تفسير سورة الأحقاف

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الأحقاف
في السورة حكاية لمواقف وأقوال الكفار وصور من الجدل والمناظرة بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وردود تنديدية وحجج مفحمة في سياقها، وإنذار للكافرين، وتطمين للمؤمنين بمصائر كل منهم يوم القيامة، واستشهاد على صحة الدعوة المحمدية وصدق القرآن بالتوراة وموسى وإسلام بعض بني إسرائيل، وتنويه بالأبناء الصالحين وتنديد بالعاقّين، وتذكير بما كان من أمر عاد ورسولهم وهلاكهم، وحكاية لاستماع جماعة من الجن للقرآن وتأثرهم به وتدليل على قدرة الله على بعث الموتى.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [ ١٠ و ١٥ و ٣٥ ] مدنيات، وانسجامها في السياق والموضوع وما يبدو عليها من طابع العهد المكي بقوة يسوّغ التوقف في الرواية.
وفصول السورة مترابطة مما فيه الدليل على نزولها دفعة واحدة أو متتابعة.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ حم ١ تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ٢ ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون ٣ ﴾ [ ١-٣ ].
ابتدأت السورة بحرفي الحاء والميم للاسترعاء والتنبيه على ما قلناه في أمثالهما. وأعقبهما تقرير توكيدي بأن القرآن تنزيل من الله المتصف بالعزة والحكمة جريا على النظم الذي كان في السور السابقة.
ثم أكدت الآية الثالثة بأن الله لم يخلق السماء والأرض وما بينهما عبثا، وإنما بحق وحكمة ولأجل معين في علمه، وعنفت الكافرين الذين يكابرون ويعرضون عما أنذروا به ودعوا إليه.
ويبدو من فحوى الآيات التالية أن هذه الآيات مقدمة لما احتوته تلك من حكاية مواقف الكفار وأقوالهم ومجادلتهم.
﴿ قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم ( ١ ) إن كنتم صادقين ٤ ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون ٥ وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ٦ ﴾ [ ٤-٦ ]
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ٧أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه ( ١ ) كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ٨ قل ما كنت بدعا ( ٢ ) من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ٩ ﴾ [ ٧-٩ ]
في الآيات :
١- حكاية لما كان يقوله الكفار حينما كانت تتلى عليهم آيات الله الواضحة ؛ حيث كانوا يقولون : إن ما احتوته من أخبار البعث والحساب الأخروي وغير ذلك من أمور هو سحر، أو لا يخرج عن تخيلات السحر. أو حيث كانوا يتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بافتراء القرآن ونسبته إلى الله كذبا.
﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ٧أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه ( ١ ) كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ٨ قل ما كنت بدعا ( ٢ ) من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إليّ وما أنا إلا نذير مبين ٩ ﴾ [ ٧-٩ ]
٢- وأوامر بالرد عليهم بقوله : إني لو كنت مفتريا على الله فإني أكون قد استحققت غضبه، وهو قادر على إنزال نقمته وصب بلائه عليّ ولا يملك أحد حمايتي منه، وهو أعلم بما تقولون من أقوال وتتهمونني به من تهم. وهو شهيد عادل بيني وبينكم وكفى به شهيدا، وهو المتصف مع ذلك بالمغفرة والرحمة وعلمه متسع لأقوالكم المثيرة، وإني لست بدعا في دعوتي ورسالتي فقد سبقني رسل دعوا مثلي إلى الله، ونزل عليهم كتب من الله، وإن قصاراي أن أنذركم وأبلغكم، ثم أقف عند حدود ما يوحي الله به إليّ. ولا أدري ما سوف يفعله الله في المستقبل بي وبكم.
