فيها ثلاث آيات
ﰡ
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : الشَّهَادَةُ تَكُونُ بِالْقَلْبِ ؛ وَتَكُونُ بِاللِّسَانِ، وَتَكُونُ بِالْجَوَارِحِ ؛ فَأَمَّا شَهَادَةُ الْقَلْبِ فَهُوَ الِاعْتِقَادُ [ أَوْ الْعِلْمُ ] عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ، وَالْعِلْمُ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ الِاعْتِقَادُ [ وَالْعِلْمُ ] كَمَا بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَالدِّينِ.
وَأَمَّا شَهَادَةُ اللِّسَانِ فَبِالْكَلَامِ، وَهُوَ الرُّكْنُ الظَّاهِرُ من أَرْكَانِهَا، وَعَلَيْهِ تُبْنَى الْأَحْكَامُ، وَتَتَرَتَّبُ الْأَعْذَارُ وَالِاعْتِصَامُ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :«أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ».
المسألة الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾.
إنَّ الْبَارِئَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلِمَ وَشَهِدَ ؛ فَهَذَا عِلْمُهُ. وَشَهَادَتُهُ قَوْله تَعَالَى :﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ﴾ وَأَمْثَالُهُ.
وَقَدْ يُقَالُ : شَهَادَةُ اللَّهِ عَلَى مَا كَانَ من الشَّهَادَاتِ فِي ذَاتِ اللَّهِ، يُقَالُ : وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَا يَعْتَقِدُونَهُ فِي قُلُوبِهِمْ، فَخَدَعُوا وَغَرُّوا، وَاَللَّهُ خَادِعُهُمْ وَمَاكِرٌ بِهِمْ، وَهُوَ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ : قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ : إنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ فِي يَمِينِهِ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ يَكُونُ يَمِينًا بِنِيَّةِ الْيَمِينِ.
وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ أَنَّهُ دُونَ النِّيَّةِ [ يَمِينٌ ]، فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تَكُونُ يَمِينًا بِالنِّيَّةِ، وَلَا أَرَى المسألة إلَّا هَكَذَا فِي أَصْلِهَا، وَإِنَّمَا غَلِطَ هَذَا الْعَالِمُ أَوْ غَلِطَ فِي النَّقْلِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : إذَا قَالَ [ الرَّجُلُ ] أَشْهَدُ : إنَّهُ يَمِينٌ إذَا أَرَادَ بِاَللَّهِ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ لَيْسَ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ :﴿ نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ إلَى سَبَبِ الْآيَةِ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ، مِنْهَا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ :«كُنْت فِي غُزَاةٍ فَسَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ : لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا من حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعَمِّي، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَانِي فَجِئْته، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ وَأَصْحَابِهِ.
فَحَلَفُوا مَا قَالُوا ؛ فَكَذَّبَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَدَّقَهُ، فَأَصَابَنِي هَمٌّ لَمْ يُصِبْنِي مِثْلُهُ فَجَلَسْت فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ عَمِّي : مَا أَرَدْت إلَّا [ إلَى ] أَنْ كَذَّبَك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَقَتَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ إنَّك لَرَسُولُهُ وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾ فَبَعَثَ إلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَك. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً ﴾ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ابْنَ أُبَيٍّ حَلَفَ أَنَّهُ مَا قَالَ. وَقَدْ قَالَ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَاجِعٍ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ ﴾ فَاعْلَمُوهُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْيَمِينُ كَانَتْ غَمُوسًا كَاذِبَةً من عَدِيمِ الْإِيمَانِ ؛ فَهِيَ مُوجِبَةٌ لِلنَّارِ، أَمَّا عَدَمُ إيمَانِهِ فَبِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ ﴾.
وَأَمَّا عَدَمُ الثَّوَابِ فِيهِمْ وَوُجُوبُ الْعِقَابِ لَهُمْ فَبِآيَاتِ الْوَعِيدِ الْوَارِدَةِ فِي الْكُفَّارِ. وَقَدْ كَثُرَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُبَلِّغُهُ حَجَّ بَيْتِ رَبِّهِ، أَوْ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. فَقَالَ رَجُلٌ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ؛ اتَّقِ اللَّهَ ؛ إنَّمَا سَأَلَ الرَّجْعَةَ الْكُفَّارُ. قَالَ : سَأَتْلُو عَلَيْك بِذَلِكَ قُرْآنًا :﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ من قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتنِي إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ من الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاَللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ قَالَ : فَمَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ ؟ قَالَ : إذَا بَلَغَ الْمَالُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا. قَالَ : فَمَا يُوجِبُ الْحَجَّ ؟ قَالَ : الزَّادُ وَالْبَعِيرُ.
المسألة الثَّانِيَةُ : أَخَذَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِعُمُومِ الْآيَةِ فِي الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ خَاصَّةً دُونَ النَّفْلِ. وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ الْوَعِيدَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْوَاجِبِ دُونَ النَّفْلِ.
وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالزَّكَاةِ فَصَحِيحٌ كُلُّهُ عُمُومًا وَتَقْدِيرًا بِالْمِائَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْقَوْلُ فِي الْحَجِّ فَفِيهِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ عَلَى التَّرَاخِي فَفِي الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَوْتِ قَبْلَ أَدَائِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَا تُخَرَّجُ الْآيَةُ عَلَيْهِ. وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْحَجَّ عَلَى الْفَوْرِ فَالْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ فَلَمْ يُؤَدِّهِ لَقِيَ من اللَّهِ مَا يَوَدُّ أَنَّهُ رَجَعَ لِيَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ من الْعِبَادَاتِ.
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الْأَمْرِ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَيْسَ لِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ مَدْخَلٌ، لِأَجْلِ أَنَّ الرَّجْعَةَ وَالْوَعِيدَ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَائِلِ الْمُجْتَهَدِ فِيهَا وَالْمُخْتَلَفِ عَلَيْهَا ؛ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ.
وَالصَّحِيحُ تَنَاوُلُهُ لِلْوَاجِبِ من الْإِنْفَاقِ كَيْفَ تَصَرَّفَ بِالْإِجْمَاعِ أَوْ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، لِأَجْلِ أَنَّ مَا عَدَا ذَلِكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَحْقِيقُ الْوَعِيدِ.