تفسير سورة التين

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة التين من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة التين
مكية وهي ثماني آيات.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ والتِّين والزيتون ١ ﴾ قال ابن عباس والمجاهد والحسن وإبراهيم وعطاء ومقاتل والكلبي : تينكم الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. قيل : خص التين بالقسم لأنه فاكهة مخلقة لا عجم لها شبيهة بفاكهة الجنة. قيل في الحديث :( إنه يقطع البواسير وينفع من النقرس " رواه الثعلبي وأبو نعيم في الطب من حديث أبي ذر بإسناد مجهول. والزيتون شجرة مباركة وهو ثمر دهن يصلح للاصطباغ. وقال عكرمة : هما جبلان، وقال قتادة : التين الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس. وقال أبو محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب كهف والزيتون إيليا.
﴿ وطور ﴾ يعني الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه السلام بين مصر وأيلة ﴿ سينين ﴾ قال الضحاك : هو لغة نبطية، ومعناه الحسن. وقال مقاتل : كل جبل فيه أشجار مثمرة فهو سنين وسينا بلغة نبط، وقال عكرمة : اسم للمكان الذي به هذا الجبل، وكذا سيناء. وقيل : سريانية، معناه الملتف بالأشجار. وقيل : لغة حبشية، وقال مجاهد : معناه البركة أي جبل مبارك. وقال قتادة : معناه الحسن أي جبل حسن. وقال الكلبي : معناه الشجر، أي جبل ذو شجر. وقيل : اسم حجارة بعينها، أضيف الجبل إليها بوجودها عنده.
﴿ وهذا البلد الأمين ٣ ﴾ أي ذا أمانة يحفظ من دخل فيه كما يحفظ أمين ما ائتمن عليه أو بمعنى فاعل أو مفعول، يعني أمن من دخل فيه أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله، والمراد به مكة يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام.
أقسم الله سبحانه بهذه الأشياء لأن منبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم ومقر الأنبياء ومهبط الوحي، وطور المكان الذي نودي به موسى، ومكة بيت الله الحرام ومولد النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط الوحي إليه، جواب القسم ﴿ لقد خلقنا الإنسان ﴾.
﴿ لقد خلقنا الإنسان ﴾ أي الجنس ﴿ في أحسن تقويم ﴾ تفعيل من القيام والقوام، قال في الصحاح : القيام والقوام اسم لما يقوم بالشيء أي يثبت، قلت : وهو ما يتحقق به الشيء، يعني أحسن حقيقته وماهيته، وذلك لاستجماعه ما في عالم الكبير من لطائف عالم الأمر، وعناصر عالم الخلق، والنفس الناطقة المنشأة عن العناصر، ولذلك الاستجماع يظهر فيه خصائص الكائنات كلها من الصفات الملكية والسبعية والبهيمية والشيطانية، ويتصف بالصفات الكاملة المنعكسة من الصفات الإلهية من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام والمحبة التي سميت بناء العشق، يتزين بنور العقل، ويستعد للتجليات الظلية والصفاتية والذاتية، ومن ثم أعطى خلعة الخلافة( إني جاعل في الأرض خليفة )، وقيل : معنى ( أحسن تقويم ) أي أحسن صورة، فإن التقويم مصدر بمعنى التعديل. في القاموس : قومته عدلته، فهو قويم مستقيم، والمصدر ها هنا بمعنى المفعول أو بمعنى الفعيل، أي أحسن صورة، ومعدل قويم، وذلك لأن كل حيوان خلق مكبا على وجهه إلا الإنسان خلق مستقيم القامة بأدي البشرة، يتناول ما كوله بيده.
