تفسير سورة الطارق

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه ابن العربي . المتوفي سنة 543 هـ
سورة الطارق
فيها ثلاث آيات

الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلْيَنْظُرْ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ من مَاءٍ دَافِقٍ ﴾ :
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
المسألة الْأُولَى :
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَحَلَّ الْمَاءِ الَّذِي يُنْتَزَعُ مِنْهُ، وَأَنَّهُ بَيْنَ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، تُزْعِجُهُ الْقُدْرَةُ، وَتُمَيِّزُهُ الْحِكْمَةُ، وَقَدْ قَالَ الْأَطِبَّاءُ : إنَّهُ الدَّمُ الَّذِي تَطْبُخُهُ الطَّبِيعَةُ بِوَاسِطَةِ الشَّهْوَةِ، وَهَذَا مَا لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا إلَّا بِخَبَرٍ صَادِقٍ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِيهِ، وَالنَّظَرُ الْعَقْلِيُّ لَا يُنْتَهَى إلَيْهِ، وَكُلُّ مَا يَصِفُونَ فِيهِ دَعْوَى يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ حَقًّا، بَيْدَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى تَعْيِينِهَا كَمَا قَدَّمْنَا ؛ وَلَا دَلِيلَ عَلَى تَخْصِيصِهَا حَسْبَمَا أَوْضَحْنَا. وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ من جِهَةِ الْخَبَرِ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ من سُلَالَةٍ من طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً. . . ﴾ وَهِيَ الدَّمُ ؛ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الدَّمَ هُوَ الطَّوْرُ الثَّالِثُ، وَعِنْدَ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ الطَّوْرُ الْأَوَّلُ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ مِمَّنْ يَجْهَلُ.
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ :
المسألة الثَّانِيَةُ : فَلِمَ قُلْتُمْ : إنَّهُ نَجِسٌ ؟
قُلْنَا : قَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ مَقْنَعٌ، وَأَخَذْنَا مَعَهُمْ فِيهِ كُلَّ طَرِيقٍ، وَمَلكنَا عَلَيْهِمْ بِثَبْتِ الْأَدِلَّةِ كُلَّ ثَنِيَّةٍ لِلنَّظَرِ. فَلَمْ يَجِدُوا لِلسُّلُوكِ إلَى مَرَامِهِمْ من أَنَّهُ طَاهِرٌ سَبِيلًا، وَأَقْرَبُهُ أَنَّهُ يَخْرُجُ عَلَى ثَقْبِ الْبَوْلِ عِنْدَ طَرَفِ الْكَمَرَةِ فَيَتَنَجَّسُ بِمُرُورِهِ عَلَى مَحَلٍّ نَجِسٍ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ :
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
المسألة الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ يَعْنِي تُخْتَبَرُ الضَّمَائِرُ، وَتَكْشِفُ مَا كَانَ فِيهَا. وَالسَّرَائِرُ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ التَّكْلِيفِ وَالْأَفْعَالِ.
المسألة الثَّانِيَةُ : أَمَّا السَّرَائِرُ فَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ﴾ أَبَلَغَك أَنَّ الْوُضُوءَ من السَّرَائِرِ ؟ قَالَ : قَدْ بَلَغَنِي ذَلِكَ فِيمَا يَقُولُ النَّاسُ، فَأَمَّا حَدِيثٌ أَخَذْته فَلَا. وَالصَّلَاةُ من السَّرَائِرِ، وَالصِّيَامُ من السَّرَائِرِ، إنْ شَاءَ قَالَ : صَلَّيْت وَلَمْ يُصَلِّ. وَمِنْ السَّرَائِرِ مَا فِي الْقُلُوبِ يَجْزِي اللَّهُ بِهِ الْعِبَادَ.
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ إلَّا الْأَمَانَةَ، وَالْوُضُوءُ من الْأَمَانَةِ، وَالصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ من الْأَمَانَةِ، الْوَدِيعَةُ من الْأَمَانَةِ، وَأَشَدُّ ذَلِكَ الْوَدِيعَةُ، تُمَثَّلُ لَهُ عَلَى هَيْئَتِهَا يَوْمَ أَخَذَهَا، فَيُرْمَى بِهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، فَيُقَالُ لَهُ : أَخْرِجْهَا فَيَتْبَعُهَا فَيَجْعَلُهَا فِي عُنُقِهِ، فَإِذَا رَجَا أَنْ يَخْرُجَ بِهَا زَلَّتْ مِنْهُ وَهُوَ يَتْبَعُهَا، فَهُوَ كَذَلِكَ دَهْرَ الدَّاهِرِينَ.
وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. من الْأَمَانَةِ أَنْ ائْتُمِنَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا. قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ لِي سُفْيَانُ : فِي الْحَيْضَةِ وَالْحَمْلِ إذَا قَالَتْ : لَمْ أَحِضْ، وَأَنَا حَامِلٌ، صدّقَتْ مَا لَمْ تَأْتِ بِمَا يُعْرَفُ فِيهِ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ. وَفِي الْحَدِيثِ :«غُسْلُ الْجَنَابَةِ من الْأَمَانَةِ ».
المسألة الثَّالِثَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كُلُّ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ هَزْلٌ، وَإِنَّمَا هِيَ جَدٌّ كُلُّهَا ؛ فَلَا يَهْزِلُ أَحَدٌ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إلَّا وَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي قَوْلِهِ هَزْلًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَزْلَ مَحَلٌّ لِلْكَذِبِ، وَلِلْبَاطِلِ يُفْعَلُ، وَلِلَّعِبِ يُمْتَثَلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْغَرَضَ فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:الْآيَةُ الثَّالِثَةُ :
قَوْله تَعَالَى :﴿ إنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ ﴾ :
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرِيعَةِ هَزْلٌ، وَإِنَّمَا هِيَ جَدٌّ كُلُّهَا ؛ فَلَا يَهْزِلُ أَحَدٌ بِعَقْدٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ إلَّا وَيُنَفَّذُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ فِي قَوْلِهِ هَزْلًا ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَزْلَ مَحَلٌّ لِلْكَذِبِ، وَلِلْبَاطِلِ يُفْعَلُ، وَلِلَّعِبِ يُمْتَثَلُ. وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْغَرَضَ فِي الْآيَاتِ الْوَارِدَةِ فِيهِ وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.

Icon