وواضح أن الآيات هي استمرار في حكاية موقف المناظرة والحجاج بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين التي بدئ بها في الآيات السابقة، والاتصال بينهما قائم سياقا وموضوعا، وأسلوبها قوي أخّاذ ومفحم معا وموجه إلى القلوب والعقول وبخاصة ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله في رد تهمة افتراء القرآن.
وجملة ﴿ وهو الغفور الرحيم ﴾ في مقامها رائعة ذات مغزى بديع، وهي أن غفران الله ورحمته تتسعان للناس رغم ما يصدر منهم من أقوال بذيئة فيها سوء أدب نحو الله ورسله، ومن انحراف عن طريق الحق والهدى، وهذا يجعله لا يعجل لهم بالعذاب ويمد لهم لعلهم يرجعون ويهتدون وإليه مرجعهم في الآخرة ؛ حيث يحق العذاب على من بقي مصرا على موقفه، وهذا المعنى قد تكرر بأساليب مختلفة مرت أمثلة عديدة منه في السور السابقة.
﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين١٠ ﴾ [ ١٠ ].
الضمير في ﴿ مثله ﴾ عائد على القرآن على ما قاله جمهور المؤولين وما يفيده فحوى الآية. وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الكفار سؤال المستنكر المندد عن عنادهم واستكبارهم وقد شهد من بني إسرائيل شاهد على صدق مثله وهو التوراة التي أوحى الله بها إلى موسى عليه السلام ثم آمن به ؛ لأنه مماثل لها في المصدر والمدى. وتقريرا قرآنيا بأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الظالمين المنحرفين عن الحق أمثالهم الذين يقفون مثل هذا الموقف العنيد المستكبر من آياته ورسله.
والآية استمرار في موقف المناظرة والحجاج وبالتالي فهي متصلة بالسياق. ولما كان بنو إسرائيل بخاصة وأهل الكتاب بعامة موضع ثقة عند أهل بيئة النبي صلى الله عليه وسلم، فالآية تنطوي على إفحام وإلزام قويين كما هو المتبادر.
تعليق على ما روي في صدد هذه الآية
من روايات وما احتوته من تسجيل.
لقد ذكر المصحف الذي اعتمدنا عليه أن هذه الآية مدنية. وروى الطبري والبغوي في سياقها حديثا رواه البخاري أيضا عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " ما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزلت :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله.. الخ ﴾ [ ١٠ ]١. وروى الطبري روايات عديدة عن مواقف تصديقية وإيمانية لعبد الله بن سلام كان يفحم فيها اليهود وفي كل منها ذكر أن هذه الآية نزلت في مناسبتها، وروى الترمذي عن عبد الله بن سلام نفسه أنه قال : " نزلت فيّ آيات من كتاب الله فنزلت فيّ ﴿ وشهد شاهد من بني إسرائيل ﴾ إلى آخر الآية، ونزلت فيّ ﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ﴾ ٢ [ الرعد : ٤٣ ]. وقال ابن كثير : إن هذا ما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعكرمة والسدي والثوري ومالك بن أنس ! على أن الطبري والبغوي يرويان عن مسروق : " والله ما نزلت في عبد الله بن سلام وما نزلت إلا بمكة وما أسلم عبد الله بن سلام إلا بالمدينة. ولكنها خصومة خاصم محمد صلى الله عليه وسلم بها قومه فنزلت لها " وقال البغوي : إن هناك من قال إن الشاهد هو موسى عليه السلام وإن الآية بسبيل تقرير كون القرآن مثل التوراة وكون موسى قد شهد على التوراة.
