملة وثبت ذلك، فقد صار كثير من الصحابة أي أن الإمساك على المالك المذكور في الآية في قوله :﴿ فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾، هو الانقياد للمالك في الإضراء والارعواء، فإذا لم تهرب منه بعد الاصطياد واحدة فلا يحرم أصلاً، وإن أكل منه.
وأبو حنيفة وأصحابه٧، شرطوا ترك الأكل في الكلب والفهد، ولم يشترطوه في الطيور. والشافعي٨ مال إلى هذا الفرق في قوله، وسوى في ترك الأكل بينهما، وهو القياس.
وإذا تبين ذلك فقوله تعالى :﴿ فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ إن كان المراد به ترك الأكل، ما كان قوله :﴿ وَمَا عَلّمْتُم مِنَ الجَوَارِحَ مُكَلّبِينَ ﴾ متناولاً للبازي، ولأجل ذلك قال علي : لا يحل صيد البازي أصلاً، فإنه لا يتحقق تعليمه على ترك الأكل.
واعلم أن الظاهر يقتضي أن يكون المراد بقوله :﴿ فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾ : أي كلوا مما اصطدن بأمركم وإرسالكم، وكان الاصطياد صادراً عن إعزائكم٩، ولذلك ذكر الجوارح مطلقاً ولم يتهيأ لعاقل أن يقول : إن ترك الأكل دليل على أن الكلب قصد الإمساك للمالك، فإنه لا وقوف على نية الكلب، ولا أن كلباً في العالم ينوي الأخذ للمالك دون نفسه، بل قصده لنفسه تحقيقاً.
وقيل : الصيد هو الذكاة، وترك الأكل شرط بعد الموت، ويبعد أن يكون ما بعد الموت شرطاً في الذبح. . نعم، إنا نشترط معرفة غاية الانقياد للمالك ومخالفة عادته القديمة، وذلك بأن لا يقدم دون إرسال الصيد، وإن أوقفه وقف، وكأن الذي شرط ترك الأكل، شرط ذلك ليبين به مخالفة عادته وطبعه. وإذا ثبت ذلك، صح من هذه الجهة، أن قوله تعالى :﴿ فَكُلُوا ممّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾، ليس أنه أراد به نية الكلب في الإمساك للمالك.
١ - سورة المؤمنون، آية ٥١..
٢ - سورة الأعراف، آية ١٥٧..
٣ - سورة النساء، آية ١٦٠..
٤ - سورة المائدة، آية ٤..
٥ - مثل القرطبي والشافعي والجصاص وابن عربي والصابوني..
٦ - سورة الجاثية، آية ٢١..
٧ - انظر الاختيار في تعليل المختار لأبي حنيفة النعمان..
٨ - انظر كتاب الأم للإمام الشافعي..
٩ - انظر تفسير سورتي البقرة والمائدة، للنيسابوري والقرطبي..
قوله تعالى :﴿ اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ الطّيِّبَاتُ١ : معنى الطيبات ما مضى.
وقوله اليوم، يجوز أن يكون اليوم الذي نزلت فيه الآية، ويجوز أن يكون المراد به اليوم الذي تقدم ذكره في قوله :﴿ اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ٢، و ﴿ اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ٣، قيل : إنه يوم عرفة٤ في حجة الوداع.
واعلم أنه ليس المقصود من ذكر اليوم ها هنا صورة اليوم، وإنما المراد به الزمان، كما يقال أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيام أبي بكر وعمر، وهو من قبيل ما يكون معنى الزمان منه أعم من اللفظ سابقاً إلى الفهم. مثله قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ٥.
ولم يرد به صورة اليوم، وإنما عنى به الزمان، حتى إنه لو فرَّ من الزحف ليلاً كان آثماً.
قوله تعالى :﴿ وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌ لَكُمْ٦ : معناه ذبائحهم٧، إذ لا يجوز أن يكون المراد به طعامهم٨، إذ لا شبهة على أحد في حلِّ سائر طعامهم، سواء كان المتولي لصنعه كتابيّاً أو مجوسِيّاً.
فإذا كان أكل ذبيحة أهل الكتاب بالاتفاق، فلا شك أنّهم لا يُسمُّون على الذبيحة، إلا على الإله الذي ليس معبوداً حقيقة، مثل العزيرُ والمسيح، ولو سَمُّوا الإله حقيقة، لم تكن تسميتهم بطريق العبادة، وإنما تكون على طريق آخر، فاشتراط التسمية لا على وجه العبادة لا يعقل.
ووجود التسمية من الكافر وعدمها بمثابة واحدة، إذا لم تتصور منه العبادة، ولأن النصارى إنما يذبحون على اسم المسيح، وقد حكم الله تعالى بحل ذبائحهم مطلقاً، وفي ذلك دليل على أن التسمية لا تشترط أصلاً، كما يقول الشافعي.
قوله تعالى :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ٩ : يدل على جواز نكاح الكتابيات، وقوله :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ ﴾١٠ يمنع نكاح النصارى، فإذا لم يكن بدّ من إعمالها صار الشافعي إلى تحريم الأمة الكتابية، أخذاً من قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ ﴾، وأباح نكاح الحرة الكتابية بقوله :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾، والجمع بينهما أولى من تعطيل أحدهما.
وقد منع مانعون من نكاح الكافرات، كتابيات كن أو مجوسيات، وحملوا قوله :﴿ والمحصَنَاتُ من الذينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ المراد به أنهن كن كتابيات ثم أسلمن، كما قال الله تعالى في آية أخرى :﴿ وإنَّ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمنْ يُؤْمِنُ باللهِ ومَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ١١، وقوله تعالى :
﴿ لَيْسُوا سَوْاءً مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللّيْلِ١٢ الآية،
والمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم١٣.
وقوله :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبلكم ﴾ فالمراد به من كان من أهل الكتاب وأسلم، وهذا بعيد، فإنه تعالى قال :﴿ والمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ١٤، وذلك يشتمل على جميع المؤمنات، فلا يجوز أن يعطف بعده المؤمنة على المؤمنة ويكون إسقاط فائدة ذكر المؤمنة.
والذي يحرم نكاح الحرة الكتابية يعتصم بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ١٥، وذلك محمول عند مخالفهم على الحربية إذا خرج زوجها مسلماً، والحربي وتخرج امرأته مسلمة، ويدل عليه قوله :﴿ واسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ ﴾١٦ الآية، وحكي عن ابن عباس١٧ أنه لم يجوِّز نكاح الكتابيات إذا كن حربيات، لقوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ ﴾١٨ الآية، وقال :﴿ لا تَجِدُ قَوْمَاً يُؤْمِنُونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ١٩. والنكاح يوجب المودة لقوله تعالى :﴿ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسكُنُوا إلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً٢٠، ويجوز أن يكون ذلك عند مخالفتهم، على معنى التشدد عليهم فيما أوجبه الدين، وإلا فيجوز شراء الأشياء وبيعها منه، وإن كانت الهبة سبب المودة.
١ - سورة المائدة، آية ٥..
٢ - سورة المائدة، آية ٣.
٣ - سورة المائدة، آية ٣..
٤ - والحديث في ذلك أخرجه البخاري في صحيحه عن قيس بن مسنم عن طارق ابن شهاب..
٥ - سورة الأنفال، آية ١٦..
٦ - سورة المائدة، آية ٥..
٧ - أي ذبائح اليهود والنصارى..
٨ - انظر تفسير القرطبي، ج ٦، ص ٧٦..
٩ - سورة المائدة، آية ٥..
١٠ - سورة البقرة، آية ٢٢١..
١١ - سورة آل عمران، آية ١٩٩..
١٢ - سورة آل عمران، آية ١١٣..
١٣ - انظر تفسير القرطبي..
١٤ - سورة المائدة، آية ٥..
١٥ - سورة الممتحنة، آية ١٠..
١٦ - سورة الممتحنة، آية ١٠..
١٧ - انظر أسد الغابة، ج ١، ص ٢٠٩ لابن الأثير الجزي..
١٨ - سورة التوبة، آية ٢٩..
١٩ - سورة المجادلة، آية ٢٢..
٢٠ - سورة الروم، آية ٢١..
قوله تعالى :﴿ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ١ الآية : واعلم أن ظاهر الآية، يعلق الوضوء بالقيام إلى الصلاة، وليس الأمر كذلك إجماعاً٢، فلا بد من ضمير معه، وذلك هو الحدث، والذي هو الحدث إذا قدرناه علة، فتكرير العلة هو الذي يقتضي تكرير الحكم، والقيام إلى الصلاة ليس شرطاً ولا علة، ولو قدر شرطاً، فالحكم لا يتكرر بتكرر الشرط، فليس في الآية ما يدل على وجوب الوضوء لكل صلاة من حيث اللفظ.
فإذا قال القائل لامرأته : إذا دخلت الدار فإنك طالق، لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول، ولكن التكرار في الطهارة عند تكرار الحدث لاعتقاد كون الحدث علة، والحكم يتكرر بتكرر العلة والسبب.
إذا ثبت هذا، فالله تعالى يقول :﴿ فاغسِلوا وُجوهَكُم٣، قال مالك بن أنس : عليه إمرار الماء على الموضع ودلكه بيده، وإلا لم يكن غاسلاً، وقال غيره : عليه إجراء الماء وليس عليه دلكه، ولا شك في أنه إذا انغمس في الماء أو غمس وجهه أو يده ولم يدلك، يقال إنه قد غسل.
واعلم أنه لا تغيير في ذلك إلا حصول الاسم، وإذا حصل كفى. . . والمعتبر أن يجرى عليه من الماء ما يزيد قدر المسح، فلو مسح المغسول لم يجز، فإن الله تعالى فرق بينهما، وليس في المسح غسل، نعم إذا غسل المسموح، جاز المأمور به وزيادة.
ثم قوله :﴿ فاغْسِلوا وجوهَكُمْ ﴾، ليس يقتضي نية العبادة، نعم قال تعالى :﴿ إذا قُمتم إلى الصلاة فاغسلوا ﴾، وظن ظانون من أصحاب الشافعي الذين يوجبون النية في الوضوء أنه لما أوجب الوضوء عند القيام إلى الصلاة، دل على أنه أوجبه لأجله، وأثبته بسببه، وأنه أوجب له قصد النية.
وهذا ليس بصحيح، فإن إيجاب الله تعالى عليه الوضوء لأجل الحدث، لا يدل على أنه يجب عليه أن ينوي ذلك، بل يجوز أن يجب لأجله، ويحصل دون قصد تعليق الطهارة بالصلاة، ونيتها لأجلها.
وقيل لهم : لما قال الله تعالى :﴿ اغْسِلوا وجوهَكُمْ ﴾، أوجب فعل الغسل، فكانت النية شرطاً في صحة الفعل، لأن الفرض من قبل الله تعالى، فينبغي أن يجب فعل ما أمره الله تعالى به.
فإذا نحن قلنا : إن النية لا تجب عليه، لم يجب عليه الفعل : أي فعل ما أمره الله تعالى، ومعلوم أَن الذي اغتسل تبرداً أو لغرض آخر، ما قصد أداء الواجب، والذي وجب عليه فعله لا يحصل دون قصده.
فإن قيل : قد يجب عليه أشياء عدة، وتحصل دون النية، مثل رد المغصوب والودائع وإزالة الأنجاس. . فيقال : كل ذلك لا يجب عليه فيه فعل، وإنما ينهى عن استدامة الغصب، ويجب عليه ترك ذلك، وها هنا يجب عليه فعل الوضوء٤. . قالوا : وقد يجب على الرجل الإنفاق على قريبه وزوجته وقضاء ديونه، ولا يحتاج إلى النية. . والجواب : أن كل ذلك معلق وجوبه على أغراض، متى حصلت تلك الأغراض لم يتحقق الوجوب، مثل النفقة تجب للكفاية، فإذا حصلت الكفاية لم تجب، أو لغرض آخر من الأغراض العاجلة، وليس أمر الطهارة كذلك، فإن وجوبها لم يكن إلا لحق التعبد، فإذا وجب الفعل لله تعالى، فما لم يفعل لله تعالى كان الأمر قائماً، وليس فعل غير القاصد أداء للأمر ولا قياماً به، فاعلمه.
وذكر الرازي في أحكام القرآن على هذا كلاماً دل به على قلة تحصيله، فقال : إنما يجب ما ذكروه في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها، ولم تجعل شرطاً لغيرها، فأما ما كان شرطاً لصحة فعل آخر فلا يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر، إلا بدلالة تقارنه، والطهارة شرط للصلاة، فإن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة، كالحائض والنفساء.
وهو الذي ذكره باطل، فإن كونه شرطاً لغيره، معناه توقف وجوبه على وجوب فعل آخر، وذلك لا يدل على عدم وجوبه، ووجوب فعله، وقصد الامتثال فيه. . نعم، وجوبه لغيره، يدل على أنه إذا نوى ما قد وجب لأجله كفاه، مثل أن ينوي الطهارة للصلاة أو لمس المصحف.
ومن علمائنا من شرط فيه نية القربة، لأنه رأى الطهارة واجبة تعبداً إلا أن وجوبها عند وجوب فعل آخر.
قالوا : الطهارة ليست واجبة تحقيقاً، وإنما الصلاة ممتنعة دونها، كما أنها ممتنعة دون الستر والاستقبال وطهارة الثوب، ولذلك نقول إنه إذا أراد قراءة القرآن وهو جنب اغتسل، وإذا أراد دخول مسجد وهو جنب اغتسل٥، ليس لأن الطهارة واجبة في هذه الحالة، وكيف تجب والذي يظهر له من الفعل غير واجب ؟ وإنما يحرم ذلك الفعل دون وجود شرط جوازه وهو الطهارة، وذلك ليس يبني عن وجوبه في نفسه. وليس يمكن أن يقال أن وجوب الصلاة، يدل على وجوب ما لا بد منه للصلاة، لأنه يقال : ليس يجب عليه الفعل في نفسه، وإنما يحرم عليه أن يصلي محدثاً، أو أن يخرج عن كونه محدثاً بإمرار الماء على الأعضاء، سواء كان في ذلك الوقت، أو توضأ قبله لمس مصحف أو قراءة قرآن وغير ذلك مما لا يجب من الأفعال، ويدل على أن الوضوء واجب من حيث الحقيقة : أنه لو هوى من موضع عال من غير قصد منه، إلا أنه على مسامته ماء طاهر طهور، ونوى الوضوء صح.