﴿ ثم رددناه ﴾ أي صيرناه ﴿ أسفل سافلين ﴾ قال البغوي : نكرة تعم الجنس، يعني بمعونة المقام، كما يقال : كريم قائم، ويؤيده ما في مصحف ابن مسعود ( أسفل السافلين )، وإن لم تعم فهو هملة في قوة الجزئية، فيجوز أن يكون بعض السافلين أسفل عنه، ويوافق هذه الآية أعني خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين قوله عليه السلام :( ما من مولد إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )١ متفق عليه من حديث أبي هريرة، غير أن في الآية أسند الرد إلى الله تعالى نظرا إلى أنه خالق لأفعال العباد، وفي الحديث إلى الأبوين، نظرا إلى الكسب، ولعل المراد بالسافلين ما جعله الله سبحانه سافل الاستعداد بحيث لا يمكنه تحصيل كمال من الكمالات الإنسانية، والصعود إلى مصاعد القرب، والتجليات الرحمانية، من السباع والبهائم والشياطين الأجنة، وجمعه سالما تغليبا للعقلاء منهم على غيرهم وهم الشياطين ومردة الجن، فالإنسان لما ضيع استعداده وترك شكر المنعم وإتيان موجبات الفوز برضوان الله تعالى وأتى بموجبات سخطه من الكفر ومقتضياته جعل أخبث من كل خبيث، وأحط مرتبة من كل دنيء، وأسوأ حالا، وأبتر مالا من الكلاب والخنازير ؛ بل من الشياطين أيضا، لما ورد في حديث أنس قال :( ويعرج له - أي للكافر- فرجة قبل الجنة فينظر إلى زمرتها وما فيها فيقال : انظر إلى ما صرف الله عنك، ثم يعرج له فرجة إلى النار ) الحديث رواه ابن ماجه من حديث أبي هريرة، وذلك ليفرح المؤمن كمال الفرح، ويتحسر الكافر كمال الحسرة، وروى البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا يدخل الجنة أحد إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، ولا يدخل النار أحد إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليكون عليه حسرة )٢ وأما الشياطين فليس كذلك، ولم يكن لهم مقعد في الجنة لعدم استعدادهم دخولها، وقال الحسن ومجاهد وقتادة : معنى الآية ثم رددناه أسفل سافلين - يعني إلى النار - لأن جهنم بعضها أسفل من بعض. وقال أبو العالية : إلى النار في شر صورة، في صورة خنزير ونحوه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: ﴿لا تبديل لكلمات الله﴾ (٤٧٧٥)، وأخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: معنى كل مولود يولد على الفطرة (٢٦٥٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة التين (٣٣٤٧)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: مقدار الركوع والسجود (٨٨٥)..
﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ استثناء متصل من الإنسان لإخراجهم من حكم الرد، فإنهم لا يرددون إلى النار، ولا يصيرون إلى أخبث الأحوال ﴿ فلهم ﴾ أي للمؤمنين الصالحين ﴿ أجر غير ممنون ﴾ أي غير مقطوع أو لا يمن به عليهم، الفاء للسببية، والجملة في مقام التعليل للاستثناء مقرر له، وقيل : معنى الآية خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، أي أعدل صورة، أو أقوم حالة، بحيث تيسر له كل ما أراد به وبتسخير له الحيوانات كلها والبر والبحر ؛ بل الجن والشياطين أيضا، ثم رددناه في بعض الأفراد، أي صيرناه بالهرم وأرذل العمر أسفل سافلين، والسافلون هم الضعفاء والزمناء والأطفال، فإن الشيخ الكبير إذا زال عقله وضعف بدنه وغلب عليه العوارض والأمراض يصير أضعف من الضعفاء فعلى هذا قوله تعالى :﴿ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ استثناء منقطع بمعنى لكن الاستدراك، ودفع توهم نشأ وهو أن المؤمنين أيضا بعد الهرم وسوء الكبر يكونون أسوء حالا من الضعفاء، ووجودهم في هذه الحالة وبال عليهم، فقال الله : لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قبل الهرم في حالة القوة والشباب فأجورهم غير مقطوعة، لا يزال يكتب