ويلحظ أن الانسجام تام بين الآية وما قبلها موضوعا وسبكا وسياقا. وأن الخطاب فيها موجه إلى الكفار وبسبيل الرد عليهم وإفحامهم في موقف جدلي ووجاهي. وهذا مما يقوي القول المروي عن مسروق. وقد قال الطبري : إنه الأولى بالصواب. وقد يكون إسلام عبد الله بن سلام أو بعض مواقفه قد ذكر في مجلس من المجالس وتليت الآية فالتبس الأمر على الرواة وظنوها نزلت فيه. ولسنا نرى القول الذي ذكره البغوي بأن الشاهد هو موسى عليه السلام متسقا مع فحوى الآية إذا ما تمعن فيها ؛ لأنها تفيد أن هناك شهادة عيانية وإيمانا واقعيا من إسرائيلي في ظروف نزولها وبهذا فقط تلزم الحجة المتوخاة منها للكفار. وهذا كله يجعلنا نعتقد أن الآية بسبيل ذكر حدوث تلك الشهادة والإيمان في مكة على علم ومسمع من الكفار، ولقد كانت الصلات وثيقة بين مكة والمدينة التي كان فيها جالية كبيرة من الإسرائيليين، ومن المعقول أن يكون بعضهم قد تسلل إلى مكة وأقام فيها أو على الأقل أن يكون بعضهم يتردد عليها للتجارة وغير ذلك من الشؤون. ولقد تكرر استشهاد الآيات المكية بأهل الكتاب وأهل العلم إطلاقا وتكرر تقرير كونهم كانوا يشهدون بأن القرآن منزل من الله ويؤمنون به مما مرت منه أمثلة عديدة وليس من مانع من أن يكون من هؤلاء إسرائيليون. وهذا يمكن أن يقال بشيء من الجزم إن الآية تسجل إيمان إسرائيلي بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بصراحة في العهد المكي والله تعالى أعلم.
١ التاج ج ٣ ص ٣٠٩-٣١٠..
٢ المصدر نفسه..
﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ١١ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ١٢ ﴾ ] [ ١١-١٢ ].
في الآيات :
١ – حكاية لقول صدر عن الكفار موجه إلى المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن القرآن والرسالة المحمدية لو كانا حقا وصدقا وخيرا لما تركناهم يسبقوننا إليهما وإنهما لكذب من الأكاذيب القديمة ولذلك لم نؤمن بهما.
٢- ورد عليهم بأن كتاب موسى هو قديم جاء قبل القرآن وهو هدى ورحمة، وبأن القرآن مثله ومتطابق معه نزل باللغة العربية لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين.
والآيات كما هو واضح استمرار في السياق السابق من حيث مواقف الكفار وحجاجهم. ولقد تعددت الأقوال في القائلين والمقول عنهم حسب تعددها في الآية السابقة ؛ حيث قيل إن القائلين اليهود الذين ظلوا كافرين بعد إسلام عبد الله بن سلام، وقيل : إن القائلين بعض زعماء قريش والمقول عنهم بعض فقراء المسلمين ومنهم من سمّي عمارا وبلالا وصهيبا، ومعظم المفسرين رجحوا القول الثاني ١ وهو الأوجه ولا سيما إنه صدر قبل هذه المرة أيضا على ما حكته آية سورة الأنعام هذه :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ٥٣ ﴾ وهذا يعني أن هؤلاء الزعماء عوتبوا من قبل بعض المؤمنين البارزين على عدم إيمانهم فأجابوا بما ذكرته الآية [ ١١ ] مما فيه صورة طريفة من صور السيرة النبوية في مكة، ودليل على عدم قيام قطيعة شاملة بين المؤمنين والكفار، وهو ما ذكرت الروايات صورا كثيرة منه مبثوثة في كتب السيرة.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١:﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم ١١ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ١٢ ﴾ ] [ ١١-١٢ ].

