تفسير سورة الفيل

التفسير القرآني للقرآن
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب التفسير القرآني للقرآن المعروف بـالتفسير القرآني للقرآن .
لمؤلفه عبد الكريم يونس الخطيب . المتوفي سنة 1390 هـ

بسم الله الرحمن الرّحيم

الآيات: (١- ٥) [سورة الفيل (١٠٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
التفسير:
فيما يحدث به التاريخ، وتتوارد عليه الأخبار الصحيحة، تلك الحادثة التي تسمى حادثة الفيل، والتي أرخ بها العرب الجاهليون، كما كانوا يؤرخون بالأحداث العظيمة، التي تقع لهم فى مسيرة حياتهم.. فاتخذوا عام الفيل مبدأ لمرحلة من مراحل التاريخ عندهم..
وحادثة الفيل- كما تروى كتب التاريخ والسير- كانت عام ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.. وأن مسرحها كان مكة، البلد الحرام، وأن مقصدها كان هدم الكعبة والبيت الحرام! قيل إن قائدا حبشيا اسمه «أبرهة»، كان قد غلب على اليمن، ثم رأى تعظيم العرب للكعبة، وإقبالهم عليها، وتمسحهم بها، فأراد أن يجعل وجهة العرب إليه، فبنى بنيّة، أراد بها أن يحج العرب إليها، وأن ينصرفوا عن الكعبة.. فلما لم يجد منهم استجابة لدعوته، ولا التفاتا إلى بنيته، قرر أن يهدم الكعبة، ويزيل معالمها، حتى لا يكون للعرب متجه إليها، فيخلو بذلك وجههم لهذه البنية التي بناها.. فسار يجيش كثيف، يتقدمه فيل عظيم، كان
1676
عدة له من عدد الحرب التي يرهب بها أعداءه.. فلما سمعت قريش بمقدم أبرهة بهذا الفيل الذي يتهددهم به، فزعت، وهالها الأمر..
قالوا: ونزل أبرهة بجيشه وفيله بمكان اسمه «المغلّس» على مشارف مكة، وحط رحاله هناك، استعدادا لدخول مكة، وهدم الكعبة..
ثم إنه استدعى إليه صاحب كلمة قريش يومئذ، وكان عبد المطلب بن هاشم، جدّ النبي.. فجاء إليه، فكلمه أبرهة فيما جاء له، وأنه لا يريد شرا بالناس، وإنما جاء ليهدم الكعبة، فإن أخلت قريش بينه وبين الكعبة لم يعرض لهم بسوء، وإلا فقد عرفوا ما سوف ينزل بهم من بلاء!! فقال له «عبد المطلب» :
دونك وما تشاء.. ولكن ردّ إلينا ما احتواه جيشك من أموالنا.. وكان جيش أبرهة قد ساق كل ما صادفه فى طريقه من إبل وشاء، وعبيد، مما كان على مواقع المراعى لقريش.. فقال أبرهة: أحدثك فى شأن الكعبة، وتحدثنى عن الإبل والشاء؟ أترى هذه الأنعام أكرم عندكم وأغلى من هذا البيت الذي تعظمونه؟ فقال «عبد المطلب» هذه الأنعام لنا، أما البيت فله ربّ يحميه!! قالوا: ودعا عبد المطلب قريشا إلى أن يخرجوا من مكة إلى شعابها، وجبالها، وأن يدعوا أبرهة والبيت الحرام..
وفى صبيحة اليوم الذي تأهب فيه أبرهة لدخول البلد الحرام، فشا فى جيشه الجدري، فهلك الجيش جميعه.
قالوا، وكان ذلك أول عهد العرب بهذا الداء، الذي لم تعرفه من قبل..
وقالوا: إن هذا الداء كان يهرى جسد من يلمّ به، حيث يتناثر لحمه، ويتساقط، قطعا قطعا، كما تتساقط الرمم المتعفنة..
وهكذا قضى على الجيش كله، ولم تبق منه إلا تلك الأشلاء الممزقة، المتناثرة.
1677
والقرآن الكريم، لا يشير إلى هذا الداء- داء الجدري- الذي يقال إنه هو الذي هلك به أبرهة وجيشه، وإنما يتحدث عن طير أبابيل، رمت القوم بحجارة من سجيل، فجعلتهم كعصف مأكول، كما يقول سبحانه:
«أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ» وهو استفهام تقريرى تنطق به الحال المشاهدة..
والتضليل: الضياع، والخيبة، والبوار..
وقوله تعالى:
«وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ»..
الأبابيل: الجماعات، والأسراب التي يتبع بعضها بعضا..
