تفسير سورة سورة سبأ من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
المعروف بـتفسير أبي السعود
.
لمؤلفه
أبو السعود
.
المتوفي سنة 982 هـ
سورة سبأ مكية وقيل إلا ﴿ ويرى الذينَ أُوتُوا الْعِلْم ﴾ الآية وهي أربع وخمسون آية
ﰡ
﴿الحمد للَّهِ الذى لَهُ ما في السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي له تعالى خلقا وملكا وتصرُّفاً بالإيجادِ والإعدامِ والإحياءِ والامانة جميعُ ما وُجد فيهما داخلاً في حقيقتِهما أو خارجاً عنهما مُتمكِّناً فيهما فكأنَّه قيل له جميعُ المخلوقاتِ كما مرَّ في آيةِ الكُرسيِّ ووصفُه تعالى بذلك لتقرير ما أفاده تعليقُ الحمدِ المعرَّفِ بلام الحقيقة بالاسم الجليلِ من اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى على ما بُيِّنَ في فاتحة الكتاب ببيان تفرُّدِه تعالى واستقلاله بما يُوجب ذلك وكونِ كلِّ ما سواه من الموجودات التي من جملتها الإنسان تحت ملكوتِه تعالى ليس لها في حدِّ ذاتها استحقاق الوجود فضلاً عمَّا عداه من صفاتها بل كلُّ ذلك نعمٌ فائضة عليها من جهته عزَّ وجلَّ فما هذا شأنُه فهوَ بمعزلٍ منَ استحقاقِ الحمد الذي مداره الجميل الصَّادرُ عن القادر بالاختيار فظهر اختصاصِ جميعِ أفراده به تعالى وقولُه تعالى ﴿وَلَهُ الحمد فِى الاخرة﴾ بيانٌ لاختصاص الحمد الأخرون به تعالى إثرَ بيانِ اختصاص الدُّنيويِّ به على أنَّ الجارَّ متعلقٌ إمَّا بنفس الحمد أو بَما تعلَّق به الخبرُ من الاستقرارِ وإطلاقُه عن ذكرِ ما يُشعر بالمحمودِ عليه ليس للاكتفاءِ بذكر كونه في الآخرةِ عن التعيين كما اكتفي فيما سبق بذكر كون المحمود عليه في الدُّنيا عن ذكر كونِ الحمد أيضاً فيها بل ليعمَّ النِّعمَ الأُخرويَّةَ كما في قوله تعالى الحمد لله الذى صدقنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة وقوله تعالى الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ الآيةَ وما يكون ذريعةً إلى نيلِها من النِّعمِ الدُّنيويَّةِ كما في قوله تعالى الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا أي لِما جزاؤُه هذا من الإيمان والعملِ الصالحِ والفرق بين الحمدينِ مع كون نعمتَيْ الدُّنيا والآخرةِ بطريق التَّفضلِ أنَّ الأوَّلَ على نهج العبادة والثَّانِي على وجه التَّلذذِ والاغتباطِ وقد ورد في الخبرِ أنَّهم يُلهمون التَّسبيحَ كما يُلهمون النَّفسَ ﴿وَهُوَ الحكيم﴾ الذي أحكم أمور الدين والدنيا ودبَّرها حسبما تقتضيه الحكمةُ ﴿الخبير﴾ ببواطن الأشياءِ ومكنوناتِها وقوله تعالى
﴿يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الارض﴾
120
الخ تفصيلٌ لبعض ما يحيط به علمُه من الأمور التي نِيطتْ بها مصالحهم الدُّنيويةُ والدِّينيةُ أي يعلم ما يدخل فيها من الغيثِ والكُنوزِ والدَّفائنِ والأموات ونحوها
﴿وَمَا يَخْرُجُ منها﴾ كالحيوان والنبات وما العيون ونحوها
﴿وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء﴾ كالملائكةِ والكتبِ والمقادير ونحوها وقرئ وما نزل بالتَّشديدِ ونونِ العظمةِ
﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ كالملائكةِ وأعمالِ العبادِ والأبخرةِ والأَدْخنةِ
﴿وَهُوَ الرحيم﴾ للحامدينَ على ما ذُكر من نِعَمِه
﴿الغفور﴾ للمفرطين في ذلك وكرمِه
121
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة﴾ أرادوا بضمير المُتكلِّمِ جنسَ البشر قاطبةً لا أنفسَهم أو معاصريهم فقط كما أرادُوا بنفيِ إتيانها نفيَ وجودِها بالكُلِّيةِ لاعدم حضورِها مع تحقُّقها في نفس الأمر وإنما عبَّروا عنه بذلك لأنَّهم كانوا يُوعدون بإتيانها ولأنَّ وجود الأمور الزَّمانيةِ المُستقبلةِ لا سيَّما أجزاءُ الزَّمانِ لا يكون إلا بالإتيانِ والحضورِ وقيل هو استبطاءٌ لإتيانها الموعودِ بطريق الهُزءِ والسُّخريةِ كقولهم متى هذا الوعدُ ﴿قُلْ بلى﴾ ردٌّ لكلامِهم وإثباتٌ لِما نفَوه على معنى ليسَ الأمرُ إلاَّ إتيانَها وقولُه تعالى ﴿وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ﴾ تأكيدٌ له على أتم الوجوه وأكملها وقرئ ليأتينَّكم على تأويل السَّاعةِ باليَّومِ أو الوقتِ وقوله تعالى ﴿عالم الغيب﴾ الخ إمداد للتَّأكيدِ وتسديدٌ له إثرَ تسديدٍ وكسر لسَورةِ نكيرِهم واستبعادهم فإنَّ تعقيب القسم بحلائل نُعوت المُقسَمِ بهِ على الإطلاق يُؤذنُ بفخامة شأنِ المُقْسَمِ عليه وقوَّةِ ثباته وصحته لما أن لك في حكمِ الاستشهادِ على الأمرِ ولا ريب في أن المستشهدَ به كلَّما كان أجل وأعلا كانت الشهادة أكدو أقوى والمستشهدُ عليه أحقَّ بالثُّبوتِ وأولى لا سيَّما إذا خص بالذكر من البعوت ماله تعلُّقٌ خاصٌّ بالمُقسَمِ عليه كما نحنُ فيهِ فإنَّ وصفَه بعلم الغيب الذي أشهرُ أفرادِه وأدخلُها في الخفاء هو المقسمُ عليهِ تنبيه لهم على علَّةِ الحكم وكونه ممَّا لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ ما وفائدة الأمر بهذه المرتبة من اليمين أنْ لا يقى المعاندين عذرٌ ما أصلاً فإنَّهم كانوا يعرفون أمانتَه ونزاهتَه عن وصمةِ الكذب فضلاً عن اليمين الفاجرةِ وإنَّما لم يصدقوه مكابرة وقرئ علاَّمُ الغيبِ وعالمُ الغيبِ وعالمُ الغُيوبِ بالرَّفعِ على المدحِ ﴿لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ﴾ أي لا يعد وقرئ بكسرِ الزَّايِ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ مقدارُ أصغرِ نملةٍ ﴿فِي السماوات وَلاَ فِى الارض﴾ أي كائة فيهما ﴿وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك﴾ أي من مثقالِ ذرَّةٍ ﴿وَلا أَكْبَرَ﴾ أي منه ورفعُهما على الابتداءِ والخبرُ قولُه تعالى ﴿إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ﴾ هو اللَّوحُ المحفوظُ والجملةُ مؤكِّدةٌ لنفى العزوب وقرئ ولا أصغرَ ولا أكبرَ بفتحِ الرَّاءِ على نفيِ الجنسِ ولا يجوزُ أن يُعطفَ المرفوعُ على مثقالُ ولا المفتوحُ على ذَرَّةٍ بانه فتح في حيز الجر لا متاع الصَّرفِ لما أنَّ الاستثناءَ يمنعه إلا أنْ يُجعل الضميرُ في عنه للغيب ويُجعلَ المثبتُ في اللَّوحِ خارجاً عنه لبروزه للمطالعينَ له فيكون المعنى لا ينفصل عن الغيب شئ إلا مسطوراً في اللَّوحِ
﴿ليجزي الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات﴾ علَّةٌ لقوله تعالى لتأنينكم وبيان لما
121
سبإ ٥ ٧ يقتصى إتيانها
﴿أولئك﴾ إشارةٌ إلى الموصولِ من حيثُ اتصافُه بما في حيز الصلةِ وما فيهِ منْ مَعْنى البُعدِ للإيذانِ ببعدِ منزلتهم في الفضل والشرف أي أولئك الموصوفون بالصِّفاتِ الجليلةِ
﴿لَهُمْ﴾ بسبب ذلك
﴿مَغْفِرَةٌ﴾ لما فَرَط منهم من بعض فَرَطاتٍ قلَّما يخلُو عنها البشرُ
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ لا تعبَ فيه ولا منَّ عليه
122
﴿والذين سعوا في آياتنا﴾ بالقدحِ فيها وصدِّ النَّاسِ عن التَّصديقِ بها ﴿معاجزين﴾ أي مسابقين كي يفوتونَا وقرئ مُعجزين أي مُثبِّطينَ عن الإيمانِ مَن أراده ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ﴾ الكلامُ فيه كالذي مرَّ آنِفاً ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿من رّجْزٍ﴾ للبيانِ قال قَتَادةُ رضى الله عنه الرِّجزُ سوءُ العذابِ وقولُه تعالى ﴿أَلِيمٌ﴾ بالرَّفعِ صفةُ عذابٌ أي أولئك السَّاعُون لهم عذابٌ من جنس سوء العذاب شديدُ الإيلامِ وقرئ أليمٍ بالجرِّ صفة لرجزٍ
﴿ويرى الذين أوتوا العلم﴾ أي يعلم أولُو العلمِ من أصحابِ رسولِ الله ﷺ ومن يشايعهم من عُلماءِ الأمَّةِ أو مَنْ آمنَ مِنْ علماء أهلِ الكتابِ كعبدِ اللَّه بنِ سَلاَم وكعبٍ وأضرابِهما رضى الله عنهم ﴿الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ﴾ أي القرآنَ ﴿هُوَ الحق﴾ بالنصب على أنه مفعولٌ ثانٍ ليَرى والمفعولُ الأولُ هو الموصولُ الثَّانِي وهو ضمير الفصل وقرئ بالرفع على الابتداء والخبر والجملةُ هو المفعولُ الثَّاني ليَرى وقولُه تعالى وَيَرَى الخ مستأنفٌ مسوقٌ للاستشهادِ بأولي العلم على الجَهَلةِ السَّاعينَ في الآياتِ وقيل منصوبٌ عطفاً على يجزيَ أي وليعلمَ أولو العلم عند مجئ السَّاعةِ مُعاينةً أنَّه الحقُّ حسبما علمُوه الآنَ بُرهاناً ويحتجُّوا به على المكذِّبين وقد جُوِّز أن يراد بأولي العلم مَن لم يؤمنْ من الأحبار أي ليعلمُوا يومئذٍ أنَّه هو الحقُّ فيزدادوا حسرةً وغمًّا ﴿وَيَهْدِى﴾ عطف على الحقَّ عطف الفعل على الاسم لأنَّه في تأويله كما في قوله تعالى صافات ويقبض أي وقابضاتٍ كأنَّه قيل ويرى الذين أوتوا العلم الذي أُنزل إليك الحقَّ وهادياً ﴿إلى صِرَاطِ العزيز الحميد﴾ الذي هو التوحيدُ والتدرُّع بلباس التَّقوى وقيل مستأنف وقيل حالٌ من الذي أُنزل على إضمارِ مبتدأ أي وهو يهدي كما في قوله من قال نجوت وأرهنهم مالكاً
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ﴾ هم كفَّارُ قُريشٍ قالوا مخاطباً بعضهم