في الآيات :

١ – حكاية لقول صدر عن الكفار موجه إلى المؤمنين برسالة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن القرآن والرسالة المحمدية لو كانا حقا وصدقا وخيرا لما تركناهم يسبقوننا إليهما وإنهما لكذب من الأكاذيب القديمة ولذلك لم نؤمن بهما.

٢-
ورد عليهم بأن كتاب موسى هو قديم جاء قبل القرآن وهو هدى ورحمة، وبأن القرآن مثله ومتطابق معه نزل باللغة العربية لإنذار الظالمين وتبشير المحسنين.
والآيات كما هو واضح استمرار في السياق السابق من حيث مواقف الكفار وحجاجهم. ولقد تعددت الأقوال في القائلين والمقول عنهم حسب تعددها في الآية السابقة ؛ حيث قيل إن القائلين اليهود الذين ظلوا كافرين بعد إسلام عبد الله بن سلام، وقيل : إن القائلين بعض زعماء قريش والمقول عنهم بعض فقراء المسلمين ومنهم من سمّي عمارا وبلالا وصهيبا، ومعظم المفسرين رجحوا القول الثاني ١ وهو الأوجه ولا سيما إنه صدر قبل هذه المرة أيضا على ما حكته آية سورة الأنعام هذه :﴿ وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ٥٣ ﴾ وهذا يعني أن هؤلاء الزعماء عوتبوا من قبل بعض المؤمنين البارزين على عدم إيمانهم فأجابوا بما ذكرته الآية [ ١١ ] مما فيه صورة طريفة من صور السيرة النبوية في مكة، ودليل على عدم قيام قطيعة شاملة بين المؤمنين والكفار، وهو ما ذكرت الروايات صورا كثيرة منه مبثوثة في كتب السيرة.
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ١٣ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ١٤ ﴾ [ ١٣-١٤ ].
في الآيات ثناء على المستجيبين للدعوة المحمدية وتطمين لهم، ولعلها مما يدعم ما قلناه في سياق تفسير الآيات السابقة. وقد احتوت ردا قويا على الكفار :
فمهما يكن من مركز الذين آمنوا فهم موضع ثناء الله وتطمينه، فليس هناك ما يثير فيهم الخوف والحزن وهم أصحاب الجنة خالدين فيها.
وواضح أن الآيات بناء على ذلك متصلة بالسياق.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن إطلاقها يجعلها مستمد تلقين مستمر المدى ومبعث تطمين وبشرى دائم لكل مؤمن مستقيم على إيمانه قائم بما يوجبه هذا الإيمان من حقوق نحو ربه وبني ملّته وبني جنسه ومجتمعه. كما أنه ينطوي فيها حث على ذلك كما هو المتبادر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ١٣ أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون ١٤ ﴾ [ ١٣-١٤ ].
في الآيات ثناء على المستجيبين للدعوة المحمدية وتطمين لهم، ولعلها مما يدعم ما قلناه في سياق تفسير الآيات السابقة. وقد احتوت ردا قويا على الكفار :
فمهما يكن من مركز الذين آمنوا فهم موضع ثناء الله وتطمينه، فليس هناك ما يثير فيهم الخوف والحزن وهم أصحاب الجنة خالدين فيها.
وواضح أن الآيات بناء على ذلك متصلة بالسياق.
ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن إطلاقها يجعلها مستمد تلقين مستمر المدى ومبعث تطمين وبشرى دائم لكل مؤمن مستقيم على إيمانه قائم بما يوجبه هذا الإيمان من حقوق نحو ربه وبني ملّته وبني جنسه ومجتمعه. كما أنه ينطوي فيها حث على ذلك كما هو المتبادر.

﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
١ أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
٢ أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :
١- فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.
٢- والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
تعليق على جملة
﴿ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... إلخ ﴾ [ ٦ ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه.
٣- وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
تعليق على جملة
تعليق على آية
﴿ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا ﴾
وما بعدها
ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص ١. وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله ٢. وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه : " كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " ٣. على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه ٤. ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ ١٤-١٥ ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ ٨ ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ١٥ ] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
١ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
٢ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٠٧..
٤ انظر تفسير ابن كثير.
الجزء الخامس من التفسير الحديث* ٢.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
١ أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
٢ أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :

١-
فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.

٢-
والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
تعليق على جملة
﴿ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... إلخ ﴾ [ ٦ ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه.

٣-
وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
تعليق على جملة
تعليق على آية
﴿ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا ﴾
وما بعدها
ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص ١. وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله ٢. وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه :" كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " ٣. على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه ٤. ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ ١٤-١٥ ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ ٨ ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ١٥ ] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
١ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
٢ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٠٧..
٤ انظر تفسير ابن كثير.
الجزء الخامس من التفسير الحديث* ٢.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
١ أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
٢ أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :

١-
فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.

٢-
والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
تعليق على جملة
﴿ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... إلخ ﴾ [ ٦ ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه.