ومعلوم أن النية قصد، والقصد يستدعي مقصوداً، والمقصود ليس فعلاً له، ولا يمكن أن يقال إن حصوله في الماء فعله، فإنه لا يتعلق باختياره، فالذي لا اختيار له فيه، كيف يقدر مقصوداً له ؟ وهذا كلام عظيم الوقع عند المتأملين. . ويجاب عنه بأن الطهارة واجبة حقيقة، فإنها وإن وجبت عند وجوب غيرها، فليس من ضرورة تعلقها بغيرها، أو من ضرورة وجوب غيرها حقيقة مثل أخذ جزء من الرأس في استيعاب الوجه، فإنه لا بد منه للاستيعاب حقيقة، وأما العضو، فإنه شرط شرعاً، وإذا صار شرطاً صار شرط وجوبه بالشرع، ومتى كان وجوبه بالشرع، لم يخرج عن كونه واجباً.
وأما الذي ذكروه إنه لم يجب، ولكنه تحريم الصلاة مع الحدث، فيقال : ولا معنى للحدث إلا امتناع أفعال يتوقف وجودها على وجود شرطها، فهذا معنى الحدث لا غير.
وقوله إنه لو أراد دخول مسجد أو قراءة قرآن وجب الغسل، لا لأن قراءة القرآن واجبة، فيقال بل الأمر كما ذكرتم في أن القراءة لا تجب، ولكن للنوافل شروط يجب فعلها إذا أراد فعل النوافل، فإن من أراد مباشرة أمر، وجب عليه مباشرة شروطه، إلا أن الشروط في ذواتها غير واجبة. فأما إذا كانت الطهارة قد تقدمت، فذلك لأن الشيء الواحد يكون شرطاً في أشياء كثيرة، كما أن من الأشياء ما يكون شرطاً في شيء واحد فليس في ذلك ما ينافي الحقيقة التي قلناها.
وأما قولهم : إن الفعل لا يشترط، فاعلم أنه إن ثبت عدم الفعل الذي يتعلق به القصد من كل وجه، فلا وجه لجواز الوضوء، ولا نصر للشافعي فيه.
قالوا : فإذا غسل غيره من وجهه مع قدرته على الغسل، فأي فعل منه ها هنا ؟ قلنا : بلى، وهو أن إذنه له أن يوضيه، فعل منه يجوز أن يتعلق التكليف به والامتحان، كما قيل في الذي يقول للمسكين، خذ مالي هذا عن جهة الزكاة، فإنه يصح، فإنه حصل به الامتحان والتكليف، وكذلك ما نحن فيه، أما إذا هوى من علو وفي مستقر وقوعه ماء، فلا يتحقق منه القصد الذي يمكن أن يتعلق به امتحان أو تكليف، فظهر الفرق بينهما.
قوله تعالى :﴿ وُجُوهَكُمْ ﴾ : الوجه المعروف في المتعارف ما تواجه به٦، وذلك يدل على أنه لا يجب المضمضة والاستنشاق، لأن الوجه لا يتناوله، مع أنه ليس مما تواجه، ولو كان من الأركان الأصلية في الوضوء، ما كان لائقاً بالشرع أن يذكر الله تعالى أعضاء الوضوء الواجب غسلها ولا يذكرهما، ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً٧.
وفي ما استرسل من اللحية عن الوجه اختلاف قول : فقائل يقول : إنه من الوجه لأنه يُواجه، والقائل الآخر يقول : نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة، لا يخرجه عن أن يكون من الوجه، كما أن شعر الرأس من الرأس، وقد قال الله تعالى :﴿ وامْسَحُوا برؤوسكم ﴾، فلو مسح على شعر رأسه من غير بلاغه إلى البشرة، جاز ذلك، وكان ماسحاً على الرأس وفاعلاً لمقتضى الآية عند جميع المسلمين، وكذلك نبات الشعر على الوجه، لا يخرجه من أن يكون منه.
ومن لا يرى أنه من الوجه يفرق بينه وبين شعر الرأس، لأن شعر الرأس يولد المرء عليه، وهو بمنزلة شعر الحاجب، في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو منه، وشعر اللحية غير موجود معه في حالة الولادة، وإنما يوجد بعده، ولذلك لم يُعَدّ من الوجه.
وعلى الجملة، لفظ الرأس مطلقاً لا يظهر في شعر الرأس الأعلى الذي يظهر لفظ الوجه في شعر الوجه، والافتراق٨ إنما يرجع إلى معنى آخر، غير ما يتعلق باللفظ.
قوله تعالى :﴿ وأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ٩ : اعلم أن بعض علمائنا قال : قوله إلى المرافق، إنما لم يقتضي إخراج المرافق، ووجب إدخالها في الغسل، لأن اسم اليد يتناول جميع اليد إلى المنكب، كما أن الرجل اسم لجميع العضو إلى الأفخاذ، فقوله إلى المرافق لبيان إسقاط معنى الواجب، فيما يتناوله اسم اليد، وهذا يلزم منه وجوب التيمم إلى المنكبين، لأنه ليس فيه تحديد.
ويجاب عنه بأن الظاهر يقتضي ذلك، ولذلك تيمم عمار إلى المناكب وقال : تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب، وكان ذلك لعموم قوله تعالى :﴿ فَامْسَحُوا بِوِجُوهِكُمْ وأَيْدِيِكُمْ مِنْهُ١٠، ولم ينكره عليه أحد من أهل اللغة، وكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب، ويلزم من مساق هذا، أن من غسل يديه إلى الكوع، ثم قال غسلت يدي، أن يكون هذا اللفظ مجازاً فيه، لأنه لم يغسل اليد وإنما غسل بعضه، وكذلك إذا قال قطعت يد فلان، ألا يكون حقيقة إذا قطع من الكوع، كما لا يكون حقيقة إذا قطع الأصابع وحدها، وأن مثل ذلك بشع شنع.
ويجاب عنه، بأن اليد والرجل حقيقتهما تمام العضو إلى حيث قلنا : فالمرفق من اليد، والركبة من الرجل١١.
وهم يقولون : اليد هي التي يقع البطش بها في الأصل، وهي التي خلقت للبطش، وما عداها الآلة الباطشة تتمة لها، والرجل هي التي أعدت للمشي، وما عداها من تتمة هذا المقصود، وهذا مما يختلف القول فيه، ولا ينتهي إلى حد الوضوح، والمعتمد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به.
ومتى كانت كلمة إلى مترددة بين إبانة الغاية وبين ضم الغاية إليه، وجب الرجوع فيها إلى بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعل رسول الله بيان. فإذا أدخل المرفقين والكعبين في الغسل، ظهر أنه بيان ما أجمله كتاب الله تعالى. وهذا يرد عليه أن هذا إذا ظهر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الواجب، فأما إذا أتى بالسنة والفرض في وضوئه، فلا يظهر منه ما ذكره الأولون.
وبالجملة، القول متقاوم، والاحتياط للوضوء يقتضي الأخذ بالأتم والحدث يقين، فلا يزول إلا بيقين. .
قوله تعالى :﴿ وامْسَحُوا برؤوسِكُمْ١٢،
ظن ظانون أن الباء في قوله " برؤوسكم " وراء اقتضاءه لإلصاق الفعل بالمحل، حيث لا يحتاج فيه إلى الإلصاق لحصوله دون الباء، بخلاف قوله مررت بالجدار، فإنه لا بد فيه من الباء لتحقيق الإلصاق فإذا لم تكن الباء ها هنا للإلصاق كانت للتبعيض، وفرقوا بين قول القائل مسحت الجدار ومررت بالجدار، فإذا قا
١ - سورة المائدة، آية ٦..
٢ - انظر روائع البيان للصابوني، ج ١..
٣ - سورة المائدة، آية ٦..
٤ - انظر ابن قدامة، ج ١، ص ١١٣..
٥ - انظر ما ذكره صاحب المغني في هذه المسألة في كتابه، ج ١، ص ١٤٤-١٤٩..
٦ - انظر القرطبي، ج ٥، ص ٢٠٩، ج ٦، ص ٨٣..
٧ - سورة مريم، آية ٦٤..
٨ - وقد ورد في نسخة أخرى: والفرق..
٩ - سورة المائدة، آية ٦..
١٠ - سورة المائدة، آية ٦..
١١ - انظر ما ذكره صاحب محاسن التأويل في تفصيل هذا..
١٢ - سورة المائدة، آية ٦..
قوله تعالى :﴿ كُونُوا قَوَامِينَ ﴾ - إلى قوله - ﴿ لاَ يَجرِمَنّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا ﴾ الآية [ ٨ ] : دل صدر الآية على وجوب القيام لله تعالى بالحق، وكل ما يلزمنا القيام به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقوله تعالى :﴿ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ﴾، أي بالعدل، ويحتمل أن تكون هذه الشهادة لأمر الله تعالى أنه حق، ودل سياق الآية عليه.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ يَجْرِمَنّكُم شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا ﴾ : أبان به بأن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليهم، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتل والأسر، وأن المثلة بهم غير جائزة، وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمرنا بذلك، فليس لنا أن نقابلهم بمثله قصداً لإيصال الغم والحزن إليهم، وإليه أشار عبد الله بن رواحة في القصة المشهورة بقوله :" حبي له وبغضي لكم لا يمنعني من أن أعدل فيكم١ ".
١ - رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النعمان بن بشير..
قوله تعالى :﴿ يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ١ : تحريفهم إياه بسوء التأويل، لا أنه مكابرة لفظ صريح شائع مستفيض، كما تأولت المبتدعة كثيراً من المتشابهات، على ما تعتقده من مذاهبها، دون إعطاء التدين حقه، فأما مكاتمة ما قد علموه على اشتهار، فمكابرة ومعاندة، فلا يصح وقوعه على سبيل التواطؤ منهم، كما لا يصح التواطؤ من المسلمين على تغيير شيء من ألفاظ القرآن إلى غيره، ولو جاز ذلك لجاز اختراعهم لأخبار لا أصل لها، وفي ذلك إبطال العلم بموجب أخبار التواتر، ورفع قواعد المعجزات، وذلك محال بالضرورة.
١ - سورة المائدة، آية ١٣..
قوله تعالى :﴿ لَئنْ بَسَطتَ إليَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أنَا بِبَاسِطٍ يَدَيَّ إلَيكَ لأَقتُلَكَ١ : قد قيل : معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به، لا أنه يدفعه عن نفسه إذا قصد قتله. وقد قيل : إنه قتله غيلة، بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها. وقيل : إنه كان من مذهبهم، أن من أراد قتل غيره لم يكن للمقصود دفعة ولا قتله، بل يتركه ولا يدفعه، وذلك مما يجوز ورود التعبدية، إلا أن في شرعنا يجوز له دفعه إجماعاً.
وفي وجوب ذلك عليه خلاف، فالأصح وجوب ذلك لما فيه من النهي عن المنكر، وفي الحشوية قوم لا يجوزون للمصول عليه للدفع، وتأولوا عليه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر :" كيف بك يا أبا ذر إذا كان في المدينة قتل ؟ فقال : ألبس سلاحي، فقال : شاركت القوم إذاً، قال : فقلت : كيف أصنع ؟ فقال : إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فالق ناحية ثوبك على وجهك لئلا تبوء بإثمه وإثمك٢ "، والمراد بهذا الحديث عند المتأملين، ترك القتال في الفتنة وكف اليد عند الشبهة، فأما قتل من استحق القتل، فمعلوم أن الشرع لم يرده بذلك.
وبالجملة لو جاز الإمساك عنه حتى يقتل من أراد قتله، لوجب مثله في المحظورات كلها، فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفساق والظلمة.
والذي يخالف ذلك يقول : ذلك إذا كان الأمر بالمعروف غير مؤد إلى قتل وشهر سلاح، فأما إذا كان يؤدي إلى ذلك فلا، ويفوض المقتول أمره إلى الله عز وجل، إذا كان يعلم أنه لو كان وجه دفعه بأسهل شيء من غير أن يخشى على نفسه فلا يجوز، فأما إذا كان الأمر عل الخطّر واحتمال أن يقتلا جميعاً، فهو موضع الاحتمال وترديد القول.
١ - سورة المائدة، آية ٢٨..
٢ - رواه أحمد في مسنده عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر، ورواه مسلم. أهـ، السنن سوى النسائي..
قوله تعالى :﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ١ : فيه بيان أن كل ندم ليس بتوبة، وأن ابن آدم القاتل لم يندم على وجه القربة إلى الله تعالى وخوف عقابه، وإنما كان ندمه من حيث اتقى جانب أبويه وذويه، واستوحش منهم، ولم يهنه ما فعله في دنياه، وانتبذ بعيداً عنهم، فندم لذلك، ولو ندم على وجه التوبة لأوشك أن يقبل الله تعالى منه ذلك.
وقد قيل : يجوز ألا يقبل الله توبة من شاء، فإن قبول التوبة عند أهل السنة ليس واجباً على الله تعالى بقضية العقل، وإنما المشيئة لله تعالى في قبول توبة من شاء، فيجوز أن يقال إن قابيل ممن لم يسأل الله تعالى قبول توبته، وإن وجدت منه التوبة حقيقة.
١ - سورة المائدة، آية ٣١..
قوله تعالى :﴿ مِنْ أَجلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلى بَنِي إسْرَائِيلَ ﴾، الآية [ ٣٢ ] :
فيه إبانة عن المعنى الذي لأجله كتب على بني إسرائيل ما كتب مما ذكره الله تعالى في الآية، وتقديره، وكأنما قتل الناس جميعاً : أي إنا شرعنا القصاص، لأنا لو لم نشرعه كان فيه هلاك الناس جميعاً. وفيه دليل على إثبات القياس وتعليق الأحكام، على المعاني التي جعلت عِلَلاً لها. وفيه دليل على إهلاك الساعي في الأرض بالفساد.
وقوله :﴿ وَمَنْ أحْيَاهَا فَكَأنّمَا١ : أي نجاها من القتل بالعفو، أو زجر عن قتلها، أو مكن من الاقتصاص من القاتل. وفيه دليل على وجوب معاونة الوالي على ما جعله الله له من التسليط والبسطة في دم القاتل.
١ - سورة المائدة، آية ٣٢..
قوله تعالى :﴿ إنّما جَزَاءُ الّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ﴾ الآية١ : وذلك مجاز، إلا أنه ذكر ذلك تشبيهاً بالمحارب حقيقة، لأنه خرج في صورة المحاربة، وأريد بهذا التشبيه تعظيم الأمر كما قال :﴿ ذَلِكَ بِأَنّهُم شَاقُّوا الله وَرَسُولَهُ٢ ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يتأثر به صاحبه، وقال :﴿ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ٣ ومعنى المحادة، أن يسير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة، وذلك يستحيل على الله، إذ ليس في مكان فيشاق أن يحاد.