﴿هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ﴾ يعنون به النبيُّ صلَّى الله عليهِ وسلم وإنَّما قصدُوا بالتَّنكيرِ الطَّنزَ والسُّخريةَ قاتلهم الله تعالى
﴿يُنَبّئُكُمْ﴾ أي يُحدِّثكم بعجبٍ عجاب وقرئ ينبئكم من الإنباءِ
﴿إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي إذا متُم ومُزِّقتْ أجسادُكم كلَّ تمزيقٍ وفُرِّقت كلَّ تفريقٍ بحيث صرتُم تُراباً ورُفاتاً
﴿إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي مستقرُّون فيه عدل إليه عن الجملة الفعليةِ الدَّالَّةِ على الحدوث مثل تبعثون أو
122
سبإ ٨ ٩ تخلقون خلقاً جديداً للإشباعِ في الاستبعاد والتعجب وكذلك تقديم الظَّرفِ والعامل فيه ما دلَّ عليه المذكورُ لا نفسه لما أنَّ ما بعد إنَّ لا يعملُ فيما قبلَها ويد فعيلٌ بمعنى فاعلٍ من جَدَّ فهو جديدٌ وقلَّ فهو قليلٌ وقيل بمعنى مفعولٍ من جدَّ النَّسَّاجُ الثوبَ إذا قطعه ثمَّ شاع
123
﴿أفترى عَلَى الله كَذِباً﴾ فيما قاله ﴿أَم بِهِ جِنَّةٌ﴾ أي جنونٌ يوهمه ذلك ويُلقيه على لسانِه والاستدلالُ بهذا التَّرديدِ على أنَّ بين الصِّدقِ والكذب واسطةً هو ما لا يكون من الإخبار عن بصيرةٍ بين الفساد لظهور كون الافتراء أخصَّ من الكذبِ ﴿بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة فِى العذاب والضلال البعيد﴾ جوابٌ من جهة الله تعالى عن ترديدِهم الوارد على طريقةِ الاستفهامِ بالإضرابِ عن شقَّيهِ وإبطالها وإثباتِ قسمٍ ثالثٍ كاشفٍ عن حقيقةِ الحال ناعٍ عليهم سوءَ حالهم وابتلاءهم بما قالُوا في حقِّه ﷺ كأنه قيل ليس الأمرُ كما زعمُوا بل هم في كمال اختلال العقل وغاية الضَّلالِ عن الفهم والإدراك الذي هو الجنون حقيقةً وفيما يؤدِّي إليه ذلك من العذابِ ولذلك يقولونَ ما يقولونَ وتقديمُ العذاب على ما يُوجبه ويستتبعه للمسارعةِ إلى بيانِ ما يسوؤُهم ويفتُّ في أعضادِهم والإشعارِ بغاية سُرعة ترتُّبِه عليه كأنَّه يُسابقه فيسبقه ووصفُ الضَّلالِ بالبُعد الذي هو وصف الضَّالِ للمبالغة ووضعُ الموصولِ موضعَ ضميرهم للتنبيهِ بما في حيزِ الصلة على أن علة ما ارتكبوه واجترءوا عليه من الشَّناعةِ الفظيعةِ كفرُهم بالآخرة وَمَا فِيْهَا منْ فنونِ العقاب ولولاه لما فعلُوا ذلك خوفاً من غائلتِه وقوله تعالى
﴿أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والارض﴾ استئنافٌ مسوق لتهويل ما اجترُءوا عليه من تكذيبِ آياتِ الله تعالى واستعظامِ ما قالُوا في حقه ﷺ وأنَّه من العظائمِ الموجبة لنزول أشدِّ العقاب وحلول أفظع العذاب من غير ريثٍ وتأخير والفاءُ للعطفِ على مقدر يقتضيه المقام وقوله تعالى
﴿إِن نَّشَأْ﴾ الخ بيان لما ينبئ عنه ذكرُ إحاطتِهما بهم من المحذورِ المتوقَّعِ من جهتهما وفيه تنبيهٌ على أنَّه لم يبقَ من أسباب وقوعِه إلا تعلُّقُ المشيئة به أي افعلُوا ما فعلُوا من المنكر الهائلِ المستتبع للعُقوبة فلم ينظروا إلى ما أحاطَ بهم من جميع جوانبِهم بحيثُ لا مفرَّ لهم عنه ولا محيصَ إنْ نَشَأْ جرياً على موجب جناياتِهم
﴿نَخْسِفْ بِهِمُ الارض﴾ كما خسفناها بقارونَ
﴿أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً﴾ أي قِطعاً
﴿مّنَ السماء﴾ كما أسقطناها على أصحابِ الأَيْكةِ لاستيجابهم ذلك بما ارتكبُوه من الجرائم وقيل هو تذكيرٌ بما يُعاينونَهُ ممَّا يدلُّ على كمال قُدرتِه وما يحتمل فيه إزاحة لاستحالتِهم البعث حتى جعلوه افتراء وهزءا وتهديد عليها والمعنى أعمُوا فلمْ ينظرُوا إِلَى ما أحاطَ بجوانبهم من السَّماءِ والأرضِ ولم يتفكَّروا أهمْ أشدُّ خلقاً أم هي وإنْ نَشَأْ نخسف بهم الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً لتكذيبِهم بالآياتِ بعد ظهورِ البينات فتأمل وكن الحق المبين وقرئ يخسف
123
سبإ ١٠ ١١ ويَسقط بالياء لقوله تعالى افترى عَلَى الله وكِسْفاً بسكون السِّينِ
﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من السَّماء والأرضِ من حيث إحاطتُهما بالنَّاظرِ من جميع الجوانب أو فيما تُلي منَ الوحيِ النَّاطقِ بما ذُكر
﴿لآيَةً﴾ واضحةً
﴿لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ﴾ شأنُه الإنابةُ إلى ربِّه فإنه إذا تأمَّلَ فيهما أو في الوحيِ المذكورِ ينزجرُ عن تعاطى القبائح وبنيب إليه تعالى وفيه حثٌّ بليغٌ على التَّوبةِ والإنابة وقد أكدَّ ذلك بقولِه تعالى
124
﴿ولقد آتينا داود مِنَّا فَضْلاً﴾ أي آتيناه لحسن إنابتِه وصحَّةِ توبته فضلاً على سائرِ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسَّلامُ أي نوعاً من الفضل وهو ما ذُكر بعد فإنَّه معجزة خاصة به ﷺ أو على سائر النَّاسِ فيندرج فيه النُّبوةُ والكتاب والمُلك والصَّوتُ الحسن فتنكيره للتَّفخيمِ ومنَّا لتأكيدِ فخامتِه الذَّاتيةِ بفخامته الإضافيَّةِ كما في قوله تعالى وَآتَيْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا وتقديمُه على المفعولِ الصَّريحِ للاهتمام بالمقدم والتشويقِ إلى المؤخَّر فإنَّ ما حقُّه التقديمُ إذا اخر تقى النَّفسُ مترقبةً له فإذا وردها يتمكَّن عندها فضلُ تمكّنٍ ﴿يا جبال أَوّبِى مَعَهُ﴾ من التَّأويبِ أي رجِّعي معه التَّسبيحَ أو النَّوحةَ على الذَّنبِ وذلك إمَّا بأنْ يخلقَ الله تعالى فيها صوتاً مثلَ صوتِه كما خلق الكلام في الشَّجرةِ أو بأنْ يتمثَّلَ له ذلك وقُرىء أُوبي من الأَوْبِ أي ارْجِعي معه في التَّسبيحِ كلما رجعَ فيه وكان كلَّما سبَّح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يُسمع من الجبال ما يُسمع من المسبِّحِ معجزةً له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقيل كان ينوحُ على ذنبه بترجيعٍ وتحزينٍ وكانتِ الجبالُ تُسْعِدُه على نَوحِه بأصدائها والطَّيرُ بأصواتِها وهو بدل من آتينا بإضمار قلنا أو من فضلاً بإضمار قولنا والطير بالنَّصبِ عطفاً على فضلاً بمعنى وسخَّرنا له الطَّيرَ لأنَّ إيتاءَها إيَّاهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ تسخيرها له فلا حاجة إلى إضمارِه كما نُقل عن الكِسائيِّ ولا إلى تقدير مضافٍ أي تسبيح الطَّيرِ كما نُقل عنه في رواية وقيل عطفاً على محلِّ الجبالِ وفيه من التكلف لفظا ومعنى مالا يخفى وقُرىء بالرَّفعِ عطفا على لفظها تشبيهاً للحركة البنائيَّةِ العارضة بالحركةِ الإعرابيَّةِ وقد جُوِّزَ انتصابُه على أنَّه مفعولٌ معه والأول هو الوجهُ وفي تنزيل الجبال والطَّيرِ منزلةَ العُقلاءِ المُطيعين لأمره تعالى المُذعنينَ لحكمه المشعر بأنَّه ما من حيوانٍ وجمادٍ وصامتٍ وناطقٍ إلا وهو منقادٌ لمشيئته غير ممتنعٍ على إرادته من الفخامة المُعربةِ عن غاية عظمةِ شأنِه تعالى وكمال كبرياءِ سلطانِه مالا يخفى على أولي الألباب ﴿وَأَلَنَّا لَهُ الحديد﴾ أي جعلناه ليِّناً في نفسه كالشَّمعِ يُصرِّفه في يده كيف يشاءُ من غير إحماءٍ بنارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ أو جعلناه بالنِّسبةِ إلى قوَّتِه التي آتيناها إيَّاهُ ليِّناً كالشَّمعِ بالنسبة إلى سائرِ القُوى البشريَّةِ
(أَنِ اعمل) أمرناه أنِ اعمل على أنَّ أنْ مصدريةٌ حُذف عنها الباءُ وفي حملها على المفسِّرةِ تكلُّفٌ لا يخفى سابغات واسعاتٍ وقُرىء صابغاتٍ وهي الدُّروعُ الواسعة الضَّافيةُ وهو عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أوَّلُ من اتَّخذها وكانت قبلُ صفائحَ قالوا كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حين ملكَ على بني إسرائيلَ يخرجُ متنكر فيسألُ النَّاسَ ما تقولون في داودَ فيُثنون عليه فقيَّضَ الله تعالى له ملكا في
124
سبإ ١٢ ١٣ صورةِ آدميَ فسأله على عادتِه فقال نِعْمَ الرَّجلُ لولا خَصلةٌ فيه فريع داودُ فسألَه عنها فقالَ لولا أنَّه يُطعم عيالَه من بيتِ المالِ فعند ذلك سألَ ربَّه أنْ يُسبِّب له ما يستغني به عن بيتِ المال فعلَّمه تعالى صنعةَ الدُّروعِ وقيل كان يبيع الدروع بأربعةِ آلافٍ فينفقُ منها على نفسِه وعيالِه ويتصدَّقُ على الفقراء
﴿وَقَدّرْ فِى السرد﴾ السَّردُ نسجُ الدُّروعِ أي اقتصد في نسجِها بحيث تتناسب حِلَقُها وقيل قدِّرْ في مساميرِها فلا تعملها رقاقا ولا غِلاظاً ورُدَّ بأنَّ دروعَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لم تكُن مسمَّرة كما ينبئ عنه إلانةُ الحديدِ وقيل معنى قَدِّرْ في السَّردِ لا تصرفْ جميعَ أوقاتِك إليه بل مقدارَ ما يحصلُ به القوتُ وأمَّا الباقي فاصرِفْه إلى العبادة وهو الأنسبُ بقولِه تعالى
﴿واعملوا صالحا﴾ عمَّم الخطابَ حسب عموم التَّكليفِ له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ولأهلِه
﴿إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ تعليل للأمر أو لوجوب الامتثالِ به
125