٣-
وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
تعليق على جملة
تعليق على آية
﴿ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا ﴾
وما بعدها
ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص ١. وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله ٢. وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه :" كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " ٣. على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه ٤. ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ ١٤-١٥ ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ ٨ ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ١٥ ] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
١ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
٢ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٠٧..
٤ انظر تفسير ابن كثير.
الجزء الخامس من التفسير الحديث* ٢.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
١ أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
٢ أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :

١-
فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.

٢-
والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
تعليق على جملة
﴿ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... إلخ ﴾ [ ٦ ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه.

٣-
وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
تعليق على جملة
تعليق على آية
﴿ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا ﴾
وما بعدها
ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص ١. وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله ٢. وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه :" كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " ٣. على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه ٤. ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ ١٤-١٥ ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ ٨ ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ١٥ ] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
١ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
٢ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٠٧..
٤ انظر تفسير ابن كثير.
الجزء الخامس من التفسير الحديث* ٢.


نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥:﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
١ أوزعني : يسر لي أو ألهمني أو ادفعني وساعدني.
٢ أن أخرج : بمعنى أن أبعث بعد الموت.
في الآيات تذكير وتمثيل بالولد الصالح والولد العاقّ وموقفهما من الله ووالديهما :

١-
فالله قد وصى الإنسان بوالديه إحسانا ولا سيما أمه التي قاست بسببه ما قاست من الشدة في الحمل وفي الوضع وفي الرضاع ثلاثين شهرا وفي تربيته إلى أن يصل مبلغ الرجال.

٢-
والابن الصالح حينما يبلغ مبلغ الرجال والسنّ الناضجة يعلن إسلامه النفس لله ويستشعر بأفضال والديه عليه وواجبه نحوهما ويدعو الله أن يلهمه شكر نعمته ويعينه على العمل الصالح الذي يرضاه ويرزقه الذرية الصالحة. وأمثال هذا يتقبل الله منهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عما يمكن أن يكونوا ألمّوا به بسائق الغفلة من هنات وسيئات وينزلهم الجنة تحقيقا لوعده الصادق لهم.
تعليق على جملة
﴿ إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ﴾
هذا، وبمناسبة ذكر الأربعين سنة في مقام التنويه بالسن التي يبلغ الإنسان فيها أشده نقول : إنه لا ينبغي أن يتبادر من ذلك أن الإنسان لا يكون مسؤولا قبل هذه السن. فمسؤوليته المادية والدينية تبدأ منذ وعيه للأمور وبخاصة منذ بلوغه الحلم، وفي سورة النساء آية تفيد ذلك وهي :﴿ وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم... إلخ ﴾ [ ٦ ] والمتبادر أن المقصود من العبارة الإشارة إلى أن الإنسان حينما يصل إلى سن الأربعين يكون نضجه قد اكتمل وتغدو مسؤوليته أشد وموقفه أدق في حالتي الصلاح و الطلاح والخير والشر معا. ولقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حينما بلغ هذه السن مما فيه تطبيق رباني ذو مغزى عظيم.
وهناك أبناء قست قلوبهم وفسدت سرائرهم فلم يستشعروا بأفضال الله ووالديهم، ومنهم من يكون آباؤهم مهتدين فيدعونهم إلى الهدى بأسلوب المستغيث المشفق الذي يخشى تعرضهم لغضب الله الذي وعده للكافرين ووعده الحقّ فيقابلون دعوتهم بالإنكار والاستخفاف ويردون عليهم قائلين كيف تعدوننا بالبعث والحساب وقد مرت القرون الأولى ومن فيها دون بعث ولا حساب، وإن ما تقولونه ليس إلا من قصص الأولين التي لا تستند إلى منطق وعقل ويقين، فأمثال هؤلاء هم في جملة الخاسرين من الإنس والجن الذين استحقوا غضب الله وعذابه.

