ﰡ
في هذه الآية – والتي قبلها – بيان أدلة العقل وأدلة السمع. فقال أولا :﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ﴾ فهذا احتجاج بالمعقول. ثم قال :﴿ ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم ﴾ فاحتج عليهم بطريق السمع، وهما قسمان : أدلة العقل والنقل.
وقوله :﴿ أو أثارة من علم ﴾ :
اختلف في معنى :﴿ أو أثارة ﴾ فقيل بقية من علم، وقيل هو الإسناد، وقيل خاصة من علم، وقيل شيء تؤثرونه من غيركم وأنشدوا في صفة ناقة :
وذات أثارة أكلت عليه | نباتا في أكمته ففارا ١ |
٢ الحديث أخرجه مسلم في صحيحه، باب: تحريم الكهانة ٩/ ٧١..
٣ راجع ذلك عند القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ١٦/ ١٧٩ – ١٨٢..
اختلف في معنى الآية، فذهب ابن عباس وعكرمة وعطاء وغيرهم إلى أن معنى الآية ما ندري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة. فقالوا وكان هذا في صدر الإسلام ثم بعد ذلك عرفه الله تعالى بأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وبأن المؤمنين لهم من الله فضل كبير وهو الجنة وأن الكافرين في نار جهنم. والحديث الذي وقع في جنازة عثمان بن مظعون يعضد هذا وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " فوالله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي " ١. واختلف الذين ذهبوا إلى هذا هل يقال في هذا نسخ أم لا ؟ فقال بعضهم إن هذه الآية منسوخة بسورة الفتح وبقوله في المؤمنين :﴿ وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ( ٤٧ ) ﴾ [ الأحزاب : ٤٧ ] ولم ير بعضهم هذا نسخا ٢ وهو الصحيح لأنه عليه الصلاة والسلام لا يعرف إلا ما عرف فأخبر عن أول أمره قبل أن يعلمه الله تعالى بحاله وحال المؤمنين بما كان عليه في ذلك الوقت من عدم المعرفة بذلك، ثم أعلمه الله تعالى بعد ذلك فعلم. وأي نسخ في هذا، ومتى ثبت بعدم معرفته صلى الله عليه وسلم فارتفع بوجوبها فيسمى نسخا. والذي ينبغي أن يقال في الآية أن قوله تعالى :﴿ وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ﴾ إنما يرجع إلى عدم المعرفة بالخاتمة وأما من مات على الإيمان فلم يزل عليه الصلاة والسلام من أول رسالته عالما فإنه ينجو، وإلا فقد كان الكفار يحتجون عليه، ويقولون كيف تدعوننا إلى ما لا تدري له عاقبة، وكيف نركب معك هذا الخطر ولم نعلم أن أحدا من الكفار احتج بذلك. فثبت بهذا أنه تعالى لم يزل عالما بأن الموافى على الإيمان في الجنة وأن من وافى على ضد ذلك في النار. وبهذا المعنى تكون الآية باقية٣ المعنى إلى يوم القيامة. وذهب الحسن بن أبي الحسن وغيره إلى أن معنى الآية : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من أن أنصر عليكم أو تنصروا علي. وذكر بعضهم عن الحسن أن معناها : ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا من غلاء أو رخص أو مرض أو غير ذلك من الأحداث. وقال قوم المعنى : ما يفعل بي ولا بكم من الأوامر والنواهي وما يلزم الشريعة من أغراضها. وقال بعضهم : نزلت الآية في أمر كان النبي صلى الله عليه وسلم ينتظره من الله تعالى في غير الثواب والعقاب. وروي عن ابن عباس أنه لما تأخر خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة حين رأى في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وسبخة قلق المسلمون لتأخره فنزلت الآية. فالآية في هذه الأقوال كلها إنما هي في أمور الدنيا. ولا خلاف على أن ذلك بأن الآية محكمة مختلف في عدم الدراية إلى ما ترجع. والأصح من ذلك ما أشرنا إليه فيما تقدم.
٢ قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما: أنه خبر. والآخر: أنه من أول السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين... راجع ذلك في الجامع لأحكام القرآن ١٦/ ١٨٦..
٣ "الموافى... إلى: باقية" كلام ساقط في (ب)، (د)، (هـ)..
احتج بعض الشيوخ بقوله تعالى :﴿ حملته أمه كرها ووضعته كرها ﴾ على أن أجرة القابلة على المرأة. وقد مر الكلام على المسألة في البقرة.
وقوله تعالى :﴿ وحمله وفصاله ﴾ :
هذه الآية تقتضي أن مدة الحمل والرضاع هي هذه المدة. والتقدير مدة حمله وفصاله، ثم حذف. وقال تعالى في الآية الأخرى :﴿ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين ﴾ الآية [ البقرة : ٢٣٣ ]، وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا وذلك إما بأن تلده المرأة لستة أشهر وترضع عامين وإما أن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام، فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع وبالعكس. وإنما ذكر الله تعالى في هذه الآية أقل مدتي الحمل والرضاع فيجب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقل ما يرضع الطفل عام وتسعة أشهر، وإكمال العامين هو لمن أراد أن يتم الرضاعة. وهذا في أمر الحمل وهو مذهب علي بن أبي طالب وجماعة من الصحابة، وهو مذهب مالك. فالذي تحصل من هذه الآية أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إلا أنه نادر في النساء لأن أكثرهن يلدن لتسعة أشهر ومنهن من تلد لسبع فيعيش الولد وكذلك في الست. فأما من يولد لثمان فلا يعيش إلا ١ عيسى ابن مريم عليه السلام ولد لثمانية أشهر فكان ذلك من الآيات فيه كما خلق من غير أب. وأما أكثر الحمل فقد اختلف فيه، فقيل عن مالك أنه أربع سنين وهو نادر. وروي عن مالك أنه لا يرى الخمس سنين بعدا. وروي عن الليث وابن عجلان ٢ سبع سنين، وروي عن عثمان البتي ثمان سنين. وقال أبو حنيفة سنتان. وقد ذكر أن بعض المتأخرين قال : لا أجاوز بالحمل تسعة أشهر. وهذا قول لا يلتفت إليه. وأما أكثر الرضاع فلا حد له. وقد مر الكلام على معنى الآية بأوعب من هذا ٣.
٢ ابن عجلان: هو أبو أمام عدي بن عجلان بن وهب الباهلي. شهد الصفين. توفي سنة ٨٦هـ/ ٧١٠م. انظر الإصابة ٥/ ١٣٣..
٣ راجع ذلك في الجامع لأحكام القرآن ٣/ ٣٧، ١٦٠ و ١٦/ ١٩٣..