وتجوز المباينة عليه والمفارقة، وذلك منه عن وجه المبالغة في إظهار المخالفة، وكان يجوز أن يسمى كل عاص بهذا الاسم، ولكن لم يرد ذلك.
ويجوز أن يكون معناه يُحاربون أولياء الله ورسوله وهذا أولى، فإن الذي يحارب رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر، وقاطع الطريق ليس بكافر، وكأنه يريد بهذه الإضافة تعظيم المخالفة، وإكبار قدر المعصية، وقد ورد في التهديد ألفاظ تشاكل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اليسير من الرياء شرك "، " من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة٤ "، وقوله عليه السلام لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهما السلام :" أنا حرب لمن حاربتم، سلم لمن سالمتم٥ ".
وإنما حملنا على هذا التأويل، علمنا بأن الآية وردت في حق قطاع الطريق من المسلمين، ولذلك قال الله تعالى :﴿ إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم٦.
قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ٧ :
يدل على أن إقامة الحد لا تكون كفارة لذنوبه، وقد قال في كفارة القتل ﴿ تَوْبَةً مِنَ اللهِ٨، وذلك أن الكفارة يأتي بها المكفر على طوع ورغبة، فتقترن بها التوبة غالباً، أما الحد، فإنما يقال عليه قهراً، دون استسلامه، فليس يظهر معنى الندم فيه، فعلى هذا ليست الكفارة في عينها توبة ولا الحد، وإنما التوبة الندم، غير أن الكفارة تقترن بها التوبة غالباً، فسميت توبة بخلاف الحدود.
١ - سورة المائدة، آية ٣٣..
٢ - سورة الحشر، آية ٤..
٣ - سورة المجادلة، آية ٢٠..
٤ - أخرجه ابن ماجة، والحاكم، والبيهقي، عن معاذ..
٥ - أخرجه ابن ماجة في سننه، ج ١، ص ٥٢، رقم الحديث ١٤٥..
٦ - سورة المائدة، آية ٣٤..
٧ - سورة المائدة، آية ٣٣. انظر تفسير القرطبي..
٨ - سورة النساء، آية ٩٢.
قوله تعالى :﴿ إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم ﴾ الآية١ :
استثناء لم يأت من قبل القدرة عليهم، فيقتضي إخراجهم من جملة من وجب عليهم الحد، لأن الاستثناء حقيقة ذلك، مثل قوله تعالى :﴿ إلاّ آلَ لُوطٍ إنّا لَمُنَجُّوهُم أَجمَعِين إلاّ امْرَأَتَهُ٢، فأخرج آل لوط من المهلكين، وأخرج المرأة في الاستثناء من الاستثناء من جملة المنجين، وقال تعالى :﴿ فَسَجَدَ المَلاَئِكَةُ كُلُّهُم أَجْمَعونَ إلاّ إبْلِيسَ ﴾٣ فأخرجه من جملة الساجدين،
نعم، قد قال في السرقة :﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وأَصلَحَ فَإنَّ اللهَ يَتوبُ عَلَيْهِ٤، ولم يسقط حد السرقة، لأنه لم يقع الاستثناء من جملة من أوجب عليهم الحدود، وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم، وفي آيتي المحاربين ذكر استثناء يوجب إخراجهم من الجملة.
وقوله :﴿ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ ﴾ : يصلح أن يكون كلاماً مبتدأ مستقلاً بنفسه، من غير أن يفتقر إلى تضمين غيره، فلم نجعله مضمناً لغيره إلا بدلالة. وقوله :﴿ إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم ﴾ : مفتقر في صحة إلى ما قبله، فوجب تعليقه عليه.
ثم إذا استقل الاستثناء باقتضاء إسقاط ما اختص بقطع الطريق، لم يحتج إلى تعليقه بغيره، فلا جرم كان ما يتعلق بالمذهب، أن ما يتعلق بحق الآدمي قصاصاً كان أو غرماً، لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه.
ولما كان قوله :﴿ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسعَونَ في الأَرْضِ فَسَاداً ﴾ على ما في الصحراء أو البلد، استوى حكم قطع الطريق في البلد والمصر جميعاً، ومن فرق فإنما يفرق لا بحكم اللفظ، بل بمعنى يتوهمه فارقاً وهو غالط فيه.
ولما ثبت للشافعي أن الحكم ليس متعلقاً بمجرد الفساد في الأرض، ولا بمجرد قطع الطريق، لكن تفاوت العقوبات على حسب تفاوت الجرائم، فالردء المعاون في قطع الطريق، لا يلزمه عقوبة من باشر القتل وأخذ المال، وتقدير الكلام : يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، فليس لمن لم يفعل من ذلك شيئاً أن يدخل في جملتهم٥.
قال تعالى في حق الكفار :﴿ قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَا قَد سَلَف٦، وقال في المحاربين :﴿ إلاّ الّذينَ تَابُوا من قبلِ أن تقدِروا علَيهِم، فاعلمُوا أن اللهَ غفورٌ رحِيم٧.
والذي ذكر من أن الآية نزلت في شأن العرنيين لا يحصلون٨ ما يقولون، لأن العرنيين شملت أعينهم مع قطع أيديهم وأرجلهم، وتركوا في الحرة حتى ماتوا، ويستحيل نزول الآية بالأمر بقطع من قطع، وقتل من قتل. وقال ابن سيرين : كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود، فأخبر أنه كان قبل نزول الآية.
والذين اعترفوا باختصاص الآية بقطاع الطريق من المسلمين، اختلفوا في أشياء أخر وراء ما ذكرناه. فقال قائلون من العلماء بما رووه عن ابن عباس : يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال فقط، أو ينفوا من الأرض إن أخافوا السبيل، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، فلم يثبتوا تخييرا، وهو مذهب الشافعي.
واختلفت الروايات عن أبي حنيفة : ففي رواية أنه إذا حارب فقتل وأخذ المال، قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب. فإن هو قتل ولم يأخذ المال نفي، وهذا يقارب الأول، إلا في زيادة قطع اليد والرجل مضموماً إلى الصلب والقتل. وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال، قيل إن الإمام فيه بالخيار، إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وصلبه، وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله،
وإن شاء قتله ولم يقطع رجله ولم يصلبه، فإن أخذ مالاً ولم يقتل، قطعت يده ورجله من خلاف، وإن لم يأخذ مالاً ولم يقتل، عزر ونفي من الأرض، ونفيه حبسه. وفي رواية أخرى : أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيراً، وهو قول الحسن في رواية وسعيد بن جبير. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إن اقتصروا على القتل قتلوا، وإن اقتصروا على أخذ المال، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وإن أخذوا المال وقتلوا، فأبو حنيفة يقول : الإمام يتخير في أربع جهات : إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وقتلهم، وإن شاء قطع وصلب، وإن شاء صلب، وإن شاء قتل وترك القطع، وقال آخرون : بل يخير الإمام في هذه الأحكام بمجرد خروجهم، وهو قول ابن المسيب ومجاهد والحسن، وهو قول مالك.
فسوى مالك بين أن يقتلوا أو لا يقتلوا، أو يأخذوا المال أو لا يأخذوا، وخير الإمام إن شاء قتل، وإن شاء قطع خلافاً، وإن شاء نفي، ونفيه حبسه، فهذا ما ذكره، ووافق في أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا، لم يجز للإمام أن ينفيه، ويترك قطع يده ورجله. وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال، لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل والصلب.
ولو كان الأمر على ما قالوه في التخيير، لكان التخيير ثابتاً إذا أخذوا المال وقتلوا، أو أخذوا المال ولم يقتلوا، فكأنه يرى التخيير في إجراء حكم القاتل على غير القاتل، وإجراء حكم القطع على غير آخذ المال،
أما إسقاط حكم القطع عن آخذ المال أو القتل عن القاتل، فلا سبيل إليه أصلا. فالتخيير الثابت شرعاً، وهو أن يتخير بين أنواع، كالتخيير في حق المشركين، يتخير بين أنواع، فمنها الأخف، ومنها الأغلظ، فأما أن يقال : إن عقوبة المجرم لا تسقط عنه، ولكن غيره يلحق به، فهذا ليس من التخيير في شيء.
نعم، اعتقد مالك أن مجرم قطع الطريق كالقتل، قال : ولذلك قال الله تعالى :﴿ مَنْ قَتَلَ نَفساً بِغَيْرِ نَفْسِ أَوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النَاسَ جَمِيعاً٩، فدل أن الفساد في الأرض بمثابة قتل النفس.
والذي ذكره واعتقده فاسد، فإن ما ذكره لا يوجب إجراء حكم الساعي بالفساد، على ما ذكر مجرى الساعي بالفساد، إذا ضم إلى سعيه في الأرض بالفساد القتل وأخذ المال، وقد وجد من القاتل وآخذ المال ما لم يوجد من الذي لم يقتل. . من قطع الطريق والفساد في الأرض والزيادة فلم سوى بينهما ؟
ولو استوى حكمهما، لم يجز إسقاط القتل عنه، كما لم يجز إسقاطه عمن قتل، وإسقاط القطع عمن أخذ المال، وهذا لا جواب عنه.
فإن قيل : القاتل لا يختص، قلنا غلطتم، فإن لقطع الطريق أثراً في تغليظ جريمته، حتى لا تسقط بعفو المستحق، ويزداد بقطع الطريق قطع اليد والرجل معه، فلم يسقط. نعم إذا تابوا من قبل أن نقدر عليهم، سقط ما يتعلق بقطع الطريق، وبقي ما تعلق بحق الآدمي، ولأن المراد بقوله :﴿ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ ﴾، أي فساد يجوز القتل معه، أو قتله في حالة إظهار الفساد على وجه الدفع، وإنما الكلام في الذي صار في يد الإمام، فقوله :﴿ أَوْ فَسَادٍ في الأرْضِ ﴾، محمول على هذا، وإلا فلو كان الفساد في الأرض عديل القتل، ما جاز إسقاط القتل بالنفي، كما لا يجوز إذا قتل أن يقتصر في حقه على النفي.
﴿ إلاَّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ﴾ : ومعلوم أن الكفار لا يختلف حظهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة، كما تسقط قبل القدرة، فالمرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة، والمذكور في الآية من لم يستحق القتل.
وفي الآية نفي من لم يتب قبل القدرة، والمرتد لا ينفى، فعلمنا أن الآية حكمها جار في أهل الملة. والمرتد لا تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل، ولا يصلب أيضاً، فدل ذلك على أن ما اشتملت عليه الآية ما عنى به المرتد.
١ - سورة المائدة، آية ٣٤ – انظر الجامع لأحكام القرآن..
٢ - سورة الحجر، آية ٥٩-٦٠..
٣ - سورة الحجر، آية ٣٠-٣١..
٤ - سورة المائدة، آية ٣٩..
٥ - انظر روائع البيان، ج ١..
٦ - سورة الأنفال، آية ٣٨..
٧ - سورة المائدة، آية ٣٤..
٨ - كذا في الأصل ولعلها لايحصل..
٩ - سورة المائدة، آية ٣٢..
قوله تعالى :﴿ والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا١ : واعلم أن السرقة في العرف واللغة، اختزال شيء على سبيل الخفية ومسارقة الأعين، وقد ورد في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته "، قيل يا رسول الله كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها وسجودها، إلا أنه ليس سارقاً من حيث موضع الاشتقاق، فإنه ليس فيه مسارقة الأعين غالباً.
قوله تعالى :﴿ والسّارِقُ والسّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾ : ولم يختلف العلماء في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمنى، فهي إذاً مراد الله تعالى بقوله :﴿ فاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ﴾.
واعلم أن قوله ﴿ والسّارِقُ والسّارِقَةُ ﴾ عند قوم يتعلق به في إيجاب قطع من شمله اسم سارق، إلا من خصه الدليل وهو عموم، وعندهم في كل مقدار إلا ما خصه الدليل.
وأبى ذلك آخرون، فإنه لما قال سارق، ولم يقل سارق ماذا، والإنسان يقول : سرقت كلام فلان، وسرقت علمه وحديثه، وقال عليه الصلاة والسلام :" إن أسوأ الناس سرقة من سرق من صلاته، قالوا : يا رسول الله كيف يسرق صلاته ؟ قال : لا يتم ركوعها وسجودها٢ ".
فذكروا أن اسم السارق لا يمكن أن يعلق عليه القطع، لاعتبارنا فيه شروطاً لا يدل لفظ السارق عليها، ولزمهم على هذا أن لا يتعلق بعموم لفظ البيع والنكاح والإجارة إلى غير ذلك، لاعتبار شروط فيها لا يدل اللفظ عليها.
وقد قال غيرهم : بل يتعلق به وبأمثاله نظراً إلى عموم اللفظ، نعم سرقة الكلام والعلم لا تفهم في المتعارف من إطلاق اسم السرقة، وإنما الكلام في المتعارف، كما لا يفهم من إطلاق الزنا زنا القرد والبهائم، ولما قال عليه الصلاة والسلام أسوأ السراق حالاً من سرق من صلاته، لم يفهم الناس وهم أهل اللغة معناه، حتى فسر رسول الله معناه وما أراده، لأنه لم يكن من تعارف أهل اللغة، ولو قال :" أسوأ السراق من سرق مال فلان "، لما احتاجوا إلى المراجعة، ولما قالوا : كيف يسرق مال فلان ؟
نعم هذا الجنس إنما يمتنع التعلق به إذا كان مخصوصاً بمخصوص مجمل، فأما إذا لم يكن المخصوص مجملا، فيجوز التعلق به، والمخصوص المجمل طاريء على اللفظ العام، فلا بد من بيان مثله ها هنا حتى يمتنع التعلق به، وإلا فالتعلق به جائز، وهذا مما بسطنا القول فيه في الأصول بوجوه أخر ذكرناها هناك، فليوجد من ثم٣.
وإذا تبين أن المخصص في حكم العارض، فإذا اختلفنا في مقدار، فالذي يأخذ بالأقل ويوجب القطع فيه أسعد حالاً، لأنه يستند فيه إلى عموم اللفظ، إلا فيما يستيقن خصوصه به، وكذلك إذا حصل الخلاف في النباش أو الفواكه الرطبة، إلى غير ذلك مما يختلف فيه.