٣-
وعند الله لكل من هؤلاء وهؤلاء منازل ودرجات متناسبة مع أعمال كل منهم، وسوف يوفيهم الله ما يستحقون دون جنف وبخس وإجحاف.
تعليق على جملة
تعليق على آية
﴿ ووصينا الإنسان بولديه إحسانا ﴾
وما بعدها
ولد روي أن الشق الأول من هذا الفصل نزل في حق أبي بكر الذي أسلم هو وأبواه حتى لم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره أو في حق سعد بن أبي وقاص ١. وأن الشق الثاني نزل في حق ابنه عبد الرحمن الذي تأخر في الإسلام عن أبيه وقتا ما. وقد روى الذين رووا أن الشق الثاني في حق عبد الرحمن أن عبد الرحمن عارض رغبة معاوية بن أبي سفيان في تعيين ابنه وليا للعهد حينما طلب مروان بن الحكم والي المدينة من الناس مبايعته فأغضب مروان فقال له : أنت الذي يعنيه الله في آيات الأحقاف ؟ فقالت عائشة أخته : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري أو قالت كذب مروان والله ما هو به ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه فمروان نقيض من لعنه الله ٢. وقد روى بعض هذا البخاري وهذا نصه :" كان معاوية استعمل على الحجاز مروان فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية كي يبايع له بعد أبيه فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر شيئا فقال خذوه فدخل بيت عائشة فلم يقدروا عليه فقال مروان : إن هذا الذي أنزل الله فيه :﴿ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ﴾ الآية، فقالت عائشة من وراء الحجاب : ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن إلا أنه أنزل عذري " ٣. على أن بعض المفسرين قالوا إنها عامة وعلى سبيل التمثيل والموعظة وهو ما نرتاح إليه ٤. ولا سيما هناك روايات تذكر أن إسلام والد أبي بكر تأخر إلى الفتح المكي وأن والدة سعد لم تسلم ولم يكن له والد بالنسبة للروايات الواردة عن الشق الأول، وأثر الخلاف السياسي الحزبي الذي نشب في صدر الإسلام بارز على الرواية الواردة عن الشق الثاني.
ومع ذلك فهذه الآيات وأمثالها مثل آيات سورة لقمان [ ١٤-١٥ ] التي مر تفسيرها وآية سورة العنكبوت [ ٨ ] المماثلة لها تلهم أنه كان في مكة آباء مؤمنون وأبناء كافرون وأبناء مؤمنون وآباء كافرون وأن الآباء الكافرون كانوا يقفون من أبنائهم موقف الشدة والاضطهاد لحملهم على الارتداد وأن الأبناء الكافرين كانوا يقفون من آبائهم المؤمنين موقف العقوق والغلظة حينما كانوا يدعونهم إلى الاقتداء بهم والإيمان بالنبي والقرآن.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ١٥ ] مدنية، وهذا غريب لأن صلتها وانسجامها سبكا وموضوعا وثيقان مع بقية الآيات وكل منها متمم للأخرى.
١ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.
٢ انظر تفسر الآيات في تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٣ التاج ج ٤ ص ٢٠٧..
٤ انظر تفسير ابن كثير.
الجزء الخامس من التفسير الحديث* ٢.