وقوله تعالى:
«تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ..».
أي أن هذه الأسراب من الطير كانت ترمى القوم بحجارة من سجيل..
وهذه الحجارة لا يدرى حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى، والأوصاف التي يصفها بها المفسرون والمحدّثون لا ينبغى الوقوف عندها.. وهل يسأل عن عصا موسى وكيف كانت تنقلب حية؟ وعن يد عيسى وكيف كانت تبرئ الأكمه والأبرص، وعن كلمته، وكيف كانت تحيى الموتى؟.. إنها آيات من عند الله، وآيات الله، وإن لبست فى الظاهر صورا حسية، فإن فى كيانها أسرارا لا يعلمها إلا علام الغيوب.. وهذه الطير، هى طير، والذي كانت تحمله وترمى يه القوم، هو حجارة من سجيل.. أما جنس هذا الطير، وصفته، وأما الأحجار وصفتها فذلك ما لا يعلمه إلا الله، والبحث عنه رجم بالغيب..
1678
هذا، ويطلق الطير على كل ما طار بجناحين، سواء أكان بعوضا، أم ذبابا، أم نسورا، وعقبانا..
والسجيل: الحجارة الصلدة، وأصل السجيل، الطين المطبوخ.
والعصف: الكمّ الذي يضم الحب فى كيانه، كحب القمح، والشعير، ونحوه.. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ».
والعصف المأكول: أي الذي أكل منه الحب، وبقي هذا القشر الرقيق الذي كان يغلّقه.. ولا شك أن هذا الذي أخذ الله سبحانه وتعالى به هذا الطاغية الذي جاء ليهدم بيت الله، هو آية من الآيات الدالة على ما لهذا البيت عند الله من حرمة، وأنه بيته على هذه الأرض، الذي كان أول بيت وضع للناس، وسيكون آخر بيت يبقى على وجه الأرض.. وأنه لا يزول حتى تزول معالم الحياة من هذا العالم.. ثم إن وقوع هذه الآية مع مطلع ميلاد النبي، هو آية من آيات الله، على ما لرسول الله عند ربه من مقام كريم، فلا ينزل سوء ببلد هو فيه.. إنه صلوات الله وسلامه عليه- رحمة حيث كان.. رحمة للناس، وبركة على المكان والزمان.. فرحم الله قومه، وأكرمهم من أجله، فلم ينزل به ما نزل بالأقوام الضالين الذين عصوا رسلهم، بل عافاهم الله سبحانه من هذا البلاء وأخذ بهم إلى طريق الهدى والإيمان. وكذلك فعل سبحانه بالبلد الحرام، مطلع نبوته، ومبدأ رسالته، فحماها من كل سوء، ودفع عنها كل مكروه.. فى ماضيها، وحاضرها ومستقبلها، وستبقى هكذا إلى يوم الدين، البيت المعمور، الذي تتجه إليه أبدا قلوب الأمة الإسلامية ووجوهها.
1679
(١٠٦) سورة قريش
نزولها: مكية.. نزلت بعد سورة التين..
عدد آياتها: أربع آيات..
عدد كلماتها: تسع عشرة كلمة..
عدد حروفها: ثلاثة وسبعون حرفا..
مناسبتها لما قبلها
أشارت سورة «الفيل» إلى هذه المنّة العظيمة التي امتن بها الله سبحانه وتعالى على «قريش» إذ دفع عن بلدهم الحرام، وعن بيته الحرام هذا المكروه، وردّ عنهم هذا البلاء، وأخذ المعتدى على حرمة هذا البيت أخذ عزيز مقتدر.. وبهذا وجدت قريش فى هذا البلد أمنها، ووجدت فى جوار البيت الحرام حماها، وصار لها فى قلوب العرب مكانة عالية، وقدر عظيم، لا يستطيع أحد أن يحدّث نفسه بسوء ينال به أحدا من أهل هذا البلد الحرام، وقد رأى ما صنع الله بمن أراد به أو بأهله سوءا..
وجاءت سورة «قريش» بعد هذا، وكأنها تعقيب على حادثة الفيل، ونتيجة لازمة من نتائج هذه الحادثة.. ولهذا وصل كثير من العلماء هذه السورة بسورة الفيل، وجعل اللام فى قوله تعالى: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» لام تعليل، متعلقا بقوله تعالى «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ».. أي جعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش.. كما سنرى ذلك بعد..
1680
Icon