والمتفق عليه في موضع القطع مفصل الكوع، واسم اليد مطلقاً يتعارف به ذلك، قال تعالى :﴿ إذَا أَخرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا٤، وقال لموسى :﴿ أَدْخِلْ يَدَكَ في جَيبِكَ٥، ويمتنع أن يدخل بها إلى المرفق، ولو كان اسم اليد متناولاً للعضو إلى المنكب، لكان يقال : قطع بعض يد السارق، وهذا خلاف العرف، وقد شرحنا هذا من قبل، والمعتمد فيه الإجماع.
والشافعي حمل مطلق اليد في التيمم على اليد إلى المرفق كما في الوضوء، لا لأن اسم اليد يشمل ذلك من حيث اللغة، ولكن لأن التوقيف ورد بذلك، ولأن التيمم بدل في اليد، والظاهر أنه يجري على ما أجري الأصل عليه، وإن كان بين البدل والأصل خلاف في الرأس والرجل، إذا شرع في اليد يظهر على أنه شرع على نحو ما شرع له الأصل.
وهذا وإن كان لا يظهر على ما يجب، فالتوقيف أقوى معتصم.
واعلم أن آية السرقة ليس فيها تعرض لدفعات السرقة، وإنما فيه التعرض للدفعة الأولى، وقطع اليد اليسرى والرجل اليمنى على مذهب الإمام الشافعي، والرجل اليسرى في الكرة الثانية على المذاهب كلها متلقى من السنة لا من الكتاب فاعلمه، وليس في الكتاب إلا بيان الكرة الأولى.
نعم في كتاب الله تعالى بيان موجبات جرائم قطاع الطريق على اختلاف جرائمهم على ما ذكره ابن عباس، فإن تلك العقوبات المختلفة تعلقت بجرائم مختلفة في الكرة الأولى، لأن الله تعالى بين ما تعلق بالأولى، وبين ما يتعلق بالكرة الثانية بعد الفراغ من الأولى.
نعم، لم يتعرض للدفعة الثانية، لأنه يندر من السارق بعد قطع يده أن يرجع وهو ناقص إلى السرقة التي يحتاج فيها إلى ملابسة الإغرار، وسرعة الحركة، والمخاطرة بالمهجة، وشدة العدو، والذي يده ناقصة لا يتأتى منه ذلك، فأبان الله تعالى جزاء السارق، ولم يتعرض للكرة الثانية، وتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم لها.
والسارق من بيت المال لا قطع عليه في ظاهر مذهب الشافعي، وهو مذهب الجماعة، لأن له فيه نصيباً، وإليه أشار علي رضي الله عنه لما أتى برجل قد سرق مغفراً من الخمس، فلم ير عليه قطعاً، قال : لأن له فيه نصيباً، وفي وجه القطع تعلقاً بعموم الآية وبلفظ السرقة.
ويتعلق بعموم كتاب الله تعالى والإيماء إلى التعليل في إيجاب القطع على ذوي الأرحام، بسرقة أموال أقاربهم خلافاً لأبي حنيفة.
وإذا سرق فقطعت يده، ثم عاد وسرق ذلك الشيء نفسه قطعت رجله عندنا، خلافاً لأبي حنيفة، ولا يتعلق به من جهة العموم، فإن الذي دل عليه العموم قطع اليد، والواجب في الكرة الثانية قطع الرجل، لم يتعلق به من حيث التعليل، وأن الثاني إذا كان مثل الأول، وتعلق به ما تعلق بالأول، أو مثل ما تعلق بالأول، فيكون الاحتجاج بالعلة، لا بالاسم، فليعرف العارف هذه المراتب ما يصح الاحتجاج منه بالعموم، وما يحتج فيه بالمفهوم من الاسم.
واعلم أن الذي يجب على السارق من القطع، يجب جزاء على الفعل أو زجراً، فالشرع اعتنى ببيانه وإيضاح حكمه، ولم يتعرض للضمان الذي لا يرجع إلى الفعل، ولا يتعلق به، وإنما هو بدل عن المحل، كما أوجب على الزاني الجلد، ولم يتعرض للمهر، وأوجب على قاطع الطريق القتل، ولم يتعرض للدية من بعد التوبة في قوله :﴿ إلاَّ الّذِين تَابُوا مِنْ قَبلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِم ﴾، لأن ذلك حوالة على بيان آخر٦.
١ - سورة المائدة، آية ٣٨..
٢ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده وغيره، وصححه ابن خزيمة والحاكم في المستدرك..
٣ - انظر تفصيل ذلك فيما ذكره صاحب محاسن التأويل في كتابه..
٤ - سورة النور، آية ٤٠..
٥ - سورة النمل، آية ١٢..
٦ - انظر بحث آية السرقة في روائع البيان..
قوله تعالى :﴿ سمّاعُونَ لِلكّذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ الآية [ ٤٢ ] : أصل السحت الاستئصال، يقال أسحته إسحاتاً إذا استأصله وأذهبه.
قال الله تعالى :﴿ فَيُسحِتَكُم بِعَذَابٍ١ : أي يستأصلكم، ويقال أسحت ماله إذا أفسده، فسمى الحرام سحتاً لأنه لا بركه لأهله فيه، ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال، فأخذ الرشوة على الحكم غاية المحظور من الرشوة، فإنه يجب عليه إظهار الحق فيأخذ الرشوة، ومن أجله منع الشافعي الصلح على الإنكار، لأن الذي ينكر إذا جعل القول قوله، فكأنه بما يبذله من المال يبغي رفع الظلم عن نفسه، فكان كالرشوة على فعل واجب أو رفع ظلمه. ومن هذا القبيل أن يستشفع به إلى السلطان من يتقي شر السلطان، فيستشفع له على رشوة يأخذها منه. ويقرب من هذا أخذ القاضي الهدية، إذا كان لا يهدى إليه من قبل.
فالارتشاء على الحكم، هو الذي ورد فيه اللعن على الراشي والمرتشى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرشوة هي التي دعت اليهود إلى كتمان ما أنزل الله تعالى من نعوت نبينا على الأنبياء المرسلين، فإنهم آثروا حظهم من الدنيا على اتباعه، فكتموا ما أنزل الله تعالى من نعوته، بعد أن كانوا أغروا به من آبائهم وأبنائهم، وجحدوا بألسنتهم ما استيقنته أنفسهم ظلماً وعتواً، فأدّاهم شؤم الارتشاء إلى الكفر بما أنزل الله تعالى، فصاروا إلى محاربة الله ورسوله وعذاب الأبد.
قوله تعالى :﴿ فإنْ جَاؤُوكَ فاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عنهُم ﴾ الآية [ ٤٢ ] :
وقد اختلف العلماء فيه : فقال قائلون : يتخير الإمام في حقهم : إن شاء حكم بينهم، وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم. وقال قائلون : التخيير منسوخ، والقولان محكيان عن الشافعي. وقال ابن عباس : آيتان نسختا من المائدة : آية القلائد، وقوله تعالى :﴿ فاحكُم بينهُم أو أعرض عَنهم ﴾.
أما القلائد، فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا، وأي شهر كانوا، وأما الأخرى فنسخت بقوله تعالى :﴿ وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ٢.
ولا يقول ابن عباس إنه نسخ ذلك من طريق الرأي، فإن مدركه التوقيف والعلم بالتواريخ، إلا أنه يقال : يجوز أن يكون قد أخطأ وغلط في الذي ادّعاه من التوقيف، ولم يكن طريقة النسخ، وإذ قال الصحابي أو التابعي كذا منسوخ بكذا، فلا يقبل ذلك دون أن ينظر فيه.
ويجوز أن يكون معنى قوله :﴿ وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ﴾ : المنع من اتباع آرائهم فيما قد نسخ، ولا يمنع ذلك من جواز الإعراض عنهم، مثل منوب الجزية عليهم، فإنهم ما كانوا إذ ذاك داخلين في أحكام الإسلام، وإنما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة، أن لا يتعرض لهم ولا يؤاخذون بشيء من أحكام الإسلام، فتكون٣ منهم ولهم، فلما أمر الله تعالى بأخذ الجزية منهم وإجراء أحكام المسلمين عليهم، أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله تعالى، فسيكون حكماً للآيتين جميعاً تاماً.
فإذا احتمل الأمرين، فليس قوله : أو أعرض عنهم، نصاً حتى يحتاج إلى طلب نسخه، فعلى هذا ينبغي أن يقال : يجب على الإمام أن يحكم بينهم.
ويحتمل أن يقال : من حيث إنهم لا يؤاخذون بأحكام الإسلام وتفاصيل الحلال والحرام، يجوز للإمام أن لا يحكم بينهم أصلاً.
وروي عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله :﴿ فاحْكُم بَيْنَهُم أَو أَعْرِضْ عَنْهُم ﴾، إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله، فأنزل الله تعالى الآية فيهم، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سوى، وأن بني قريظة٤ والنضير ما كان لهم ذمة أصلاً، وقد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهل الذمة لا يجوز ذلك فيهم، وبنو قريظة قتلوا عن آخرهم لما نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في أصحابنا من يفصل بين المعاهدة والذمي في هذا المعنى، فالأقرب أن يقال : إن الحكم في الجميع سواء. وروي عن ابن عباس رواية أخرى.
وعن الحسن وعن مجاهد والزهدي أن الآية وهي قوله :﴿ وأن احْكُمْ بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ولاَ تَتَبِع أَهْوَاءَهُم ﴾، نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهم أيضاً لم يكونوا أهل ذمة، وإنما تحاكموا إليه طلباً للرخصة وزوال الرجم، فصار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم، وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله تعالى، ورجم اليهوديين وقال : أنا أولى من أحيا سنة أماتوها، وهذا يدل دلالة تامة على جواز رجم اليهود خلافاً لأبي حنيفة، ويدل على أن أهل الذمة محمولون في عقودهم وقضاياهم على موجب أحكام المسلمين كالمسلمين، ويدل أيضاً على أن الخمر ليست بمضمونة على متلفها، ولا أنها مال من أموالهم، لأن إيجاب الضمان على متلفها حكم على موجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك.
نعم، لا نتعرض لهم في خمورهم ولا في مناكحتهم الباطلة، وقد فتح عمر سواد العراق، وكان أهلها مجوساً، ولم يتعرض لمناكحتهم الواردة من قبل على بناتهم وأخواتهم، ولا فرّق بينهم.
وتحقيق القول فيه، أن إعراضنا عن ذلك مع علمنا بوجود المحرم لضرب من المصلحة، غير أن المصلحة منقسمة إلى مصلحة روعيت في حق مرتكبي المحرمات بمنعهم منها، وبزجرهم عنها، مثل النهي عن المنكرات في حق المسلمين، وهذا لم يشرع في حق أهل الذمة، فإذا عرفنا يقيناً أنهم في بيعهم يقولون ما يقولون، فلا يتعرض لهم لمصلحة تعود إلى أهل الإسلام من وجه، وإلى أهل الذمة من وجه آخر، فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به.
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم، حتى إذا شاهدوا من آيات الله تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم، هذا إن عللنا، وإن لم نعلل قلنا : الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه، وقد أرخص في ترك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات، فهذا تمام هذا الفن.
فإذا ثبت ذلك، فقد كان في ابتداء الإسلام مخيراً في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ثم صار ذلك منسوخاً، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه، وقبل ذلك كان الإعراض جائزاً فيما تحاكموا إليه فيه٥، وقد قال أبو حنيفة : إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة، فلا يعترض عليهم في الدوام، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصاً بالابتداء، وهو عذرهم في الشهادة، وهذا يقتضي أن ما جرى في الشرك مجري على مقتضى اعتقادهم، فإذا كان كذلك، فإذا تزوج خمساً دفعة وماتت الخامسة في الشرك يجب ألا يعترض على النكاح، لأن النكاح إنما امتنع دواماً لوجوب قطع البعض، فإذا ماتت الخامسة لم يبق مانع في الحال، غير أنكم جعلتم ما مضى مانعاً، فهلا كان هاهنا كذلك، وهذا لا جواب عنه٦.
١ - سورة طه، آية ٦١..
٢ - سورة المائدة، آية ٤٩..
٣ - أي فتكون أحكامهم..
٤ - كذا في الأصل، والأولى: وأن بني النضير فقط، لقوله ثانيا: وبنو قريظة قتلوا الخ...
٥ - انظر ما ذكره أبو جعفر الطبري من أحكام هذه الآية في تفسيره..
٦ - انظر أحكام القرآن للجصاص..
قوله تعالى :﴿ وكَيْفَ يُحَكمُونَكَ وعِندَهُم التّوْرَاةُ فِيهَا ﴾١ الآية :
معناه فيما تحاكموا إليك في حد الزانيين، وأنهم لم يتحاكموا إليك طلباً لحكم الله تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة، وما أولئك بالمؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم لنبوتك.
وقوله تعالى :﴿ وعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيها حُكْم اللهِ ﴾ : يدل على أن حكم التوراة فيما اختصوا فيه لم يكن منسوخاً، وأنه صار بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شريعة، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم الله. وقد استدل قوم على أن شرع من قبلنا يلزمنا٢، وهذا لا وجه له، فإن قوله : فيها حكم الله، ليس يدل على أن كل ما فيها حكم الله، بل قد نسخ بعضها، وإنما يدل على أن فيها حكم الله ونحن نقول بذلك الحكم، وذلك الحكم هو الرحيم الذي اختصموا فيه إليه من جهة الزاني٣.
١ - سورة المائدة، آية ٤٣..
٢ - من هؤلاء القوم الجصاص في أحكام القرآن. فانظر في الجزء ٤، ص ٩٢..
٣ - انظر أحكام القرآن للجصاص..
قوله تعالى :﴿ وكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ١ : استدل قوم به على قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، وهذا لو ثبت لهم أن شريعة من قبلنا تلزمنا وبعد فقوله تعالى :﴿ وكَتَبْنَا عَلَيهِم فِيها ﴾، ليس فيه عموم، ولم يثبت أن كلم الله تعالى في حق الواحد من شريعة من مضى حكم في حق أهل شريعتنا كما ثبت ذلك بدليل قاطع في شريعتنا.
ومن وجه ثالث، وهو أنه لم يثبت عموم شريعة التوراة لأصناف الخلق، كما ثبت أن نبينا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الخلق كلهم.
الرابع أنه تعالى قال :﴿ وكَتَبْنَا عَلَيْهِم فِيهَا أَنَّ النّفْسَ بالنّفْسِ ﴾، فكان ذلك مكتوباً على أهل التوراة، وهم أهل ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة، كما للمسلمين أهل ذمة، لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها الله على المؤمنين، ولم يحل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعثاً إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل، إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا : وما في الدنيا سوى المسلمين النفس بالنفس، وتشير إلى قوم تعيين فتقول : الحكم في هؤلاء، أن النفس بالنفس.
فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال : إنهم فيما بينهم على هذا الوجه النفس بالنفس، وليس في كتاب الله تعالى ما يدل على أن النفس بالنفس مع خلاف الملة.
قوله تعالى :﴿ والعَينَ بالعَيْنِ٢، يدل على جريان القصاص في العين وضوئها، وتعلق ابن شبرمة بعموم قوله :﴿ النّفْسَ بِالنّفْس والعَيْنَ بالعَيْنِ ﴾، على أن اليمين تفقأ باليسرى، وكذلك بالعكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقالوا تؤخذ الثنية بالضرس، والضرس بالثنية لعموم قوله : السن بالسن. والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا : العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا، وذلك بين لنا أن المراد بقوله تعالى :﴿ العَيْنَ بِالعَيْنِ ﴾، استيفاء ما يماثله مما يقابله من الجاني، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره، كما لا يجوز أن يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.
١ - سورة المائدة، آية ٤٥. انظر تفسير الطبري – ومحاسن التأويل..
٢ - سورة المائدة، آية ٤٥..
قوله تعالى :﴿ فاستَبِقُوا الخَيْراتِ١، يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا خلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في أول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى الأفضل تأخيرها، وهو أفضل من تقديمها وعموم الآية دليل عليه. وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر. وقال تعالى في هذا الموضوع كرة أخرى :﴿ وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ ﴾، وذلك يجوز أن يكون تكرار، ويجوز أن يكون وراداً في قصة أخرى تحاكموا فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ذكر في التفسير أن بني النضير وبني قريظة تحاكموا إليه في الدية، وكان بنو النضير أضعف وقريظة أشرف، وكانوا يجعلون دية القتيلين على التفاوت، لذلك قال :﴿ واحذَرْهُم أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إليْكَ٢.
أي لا يعدل على الحكم الذي أنزل الله تعالى عليه، إلى ما يهوون من الأحكام إطماعاً منهم في الدخول في الإسلام، وسياق الكلام إلى قوله :﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ ﴾٣ فيه وجهان : أحدهما : أنه خطاب لليهود، لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وأخذوهم به، وإذا توجه على أغنيائهم سامحوا، فقيل لهم :﴿ أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ ﴾.
قوله تعالى :﴿ لِكُل جَعَلْنَا مِنْكُم شِرْعَةً ومِنْهَاجاً٤ : يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين.
١ - سورة المائدة، آية ٤٨..
٢ - سورة المائدة، آية ٤٩..
٣ - سورة المائدة، آية ٥٠..
٤ - سورة المائدة، آية ٤٨..
قوله تعالى :﴿ ولاَ تَتّبِعْ أَهْواءَهُم ﴾١ : يدل على بطلان قول من قوم الخمر بناء على أهواء الكفار، ولا يدل على أن الكفار لا يحلفون في بيعهم إذا أردنا تغليظ اليمين عليهم، لأنا في ذلك لا نتبع أهواءهم، لأن إتباع أهوائهم فيما ينفعهم وهذا يضرهم، فهو ضد إتباع أهوائهم، إنما المقصود به المبالغة في انزجارهم عن اليمين الكاذبة، إحياء لحق امرىء مسلم.
١ -سورة المائدة، آية ٤٥..
قوله تعالى :﴿ لاَ تَتّخِذُوا اليَهُودَ والنّصَارَى أَوْلِيَاءَ١ : يدل على قطع الموالاة شرعاً.
وقوله :﴿ بَعْضُهُم أوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ : يدل على إثبات الشرع الموالاة بينهم، حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض٢.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَتَولّهُمْ مِنْكُم فَإنّهُ مِنْهُم٣ : يمنع من إثبات الميراث للمسلم من المرتد٤.
١ - سورة المائدة، آية ٥١..
٢ - انظر شرح هذه المسألة في أحكام القرآن للجصاصي..
٣ - سورة المائدة، آية ٥١..
٤ - انظر أحكام القرآن للجصاصي، ج ٤، ص ٩٩-١٠٠..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيهَا الّذيِنَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُم عَنْ دِينِه فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه ﴾ الآية [ ٥٤ ] : فيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن الذين ارتدوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر١ وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر الله تعالى أنه يحبهم ويحبونه، وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله تعالى.
ولم يقاتل المرتدين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى هؤلاء الأئمة، فإنه لم يأت بقوم آخرين يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية، غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر، ومثله في دلالته على صحة إمامة أبي بكر.
قوله تعالى :﴿ قُلْ لِلمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أولي بَأسٍ شَديدٍ ﴾٢ الآية : فإن قيل : يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعاهم، قلنا : قال الله تعالى لرسوله :﴿ فَقُلْ لَنْ تَخرُجُوا معِي أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعي عَدُوّاً٣.
ولا يجوز أن يكون المراد به علياً، لأن الله تعالى قال : تقاتلونهم أو يسلمون، وعلي ما حارب قوماً في أيامه على أن يسلموا، ولم يحارب أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام على أن يسلموا غير أبي بكر، فدلت الآية على صحة إمامته٤.
١ - أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو يعلى في مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنهم..
٢ - سورة الفتح، آية ١٦..
٣ - سورة التوبة، آية ٨٣..
٤ - انظر أحكام القرآن للجصاص، ج ٤، ص ١٠١..
قوله تعالى :﴿ إنّمَا وَلِيّكُم اللهُ وَرَسُولُهُ ﴾١ الآية : يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصرف بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة، ولا يبطل الصلاة.
وقوله :﴿ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ٢ : يدل أيضاً على أن صدقة التطوع تسمى زكاة، فإن علياً تصدق بخاتمة تطوعاً في الركوع، وهو نظير قوله تعالى :﴿ وَمَا آتَيْتُم مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فأوُلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُون٣، وقد انتظم النفل والفرض، فصار اسم الزكاة شاملاً للفرض والنفل، كاسم الصدقة، واسم الصلاة ينتظم الأمرين.
١ - سورة المائدة، آية ٥٥..
٢ - سورة المائدة، آية ٥٥..
٣ - سورة الروم، آية ٣٩..
قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الّذِينَ اتَخّذُوا دِينَكُم هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قبْلِكُم والكُفّارَ أَوْلِيَاءَ١ : وذلك نهي عن الاستنصار بالمشركين، هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي، وأبو حنيفة جوز الاستنصار بهم للمسلمين على المشركين، وكتاب الله تعالى يدل على خلاف ما قالوا. وقد روى عروة عن عائشة، أن رجلاً من المشركين لحق بالنبي يقاتل معه، فقال له : ارجع، أنا لا أستعين بمشرك٢، فعلل منع الاستعانة بالشرك.
١ - سورة المائدة، آية ٥٧.
٢ - رواه الترمذي بسنده عن عائشة، ورواه بنحوه مسلم والإمام أحمد..
قوله تعالى :﴿ وإذَا نَادَيْتُم إلَى الصّلاةِ١ : دليل على أن الصلاة تجب بادعائه إليها، ونحوه قوله تعالى :﴿ إذَا نُوديَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْم الجُمعَةِ٢.
١ - سورة المائدة، آية ٥٨..
٢ - سورة الجمعة، آية ٦..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ١ : يدل على أنه عليه الصلاة والسلام بلغ جميع ما أمر به، ولم يكتم من ذلك شيئاً، لأن الله تعالى ضمن له العصمة، فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئاً مما أمره الله به، وفيه دليل على بطلان قول الروافض، أنه عليه الصلاة كتم شيئاً مما أمره الله به وأوحي إليه، وكان بالناس حاجة إليه٢.
١ - سورة المائدة، آية ٦٧، انظر تفسير الألوسي، ج ٦، ص ١٨٩..
٢ - انظر شرح هذه الآية لصاحب محاسن التأويل تحت عنوان "تنبيهات"..
قوله تعالى :﴿ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُم عَلَى شَيْءٍ حَتّى تُقِيمُوا التّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُم مِنْ رَبِّكُمْ ﴾١ الآية : وهذا يدل على أن البحث عن التوراة والإنجيل، يدل على أنه يدعو إلى معرفة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن الدين الحق بيِّن عن إقامة التوراة والإنجيل.
١ - سورة المائدة، آية ٦٨..
قوله تعالى :﴿ لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ١ : فيه دلالة على جواز لعن الكافرين وإن كانوا من أولاد الأنبياء، وأن شرف النسب لا يمنع من إطلاق اللعن في حقهم.
١ - سورة المائدة، آية ٧٨..
قوله تعالى :﴿ كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ١ الآية : روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان يلقى الرجل الرجل فيقول له : يا هذا تقِ الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال :﴿ لُعِنَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائيلَ عَلى لِسَانِ داوُدَ وعِيسَى ابنِ مَرْيَمَ ﴾ - إلى قوله - ﴿ فاتقون ﴾ ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، أو ليضربن الله تعالى بقلوب بعضكم بعضاً ثم ليلعنكم كما لعنهم٢.
وفي الآية دليل على النهي عن مجالسة المجرمين، وأمر بهجرانهم، وأكد ذلك بقوله في الإنكار على اليهود.
١ - سورة المائدة، آية ٧٩..
٢ - أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث سن..
﴿ تَرَى كَثِيراً مِنهُم يَتَوَلّوْنَ الّذِينَ كَفَرُوا١ : والضمير في منهم راجع إلى اليهود، وقال آخرون هو راجع إلى أهل الكتاب على معاداة النبي عليه الصلاة والسلام ومحاربته، وأراد بالنبي موسى عليه السلام، أنهم غير مؤمنين إذا كانوا يتولون المشركين.
١ - سورة المائدة، آية ٨٠..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرمُوا طَيِّبَات مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم١ :
فيه دليل على أن العبد لا يمكنه أن يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى له بعقده وقصده. وروى ابن عباس، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي، فأنزل الله تعالى :﴿ لاَ تُحَرِّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُم ﴾. وروى قتادة أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا هموا بترك اللحم والنساء والإخصاء، فأنزل الله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرمُوا طَيِّبَات مَا حَلَّ اللهُ لَكُم ﴾.
وفيه دليل على أن ذلك منه لغو، وأبو حنيفة رأى أن ذلك صار محرماً عليه، وأنه إذا تناوله لزمته الكفارة، وهو بعيد.
وعند عامة العلماء : إذا حرم جارية على نفسه، لزمته الكفارة بمجرد التحريم عند الشافعي، من غير حاجة إلى وطئها، وليس ذلك لأنه تناول محرماً، فباين ذلك ما نحن فيه، فاعلمه٢.
ولو قدرنا تحريم الشيء عليه، فتناول المحرم لا يقتضي وجوب شيء عليه في الدنيا، مثل تناول الميتة والدم ولحم الخنزير.
قالوا : اليمين تعلقت الكفارة بها، لأنها تحرم المحلوف عليه، فوجبت الكفارة عند الحنث بتناول المحرم باليمين، ولا وجوب لها من قبل، ولكن هذا لا وجه له على تفصيل أصلهم، فإنهم قالوا : لو حرم الطعام على نفسه حنث بأكل جزء منه.
ولو قال : والله لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه، وقدروا فيه الشرط والجزاء وارتباط أحدهما بالآخر، مثل قوله : إن أكلت هذا الرغيف فعبدي حر، فلا يحنث بأكل البعض منه، وذلك يدل على الحنث ليس متعلقاً بتناول المحرم، وإنما هو باعتبار مخالفة الشرط والجزاء، وهذا لا ريب فيه.
١ - سورة المائدة، آية ٨٧..
٢ - انظر محاسن التأويل..
قوله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم وَلَكِنْ يُؤَاخذُكُم بِمَا عقّدْتُم الأَيْمَانَ١ عقيب نهيه عن تحريم ما أحله الله تعالى، قال ابن عباس : لم حرموا الطيبات من المأكل، حلفوا على ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وأبان أن الحلف لا يحرم شيئاً، وهو دليل الشافعي على أن التحريم لا يتعلق به تحريم الحلال، وأن تحريم الحلال لغو، كما أن تحليل الحرام لغو، كما لو قال استحللت شرب الخمر، فمقتضى الآية على هذا القول، أن الله تعالى جعل تحريم الحلال لغواً في أنه لا يحرم فقال :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم ﴾، أي تحريم الحلال فيما اشتملت عليه أيمانكم، ولكن لما سبق منكم من عقد اليمين، فأنتم مؤاخذون بما عقدتم من الأيمان، وتلك المؤاخذة كفارة إطعام مساكين، فهذا معنى الآية وهو صحيح٢،
فاللغو على هذا هو الذي لا يعتد به وهو تحريم الحلال.
وقال عطاء وقد سئل عن اللغو في اليمين فقال : قالت عائشة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : هو كلام الرجل في بيته كلا والله وبلى والله٣.
وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : لغو اليمين لا والله، بلى والله، موقوفاً عليها، فعلى تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الأصل، وعلى ما روى عن عائشة، معنى قوله :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم ﴾، تقديره من أيمانكم، فكأنَّ الأيْمان منقسمة إلى ما يتعلق به مؤاخذة، وإلى ما لا يتعلق به مؤاخذة في معنى الكفارة، وهذا مذهب الشافعي في الأيمان المستقبلة.
وأبو حنيفة يرى تعليق الكفارة بالأيمان المستقبلة كلها، فمعنى قوله تعالى :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم ﴾، يعني المؤاخذة في الأيمان على ما مضى، وإثبات المؤاخذة في الأيمان المستقبلة، غير أن الله تعالى قال في موضع آخر :﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللّغْوِ في أَيْمَانِكُم وَلَكِنْ يُؤَاخذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُم٤، فأثبت المؤاخذة بما كسبت قلوبنا، وجعل اللغو يقتضي أن المكتسب بالقلب هو الذي يجرد القصد إليه، والماضي العمومي لا كفارة فيه عندهم، فاليمين عندهم منقسمة إلى الماضي والمستقبل، والمؤاخذة من حيث الاسم ثابتة في الماضي والمستقبل في بعض المواقع، فعلى هذا يقولون : اللغو المذكور في هذه الصورة، أن يحلف على الماضي وهو غير المعقود عليه، ونقيضه المعقود عليه، وهو ما يعزم على فعله، وإنما يعرف عزمه بقوله : لأفعلن ولا أفعل، وفي الماضي لا يتصور عقد العزم على شيء.