﴿ ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني ١ أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى ولديّ وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين ١٥ أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون ١٦ والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج ٢ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين ١٧ أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين ١٨ ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون ١٩ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ٢٠ ﴾ [ ١٥-٢٠ ].
٤- ولسوف يوجه الله تعالى الخطاب يوم القيامة إلى الذين كفروا حينما يساقون إلى النار ويصفون أمامها لطرحهم فيها قائلا : إنكم استوفيتم طيباتكم في الحياة الدنيا واغتررتم بما كان لكم فيها. وألهاكم ذلك عن التفكير في الله وواجبكم، وأضعتم الفرصة فسرتم في طريق الكفر والعصيان والاستكبار فاليوم تجزون بما تجزون وفاقا على سيرتكم هذه.
وقد يبدوا أنه لا صلة بين هذا الفصل والآيات السابقة ويتبادر لنا احتمال كون القول الذي حكي عن الكفار في الآية [ ١١ ] قد كان بين ابن كافر وأب مؤمن أو بالعكس. ويقوي هذا الاحتمال ورود تعبير ﴿ أساطير الأولين ﴾ في هذه الآيات ورود تعبير ﴿ إفك قديم ﴾ في تلك الآية. فإذا صح هذا و نرجو أن يكون صوابا إن شاء الله فتكون الصلة قائمة بين هذه الآيات وما قبلها، وتكون هذه الآيات قد جاءت معقبة على ذلك الموقف.
تعليق على جملة
﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ﴾
ولقد وقف بعض المفسرين عند جملة ﴿ أذهبتم طيباتكم ﴾ وأوردوا بعض الأحاديث التي قد تلقي في روع المسلم خوفا من الاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا وتأثير ذلك على ما قد يكون له من نعيم في الآخرة، فمما أورده البغوي حديث روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : " دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو مضطجع على رمال حصير قد أثّرت الرمال بجنبه فقلت : يا رسول الله ادع الله فليوسع على أمتك فإن فارس والروم قد وسّع عليهم وهم لا يعبدون الله فقال :
( أولئك قوم قد عجلت طيباتهم في الحياة الدنيا ). وحديث عن جابر بن عبد الله قال : إن عمر رضي الله عنه رأى لحما معلقا في يدي فقال : ما هذا يا جابر ؟ فقلت له : لحم اشتريته فقال : أو كلما اشتهيت شيئا يا جابر اشتريته ؟ أما تخاف هذه الآية :﴿ أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ﴾. وقد علق البغوي المفسر على ذلك في سياق تفسير الآية قائلا : لما وبّخ الله الكافرين بالتمتع بالطيبات في الدنيا آثر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصالحون اجتناب اللذات في الدنيا رجاء ثواب الآخرة، ثم أخذ يروي بعض أحاديث عن شظف عيش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومنها حديث عن عائشة جاء فيه :( ما شبع آل محمد من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ) وحديث آخر عنها جاء فيه : لقد كان يأتي علينا الشهر ما نوقد فيه نارا، وما لنا إلا الماء والتمر غير أن الله جزى نساء من الأنصار خيرا كن يهدين إلينا شيئا من اللبن ". ومنها حديث عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه أتى بطعام وكان صائما فقال : قتل مصعب بن عمير وهو خير مني فكفّن في بردة إن غطي بها رأسه بدت قدماه وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط وأعطينا منها ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.
ومما أورده الطبري " أن عمر بن الخطاب قال : لو شئت كنت أطيبكم طعاما وألينكم لباسا ولكني أستبقي طيباتي ". و " أنه لما قدم الشام صنع له طعام لم يصنع مثله فقال : هذا لنا فما لفقراء المسلمين الذي ماتوا وهم لا يشبعون من خبز الشعير ؟ قال خالد بن الوليد : لهم الجنة، فاغرورقت عينا عمر وقال : لئن كان حظنا في الحطام، وذهبوا بالجنة لقد باينونا بعيدا " و " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة، وهي مكان يجتمع فيه فقراء المسلمين، وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعا قال : أنتم اليوم خير، أو يوم يغدو أحدكم في حلة، ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح بأخرى ويستر بيته كما تستر الكعبة. قالوا : نحن يومئذ بخير ؟ قال : بل أنتم اليوم خير ). و ( قال أبو هريرة : إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الأسودين الماء والتمر، والله ما كنا نرى سمراءهم هذه ولا ندري ما هي ). ومما أورده الطبرسي ( أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد، وكان يشتري القميصين فيخير غلامه خيرهما، ثم يلبس الآخر فإذا جاز أصابعه قطعه وإذا جاز كعبه حذفه، وكان يطعم الناس في ولايته خبز البُرِّ واللحم وينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير والزيت والخل ". وهذه الأحاديث والروايات غير موثقة، وغير واردة في كتب الأحاديث الصحيحة. ومع ذلك فإنها إن صحت فالأولى حملها على محمل الرغبة في التفرغ للمهام العظمى التي حملها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون وكبار أصحابه رضي الله عنهم والاستغراق فيها، أو تهوين الحرمان الذي كان يعيش فيه فقراؤهم، وليس فيها ما يدل على كراهية الاستمتاع بالطيبات دنيا، والآية موجهة إلى الكفار على سبيل التوبيخ ؛ لأنهم استغرقوا في الدنيا وشهواتها ونسوا الله و واجباتهم نحوه، ونحو خلقه فلم يبق لهم إلا العذاب، فلا يصح أن تورد في مورد كراهية الطيبات بالنسبة للمسلم ولا سيما هناك آيات قرآنية صريحة تبيح الطيبات له وتنهاه عن تحريمها على نفسها ضمن حدود الاعتدال مثل آيات سورة الأعراف هذه :﴿ يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ٣١ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ٣٢قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ٣٣ ومثل آيات سورة المائدة هذه :{ يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ٨٧ وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ٨٨ ﴾ حيث تنكر الآيات تحريم الطيبات وزينة الله، وتقرر بأن للمؤمنين أن يستمتعوا بها مع الناس من دون إسراف ولا تجاوز وستكون من نصيبهم وحدهم يوم القيامة. وفي هذا ما فيه من قوة وروعة وتشجيع بل ونقض للفكرة التي أريد استخراجها من الآية بالنسبة للمسلم. فالاستمتاع إنما يكون مذموما محظورا إذا كان فيه إثم أو إسراف أو استغراق يحول دون مراقبة المسلم لربه ودون قيامه بواجباته. وإن المحرم عليه هو الفواحش والإثم والبغي والشرك.