﴿ولسليمان الريح﴾ أي وسخرنا له الريح وقرئ برفع الرِّيحِ أي ولسليمان الريح مسخرة وقرئ الرِّياحَ ﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ أي جريها بالغَداةِ مسيرةُ شهرٍ وجريها بالعَشيِّ كذلك والجملةُ إمَّا مستأنفةٌ أو حالٌ من الرِّيحِ وقرئ غُدوتُها ورَوحتُها وعنِ الحسنِ رحمَهُ الله كان يغدُو أي من دمشقَ فيقيلُ باصطَّخَر ثمَّ بروح فيكون رَوَاحه بكابُلَ وقيل كان يتغدى بالرَّيِّ ويتعشَّى بسمرقندَ ويُحكى أنَّ بعضَهم رأى مكتوباً في منزلٍ بناحيةِ دِجْلَة كتبه بعضُ أصحابِ سليمانَ عليه السَّلامُ نحنُ نزلنَاهُ وما بنيناهُ ومبنيًّا وجدناهُ غدونَا من اصطَّخَر فقلناهُ ونحن رائحون منه فبايتونَ بالشَّامِ إنْ شاءَ الله تعالى ﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر﴾ أي النُّحاسَ المُذابَ أسالَه من معدنِه كما آلانَ الحديدَ لدَّاودَ عليهما السَّلامُ فنبع منه نبوعَ الماء من الينبوعِ ولذلك سُمِّي عيناً وكان ذلك باليمنِ وقيل كان يسيلُ في الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ وقوله تعالى ﴿وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ إمَّا جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ أو مَن يعملُ عطفٌ على الرِّيحَ ومن الجنِّ حالٌ متقدِّمةٌ ﴿بِإِذْنِ رَبّهِ﴾ بأمرِه تعالى كما ينبئ عنه قولُهُ تعالَى ﴿وَمِنَ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ أي ومَن يعدلْ منهم عمَّا أمرناهُ به من طاعة سليمان وقرئ يزغ على البناء المفعول من أزاغَه ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير﴾ أي عذابِ النَّارِ في الآخرةِ رُوي عن السدى رحمه الله كان معه مَلكٌ بيده سَوطٌ من نارٍ كلُّ منِ استعصى عليه ضربَه من حيثُ لا يراه الجنيُّ
﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء﴾ تفصيلٌ لما ذُكر من عملِهم وقوله تعالى
﴿مِن محاريب﴾ الخ بيانٌ لمَا يشاءُ أي من قصورٍ حصينةٍ ومساكنَ شريفةٍ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها وقيل هي المساجدُ
﴿وتماثيل﴾ وصور الملائكةِ والأنبياءُ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ على ما اعتادُوه فإنَّها كانتْ تعمل حينئذٍ في المساجدِ ليراها النَّاسُ ويعبدوا مثلَ عباداتِهم وحرمةُ التَّصاويرِ شرعٌ جديدٌ ورُوي أنَّهم عملوا أسدينِ في أسفل كرسِّيهِ ونِسرين فوقه فإذا أراد أن يصعدَ بسط الأسدان ذراعيهما
125
سبإ ١٤ وإذا قعد أظله النَّسرانِ بأجنحتِهما
﴿وَجِفَانٍ﴾ جمع جفنة وهي الصفحة
﴿كالجواب﴾ كالحياضِ الكبارِ جمع جابيةٍ من الجباية لاجتماعِ الماء فيها وهي من الصفات الغالبة كالدابة وقرئ بإثبات الياءِ قيل كان يقعدُ على الجفنةِ ألفُ رجل
﴿وقدور راسيات﴾ ثابتاتٍ على الأَثَافي لا تنزل عنها لعظمِها
﴿اعملوا آل داود شكرا﴾ حكايةً لما قيلَ لهم وشُكراً نصبٌ على أنَّه مفعولٌ له أو مصدرٌ لاعملُوا لأنَّ العمل للمنعمِ شكرٌ له أو لفعله المحذوفِ أي اشكرُوا شكراً أو حالٌ أي شاكرين أو مفعولٌ به أي اعملُوا شُكراً
﴿وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور﴾ أي المتوفِّرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبه ولسانِه وجوارحِه أكثر أوقاتِه ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه لأنَّ التَّوفيقَ للشكرِ نعمةٍ تستدعِي شكراً آخرَ لا إلى نهايةٍ ولذلك قيل الشَّكورُ من يرى عجزَه عن الشُّكرِ ورُوي أنه عليه الصلاةُ والسلام جزَّأَ ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ على أهله فلم تكنُ تأتِي ساعةٌ من السَّاعاتِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يُصلِّي
126
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت﴾ أي على سليمانَ عليه السَّلامُ
﴿مَا دَلَّهُمْ﴾ أي الجنَّ أو آلَه
﴿على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاْرْضِ﴾ أي الأَرَضةُ أضيفتْ إلى فعلها وقرئ بفتحِ الرَّاءِ وهو تأثُّرُ الخشبةِ من فعلِها يقالُ أَرَضتَ الأَرَضةُ الخشبةَ أرضاً فأرضتْ أرضْاً مثل أكلتِ القوارح أسنانَه أَكْلاً فأكلتْ أَكلاَ
﴿تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ﴾ أي عصاهُ من نسأتُ البعيرَ إذا طردَته لأنَّها يُطرد بها ما يطرد وقرئ مِنُساتَه بألفٍ ساكنةٍ بدلاً من الهمزة وبهمزةِ ساكنةٍ وبإخراجها بينَ بينَ عند الوقف ومنساءته عل مفعالةٍ كميضاءَةٍ في ميضأَةٍ ومن ساته أي من طرفِ عصاهُ من سأةِ القوسِ وفيه لغتانِ كما في قِحَةٍ بالكسرِ والفتحِ وقُرىء أكلتْ مِنْساتَهُ
﴿فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجن﴾ من تبيَّنت الشيءَ إذا علمته بعد التباسه عليك أي علمت الجنّ علماً بيِّنا بعد التباسِ الأمر عليهم
﴿أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ فِى العذاب المهين﴾ أي أنَّهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلمُوا موتَه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حينما وقع فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ أو من تبيَّن الشيءُ إذا ظهرَ وتجلَّي أي ظهرتِ الجنُّ وأنْ مع ما في حيِّزِها بدلُ اشتمالٍ من الجنُّ أي ظهر أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيبَ الخ وقُرىء تبيَّنت الجنُّ على البناءِ للمفعولِ على أنْ المتبيَّن في الحقيقة هو أن مع ما في حيِّزِها لأنه بدلٌ وقُرىء تبيَّنت الإنسُ والضَّميرُ في كانُوا للجنِّ في قوله تعالى ومن الجن مَن يَعْمَلُ وفي قراءةُ ابن مسعود رضي الله عنه تبينتِ الأنسُ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمون الغيب رُوي أنَّ داودَ عليه السَّلامُ أسَّس بنيان بيت المقدس في موضعِ فُسطاطِ مُوسى فتوفِّي قبل تمامه فوصَّى به إلى سليمانَ عليهما السَّلامُ فاستعمل فيه الجنَّ والشَّياطينَ فباشروه حتىَّ إذا حانَ أجلُه وعلم به سألَ ربَّه أنْ يُعمِّي عليهم موتَه حتَّى يفرغُوا منه ولتبطلَ دعواهم علمَ الغيبِ فدعاهم فبنَوا عليه صَرحاً من قواريرَ ليس له بابٌ فقام يُصلِّي متكئاً على عصاهُ فقُبض روحُه وهو متكىءٌ عليها فبقي كذلك وهم فيما أُمروا به من الأعمالِ حتَّى أكلتِ الأَرَضةُ عصاهُ فخرَّ ميِّتاً وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه
126
سبإ ١٥ ١٦ اينما صلى ﷺ فلم يكن ينظر إليه الشيطان في صلاتِه إلاَّ احترقَ فمرَّ به يوماً شيطانٌ فنظر فإذا سليمانُ عليه السَّلامُ قد خرَّ ميتاً ففتحُوا عنه فإذا عصاهُ قد اكلها الأرَضةُ فأرادوا أن يعرفُوا وقتَ موتِه فوضعُوا الأَرضةَ على العصا فأكلتْ منها في يومٍ وليلةٍ مقداراً فحسبُوا على ذلك فوجدُوه قد مات منذُ سنةٍ وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنة ملك وهو ابن ثلاثَ عشرةَ سنة وبقي في ملكه أربعينَ سنةً وابتدأ بناءَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضين من مُلكِه
127
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ بيان لإخبار بعض الكافرين بنعم الله تعالى إثرَ بيانِ أحوال الشَّاكرينَ لها أي لأولاد سبأِ بن يشجبَ بن يعرب بن قحطان وقُرىء بمنع الصَّرفِ على أنه اسمُ القبيلةِ وقُرىء بقلب الهمزةِ ألفاً ولعله إخراجٌ لها بينَ بينَ ﴿فِى مَسْكَنِهِمْ﴾ وقُرىء بكسرِ الكافِ كالمسجِدِ وقُرىء بلفظ الجمعِ أي مواضع سُكناهم وهي باليمنِ يقال لها مَأْرِبُ بينها وبين صنعاءَ مسيرة ثلاث ليال آية دالَّة بملاحظه أحوالِها السَّابقةِ واللاَّحقةِ على وجود الصَّانعِ المُختار القادر على كلِّ ما يشاء من الأمور البديعة المُجازي للمحسنِ والمسيءِ معاضدةً للبرهان السَّابقِ كما في قصتي داودُ وسليمانُ عليهما السَّلامُ ﴿جَنَّتَانِ﴾ بدل من آيةً أو خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هي جنتان وفيه معنى المدح ويُؤيِّدُه قراءةُ النَّصبِ على المدح والمرادُ بهما جماعتانِ من البساتين ﴿عَن يَمِينٍ وشمال﴾ جماعة يمينِ بلدِهم وجماعةٌ عن شمالِه كلِّ واحدةٍ من تَيْنكَ الجماعتينِ في تقاربِهما وتضامِّهما كأنَّهما جنَّةٌ واحدةٌ أو بستاناً كلُّ رجلٍ منهم عن يمين مسكنِه وعن شمالِه ﴿كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ﴾ حكايةً لما قيلَ لهم على لسان نبيِّهم تكميلاً للنِّعمةِ وتذكيراً لحقوقِها أو لما نطقَ به لسانُ الحالِ أو بيان لكونهم أحقاء بأن يقال لهم ذلك ﴿بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ استئنافٌ مبيِّن لما يوجب الشُّكرَ المأمور به أي بلدتُكم بلدةٌ طيبةٌ وربكم الذي رزقكم مافيها من الطَّيباتِ وطلب منكم الشُّكرَ ربٌّ غفورٌ لفرطات مَن يشكره وقُرىء الكلُّ بالنَّصبِ على المدح قيل كان أطيبَ البلاد هواء واحصبها وكانتِ المرأةُ تخرج وعلى رأسها المِكْتلُ فتعمل بيديها وتسير فيما بين الأشجار فيمتلىءُ المِكْتَلُ مما يتساقطُ فيه من الثِّمارِ ولم يكن فيه من مؤذياتِ الهُوامِّ شيء