واللغو المذكور في سورة البقرة، أن يحلف على الماضي ظاناً أنه كذلك، ثم يتبين غلطة، فهذا لا إثم عليه فيه، وضده أن يحلف عامداً، فهو غموس تتعلق المؤاخذة به في الآخرة، فهذا معنى هذه الآية عندهم.
وقال بعض أهل العلم : اللغو أن يحلف على معصية أن يفعلها، فينبغي له ألا يفعلها ولا كفارة فيه، وروي فيه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليتركها فإن تركها كفارتها٥.
ولا شك أن الذي رآه الشافعي أولى، فإن الله تعالى ذكر اللغو في معرض إبراز العذر له، وجعل الكفارة في المعقود، والعقد ربط القلب بشيء وتجديد القصد إليه، فإذا كان كذلك، فينبغي أن يكون من يسقط الكفارة عنه، إنما يسقط تسبب نسيه أن يكون عذراً، تسقط به المؤاخذة في الدنيا والآخرة جميعاً، وفي الغموس لا عذر لصاحبه، وإن سقطت الكفارة، فليس لأن الغموس تقتضي التخفيف وترك المؤاخذة، بل تقتضي ضد ذلك.
والذي حملهم على ذلك قوله تعالى :﴿ و احْفَظُوا أَيْمَانَكُم٦، فذكروا أن حفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل، وهذا غلط، فإنه ليس حفط اليمين الامتناع من الحنث، مع أن الحنث مأمور به في كثير من المواضع، وقد قال الله تعالى :﴿ قَدْ فَرَضَ اللهُ تَحِلّةَ أَيْمَانِكُم٧. وإنما المراد به الامتناع من اليمين، فلا يحلف ما استطاع، ويحفظ لسانه عن اليمين مطلقاً، فهذا معنى حفظ اليمين، ويدل عليه أن اليمين قد يكون على فعل الغير، ولا يتأتى منه حفظ الغير، مثل قول القائل، لا تطلع الشمس غداً، ولا تمطر السماء غداً، أو لتمطرن السماء غداً، أو ليدخلن السلطان، إلى غير ذلك مما يعقد اليمين عليه، فعلم بطلان هذا القول.
ولا شك أن الحق متميز في مسند الشافعي رحمه الله تعالى في هذه المسألة عند من تأمل فحوى الكلام الدال على نصب اللغو سبباً للتخفيف ونفي المؤاخذة، تارة مطلقاً في الدارين، وتارة في حكم الكفارة، ولا ينبغي أن يحمل على محمل يقال إنه لا كفارة فيه مع تناهي الجريمة والوزر، وتناهي المؤاخذة عند الله تعالى، واقتضاء التسبب نهاية التغليظ، فكيف يجوز إطلاق نفي المؤاخذة بلفظ اللغو المشير إلى التخفيف في الموضع الذي يقول الله تعالى :﴿ إنَّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِم ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ في الآخِرَةِ ولاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ولاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ٨، أترون هذا من الذي يحسن أن يسمى باسم اللغو، الذي يقال فيه لا مؤاخذة في مثله.
وقوله عقدتم، قرىء بالتشديد، ومعناه عقد القول، وعقدتم بالتخفيف يحتمل العزيمة والقصد إلى اللفظ، وعقد اليمين قولاً، وإنما العزم فيما يؤكده الإنسان بقصده وعقده، فيظهر للناس منه تأكيد القول وإظهار تحقيقه.
هذا هو معناه، ولا يتحقق ذلك في قوله لا والله وبلى والله في حق من يكون عازماً عليه، وإنما يجرى في تضاعيف الكلام من غير ثبت وتحقيق٩.
وذكر إسماعيل بن إسحاق المالكي في كتابه المترجم بأحكام القرآن، في الرد على الشافعي، ما أذكره وأسوق كلامه وأبين جهده بكلام الشافعي، قال إسماعيل١٠ : حكي عن الشافعي أن من حلف عامداً للكذب فقال : والله لقد كان كذا، وما كان، أو قال : والله ما كان، وقد كان، كفّر وقد أثم وأساء، حيث عقد الحلف بالله باطلاً.
فإن قال قائل : ما الحجة في أن يكفر وقد عقد الباطل ؟ قيل : أقربهما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه١١ "، فقد أمره الله أن يعمد الحنث، يقول الله تعالى :﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الفَضْلِ مِنْكُم ﴾١٢ الآية، نزلت في رجل حلف لا ينفع أخاه، فأمره الله تعالى أن ينفعه، وقوله تعالى :﴿ وإنّهُم لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ القَوْلِ وَزُوراً١٣، ثم جعل فيه الكفارة.
ومن حلف وهو يرى أنه صادق، ثم وجده كاذباً فعليه الكفارة، قال إسماعيل : فشبهه الشافعي بما لا يشبهه، لأن الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالذي هو خير وأن يكفر، إنما أمره أن يستأنف بعد اليمين شيئاً كان حلف عليه ألا يفعله، ولم يكن الرجل كاذباً حين حلف، فجعلت كفارة يمينه إذا فعل ما حلف عليه ألا يفعله، ما ذكر في القرآن، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبر عن شيء مضى، كاذب فيه، حالف عليه، فكيف يشبه هذا بهذا ؟ ثم أردف هذا : بما لا ينطلق لسان محصل بذكره : بأن الذي استشهد به أمر فيه بأن يتعمد الحنث، فلنؤمر في الماضي بمثله، وهذا جهل مفرط منه، وإنما أوتي من قبل نظره إلى صورة الكلام، من غير أن عرف مقداره، وليس يبين في أكثر حجاج الشافعي مقاطع الحجاج على ما يعهده١٤ الجدليون، وإنما يرمز إلى المقصود رمزاً غير بانٍ كلامه على أفهام ضعفة العقول ومنقوصي الأذهان.
ونحن نذكر تقرير قول الشافعي، أنه رحمه الله أشار بقوله إلى أن الكفارة في المستقبل ما وجبت إلا باعتبار الخيانة، فإن الكفارة لا تكون جزاء على فعل مباح أو فعل واجب، وإنما هي جزاء على أمر مكروه منهي عنه.
فإذا ثبت ذلك، فمن حلف على ترك فعل مباح أو واجب في المستقبل، ثم فعل، فلا يمكن أن يقال إن الكفارة لأجل ذلك الفعل المباح، الذي ندبه الشرع إلى فعله، وإنما تجب الكفارة لأجل ما اتصفت به اليمين من صفة الحنث، فيقال صارت اليمين كاذبة، بدل ما يقال إن اليمين صادقة، فإذا كانت الكفارة لأجل صفة الحنث لا لأجل الفعل المباح، فوصف الحنث جناية على اليمين، وذلك في الماضي والمستقبل واحد.
فقال إسماعيل في الذي شبه الشافعي به أمره، أن يستأنف بعد اليمين شيئاً كان حلف فيه أن لا يفعله، والذي حلف على كذب بعد علمه، مخبرٌ عن شيء قد مضى كاذب فيه، فلم يفهم المقصود، فجعل الفرق بينها الماضي والمستقبل، وقال يجب أن يؤمر بالحنث فيما مضى، كما أمر به في المستقبل، وهذا كلام من لا يحل له أن يتصدر للتصنيف في الدين، فضلاً عن أن يرد على الشافعي.
ثم قال : جعل الله الكفارة عن اليمين، فمن كفر فلا إثم عليه، فينبغي أن يكون هذا في قول الشافعي لا إثم عليه، فظن أن الكفارة هي التي ترفع الإثم، وقد بينا في مواضع أن التوبة هي الرافعة، وأن الكفارة تجب في قتل العمد والزنا في رمضان والقتل بالمثقل، وإن لم يرفع الوزر قبل التوبة بمجرد الكفارة، فاعلمه، وإنما الكفارة لأجل جبر صفة الحنث الحاصلة في الأيمان، والشافعي رحمه الله تعالى لما رأى الكفارة متعلقة بصفة الحنث الراجعة إلى اليمين، لا جرم رأى الكفارة متعلقة باليمين، ورآها سبباً فيها فقال : تقديم الكفارة على الحنث جائز، لأن اليمين سبب، فلذلك قال :﴿ فَكَفّارتُهُ ﴾ وقال :﴿ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيمَانِكُم١٥. . ﴾، وقوله :﴿ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم ﴾، معناه وذلك نتيجة أيمانكم، ومعقول أيمانكم، والمتعلق بها. . ولا فرق بين أن يقول :﴿ ذَلِكَ كَفّارَةُ أيْمَانِكُم ﴾ وبين أن يقول :" ذلك حكم أيمانكم " إذا كانت الكفارة حكماً ولا حكم سواها.
قوله :﴿ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم١٦ : معناه ذلك حكم أيمانكم، ولو قال ذلك حكم أيمانكم، عرف منه أن اليمين سبب، وكذلك إذا قال :" ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ".
وأبو حنيفة يقول : قوله ﴿ ذَلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُم ﴾ : فيه إضمار الحنث ومعناه : ذلك كفارة أيمانكم إذا حنثتم، وهذا غلط منه، فإذا حنث عندهم فليست الكفارة كفارة اليمين، وإنما الكفارة كفارة الحنث في تناول المحرم، فلا تضاف الكفارة إلى اليمين عندهم أصلاً، سواء حنث أو لم يحنث.
والذي يقال فيه من الإضمار صحيح، فإنه قال :﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُم مَريضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ١٧. ومعناه فافطروا فإنه إذا أفطر فعدة من أيام أخر، وهاهنا لو جرى الإضمار صح، فلا يستقيم ما ذكروه، فأما بعد الحنث، فلا تكون الكفارة كفارة اليمين على موجب أصلهم، وإنما يجوز أن يضاف الحكم إلى سببه، أو إلى سبب سببه، مثل القتل مضاف إلى الشرك عندنا، وعندهم هو مضاف لفظاً، وإن كان متعلقاً بالحرب، لأن الشرك يدعو إليه ويبعث عليه، فكان الشرك مولداً للحرب ومقتضياً له، فحسن إ
١ - سورة المائدة، آية ٨٩..
٢ - انظر تفسير القاسمي..
٣ - أخرجه حميد بن مسعدة الشامي، وأبو داود في مسنده، ورواه الزهري وابن جريح ومحمد بن حميد وعبد الرزاق..
٤ - سورة البقرة، آية ٢٢٥..
٥ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، والترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه..
٦ - سورة المائدة، آية ٨٩..
٧ - سورة التحريم، آية ٢..
٨ - سورة آل عمران، آية ٧٧..
٩ - انظر تفسير الطبري، ج ٧، ص ١٣..
١٠ - انظر الديباج المذهب، ص ٩٤-٩٥..
١١ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والإمام مسلم في صحيحه، والترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال عنه السيوطي حديث صحيح..
١٢ - سورة النور، آية ٢٢..
١٣ - سورة المجادلة، آية ٢..
١٤ - في نسخة: يعقده..
١٥ - سورة المائدة، آية ٨٩..
١٦ - انظر تفسير القرطبي..
١٧ - سورة البقرة، آية ١٨٤..
قوله تعالى :﴿ إنّمَا الخَمرُ والمَيْسِر ﴾١ الآية : فالخمر عند كافة العلماء محرمة، غير أن في الناس من يشك في بعض الأحيان، وأنها خمر أم لا.
ولا شك أن موضع الاشتقاق وهو التخمير أو المخامرة، يقتضي كون الأشربة المسكرة خمراً، غير أنا لا نثبت اللغات بهذا الجنس من القياس، ورويت أخبار تدل على أن اسم الخمر لازمة لهذه الأشربة التي اختلف العلماء في تحريمها، والمشكل إشكال الاسم على أهل اللغة وأن ذلك لو سمي خمراً لم يشكل. كيف وعامة أشربة المدينة من التجمل، لأن العنب لا يوجد بالمدينة، وكيف صار ذلك مشكلاً ؟ وكيف يصور الاختلاف فيه ؟
فلعل اشتهار غير العيني بأسامي أخر، لتمييز نوع من نوع، أورث هذا الإشكال، ولم يكن للعنبي اسم آخر وغير العنبي، فمنه ما يسمى الفضيخ،
ومنه ما يسمى المزر، ومنه ما يسمى البتع، ومنه ما يسمى نبيذاً، فصار هذا الإسم مشهوراً في التعارف.
وظن ظانون أن الاشتهار في بعض الأشربة يمنع من إطلاق اسم الخمر عليه، ورأى آخرون أن اسم الخمر عام، ثم اختص كل شراب باسم، كالفاكهة اسم عام، ثم يسمى كل واحد باسم خاص، وهم يجيبون عن ذلك ويقولون : الفاكهة لم توضع مشهورة ببعضها دون بعض، ولكل واحد منها اسم خاص، فأما العنب فليس له اسم مشهور مذكور سوى الخمر، ولكل واحد مما سواه يدعى به، فانصرف المطلق إلى ما اشتهر به، وكان موضوعاً لذلك، وهذا في غاية الوضوح.
ويجاب عن هذا أن مزية الاشتهار لكونه مقصوداً للشرب غالباً وغيره، إنما يشرب عند اعواز العنب، والأصل الاعتماد على الآبار، مثل قول ابن عباس : نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ، فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر.
وروى حميد الطويل عن أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة، وأبي بن كعب، وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة، فمر بنا رجل فقال : إن الخمر قد حرمت، فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا : أهرق ما في إنائك يا أنس، ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله، وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ، فاخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر، وعند من يخالفنا شيء من ذلك ليس بمحرم قبل السكر، ولا هو مسمى بالخمر.
وروى ثابت عن أنس، قال : حرمت علينا الخمر يوم حرمت، ولا نجد خمور العنب إلا القليل، وعامة خمورنا البسر والتمر. وعندهم أنها ليست كالخمر لا في الحكم ولا في الاسم.
وعن أنس بن مالك، أنه قال : حرمت الخمر وهي من التمر والعنب والعسل والحنطة والشعير والذرة، وما خمر من ذلك فهو خمر.
ذكر في الحديث الآية أنه من التمر والبسر، وذكر في هذا الحديث أنه من ستة أشياء. وعندهم أن لا خمر منها، وروى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن من الحنطة خمراً، وإن من الشعير خمراً، وإن من الزبيب خمراً، وإن من التمر خمراً، وإن من العسل خمراً٢، وورد في بعض الأخبار رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الخمر من هاتين الشجرتين "، يعني النخلة والعنب، ومراده غالب ما يشرب من الخمر، وإلا فعندهم المثلث ليس من الخمر، وهو من العنب، ونبيذ التمر ليس بخمر، وتواترت الأخبار أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، قال إسماعيل بن إسحاق : الدليل على أن كل شيء أسكر فهو خمر قوله تعالى :﴿ وَمِنْ ثَمَراتِ النّخِيلِ والأَعنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْه سَكَراً ورِزْقاً حَسَناً٣، فكان السكر من العنب، مثل السكر من النخل، ثم نسخ ذلك، فإن سورة النحل مكية، إلا آيات في آخرها.