حسناتهم على حسب ما كانوا يعملون. قال الضحاك : أجرا بغير عمل. أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس في هذه الآية قال : هم نفر ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل حين أسفت عقولهم فأنزل الله عذرهم أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم. قال البغوي : قال عكرمة : لا يضر هذا الشيخ كبره إذا ختم الله له بأحسن ما كان يعمل، وروى عاصم الأحوال عن عكرمة عن ابن عباس قال : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال : إلا الذين قرؤوا القرآن لم يردوا إلى أرذل العمر. وقال جلال الدين المحلى رحمه الله : إذا بلغ المؤمن من الكبر بالعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل. وروى عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إذا ابتلى المسلم ببلاء في جسده قال للملك : اكتب له صالح عمله الذي كان يعمل ). وعن عبد الله بن عمرو نحوه. رواهما البغوي في شرح السنة، وروى البخاري عن أبي موسى نحوه في المريض والمسافر. فإن قيل : مقتضى البلاغة تأكيد الكلام على قدر إنكار المخاطب، وكون الإنسان مخلوقا على أحسن صورة ثم رده بالهرم إلى ضعف أمر بديهي لا ينكره أحد فكيف أورد الكلام بالقسم ولام التأكيد وكلمة قد على هذا التأويل ؟ قلنا : لما كان تحول الأحوال على الإنسان دليلا واضحا على جواز الإعادة والجزاء والكفار كانوا ينكرون الإعادة والجزاء كأنهم أنكروا التحول ؛ لأنه من أنكر المدلول فكأنه أنكر الدليل الواضح لاستلزم أحدهما الآخر.
﴿ فما يكذبك بعد بالدين ٧ ﴾ المخاطب به الإنسان على سبيل الالتفات، يعني : فأي شيء يحملك أيها الإنسان على التكذيب بالجزاء عاد أي شيء جعلك كاذبا حيث تقول خلاف الحق أن لا بعث ولا جزاء بعد تلك الدلائل الواضحة من نفسك أن خلقك فقواك، ثم ضعفك فأماتك، قادر على إعادتك وجزاء إعمالك، والاستفهام للتوبيخ والإنكار يعني لا ينبغي لك التكذيب بالجزاء، أو المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم، وما للنفي وللاستفهام الإنكاري، والمعنى لا شيء يكذبك، أو فأي شيء يكذبك - أي يدل على كذبك - في قولك بالجزاء بالدلائل الواضحة على صدقك ؟ فنظير هذه الآية :﴿ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ﴾١، وقيل : ما بمعنى من، والاستفهام للتعجب، يعني من ينسبك إلى الكذب بعد تلك الشواهد على الصدق عجبا منه.
١ سورة النمل، الآية: ٦٤..
﴿ أليس الله بأحكم الحاكمين ٨ ﴾ استفهام إنكار للنفي، ونفي النفي إثبات، فهو تحقيق وتقرير لما سبق، والمعنى : أليس الذي فعل ذلك من الخلق الرد بأحكم الحاكمين صنعا وتدبيرا ؟ ومن كان كذلك كان قادرا على الإعادة والجزاء، والجملة لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب الكفار إياه مكابرة وعنادا، أو وعيد للكفار، والمعنى أليس الله بأقضى القاضين ؟ فهو يحكم بينك وبين من كذبك يا محمد كذا قال مقاتل، أو هي في مقام التعليل بقوله تعالى :﴿ فما يكذِّبك ﴾ لا ينبغي لك أيها الإنسان التكذيب، قال : الله أحكم الحاكمين عليك بالعذاب، عن أبي هريرة، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( من قرأ بالتين فانتهى إلى آخرها ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) فليقل : بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين )١ رواه أبو داود. وعن البراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم :( كان في سفر فقرأ في العشاء في أحد الركعتين بالتين والزيتون )٢ رواه البخاري، والله تعالى أعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الأذان، باب: الجهر في العشاء (٧٦٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: القراءة ف العشاء (٤٦٤)..
٢ ؟؟؟؟؟.
Icon