﴿فَأَعْرِضُواْ﴾ عن الشُّكر بعد إبانة الآيات الدَّاعيةِ لهم إليه قيل أرسل الله إليهم ثلاثةَ عشرَ نبَّياً فدَعوهم إلى الله تعالى وذكَّروهم بنعمه وأنذروهم عقابه فكذَّبوهم
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم﴾ أي سيلَ الأمر العرم أي الصَّعبِ من عَرِمَ الرَّجلُ فهو عارمٌ وعَرِمٌ إذا شرس خلقُه وصعب أو المطر الشَّديدُ وقيل العرم جمعُ عُرمةٍ وهي الحجارة المركومة وقيل هو السكر الذي يحبس الماء وقيل هو اسمُ للبناء الذي يُجعلُ سدَّاً وقيل هو البناء الرَّصينُ الذي بنته الملكةُ بلقيسُ بين الجبلينِ بالصَّخرِ والقارِ وحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خُرُوقاً على ما يحتاجونَ إليه في
127
سبإ ١٧ ١٨ سقيهم وقيل العرمُ الجُرَذُ الذي نَقَبَ عليهم ذلك السدَّ وهو الفأرُ الأعمى الذي يقال له الخُلْدُ سلَّطه الله تعالى على سدِّهم فنقَبه فغرَّق بلادَهم وقيل العَرِمُ اسم الوادي وقرئ العَرْم بسكون الرَّاءِ قالوا كان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى والنَّبيِّ عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ
﴿وبدلناهم بجنتيهم﴾ أي أذهبنا جنَّتيهم وآتيناهم بدلهما
﴿جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ أي ثمرٍ بشعٍ فإنَّ الخَمْطَ كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتَّى لا يمكن أكلُه وقيل هو الحامضُ والمرُّ من كل شئ وقيل هو ثمرةُ شجرةٍ يقال لها فَسْوةُ الضبع على صورة الخَشْخَاشِ لا يُنتفع بها وقيل هو الاراك وكل شجرٍ ذي شوكٍ والتَّقديرُ أكل أكل خمط فحُذف المضافُ وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه وقرئ أكل خمط بالاضافة وبتخفيف أكل
﴿وَأَثْلٍ وَشَىْء مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ معطوفان على أُكلٍ لا على خَمْطٍ فإن الأَثْلَ هو الطَّرفاءُ وقيل شجرٌ يُشبهه أعظم منه ولا ثمر له وقرئ وأَثْلاً وشيئاً عطفاً على جنَّتين قيل وصف السِّدْرُ بالقلَّةِ لما أنَّ جناهُ وهو النَّبقُ مَّما يطيبُ أكلُه ولذلك يغرس في البساتينِ والصَّحيح أنَّ السِّدْرِ صنفانِ صنفٌ يُؤكلُ من ثمره ويُنتفع بورقه لغسلِ اليد وصنف له ثمرة عَفْصةٌ لا تُؤكل أصلاً ولا يُنتفع بورقهِ وهو الضَّالُ والمرادُ ههنا هو الثَّاني حتماً وقال قَتادةُ كان شجرُهم خيرَ الشَّجرِ فصيَّرُه الله تعالى من شرِّ الشَّجرِ بأعمالِهم وتسميةُ البدلِ جنَّتين للمشاكلةِ والتَّهكُّمِ
128
﴿ذلك﴾ إشارة إلى مصدر قوله تعالى ﴿جزيناهم﴾ أو إلى ما ذُكرَ من التَّبديلِ وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد رُتبتهِ في الفظاعة ومحلُّه على الأوَّلِ النصبُ على أنَّه مصدرٌ مؤكدِّ للفعل المذكور وعلى الثَّاني النَّصبُ على أنه مفعولٌ ثانٍ له أي ذلك الجزاءَ الفظيع جزيناهم لاجزاء آخرَ أو ذلك التَّبديلَ جزيناهم لا غيرَه ﴿بِمَا كَفَرُواْ﴾ بسبب كفرانهم النِّعمة حيثُ نزعناها منهم ووضعنا مكانها ضدَّها أو بسبب كفرهم بالرُّسلِ ﴿وَهَلْ نُجَازِى إِلاَّ الكفور﴾ أي وما نجزى هذا الجزاءَ إلا المُبالغَ في الكُفرانِ أو الكفر وقرئ يُجازِي على البناءِ للفاعلِ وهو الله عزَّ وجلَّ وهل يُجازَى على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الكفورَ وهل يجزى على البناء للمفعول أيضاً وهذا بيانُ ما أُوتوا من النَّعم الحاضرة في مساكنهم وما فعَلُوا بها من الكُفرانِ وما فُعل بهم من الجزاء وقوله تعالى
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا﴾ حكاية لما أُوتوا من النَّعمِ البادية في مسايرهم ومتاجرهم وما فعلوا بها من الكفران وما حاق بهم بسبب ذلك تكملةً لقصتهم وبياناً لعاقبتهم وإنما لم يذكر الكلَّ معاً لما في التَّثنيةِ والتكريرِ من زيادة تنبيه وتذكير وهو عطف على كل لسبأٍ لا على ما بعده من الجمل النِّاطقةِ بأفعالهم أو بأجزيتها أي وجعلنا مع ما آتيناهم في مساكنهم من فُنون النِّعمِ بينهم أي بين بلادهم وبين القُرى الشَّاميةِ التى باركنا فيها للعالمين
﴿قُرًى ظاهرة﴾ متواصلة يُرى بعضُها من بعضٍ لتقاربها فهي ظاهرة لأعينُ أهلها أو راكبة متنَ الطريق ظاهرة للسَّابلةِ غير بعيدة عن مسالكهم حتَّى تخفى عليهم
﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير﴾ أي جعلناها في نسبة بعضها
128
سبإ ١٩ إلى بعضٍ على مقدار معيَّنٍ يليقُ بحال أبناء السَّبيلِ قيل كان الغادي من قرية يقيلُ في أخرى والرَّائحُ منها يبيت في أُخرى إلى أنْ يبلغً الشَّامَ كلُّ ذلك كان تكميلاً لما أُوتوا من أنواع النَّعماءِ وتوفيراً لها في الحضر والسَّفرِ
﴿سِيرُواْ فِيهَا﴾ على إرادةِ القولِ أيْ وقُلنا لهم سيروا في تلك القُرى
﴿لَيَالِىَ وَأَيَّاماً﴾ أي متى شئتُم من الليالي والأيَّامِ
﴿آمنين﴾ من كلِّ ما تكرهونه لا يختلف الأمنُ فيها باختلاف الأوقاتِ أو سيروا فيها آمنينَ وإن تطاولتْ مُدَّةُ سفرِكم وامتدتْ لياليَ واياما كثية أو سيروا فيها لياليَ أعمارِكم وأيَّامَها لا تلقَون فيها إلا الأمنَ لكن لا على الحقيقة بل على تنزيل تمكينهم من السَّيرِ المذكور وتسوية مباديه وأسبابه على الوجه المذكور منزلة أمرهم بذلك
129
﴿فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أسفارنا﴾ وقرئ يا ربَّنا بطروا النِّعمةَ وسئِمُوا أطيبَ العيشِ وملُّوا العافية فطلبوا الكدَّ والتَّعبَ كما طلب بنو إسرائيلَ الثوم والبصل مكان المنِّ والسَّلوى وقالوا لو كان جنى جناننا أبعدَ لكان أجدرَ أن نشتهيَه وسألوا أنْ يجعل الله تعالى بينهم وبين الشأمِ مفاوزَ وقفاراً ليركبُوا فيها الرَّواحل ويتزوَّدوا الأزواد ويتطاولُوا فيها على الفقراء فعجَّل الله تعالى لهم الإجابةَ بتخريب تلك القُرى المتوسطة وجعلها بَلْقَعاً لا يُسمع فيها داعٍ ولا مجيب وقرئ بعد وربنا بعِّدْ بين أسفارنا وبعُدَ بينُ أسفارنا على النداء وإسناد الفعل إلى بين ورفعه به كما يقال سير فرسخان وبُوعد بين أسفارنا وقرئ ربنا باعد بين أسفارنا وبين سفرِنا وبعَّد برفع ربنا على الابتداء والمعنى على خلاف الأول وهو استبعادُ مسايرهم مع قِصرها أو دنوِّها وسهولة سلوكها لفرطِ تنعُّمهم وغاية ترفههم وعدم اعتدادهم بنعم الله تعالى كأنَّهم يتشاجَون على الله تعالى ويتحازنون عليه
﴿وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ﴾ حيث عرَّضُوها للسَّخطِ والعذاب حين بطروا النِّعمةَ أو غمطُوها
﴿فجعلناهم أحاديث﴾ أي جعلناهم بحيث يتحدثُ النَّاسُ بهم متعجِّبين من أحوالَهم ومعتبرين بعاقبتهم ومآلِهم
﴿ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ أي فرَّقناهم كلَّ تفريقٍ على أنَّ المُمزَّقَ مصدرٌ أو كلَّ مطرحِ ومكانِ تفريقٍ على أنه اسم مكان وفي عبارة التَّمزيقِ الخاص بتفريق المتَّصل وخرفه من تهويل الأمرِ والدِّلالةِ على شدَّةِ التَّأثيرِ والإيلامِ ما لا يخفى أي مزَّقناهم تمزيقاً لا غاية وراءه بحيث يُضرب به الأمثال في كلِّ فُرقة ليس بعدها وصالٌ حتى لحق غسَّانُ بالشَّأمِ وأنمارٌ بيثربَ وجُذامُ بتهامةَ والأزدُ بُعمانَ وأصلُ قصَّتهم على ما رواه الكلبيُّ عن أبي صالحٍ أنَّ عمروَ بن عامرِ من أولاد سبأ وبينهما اثنى عشر أباً وهو الذي يُقال له مُزَيْقِيا بنُ ماءِ السَّماءِ أَخبرتْهُ طريفةُ الكاهنةُ بخراب سدِّ مأربَ وتفريق سيل العرم الجنَّتين وعن أبي زيد الأنصاريِّ أن عمرا راى جرزا يفر السَّدَّ فعلم أنَّه لا بقاءَ له بعدُ وقيل إنَّه كان كاهناً وقد عَلمه بكهانتِه فباع أملاكَه وسار بقومه وهم ألوفٌ من بلدٍ إلى بلدٍ حتى انتهى إلى مكَّة المعظَّمة وأهلها جُرهمٌ وكانوا قهروا النَّاسَ وحازوا ولايةَ البيت على بني إسمعيل عليه السَّلامُ وغيرهم فأرسل إليهم ثعلبةَ بن عمرو ابن عامر يسألُهم المقام معهم إلى أنْ يرجع إليه رُوَّادُه الذين أرسلهم إلى أصقاع البلاد يطلبون له موضعا
129
سبإ ٢٠ ٢١ يسَعه ومَن معه من قومه فأبَوا فاقتتلُوا ثلاثةَ أيَّامٍ فانهزمت جُرهمٌ ولم يفلت منهم إلا الشَّريدُ وأقام ثعلبةُ بمكَّةَ وما حولها في قومِه وعساكرِه حولاً فأصابْتُهم الحُمَّى فاضطرُوا إلى الخروج وقد رجع إليه رُوَّادُه فافترقوا فرقتينُ فرقةٌ توجَّهت نحو عُمانَ وهم الأُزد وكندة وحِمْيرُ ومَن يتلوهم وسار ثعلبةُ نحو الشَّامِ فنزل الأوسُ والخزرجُ ابنا حارثةَ بنِ ثعلبةَ بالمدينةِ وهم الأنصارُ ومضت غسَّانُ فنزلوا بالشَّأمِ وانخزعتْ خزاعة بمكَّةَ فأقام بها ربيعةُ بن حارثةَ بن عمرو بن عامر وهو لحيُّ فولِي أمرَ مكَّةَ وحجابةَ البيتِ ثم جاءهم اولاد إسمعيل عليه السَّلامُ فسألوهم السُّكنى معهم وحولهم فأذِنُوا لهم في ذلك ورُوي عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ فروةَ بن مُسيكٍ الغطيفى سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن سبأ فقال ﷺ هو رجلٌ كان له عشرةُ أولاد ستَّةٌ منهم سكنُوا اليمنَ وهم مَذْحِجُ وكِنْدةُ والأَزدُ والأشعريُّون وحِمْيَرُ وأَنمارٌ منهم بَجِيلةُ وخَثْعَمُ وأربعةٌ منهم سكنُوا الشّأَمَ وهم لَخْمٌ وجُذَامٌ وعَامِلةُ وغَسَّانُ لما هلكتْ أموالُهم وخربتْ بلادُهم تفرَّقُوا أَيْدِي سَباً شَذَرَ مَذَرَ فنزلتْ طوائفُ منهم بالحجاز فمنهم خزاعة نزلوا بظاهر مكَّةَ ونزلتِ الأوسُ والخزرجُ بيثربَ فكانوا أوَّلَ مَن سكنها ثم نزل عندهم ثلاثُ قبائلَ من اليهود بنو فينقاع وبنُو قُريظَة والنَّضيرِ فحالفوا الأوسَ والخزرجَ وأقاموا عندهم ونزلتْ طوائفُ أُخر منهم بالشأمِ وهم الذين تنصَّروا فيما بعد وهم غسَّانُ وعَاملةُ ولَخْمٌ وجُذَامٌ وتَنْوخُ وتَغْلِبُ وغيرُهم وسَبَأٌ تجمعُ هذه القبائلَ كلَّها والجمهورُ على أنَّ جميعَ العرب قسمانِ قحطانيّةُ وعدنانيَّةُ والقحطانيَّةُ شعبان سبأ وحضر موت والعدنانَّيةُ شعبانِ رَبيعةُ ومُضَرُ وأما قُضَاعةُ فمختلفٌ فيها بعضهم ينسبونَها إلى قَحْطانَ وبعضُهم إلى عدنانَ والله تعالى أعلم
﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيمَا ذكرَ من قصَّتهم
﴿لآيَاتٍ﴾ عظيمةً
﴿لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي شأنه الصَّبرُ عن الشَّهواتِ ودواعي الهَوَى وعلى مشاقِّ الطَّاعاتِ والشُّكرُ على النِّعمِ وتخصيصُ هؤلاء بذلك لأنهم المُنتفعون بها
130
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أي حقَّق عليهم ظنَّه أو وجده صادقاً وقرئ بالتَّخفيف أي صدَق في ظنِّه أو صدَقَ بظنَ ظنُّه ويجوز تعدية الفعل إليه بنفسه لأنَّه نوعٌ من القولِ وقرئ بنصب إبليسَ ورفعِ الظَّنِّ مع التَّشديدِ بمعنى وجدَه ظنُّه صادقاً ومع التَّخفيف بمعنى قال له الصِّدقُ حين خيل له إغراءهم وبرفعهما والتخفيف على الإبدال وذلك إما ظنه بسبأ حين رأى انهماكهم في الشَّهواتِ أو ببني آدمَ حين شاهدَ آدمَ عليه السَّلامُ قد أصغى إلى وسوسته قال إنَّ ذُريَّتَه أضعفُ منه عزماً وقيل ظنَّ ذلك عند إخبار الله تعالى الملائكةَ أنَّه يجعلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا ويسفك الدِّماءَ وقال لأضلنَّهم ولأغوينَّهم ﴿فاتبعوه﴾ أي أهلُ سبأٍ أو النَّاسُ ﴿إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين﴾ إلا فريقاً هم المؤمنون لم يتَّبعوه على أنَّ مِن بيانيةٌ وتقليلُهم بالإضافة إلى الكُفَّارِ أو إلا فريقاً من فِرقِ المؤمنين لم يتَّبعوه وهم المُخلَصون
﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مّن سلطان﴾ أي تسلّطٍ
130
سبإ ٢٢ ٢٣ واستيلاء بالوسوسة والاستواء وقولُه تعالى
﴿إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالاخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ﴾ استثناء مفرغ من أعلم العللِ ومَن موصولةٌ أي وما كان تسلُّطُه عليهم إلا ليتعلَّقَ علمُنا بمَنْ يُؤمن بالآخرةِ متميِّزاً ممَّن هو في شكَ منها تعلُّقاً حالياً يترتَّب عليه الجزاءُ أو إلا ليتمَّيزَ المؤمنُ من الشَّاكِّ أو إلا ليؤمن قُدِّر إيمانُه ويشكُّ من قُدِّر ضلالُه والمراد من حصول العلم حصول متعلَّقه مبالغةً
﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ حَفِيظٌ﴾ أي محافظ عليه فإنَّ فَعيلاً ومُفاعِلاً صيغتانِ متآخيتانِ
131
﴿قُلْ﴾ أي للمشركين إظهاراً لبُطلان ما هُم عليه وتَبكيتاً لهم ﴿ادعوا الذين زعمتم﴾ أي زعمتموهم آلهةً وهما مفعولا زعمَ ثم حُذف الأوَّلُ تخفيفاً لطول الموصول بصلتِه والثَّاني لقيام صفتِه أعني قوله تعالى ﴿مِن دُونِ الله﴾ مقامه ولا سبيل إلى جعله مفعولاً ثانياً لأنَّه لا يلتئمُ مع الضَّميرِ كلاماً وكذا لا يملكُون لأنَّهم لا يزعمونه والمعنى ادعوهم فيما يهمُّكم من جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ لعلَّهم يستجيبون لكُم إنْ صح دعواكم ثم أجاب عنهم إشعاراً بتعيُّن الجوابِ وأنَّه لا يقبلُ المكابرةَ فقال ﴿لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ﴾ من خير وشرَ ونفع وضرَ ﴿فِي السماوات وَلاَ فِى الارض﴾ أي في أمرٍ ما من الأمور وذكرُهما للتَّعميمِ عُرفاً أو لأنَّ آلهتَهم بعضُها سماويةٌ كالملائكةِ والكواكبِ وبعضُها أرضية كالأصنامِ أو لأنَّ الاسباب القريبة للخير سماويةٌ وأرضيةٌ والجملة استئنافٌ لبيانِ حالِهم ﴿وَمَا لَهُمْ﴾ أي لآلهتِهم ﴿فِيهِمَا مِن شِرْكٍ﴾ أي شَركةٍ لا خلقاً ولا مُلكاً ولا تصرُّفاً ﴿وَمَا لَهُ﴾ أيْ لله تعالى ﴿مِنْهُمْ﴾ من آلهتِهم ﴿مّن ظَهِيرٍ﴾ يُعينه في تدبير أمرِهما
﴿وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ﴾ أي لا توُجد رأساً كما في قوله ولاَ ترَى الضبَّ بها ينجحِرُ لقوله تعالى
﴿مَّن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ﴾ وإنَّما علَّق النَّفيَ بنفعها لا بوقوعِها تصريحاً بنفي ما هو غرضُهم من وقوعها وقوله تعالى
﴿إِلاَّ لِمَنْ أذِنَ لَهُ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لاتقع الشَّفاعةُ في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن أذنَ له في الشَّفاعةِ من النبيِّين والملائكةِ ونحوِهم من المستأهلين لمقام الشَّفاعةِ فتبيَّن حرمانُ الكَفرَة منها بالكُلِّية أما من جهةِ أصنامِهم فلظهور انتفاء الإذن لها ضرورةَ استحالةِ الإذنِ في الشفاعة لجمادٍ لا يعقلُ ولا ينطق وأمَّا من جهةِ مَن يعبدونَهُ من الملائكةِ فلأنَّ إذنَهم مقصورٌ على الشَّفاعةِ للمستحقِّين لها لقولِه تعالى
﴿لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أذِن لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً﴾ ومن البيِّن أنَّ الشَّفاعةَ للكفرةِ بمعزل من الصَّوابِ أولا تنفع الشفاعة من الشفعاء المستأهلين لها في حالٍ من الأحوالِ إلا كائنة لمن إذِن له أي لأجلهِ وفي شأنِه من المستحقِّين للشَّفَّاعة وأمَّا مَن عداهُم من غيرِ المستحقِّين لها فلا تنفعُهم أصلاً وإنْ فُرض وقوعُها وصدورُها عن الشُّفعاءِ إذ لم يؤذَن لهم في شفاعتهم بل في شفاعة غيرِهم فعلى هذا يثبتُ حرمانُهم من شفاعة هؤلاء بعبارة النَّصِّ ومن شفاعة الأصنام بدلالته إذ حيث
131
سبإ ٢٤ حُرموها من جهةِ القادرين على شفاعة بعض المحتاجين إليها فلأن حرموها من جهة العَجَزةِ عنها أولى وقرئ أُذِنَ له مبنيّاً للمفعولِ
﴿حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ﴾ أي قلوب الشُّفعاءِ والمشفوعِ لهم من المؤمنين وأمَّا الكَفَرةُ فهم من موقف الاستشفاع بمعزلٍ وعن التَّفزيعِ عن قلوبهم بألفِ منزلٍ والتفزيع إزالةُ الفزعِ ثمَّ ترك ذكر الفزع وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرورِ وحتى غاية لما ينبئ عنه ما قبلها من الإشعار بوقوع الإذنِ لمن أذن له فإنَّه مسبوق بالاستئذان المستدعِي للتَّرقبِ والانتظارِ للجواب كأنَّه سُئل كيف يُؤذن لهم فقيل يتربَّصون في موقف الاستئذانِ والاستدعاءِ ويتوقَّفون على وَجَلٍ وفَزَعٍ مليّاً حتَّى إذا أُزيلَ الفزعُ عن قلوبهم بعد اللتا والتي وظهرت لهم تباشيرا الإجابةِ قَالُواْ أي المشفوعُ لهم اذهم المحتاجون إلى الإذنِ والمهتمُّون بأمره مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ أي في شأنِ الإذنِ قَالُواْ أي الشُّفعاءُ لأنَّهم المُباشرون للاستئذان بالذَّاتِ المتوسِّطُون بينهم وبينه عزَّ وجلَّ بالشَّفاعةِ الحق أي قال ربُّنا القول الحقَّ وهو الإذن في الشفاعةِ للمستحقَّين لها وقُرىء الحقُّ مرفوعاً أي ما قاله الحقُّ
﴿وَهُوَ العلى الكبير﴾ من تمام كلام الشُّفعاء قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب العزَّةِ عزَّ وجلَّ وقصور شأنِ كلِّ مَن سواه أي هو المنفرد بالعلوِّ والكبرياءِ ليس لأحدٍ من أشراف الخلائقِ أنْ يتكلَّم إلا بإذنه وقُرىء فُزع مخفَّفاً بمعنى فزع وقرىء فَزِع على البناءِ للفاعلِ وهو الله وحدَه وقرىء فزع بالراء المهملة والغين المعجمة أي نفي الوجلٍ عنها وأفنى من فرغَ الزَّادُ إذا لم يبقَ منه شيءٌ وهو من الإسنادِ المجازيِّ لأنَّ الفراغَ وهو الخلوُّ حال ظرفه عند نفادِه فأُسند إليه على عكسِ قولِهم جَرَى النَّهر وعن الحسن تخفيفُ الرَّاءِ وأصله فَرغ الرجل عنها أي انتفى عنها وفنى ثم حذف الفاعل وأُسند إلى الجارِّ والمجرور وبه يُعرف حال التَّفريغِ وقُرىء ارتفعَ عن قلوبِهم بمعنى انكشفَ عنها
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماوات والأرض﴾ امر ﷺ بتبكيتِ المشركين بحملهم على الإقرارِ بأنَّ آلهتَهم لا يملكونَ مثقالَ ذَرَّةِ فيهما وأنَّ الرَّازقَ هو الله تعالى فإنَّهم لا ينكرونه كما ينطق به قوله تعالى
132