وقال تعالى :﴿ يَسأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبيِرٌ٤ :
فذمهما ولم يحرمهما على تأويل قوم، وحرم بعد ذلك السكر عند إرادة الصلاة، فاستوى في ذلك السكر من ثمرات النخيل والأعناب، ثم قال بعد ذلك :﴿ إنّمَا الخَمرُ والمَيْسِرُ ﴾، فجاء التحريم في هذه الآية، قال : وجاء في الأخبار أنه كان للخمر أحوال ثلاثة، ووصفت الأحوال الثلاثة بهذه الآيات.
فلما كان السكر من ثمرات النخيل والأعناب موجباً نهياً عن الصلاة، وكانت إحدى حالات الخمر كذلك، كانت الخمر من ثمرات النخيل والأعناب محرمة بهذه الآية، وكانت هي الحالة الثالثة من حالات الخمر.
وهذا الذي ذكره ليس فيه كثير دلالة، وإنما غايةُ ما فيه أن السكر من الجميع سواء فليكن القليل من الجميع سواء، فيقال له لأن المعنى في تحريم السكر ظاهر، ولا معنى في تحريم القليل، وإنما هو تعبد، والتعبد مختص بما يسمى خمراً.
١ - سورة المائدة، آية ٩٠..
٢ - الحديث أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير، عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما..
٣ - سورة النحل، آية ٦٧..
٤ - سورة البقرة، آية ٢١٩..
﴿ إنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوةَ والبَغْضَاءَ١ : فهذا إشارة إلى سبب التحريم، وأنه كان إرادة قطع الشيطان، إنما يريد حالة ابتداء الشرب والاحتواء على قدح الخمر، ولا يريد ذلك حالة وقوع السكر، فبالسكر تقع العداوة والبغضاء، وبه وصل الشيطان إلى مراده، لا بالسكر بل قبل السكر.
فإن قلت : إن الشيطان يريد أن يشرب ليدعوه الشرب إلى السكر، فليس في ذلك دليل على أن ذلك يجب أن يكون محرماً، مع أن الذي به تقع العداوة غير نفس الشرب، وحرم الميسر أيضاً لأن الرجل منهم كان يقامر في ماله وأهله فيقمر، فيبقى حزيناً سليباً، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء، مثل ما يوجب ذلك السكر من الخمر من العربدة والعداوة، وهذا موجود فيما يوجب السكر منه.
فأما القليل من الخمر، فليست هذه العلّة موجودة فيه، فهو محرم لعينه عند أبي حنيفة، ومحرم عند الشافعي، لأن قليلها يدعو إلى الكثير، وهذا المعنى وما يرد عليه من الاعتراض شرحناه في مسائل الفقه وأصول الفقه٢.
١ - سورة المائدة، آية ٩١..
٢ - انظر الجامع لأحكام القرآن، في شرح آية الخمر هذه..
قوله تعالى :﴿ لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا ﴾ الآية :[ ٩٣ ] : قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك : لما حرمت الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر فقالوا :
كيف من مات منا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية١. وروي عن علي رضي الله عنه، أن قوماً شربوا بالشام وقالوا : هي لنا حلال، وأولوا هذه الآية، فأجمع عمرو على أنهم يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا.
١ - أخرجه الطبري في تفسيره، ج ١٠، ص ٥٧٨، والقرطبي ج ٦، ص ٢٩٣، والسيوطي في الدر المنثور ج ٣، ص ٢٢١، والنسائي في سننه ج ٨، ص ٢٨٧، والبخاري في صحيحه، والإمام أحمد في مسنده..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلَوَنّكُمُ اللهُ بِشَيءٍ مِنَ الصَّيدِ ﴾ الآية[ ٩٤ ] :
اختلف في موضع من هاهنا، فقال قائلون : إنها للتبعيض، أن يكون صيد البر دون صيد البحر، وصيد الإحرام دون صيد الإحلال. وقيل إنها للتمييز، مثل قوله تعالى :﴿ فاجْتَنِبُوا الرِّجسَ مِنَ الأَوْثَانِ١، وقولك باب من حديد، وثوب من قطن.
١ - سورة الحج، آية ٣٠..
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ١ : استدل به قوم على أن العاق لا جزاء عليه، وهو بعيد جداً عن أصول الشرع. نعم معنى ذلك ﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ﴾، بعد قوله عفا الله عما سلف، يعني قبل التحريم.
قوله تعالى :﴿ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ٢ : احتج به الرازي لأبي حنيفة في أن المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه، جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل، يتصدق به، لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره، فلو أكل منه وأخذ مثله، فلا يكون ذائقاً وبال أمره، وهذا قول بعيد، فإن الصيد عنده ميتة، فإذا أكل الميتة، فمن أين يكون قد وصل إليه مال مثل ما خرج عن ملكه.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُم مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ ﴾ : استدل به الرازي على أن على كل واحد من الجماعة جزاء كامل، فإنه تعالى قال :﴿ وَمَنْ قَتَلَهُ ﴾، وكل واحد يسمى قاتلاً، ومثله قوله ﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ٣، فاقتضى ذلك إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين، وهذا بعيد، فإن كل واحد منهم ليس قائلاً حقيقة بل هم قتلة، وهم كشخص واحد، وهذا بيناه في مسائل الفقه.
وقد قال تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ ودِيّةٌ مَسْلّمَةٌ إلى أَهْلِهِ ﴾، وليس على كل واحد من المشركين دية كاملة، فاعلمه.
قوله تعالى :﴿ لاَ تَقتُلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ ﴾ الآية :[ ٩٥ ] : يحتمل أنه أراد به وأنتم محرمون بحج أو عمرة، ويحتمل دخول الحرم، يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم، كما يقال أبحر إذا أتى بحراً، وأعرق إذا أتى العراق، واتهم إذا أتى تهامة، والثالث الدخول في الشهر الحرام، كما قال الشاعر : قتل الخليفة محرماً.
والوجه الثالث على خلاف الإجماع، فلا يكون مراداً بالآية، فبقي الوجهان الأولان.
إذا تبين ذلك فقد قال تعالى :﴿ لاَ تَقْتلُوا الصَّيْدَ وأَنْتُم حُرُمٌ ﴾ : فدل مطلق الصيد على تحريم اصطياد كل ما يصطاد من بري أو بحري، لولا ما استثناه من البحري.
ولما قال لا تقتلوا، أمكن أن يكون تنبيهاً على أن ذبيحة المحرم ميتة، لأن الله تعالى سماها قتلاً، والمقتول لا يؤكل، وإنما المأكول هو الذي يذبح.
ويحتمل أن يقال : إن القتل والذبح في عرف اللغة واحد، فهذا إن كان فرقاً، فهو فرق مأخوذ من عرف الشرع، وليس يظهر من عرف الشرع هذا، فإن الله تعالى يقول :﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ﴾ وكان كذلك محرماً، ويقال ذبيحة المجوسي وذبيحة الوثني.
نعم الذي يقطع منه الحلق واللبة، يُسمى في العرف والعادة مذبوحاً سواء كان مباحاً أو محرماً، والذي يرمى من بعيد ولا يذبح من المذبح المعتاد، يسمى مقتولاً، ويسمى ذلك الفعل قتلاً، قال الله تعالى :﴿ والمُنْخَنِقَةُ والمَوقُوذَةُ والمتَرَدِيّةُ والنّطِيحَةُ ومَا أَكَلَ السّبُعُ إلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ٤، وكل ذلك محرم.
ومنه ما سمي مذبوحاً، ومنه ما سماه موقوذاً، فلا يتعلق بمجرد هذا الاسم، فلأجل ذلك اختلف قول الشافعي، وأبو حنيفة جعل ذلك أصلاً، فقال إذا قال : لله تعالى عليَّ أن أذبح ولدي، لزمه ذبح شاة، وإذا قال : لله عليَّ أن أقتل، لا يلزمه شيء.
وإذا ثبت هذا، فأبو حنيفة يرى اتباع عموم تحريم الصيد، فأوجب الجزاء بقتل النمر والفهد والسباع المؤذية العادية لطباعها، إذا قتلها المحرم من غير صيال منها.
وذكر القعنبي عن مالك : ورد في الخبر : والكلب العقور - والكلب العقور هو الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم بجبلته، مثل الأسد والنمر والذئب، والكلب العقور، وما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والهرة والثعلب، فلا يقتلهن المحرم، فإن قتل شيئاً من ذلك فداه.
واتفق العلماء على موجب ما ورد في الخبر، وروى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد الخدري وعائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام قال :
" خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم : الحية والعقرب والغراب والفارة والكلب العقور على اختلاف منهم، وفي بعضها هن فواسق " ٥ وروي عن أبي هريرة قال : الكلب العقور : الأسد٦، ويشهد لتأويل أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا على عتبة ابن أبي لهب، فقال : أكلك كلب الله فأكله الأسد٧.
وقيل إن الكلب العقور هو الذئب، ودل لهم ذكر العقور على أن العقر بصورته وقصده وغير معتبر، ولكنه إذا كان موصوفاً به كفى، فيدل ذلك من طريق التنبيه ضرورة على أن الصيد إذا صال على المحرم وقتله دفعاً عن نفسه فلا ضمان.
واستدل الشافعي به على أن لا ضمان في كل سبع عادي بطبعه، فإن ذكر العقور يدل على أن ما في طبعه من الضراوة قائماً مقام ما يظهر منه لكل سبع عادي، يجب أن يكون ما في طبعه من الضراوة قائماً مقام ما يظهر منه، فهذا صحيح على ما هو قول مالك، ويظهر الكلام فيه على أبي حنيفة، وذكر الرازي فصولاً في منع التعليل، كرهنا ذكرها لسقاطتها ولكونها أقل مما يحتاج إلى ذكرها وتكلف الجواب عنها، فاعلمه. . إلا أن الإشكال في السباع التي لا تعدو ولا تضرى.
واعلم أن ما لا يعدو منها، فأكثرها مأكول اللحم عند الشافعي، كالضبع والثعلب، يبقى ذلك ما لا يسمى صيداً مثل الهرة الأهلية، وهي غير داخلة في عموم الآية.
وبعد، فإنه تعالى لما قال :﴿ أحِلَّ لَكُم صَيدُ البَحْرِ ﴾ وقابله بصيد البر فقال :﴿ وَحُرّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ٨، علم أنه إنما حرم للأكل، فانصرف إلى ما يؤكل بحال، ثم قال : ما دمتم حرماً، فمد التحريم إلى غاية، والذي هو محرم لعينه، لا يقال فيه حرم عليكم ما دمتم حرماً، ويجعل في مقابلته صيد البر، فهذا هو الذي يستدل به الشافعي في تخصيص الآية في مأكول اللحم.
قوله تعالى :﴿ وَمَنْ قَتَلُه مِنكُم مُتَعَمِّداً٩ : اختلف الناس في ذلك، فمنهم من سوى بين العمد والخطأ وهم جمهور العلماء، ومنهم من خص ذلك بالعمد على ما ذكره الله في كتابه، وهو قول طاووس وعطاء وسالم وداود، والذين مالوا إلى موجب الجمهور، وذكروا أن فائدة ذكر المتعمد يظهر في نسق التلاوة في قوله تعالى :﴿ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ﴾، وذلك يختص بالعمد دون الخطأ، لأن المخطىء لا يجوز أن يلحقه الوعيد، فخصص العمد بالذكر، وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه، وإذا صح مجمل التخصيص ساغ قياس الخطأ على العمد، والجامع بينهما أن بدل المتلف هو الجزاء، وهو مقدر بمثل الفائت، إما بقيمته من الدراهم أو الدنانير أو النعم، وأبدال المتلفات، يستوي العمد والخطأ كالديات وقيم المتلفات، وغاية ما في النسيان أن يقدر عذراً، والعذر لا يسقط الجزاء المتعلق بالجنابة، الدليل عليه الحلق للأذى، إلا أن هذا لا يستقيم على أصل الشافعي، فإنه فرق في اللبس بين العمد والنسيان، وكذلك في التطيب، ولأن الصوم يبعد جعله بدلاً من العين، وقد أوجب الله تعالى الصيام فقال :﴿ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾، إلا أن الشافعي يجوز إيجاب الصوم حقاً لله تعالى بطريق البدل، وقد عرف ذلك من أصله في وجوب الكفارة بقتل الآدمي.
وبالجملة، وجوب الجزاء على الناس بقتل الصيد مسلك على أصل أبي حنيفة، فإنه لا يرى إثبات الكفارات بالقياس، والذي نحن فيه سبيله، سبيل الكفارات عنده، حتى إذا اشترك المحرمون عنده في قتل صيد، فعلى كل واحد منهم جزاء كامل، بخلاف صيد الحرم، فإنه وجب بالجناية على الإحرام، وجناية كل واحد منهم كاملة، وذلك يخرج الجزاء عن كونه بدلاً، ومتى ثبت أنه جزاء على الفعل، كيف يجب على الخاطىء ؟ سيما والكفارات عنده لا تثبت قياساً، ولما ورد النص في الكفارة بقتل الآدميين في الخطأ لم يجوز١٠ قياس قتل العمد عليه، سواء وجب القصاص في العمد أو لم يجب، مثل قتل الأب ابنه، والسيد عبده، فكيف أجازوا قياس الخاطىء على العامد هاهنا، وقد قال تعالى :﴿ لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾، ولا يمكن ذلك في حالة النسيان، وتكلف الرازي فروقاً بينهما، فقال : في العمد تولى الله بيان حكمه، وفي الخطأ تولى الله بيان حكمه، فلم يجز قياس منصوص على منصوص.
وهذا جهل مفرط، فإن الله تعالى بين حكم العمد فيما يتعلق بالآخرة، وسكت عن ذكر الكفارة، فإن كان السكوت عن ذكر الكفارة دليل على نفي المسكوت عنه، فهلا كان ذكر العمد دليلاً على نفي الحكم في المسكوت عنه وهو الخطأ، بل أولى، فإن قوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَقْتُل مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جُهُنّمُ١١، أبان اختصاص الجزاء بالعمد، وإن ذلك المذكور لا يتعلق بالخطأ، فإن قال ومن قتله منكم متعمداً، وجب أن يختص حكم الجزاء بالعمد ولا يشركه الخطأ، فاعلم، وذكر فرقاً آخر فقال : إن العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة، ومتى أخلينا١٢ قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء أهدرنا، وذلك بعيد، وإبطال لحرمة الصيد.
فيقال : إن القصاص الواجب للآدمي، لا يسد مسد الكفارة، وقد يجب القصاص، ولا كفارة مثل قتل الأب ابنه والسيد عبده، وقوله إنا لو لم يوجب الجزاء في الصيد أهدرنا، إنما كان يستقيم أن لو وجب الجزاء بدلاً عن الصيد، وعنده أنه ما وجب بدلاً، وإنما وجب عقوبة على الفعل، ولذلك يجب على المشتركين على كل واحد كمال الجزاء وهذا بين١٣.
قوله تعالى :﴿ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ ﴾١٤ الآية : اختلف في المراد بالمثل، فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الخلقة، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بدنة، وهو مذهب الشافعي فيما له نظير من النعم، وما لا نظير له كالعصافير وغيرها، ففيه القيمة.
وأبو حنيفة وأبو يوسف يرون أن المثل هو القيمة، ويشتري بالقيمة هدياً، وإن شاء طعاماً، وأعطى كل مسكين نصف صاع، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوماً.
وظاهر القرآن يشهد للشافعي، فإن الذي يتعارفه الناس من المثل، المثل من حيث الخلقة، يقال فيمن أتلف طعاماً عليه المثل، وفيمن أتلف عبداً فعليه القيمة، فإن الطعام من حيث الخلقة، ولا مثل للصيد من جنسه، إلا أن الفرق أن المثل فيما نحن فيه، وإن روعي من حيث الخلقة فهو من غير جنس الصيد، مثل إيجابنا البدنة في النعامة، والكبش في الضبع، وهذا لا يمنع كونه مثلاً من حيث الخلقة. والمقصود، بيان أن المثل في المتعارف هو المثل من حيث الخلقة والصورة، فاعلمه.
ونحن نقول إن المماثلة في القصاص مرعية، ولا نعني بالمماثلة ما نعنيه في ذرات الأمثال، وإنما نعني المماثلة من وجه آخر، وذلك ليعلم أن المماثلة إذا أطلقت، فالمفهوم منها المماثلة من غير الصورة.
فان قال قائل : القيمة مثل في المالية شرعاً، ولم يثبت في عرف الشرع أنه اسم للنظير من جنس آخر من النعم، وأن ذلك يسمى مثلاً، نعم القيمة مثل للشيء من حيث المعنى، والذي في ذوات الأمثال م
١ - سورة المائدة، آية ٩٥..
٢ - سورة المائدة، آية ٩٥..
٣ - سورة النساء، آية ٩٢..
٤ - سورة المائدة، آية ٣..
٥ - أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، والنسائي في سننه، وابن ماجة في سننه، وأبو داود في سننه أيضا، والبخاري في صحيحه..
٦ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده..
٧ - أخرجه الترمذي في الشمائل..
٨ - سورة المائدة، آية ٩٦..
٩ - سورة المائدة، آية ٩٥..
١٠ - في نسخة: لم يجز.
١١ - سورة النساء، آية ٩٣..
١٢ - في نسخة أخرى: أحللنا..
١٣ - انظر تفسير القرطبي..
١٤ - سورة المائدة، آية ٦٥..
قوله :﴿ وحُرِّم عَلَيْكُم صيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُم حُرُماً١ : استدل به قوم على أنه يكره للمحرم أكل صيد اصطاده حلال، والأكثرون من العلماء على إباحته، وقد روى أبو الزبير عن جابر قال : عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصطادوه أو يصاد لكم٢ ". وفيه أخبار كثيرة، غير أن من حرم ذلك لعله تعلق بقوله تعالى :﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُم صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُم حُرُماً ﴾، وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه، لوقوع الاسم عليهما.
ومن أباحه ذهب إلى أن الحيوان إنما يسمى صيداً ما دام حياً، فأما اللحم فلا يسمى بهذا الاسم بعد الذبح إلا مجازاً، باعتبار استصحاب الاسم السابق.
وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحشي وهو محرم فرده، فرأى في وجهه الكراهة فقال : ليس بنا رد عليك ولكنا حرم.
وخالفه مالك، فرواه عن الزهري عن عبد بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة، أنه أهدى إلى النبي عليه السلام بالأبواء أو بودان حمار وحش، فرده عليه السلام عليه، وقال إنا ما نرده عليك إلا أنا حرم.
وقال أبو إدريس لمالك : إن سفيان يقول رجل حمار وحش، فقال : ذاك غلام، ذاك غلام، ورواه : ابن جريج عن الزهري بإسناده كرواية مالك، وقال فيه : إنه أهدى له حمار وحش، ورواه معمر عن الزهري مثل رواية مالك، وأنه أهدى له حمار وحش، وروى الأعمش عن جندب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم، فرده وقال : لو أنا حرم لقبلناه منك.
ويحتمل أنه صيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندنا ما صيد له فلا يأكل منه، ويدل عليه ما رواه أبو معاوية عن ابن جريج عن خيار بن أبي الشعثاء عن أبيه قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتى بلحم أنأكل منه ؟ فقال : اجتنبوا، قال أبو معاوية : إن كان صيد قبل أن يحرم فيؤكل وإلا فلا وهو فيما صيد من أجله٣.
١ - سورة المائدة، آية ٩٦..
٢ -أخرجه الحاكم في المستدرك عن جابر رضي الله عنه، ووثقه الذهبي في التلخيص..
٣ - انظر تفسير الطبري..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيِهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤْكُم١ : استدل به قوم على تحريم السؤال عن أحكام الحوادث قبل وقوعها، وهذا منه غلط، فإنه تفقه في الدين، وإنما الآية تنهى عن السؤال عن أشياء تتعلق بأسرار إذا كشف لهم عنها ساءهم ذلك، وربما أداهم إلى الكفر به دفعاً للخجل، مثل ما روي أن رجلاً قام فقال : من أبي ؟ فقال : حذافة، بعد أن قال عليه الصلاة والسلام : لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم عن حقيقته، وكان قد حذرهم السؤال، وكان الأولى بهم أن يستروا بستر الله تعالى٢.
١ - سورة المائدة، آية ١٠١..
٢ - أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس رضي الله عنه..
قوله تعالى :﴿ مَا جَعَلَ الله مِنْ بحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ١ الآية [ ١٠٣ ] : يدل على تحريم قطع منافع الملك من غير نقل إلى غيره، ومن أجله منع الشافعي تعطيل منافع الرهن على خلاف ما قاله أبو حنيفة، ومن أجله منعت الكافر من شراء العبد المسلم في قول، لأن الشراء إذا لم يفد مقصوده من الانقطاع كان نسبياً، ولأجله أوجب العلماء بيع العبد المسلم وتحت الكافر.
١ - البحيرة: هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكرا بحروا أذنها أي شقوها.
السائبة: هي الناقة كانت تسيب في الجاهلية أي تترك ولا تركب ولا يحمل عليها..

قوله تعالى :﴿ عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لاَ يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ١ : ليس ينسخ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد روي عن قيس ابن أبي حازم أنه قال : سمعت أبا بكر رضي الله عنه على المنبر يقول : يا أيها الناس، إني أراكم تؤولون هذه الآية :﴿ عَلَيْكُم أَنْفُسَكُم لاَ يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ ﴾، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه٢ "، فأبان ألا رخصة في هذه الآية في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال سعيد بن جبير : أراد به أهل الكتاب الذين يقرون بالجزية على كفرهم ولا يضرنا كفرهم، لأنا أعطيناهم الذمة على أن نخلهم وما يعتقدون، وما يعهدون لنا نقض عهد بإجبارهم على الإسلام، فهذا هو الذي لا يضرنا الإمساك عنه، ويحتمل أن يكون معنى الآية : إذا لم يمكنه الإنكار وخاف على نفسه إن أنكر.
١ - سورة المائدة، آية ١٠٥..
٢ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده..
قوله تعالى :﴿ يَا أَيهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُم إذَا حَضَرَ أَحَدَكُم المَوْتُ ﴾ الآية :[ ١٠٦ ] : قال قائلون : المراد بالآية ظاهرها، وهي الشهادة على الوصية في السفر، وأجازوا بهذا شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر، ورووا ذلك عن أبي موسى، وهو قول أبي موسى وقول الأوزاعي، وجعلوا هذا الحكم مخصوصاً بالوصية عند حضور الموت، لوقوع الضرورة إليه، ولا يمتنع اختلاف الحكم عند الضرورات.
ويقوي ذلك أن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً، حتى قال ابن عباس والحسن وغيرهما إنه لا منسوخ فيها.
ومتضمن هذا القول، أن يكون على الشاهد يمين، وأن يتعين إمضاؤه الشهادة لمكان اليمين مع الارتياب، وأنه إذا ظهر لوث من جهة الشهود، صارت يمين الورثة معارضة لشهادة الشهود، وأعظم منه أنه قال :﴿ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُم أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيرِكُم ﴾.
وقال :﴿ تَحبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ١ : وظاهر ذلك رجوع حكم اليمين إلى النوعين اللذين أثبت التخيير فيهما، فيكون المسلم الشاهد محلفاً على الشهادة على الوصية، وذلك بعيد.
وإذا ثبت ذلك فلا بد من أحد نوعين : إما التأويل وإما إثبات النسخ.
أما التأويل فغاية ما قيل فيه وجهان : أحدهما ما روي عن الحسن، أن فيه تقديماً وتأخيراً وتقديره : إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية، فاستشهدوا ذوي عدل منكم، يعني من العشيرة، فإنهم أحفظ وأضبط وأبعد عن النسيان، أو آخران من غيركم، يعني من غير قبيلتكم، إن سافرتم فأصابتكم مصيبة الموت فيحلفان بعد العصر، فإن ظهر أنهما شهدا بالزور، رُدّ ما شهدا به على الورثة، إذا حلف الآخران تجرح شهادة الأولين، وهو معنى قوله :﴿ فَيُقْسِمّانِ بِاللهِ لشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ﴾.
١ - سورة المائدة، آية ١٠٦..
﴿ فَيُقْسِمّانِ بِاللهِ لشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا١ : فقيل قوله :﴿ يَا أَيهَا الّذينَ آمَنُوا ﴾، خطاب للمؤمنين، فقوله تعالى :" منكم أو من غيركم "، ضمير يقتضي انصرافاً إلى المذكور قبله، لا للعشيرة، فكيف يجعل ضميراً عنها ولم يجد لها فيما تقدم ذكر، وهذا بين، لأن اليمين لا يتوجه لا على الشاهد من القبيلة ولا من غيرها٢.
والتأويل الثاني : ما نقل عن الشافعي، فإنه قال : نزلت الآية في مسلم حضره الموت وأوصى إلى نصرانيين، وسلم المال إليهما، والقصة مشهورة٣، وذلك لا يجوز أن يكون بطريق الشهادة، فإن الموصى إليه كيف يشهد على فعل نفسه، وعلى أنه رد على جميع ما عنده، ولم يكتم شيئاً.
وقد يسمى اليمين شهادة في قوله :﴿ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمِ أَرْبَعُ شَهَادَات بِاللهِ٤.
فقيل لهم : اليمين لا يختص بالعدل. . فأجابوا بأنه ذكر العدل احتياطا في الوصية، واتقاء لليمين الفاجرة. . فقيل لهم : فما معنى قوله :﴿ فَإنْ عُثِرَ عَلى أَنّهُمَا استَحَقّا إثماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا٥. . فأجابوا بأن معنى ذلك ما ذكر في سبب النزول، وهو أنه وجدوا جاما من فضة مخوصة بذهب عند رجل، وكان الجام من جملة التركة، فلما طولب الرجل به ذكر أنه اشتراه من تميم الداري٦ وعدي بن ندا، فلما روجعا في ذلك قالا : كان قد جعله الموصى لنا أو باعه منا.
وإذا كان كذلك، حلف الوارث لا المدعي لملك الجام، فهو معنى قوله :
﴿ فآخَرانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِِنَ الّذِينَ استَحقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيَقُسِمَانِ بِاللهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَق مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعتَدَيْنَا٧، أي يحلفان أن الشيء لهما وما اعتديا، وهذا مجمل، فهذا وجه التأويل.
فأما النوع الآخر وهو دعوى النسخ، والناسخ لا بد من بيانه على وجه يتنافى الجمع بينهما مع تراضي الناسخ، وهؤلاء زعموا أن آية الدين من آخر ما نزلت وأن فيها :﴿ مِمّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ٨، والكافر لا يجوز أن يكون مرضياً عند المسلمين. وهذا لا يصلح أن يكون ناسخاً عندنا، فإنه في قصة غير قصة الوصية، وأمكن تخصيص الوصية به لمكان الحاجة والضرورة، لأنه ربما كان الكافر ثقة عند المسلم، ويرتضيه عند الضرورة، فليس فيما قاله ناسخ.
والنوع الثاني من الناسخ آبانه بعده عن الأصول في التفرقة في قبول الشهادة في السفر والحضر وتحليف الشاهد إلى غير ذلك من وجوه لا تخفى، وهذا الجنس لا يصلح ناسخاً، وإنما يؤيد به التأويل بعد وجود التأويل.
وفي الآية دليل للشافعي على أن يمين تتغلظ بالزمان والمكان.
واستدل الرازي به على قبول شهادة الكافر على الكافر، فقال : في ضمن شهادة الكافر على المسلم في الوصية قبولها على أهل ملته لا محالة، ثبت النسخ في بعض ذلك فبقي في البعض، وهذا ضعيف جداً، فإن الآية إذا تضمنت حكماً وقد نسخ المذكور بعينه، فلا يتصور تقدير فرع له لم ينسخ وتعذر بقاؤه وهذا لا خفاء ببطلانه، فلم يطنب فيه٩.
١ - سورة المائدة، آية ١٠٧..
٢ - في الأصل: ولا من غيره..
٣ - راجع تفسير القرطبي ج٥، وتفسير ابن كثير ج٢، وتفسير الطبري ج٧، وأحكام القرآن لابن العربي، وأحكام القرآن للشافعي، وأحكام القرآن للجصاصي، والدر المنثور للسيوطي..
٤ - سورة النور، آية ٦..
٥ - سورة المائدة، آية ١٠٧..
٦ - كما أخرجه الواحدي النيسابوري في كتابه أسباب النزول..
٧ - سورة المائدة، آية ١٠٧..
٨ - سورة البقرة، آية ٢٨٢..
٩ - انظر أحكام القرآن لابن عربي..
Icon