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض أَم مَّنْ يَمْلِكُ السمع والابصار وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى وَمَن يُدَبّرُ الامر﴾ فَسَيَقُولُونَ الله وحيث كانُوا يتلعثمُون أحياناً في الجواب مخافةَ الالزام قيل له ﷺ قُلِ الله إذ لا جواب سواء عندهم أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ أي وإنَّ أحدَ الفريقينِ من الذين يوحِّدون المتوحِّدَ بالرِّزقِ والقُدرة الذَّاتيةِ ويخصونه بالعبادة والذين يُشركون به في العبادةِ الجمادَ النَّازلَ في أدنى المراتبِ الإمكانية لعلى أحدِ الأمرينِ من الهُدى والضَّلالِ المُبين وهذا بعد ما سبق من التَّقرير البليغ النَّاطقِ بتعيين من هُو على الهدى ومن هو في الضَّلالِ أبلغ من التَّصريحِ بذلك لجريانه على سَننِ الإنصاف المُسكتِ للخَصمِ الألدِّ وقُرىء وأنَا أو إيَّاكم إما على هُدًى أَوْ فِى ضلال مبين واختلافُ الجارِين للإيذان بأنَّ الهاديَ كمن استعلى مناراً ينظرُ الأشياءَ ويتطلَّع
132
سبإ ٢٥ ٣٠ عليها والضَّالُّ كأنَّه منغمسٌ في ظلامٍ لا يَرى شيئاً أو محبوسٌ في مطمورةٍ لا يستطيعُ الخروجَ منها
133
﴿قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وهذا أبلغُ في الإنصافِ وأبعدُ من الجَدَلِ والاعتسافِ حيثُ أسند فيه الإجرامُ وإنْ أُريد به الزَّلَّةُ وتركُ الأولى إلى أنفسهم ومطلقُ العمل إلى المخاطَبين مع أن أعمالهم أكبرُ الكبائرِ
(قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا) يومَ القيامةِ عند الحشرِ والحسابِ ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق أي يحكمُ بيننا ويفصلُ بعد ظهورِ حالِ كلَ منّا ومنكم بأن يدخل المحقِّين الجنة والمبطلين النار وَهُوَ الفتاح الحاكم الفيصل في القضايا المنغلقة العليم بما ينبغي أنْ يُقضى به
﴿قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ﴾ أي ألحقتمُوهم ﴿بِهِ شُرَكَاء﴾ أُريد بأمرهم بإراءةِ الأصنامِ مع كونها بمرأى منه ﷺ إظهار خطئِهم العظيمِ وإطلاعهم على بُطلانِ رأيهم أي اروينها لأنظرَ بأيِّ صفةٍ ألحقتُموها بالله الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ في استحقاقِ العبادةِ وفيه مزيدُ تبكيتٍ لهم بعد إلزامِ الحجَّةِ عليهم كَلاَّ ردعٌ لهم عن المشاركةِ بعد إبطالِ المقايسةِ ﴿بَلْ هُوَ الله العزيز الحكيم﴾ أي الموصوفُ بالغلبةِ القاهرةِ والحكمةِ الباهرةِ فأينَ شركاؤكم التي هي أخسُّ الاشياء اذ لها من هذه الرُّتبةِ العاليةِ والضمير اما الله عز وعلا أو للشَّأنِ كما في قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ
﴿وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ﴾ أي إلا إرسالةً عامة لهم فإنهم إذا عمَّتهم فقد كفتْهمِ أنْ يخرجَ منها أحدٌ منهم أو إلا جامعاً لهم في الابلاغ فهي حالٌ من الكافِ والتَّاءِ للمُبالغةِ ولا سبيلَ إلى جعلِها حالاً من النَّاسِ لاستحالةِ تقدُّمِ الحالِ على صاحبها المجرورِ ﴿بَشِيراً وَنَذِيراً ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك فيحملُهم جهلُهم على ما هم عليه من الغيِّ والضَّلالِ
﴿وَيَقُولُونَ﴾ من فرطِ جهلِهم وغايةِ غيِّهم متى هذا الوعد بطريقِ الاستهزاءِ يعنون به المبشَّر به والمنذَر عنه أو الموعود بقوله تعالى بجمع بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ مخاطبين لرسول الله ﷺ والمؤمنين به
﴿قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ﴾ أي وعدُ يومٍ أو زمان وعدو الاضافة للتبيِّينِ وقُرىء ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإ ٤ ضمار اعنى للتعظيم
﴿لا تستأخرون عَنْهُ﴾ عند مفاجأتِه
﴿سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ﴾ صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغة في التهديد مالا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالة كالا ستقدام الممتنعِ عقلاً وقد مرَّ بيانُه مراراً ويجوزُ أنْ يكون نفي الاستئجار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقة
133
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نؤمن بهذا القرآن وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي من الكتبِ القديمةِ الدَّالَّةِ على البعث وقيل إنَّ كُفَّار مكَّةَ سألُوا أهلَ الكتابِ عن رسولِ الله ﷺ فأخبرُوهم أنَّهم يجدون نعتَهُ في كتبهم فغضبُوا فقالُوا ذلكَ وقيل الذي بين يديه القيامة ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون﴾ المنكرون للبعث ﴿مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبّهِمْ﴾ أي في موقفِ المحاسبة ﴿يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول﴾ أي يتحاورونَ ويتراجعون القولَ يَقُولُ الذين استضعفوا بدل من يرجع الخ أي يقول الأتباع ﴿لِلَّذِينَ استكبروا﴾ في الدُّنيا واستتبعوهم في الغيِّ والضَّلالِ ﴿لَوْلاَ أَنتُمْ﴾ أي لولا إضلالُكم وصدُّكم لنا عن الإيمانِ ﴿لَكُنَّا مؤمنين﴾ باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
﴿قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا﴾ استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ الذين استكبرُوا في الجواب فقيل قالُوا ﴿أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ﴾ مُنكرين لكونهم هم الصَّادِّين لهم عن الإيمانِ مُثبتين أنَّهم هم الصَّادُّون بأنفسهم بسبب كونِهم راسخين في الإجرام
﴿وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا﴾ اضرابا عن إضرابِهم وإبطالاً له
﴿بَلْ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ﴾ أي بل صدَّنا مكرُكم بنا باللَّيلِ والنَّهارِ فحُذف المضافُ إليه وأقيم مقامَه الظَّرفُ اتَّساعاً أو جُعل ليلُهم ونهارُهم ماكريْنِ على الإسناد المجازي وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلَ والنَّهارَ بالتَّنوينِ ونصب الظَّرفينِ أي بل صدَّنا مكرُكم في اللَّيلِ والنَّهارِ على أن التنوين عوضٌ عن المُضافِ إليهِ أو مكرٌ عظيمٌ على أنَّه للتَّفخيمِ وقُرىء بل مكرٌ اللَّيلِ والنَّهارِ بالرَّفعِ والنَّصبِ أي تكرون الاغواء مكراً دائباً لا تفترون عنه فالرفع على الفاعلية أي بل صدَّنا مكركم الإغواء في اللَّيل والنَّهارِ على ما سبق من الاتِّساع في الظَّرفِ بإقامتِه مقامَ المضافِ إليه والنَّصبِ على المصدرية أي بل تكرون الإغواءِ مكرَ اللَّيلِ والنَّهارِ أي مكرا دائما وقوله تعالى
﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا﴾ ظرفٌ للمكرِ أي بل مكرُكم الدَّائمُ وقتَ أمرِكم لنا
﴿أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً﴾ على أنَّ المرادَ بمكرِهم إمَّا نفسُ أمرِهم بما ذُكر كما في قوله تعالى يا قوم اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاء
134
سبإ ٣٤ ٣٧ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً فإنَّ الجعلينِ المذكورينِ نعمةٍ من الله تعالَى وأيُّ نعمةٍ وإما أمورٌ أُخَرُ مقارنة لأمرهم داعية إلى الامتثال به من التَّرغيب والتَّرهيبِ وغير ذلك وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب أي أضمرَ الفريقانِ الندامة على ما فَعَلا من الضَّلالِ والإضلالِ وأخفاها كلٌّ منهما عن الآخرِ مخافةَ التَّعييرِ أو أظهرُوها فإنَّه من الأضدادِ وهو المناسب لحالِهم
﴿وَجَعَلْنَا الاغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ﴾ أي في أعناقِهم والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ للتَّنويهِ بذمِّهم والتنَّبيهِ على موجب أغلالِهم
﴿هَلْ يُجزون إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي لا يُجزون إِلاَّ جزاءَ ما كانُوا يعملون أو إلاَّ بما كانُوا يعملونه على نزعِ الجارِّ
135
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ﴾ من القُرى ﴿مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون﴾ تسلية لرسول الله ﷺ ممَّا مُنِّيَ به من قومِه من التَّكذيبِ والكُفرِ بما جاء به والمنافسة بكثرةِ الأموالِ والأولادِ والمفاخرةِ بحظوظِ الدُّنيا وزخارفِها والتَّكبرِ بذلك على المُؤمنين والاستهانةِ بهم من أجلِه وقولهم أى الفريقين خير مقاما وأحسنُ نَديَّاً بأنَّه لم يرسل قط أهل قريةٍ من نذيرٍ إلاَّ قال مُترفوهم مثلَ ما قال مُترفو أهلِ مكة في حقه ﷺ وكادُوا به نحوَ ما كادوا به ﷺ وقاسوا أمورَ الآخرةِ الموهومةِ والمفروضةِ عندهم على أمورِ الدُّنيا وزعموا أنَّهم لو لم يَكْرُموا على الله تعالى لما رزقهم طيبات الدُّنيا ولولا أنَّ المؤمنينَ هانُوا عليهِ تعالى لمَا حرُمهموها وعلى ذلك الرأيِّ الرَّكيكِ بنَوَا أحكامَهم
﴿وَقَالُواْ نَحْنُ أكثرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ إمَّا بناءً على انتفاءِ العذابِ الأُخرويِّ رأساً أو على اعتقادِ أنَّه تعالى أكرمَهم في الدُّنيا فلا يُهينهم في الآخرةِ على تقديرِ وقوعِها
(قُلْ) رَدَّاً عليهم وحسماً لمادَّةِ طمعِهم الفارغِ وتحقيقاً للحقِّ الذي عليه يدورُ أمرُ التَّكوين ﴿إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء﴾ ان يبسط له ﴿وَيَقْدِرُ﴾ على مَن يَشَاء أنْ يقدرَه عليه من غير أن يكون لاحد من الفريقينِ داعٍ إلى ما فُعل به من البسطِ والقَدْرِ فربُّما يُوسِّعُ على العاصِي ويُضيِّقُ على المطيعِ وربَّما يُعكس الأمرُ ورُبَّما يُوسِّع عليهما معاً وقد يُضيَّق عليهما وقد يُوسِّع على شخصٍ تارةً ويُضيِّق عليه أخرى يفعلُ كُلاًّ من ذلك حسْبما تقتضيهِ مشيئتُه المبنيةُ على الحكم البالغةِ فلا يُقاس على ذلك أمرُ الثَّوابِ والعذابِ اللَّذينِ مناطُهما الطَّاعةُ وعدمُها وقُرىء ويُقدِّر بالتَّشديدِ ﴿ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ﴾ ذلك فيزعمون أنَّ مدارَ البسطِ هو الشَّرفُ والكرامةُ ومدارَ القَدْرِ هو الهوانُ ولا يدرون أنَّ الأوَّلَ كثيراً ما يكونُ بطريقِ الاستدراجِ والثَّاني بطريقِ الابتلاءِ ورفعِ الدَّرجاتِ
﴿وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى﴾
135
كلام مستأنفٌ من جهته عزَّ وعلا خُوطب به النَّاسُ بطريقِ التَّلوينِ والالتفاتِ مبالغةً في تحقيقِ الحقِّ وتقريرِ ما سبق أي وما جماعةُ أموالِكم وأولادِكم بالجماعةِ التي تُقربكم عندنا قُربةً فإنَّ الجمعَ المكسَّر عقلاؤُه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث أو بالخصلة التي تقرِّبكم وقُرىء بالذَّي أيْ بالشِّيءِ الذَّي
﴿إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً﴾ استثناءٌ من مفعول تقربكم أي وما الأموالُ والأولادُ تقرِّبُ أحداً إلا المؤمنَ الصَّالحَ الذي أنفقَ أموالَه في سبيلِ الله تعالى وعلَّم أولادَه الخيرَ ورَبَّاهم على الصَّلاح ورشَّحهم للطَّاعةِ وقيل من أموالِكم وأولادِكم على حذفِ المضافِ أي إلاَّ أموالَ من الخ
﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ إشارةٌ إلى مَنْ والجمع باعتبار معناها كما أن الإفراد في الفعلينِ باعتبارِ لفظِها وما فيهِ من معنى البعد مع قُرب العهدِ بالمُشار إليه للإيذانِ بعلوِّ رتبتِهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ أي فأولئكَ المنعوتُون بالإيمانِ والعملِ الصَّالحِ
﴿لَهُمْ جَزَاء الضعف﴾ أي ثابتٌ لهم ذلك على أنَّ الجارَّ والمجرورَ خبرٌ لما بعده والجملةَ خبرٌ لأولئك وفيه تأكيدٌ لتكررِ الإسنادِ أو يثبت لهم ذلك على أنَّ الجارُ والمجرورَ خبرٌ لأولئك وما بعدَهُ مرتفعٌ على الفاعليةِ وإضافة الجزاءِ إلى الضِّعفِ من إضافة المصدرِ إلى المفعولِ أصله فأولئك لهم أنْ يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثمَّ جزاءَ الضِّعفِ ومعناه أنَّ تضاعفَ لهم حسناتُهم الواحدةُ عشراً فما فوقَها وقرىء جزاء الضعف على فأولئك لهم الضِّعفُ جزاءً وجزاءٌ الضِّعفَ على أنْ يجازوا الضِّعفَ وجزاءٌ الضِّعفُ بالرفع على أنَّ الضِّعفُ بدلٌ من جزاءٌ
﴿بِمَا عَمِلُواْ﴾ من الصَّالحاتِ
﴿وَهُمْ فِى الغرفات﴾ أي غرفات الجنة
﴿آمنون﴾ من جميع المكارِه وقُرىء بفتح الرَّاءِ وسكونِها وقُرىء في الغُرفةِ على إرادةِ الجنسِ
136
﴿والذين يسعون في آياتنا﴾ بالردِّ والطَّعنِ فيها ﴿معاجزين﴾ سابقينَ لأنبيائِنا أو زاعمينَ أنَّهم يفوتُوننا ﴿أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ﴾ لا يجديهم ما عوَّلوا عليه نَفْعاً
﴿قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ﴾ أي يُوسعه عليهَ تارةً ﴿وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ أي يضيقُه عليه تارةً أُخرى فلا تخشَوا الفقرَ وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله وتعرَّضُوا لنفحاتِه تعالى ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ عِوضاً إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلا ﴿وهو خير الرازقين﴾ فإنَّ غيرَه واسطة في إيصالِ رزقِه لا حقيقة لرازقيتِه
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً﴾ أي المستكبرينَ والمستضعفينَ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دون الله ويومَ ظرفٌ لمضمرٍ متأخِّر سيأتي تقديرُه أو مفعولٌ لمضمرٍ مقدَّمٍ نحو اذكُر
﴿ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ تقريعاً للمشركينَ وتبكيتاً لهم على نهجِ قوله تعالى أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ الخ افناطا لهم عمَّا علَّقوا به أطماعَهم الفارغةَ من شفاعتِهم وتخصيص الملائكة
136
سبإ ٤١ ٤٣ لأنَّهم أشرفُ شركائِهم والصَّالحونَ للخطابِ منهم ولأنَّ عبادتَهم مبدأُ الشِّركِ فبظهور قصورِهم عن رتبة المعبودَّيةِ وتنزههم عن عبادتِهم يظهر حالُ سائرِ شركائِهم بطريقِ الأولويةِ وقُرىء الفعلانِ بالنُّونِ
137
﴿قالوا﴾ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية سؤالِ الملائكةِ كأنه قيل فماذا يقول الملائكةِ حينئذٍ فقيل يقولون متنزِّهين عن ذلك ﴿سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ﴾ والعدولُ إلى صيغة الماضي الدلالة على التَّحقُّقِ أي أنت الذي نواليهِ من دونهم لا موالاة بيننا وبينهم كأنَّهم بيَّنوا بذلك براءتَهم من الرِّضا بعبادتهم ثم أضربُوا عن ذلكَ ونفَوا أنَّهم عبدُوهم حقيقةً بقولهم ﴿بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن﴾ أي الشَّياطينَ حيثُ أطاعُوهم في عبادِة غيرِ الله سبحانه وتعالى وقيل كانُوا يتمثَّلون لهم ويخيِّلون لهم أنَّهم الملائكةُ فيعبدونهم وقيل يدخلونَ أجوافَ الأصنامِ إذا عُبدت فيعبدون بعبادتِها ﴿أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ﴾ الضَّميرُ الأوَّلُ للإنسِ أو للمشركينَ والأكثرُ بمعنى الكلِّ والثَّاني للجنِّ
﴿فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً﴾ من جملة ما يقال للملائكةِ عند جوابهم بالتَّنزه والتَّبرؤِ عمَّا نَسب إليهم الكفرةُ يخُاطبون بذلك على رءوس الأشهادِ إظهاراً لعجزهِم وقصورِهم عند عَبَدتهم وتنصيصاً على ما يُوجب خيبةَ رجائِهم بالكلِّية والفاءُ ليستْ لترتيبِ ما بعَدَها منَ الحكمِ على جوابِ الملائكةِ فإنَّه محقَّقٌ أجابُوا بذلك أم لا بل لترتيبِ الإخبار به عليه ونسبة عدمِ النَّفعِ والضُّرِّ إلى البعضِ المبهمِ للمبالغةِ فيما هو المقصودُ الذي هو بيانُ عدمِ نفعِ الملائكةِ للعبدةِ بنظمه في سلكِ عدم نفعِ العَبَدةِ لهم كأنَّ نفعَ الملائكةِ لعبدتِهم في الاستحالةِ والانتفاء كنفعِ العبدةِ لهم والتعرضِ لعدم الضُّرِّ مع أنَّه لا بحث عنه أصلاً إمَّا لتعميمِ العجزِ أو لحملِ عدمِ النَّفعِ على تقديرِ العبادةِ وعدمِ الضُّرِّ على تقديرِ تركِها أو لأنَّ المرادَ دفعُ الضُّرِّ على حذفِ المضاف وتقييد هذا الحكمِ بذلك اليومِ مع ثبوتِه على الإطلاقِ لانعقادِ رجائِهم على تحقُّقِ النَّفعِ يومئذٍ وقولُه عزَّ وجلَّ ﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ عطفٌ على نقول للملائكةِ لا على لا يملكُ كما قيل فإنَّه ممَّا يقالُ يوم القيامةِ خطاباً للملائكةِ مترتباً على جوابِهم المحكيِّ وهذا حكاية لرسول ﷺ لما سيقالُ للعبدةِ يومئذٍ إثر حكايةِ ما سيقالُ للملائكةِ أي يومَ نحشرُهم جميعاً ثُمَّ نَقُولُ للملائكةِ كذا وكذا ويقولون كذا وكذا ونقولُ للمشركينَ ﴿ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ﴾ يكون من الاهوال والاحوال مالا يحيطُ به نطاقُ المقالِ وقوله تعالى
﴿وإذا تتلى عليهم آياتنا بَيّنَاتٍ﴾
137
بيانٌ لبعضٍ آخرَ من كفرانِهم أي إذا تُتلى عليهم بلسان الرسول ﷺ آياتُنا الناطقةُ بحقِّيةِ التوحيدِ وبُطلان الشِّركِ
﴿قَالُواْ مَا هذا﴾ يعنون رسولَ الله ﷺ
﴿إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم﴾ فيستتبعكم بما يستدعيِه من غير أن يكون هناك دينٌ إلهيٌّ وإضافة الآباءِ إلى المخاطَبين لا إلى أنفسِهم لتحريكِ عرقِ العصبيةِ منهم مبالغةً في تقريرِهم على الشِّركِ وتنفيرِهم عن التَّوحيد
﴿وَقَالُواْ مَا هذا﴾ يعنون القرآنَ الكريمَ
﴿إِلاَّ إِفْكٌ﴾ أي كلام مصروفٌ عن وجهه لا مصداق له في الواقع
﴿مُّفْتَرًى﴾ بإسنادِه إلى الله تعالى
﴿وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقّ﴾ أي لأمرِ النبوَّةِ أو الإسلامِ أو القرآن على أنَّ العطفَ لاختلافِ العُنوان بأنْ يُراد بالأولِ معناهُ والثاني نظمَه المعجزَ
﴿لَمَّا جَاءهُمْ﴾ مِنْ غيرِ تدبُّرٍ ولا تأمُّلٍ فيه
﴿إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ظاهرٌ سحريّتُه وفي تكرير الفعلِ والتَّصريحِ بذكر الكفرةِ وما في الَّلامينِ من الإشارةِ إلى القائلينَ والمقولِ فيهِ ومَا في لمَّا مِنْ المسارعة الى البيت بهذا القولِ الباطلِ إنكارٌ عظيمٌ له وتعجيبٌ بليغٌ منه
138
﴿وما آتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ فيها دليلٌ على صحَّةِ الإشراكِ كما في قوله تعالى أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سلطانا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ وقولِه تعالى ﴿أم آتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ﴾ وقُرىء يدرسُونها ويدَّرسونها بتشديدِ الدَّالِ يفتعلون من الدَّرسِ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ﴾ يدعُوهم إليه وينذرُهم بالعقابِ إن لم يُشركوا وقد بان من قبلُ أنْ لا وجهَ له بوجهٍ من الوجوهِ فمن أينَ ذهبُوا هذا المذهبَ الزَّائغَ وهذا غايةُ تجهيلٍ لهم وتسفيهٍ لرأيهم ثمَّ هدَّدهم بقولِه تعالى
﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم﴾ من الأمم التقدمة والقُرون الخاليةِ كما كذَّبوا ﴿وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا آتيناهم﴾ أي ما بلغَ هؤلاءِ عشرَ ما آتينا أولئكَ من القوَّة وطولِ العمر وكثرةِ المالِ أو ما بلغ أولئك عشرَ ما آتينا هؤلاءِ من البيِّناتِ والهُدى ﴿فَكَذَّبُواْ رُسُلِى﴾ عطف على كذَّب الذينَ الخ بطريقِ التَّفصيلِ والتَّفسيرِ كقولِه تعالَى ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا﴾ الخ ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي إنكارِي لهم بالتَّدميرِ فليحذَرْ هؤلاء من مثلِ ذلك
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة﴾ أي ما أُرشدكم وأنصح لكم إلا بخصلة واحدة هي ما دل عليه قوله تعالى
﴿أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ﴾ على أنَّه بدلٌ منها أو بيانٌ لها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي أن تقومُوا من مجلس رسولِ الله ﷺ أو تنتصبُوا للأمرِ خالصاً لوجهِ الله تعالى معرضاً عن المُماراةِ والتَّقليدِ
﴿مثنى وفرادى﴾ أي متفرِّقين اثنينِ اثنين وواحداً واحداً فإنَّ الازدخام يُشوش الأفهامَ ويخلطُ الأفكار بالأوهامِ وفي تقديمِ مَثْنى إيذانٌ بأنَّه أوثقُ وأقربُ إلى الاطمئنانِ
﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ﴾
138
في أمره ﷺ وما جاء به لتعلمُوا حقيقتَه وحقِّيتَه وقوله تعالى
﴿ما بصاحبكم من جنة﴾ استئنافٌ مَسوقٌ من جهتِه تعالَى للتَّنبيه على طريقةِ النَّظر والتَّأملِ بأنَّ مثلَ هذا الأمرِ العظيمِ الذي تحتَه ملك الدُّنيا والآخرةِ لا يتصدى لا دعائه إلا مجنونٌ لا يُبالي بافتضاحِه عند مطالبته بالبُرهان وظهور عجزهِ أو مؤيدٌ من عندِ الله مرشَّح للنُّبوةِ واثق بحجَّتهِ وبرهانه وإذ قد علمتُم أنَّه ﷺ أرجحُ العالمين عقلاً وأصدقُهم قولاً وأنزههم نفساً وأفضلُهم علماً وأحسنُهم عملاً وأجمعُهم للكمالاتِ البشريَّةِ وجبَ أنْ تصدِّقُوه في دعواهُ فكيف وقد انضمَّ إلى ذلك معجزاتٌ تخِرُّ لها صُمُّ الجبالِ ويجوزُ أن يتعلَّق بما قبلَه على معنى ثم تتفكَّروا فتعلموا ما بصاحِبكم من جنَّةٍ وقد جُوِّز أن تكون ما استفهاميةً على معنى ثم تتفكروا أي شئ به من آثارِ الجنونِ
﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد﴾ هو عذاب الآخرة فإنه ﷺ مبعوثٌ في نَسَمِ السَّاعةِ
139
﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أجر﴾ أي أي شئ سألتُكم من أجرٍ على الرِّسالة ﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾ والمرادُ نفيُ السُّؤالِ رأساً كقولِ مَن قال لمن لم يُعطه شيئاً إنْ أعطيتني شيئاً فخُذه وقيل مَا موصولةٌ أُريد بها ما سألهم بقوله تعالى مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَاء أَن يتخذ إلى ربه سبيلا وقوله تعالى لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِى القربى واتخاذ السَّبيلِ إليه تعالى منفعتهم الكُبرى وقرباه ﷺ قرباهم ﴿إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَىْء شَهِيدٍ﴾ مطَّلع يعلمُ صدقي وخلوصَ نيتَّي وقرئ إن أجري بسكون الياء
﴿قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق﴾ أي يُلقيه ويُنزله على من يجتبيهِ من عبادِه أو يرمي به الباطلَ فيدمغُه أو يرمي به في أقطارِ الآفاقِ فيكون وعداً بإظهارِ الإسلامِ وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ ﴿علام الغيوب﴾ صفةٌ محمولةٌ على محلِّ إنَّ واسمِها أو بدلٌ من المستكنِّ في يقذفُ أو خبرٌ ثانٍ لأنَّ أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ وقرئ بالنَّصبِ صفة لربِّي أو مقدرا بأعنى وقرئ بكسرِ الغَين وبالفتحِ كصبور مبالغةُ غائب
﴿قُلْ جَاء الحق﴾ أي الإسلامُ والتوحيد ﴿وما يبدئ الباطل وَمَا يُعِيدُ﴾ أي زهقَ الشِّركُ بحيث لم يبقَ أثرُه أصلاً مأخوذُ من هلاكِ الحيِّ فإنَّه إذا هلكَ لم يبقَ له إبداءٌ ولا إعادةٌ فجُعل مَثَلاً في الهلاكِ بالمرَّة ومنْهُ قولُ عُبيْدٍ أَقْفرَ مِن أَهْلِه عُبيد فليسَ يُبدي وَلاَ يُعيدُ وقيل الباطلُ إبليسُ أو الصنم والمعنى لا ينشئ خلقاً ولا يُعيد أو لا يبدئ خيراً لأهلِه ولا يُعيد وقيل ما استفهاميِّةٌ منصوبةٌ بما بعدَها
﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ﴾ عن الطَّريقِ الحقِّ
﴿فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى﴾ فإنَّ وبالَ ضلالِي عليها لأنَّه بسببها إذهى الجاهلةُ بالذَّاتِ والأمَّارةُ بالسُّوءِ وبهذا الاعتبارِ قُوبل الشَّرطيةُ بقولِه تعالى
﴿وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى﴾ لأنَّ الاهتداءَ بهدايتِه وتوفيقِه وقرئ ربِّيَ بفتح الياء
﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾
139
يعلم قولَ كلَ من المُهتدي والضَّالِّ وفعلَه وإنْ بالغَ في إخفائِهما
140
﴿وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ﴾ عند الموتِ أو البعثِ أو يومِ بدرٍ وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ ثمانين ألفاً يغزُون الكعبةَ ليخرِّبوها فإذا دخلُوا البيداءَ خُسف بهم وجوابُ لو محذوفٌ أي لرأيتَ أمراً هائلاً ﴿فَلاَ فَوْتَ﴾ فلا يفوتُون الله عزَّ وجل يهرب أو تحصُّنٍ ﴿وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ﴾ من ظهرِ الأرضِ أو من الموقفِ إلى النَّارِ أو من صحراء بدرٍ إلى قَليبها أو من تحت أقدامهم إذا خُسف بهم والجملةُ معطوفة على فَزِعوا وقيل على لافوت على معنى إذْ فَزعُوا فلم يفوتُوا وأُخذوا ويؤيده أنه قرئ وأُخذ بالعطف على محلِّه أي فلا فوت هنا وهناك أخذ
﴿وقالوا آمنا به﴾ أي بمحمد ﷺ وقد مرَّ ذكرُه في قوله تعالى ما بصاحِبكم ﴿وأنى لَهُمُ التناوش﴾ التَّناوشُ التَّناولُ السَّهلُ أي ومِن أينَ لهم أنْ يتناولُوا الإيمانَ تناولاً سهلاً ﴿مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ﴾ فإنَّه في حيِّزِ التكليف وهُم منه بمعزلٍ بعيدٍ وهو تمثيلُ حالِهم في الاستخلاصِ بالإيمانِ بعد ما فاتَ عنهم وبعُد بحالِ مَنْ يُريدُ أن يتناول الشئ من غَلْوةٍ تناوله من ذراع في الاستحالة وقرئ بالهمزة على قلبِ الواوِ لضمِّها وهو من نأشت الشئ إذا طلبتُه وعن أبي عمرو التَّناؤشُ بالهمزِ التَّناولُ من بُعدٍ من قولِهم نأشتُ إذا أبطأتَ وتأخَّرتَ ومنه قولُ مَن قالَ تمنَّى نَئيشا أنْ يكون أطاعنِي وقد حدثتْ بعدَ الامور أمورُ
﴿وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ﴾ أي بمحمد ﷺ أو بالعذابِ الشَّديدِ الذي أنذرهم إياه ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبلِ ذلك في أوانِ التَّكليفِ ﴿وَيَقْذِفُونَ بالغيب﴾ ويَرجمون بالظَّنِّ ويتكلَّمون بما لم يظهر لهم في حق الرسول ﷺ من المطاعنِ أو في العذاب المذكورِ من بت القول بنفيه ﴿مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ﴾ من جهةٍ بعيدةٍ من حاله ﷺ حيث ينسبونه ﷺ إلى الشِّعرِ والسِّحرِ والكذب وإن ابعد شئ ممَّا جاءَ به الشِّعرُ والسحر وأبعد شئ من عادته المعروفة فيما بين الدَّاني والقاصِي الكذبُ ولعله تمثيلٌ لحالِهم في ذلك بحالِ مَن يرمي شيئاً لا يراهُ من مكانٍ بعيدٍ لا مجالَ للوهم في لحوقه وقرئ ويُقذفون على أنَّ الشَّيطانَ يلقي إليهم ويلقِّنهم ذلك وهو معطوفٌ على قد كفروا به على حكايةِ الحالِ الماضيةِ أو على قالُوا فيكون تمثيلاً لحالِهم بحال القاذفِ في تحصيل ما ضيِّعُوه من الإيمان في الدُّنيا
﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يشتهون﴾ من نفعِ الإيمانِ والنَّجاة من النار وقرئ بإشمامِ الضَّمِّ للحاء
﴿كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ﴾ أي بأشباهِهم من كفرةِ الأُمم الدَّارجة
﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُرِيبٍ﴾ أي مُوقعٌ في الرِّيبةِ أو ذي ريبة والأوَّلُ منقولٌ ممَّن يصحُّ أن يكونَ مُريباً من الأعيانِ إلى المعنى والثاني من صاحبِ الشَّكِّ إلى الشَّكِّ كما يُقال شعرٌ شاعرٌ والله أعلم عن رسول الله صلى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سورةَ سبأٍ لم يبقَ رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ كان له يومَ القيامة رفيقاً ومُصافحاً
140
سورة فاطر ١
سورة فاطر مكية وهى خمس وأربعون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
141