﴿ واذكر أخا عاد ١ إذ أنذر قومه بالأحقاف ٢ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه٣ ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا ٤ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا ٥ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ٢٥ ﴾ [ ٢١- ٢٥ ].
١ أخا عاد : المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
٢ الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه، وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضر موت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
٣ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى : وقد مضت، ومن بين يديه ومن خلفه : قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
٤ لتأفكنا : لتصرفنا.
٥ عارضا : هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ؛ حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده، فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد، وقالوا له : إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم عن علم ذلك عند الله، وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأو سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به، فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ؛ ليكون فيها عظة للكفار الذي وقفوا نفس الموقف، ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت :﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾٣٨ فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير ﴿ أخا عاد ﴾ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا )١. وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سري عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ الآية [ ٢٤ ] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته، فإن كشفه الله تعالى حمد ربه عز وجل، وإن أمطر قال : اللهم صيبا نافعا ". حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
١ روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ واذكر أخا عاد ١ إذ أنذر قومه بالأحقاف ٢ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه٣ ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا ٤ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا ٥ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ٢٥ ﴾ [ ٢١- ٢٥ ].
١ أخا عاد : المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
٢ الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه، وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضر موت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
٣ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى : وقد مضت، ومن بين يديه ومن خلفه : قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
٤ لتأفكنا : لتصرفنا.
٥ عارضا : هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ؛ حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده، فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد، وقالوا له : إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم عن علم ذلك عند الله، وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأو سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به، فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ؛ ليكون فيها عظة للكفار الذي وقفوا نفس الموقف، ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت :﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾٣٨ فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير ﴿ أخا عاد ﴾ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا )١. وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سري عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ الآية [ ٢٤ ] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته، فإن كشفه الله تعالى حمد ربه عز وجل، وإن أمطر قال : اللهم صيبا نافعا ". حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
١ روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ واذكر أخا عاد ١ إذ أنذر قومه بالأحقاف ٢ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه٣ ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا ٤ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا ٥ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ٢٥ ﴾ [ ٢١- ٢٥ ].
١ أخا عاد : المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
٢ الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه، وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضر موت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
٣ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى : وقد مضت، ومن بين يديه ومن خلفه : قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
٤ لتأفكنا : لتصرفنا.
٥ عارضا : هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ؛ حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده، فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد، وقالوا له : إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم عن علم ذلك عند الله، وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأو سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به، فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ؛ ليكون فيها عظة للكفار الذي وقفوا نفس الموقف، ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت :﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾٣٨ فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير ﴿ أخا عاد ﴾ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا )١. وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سري عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ الآية [ ٢٤ ] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته، فإن كشفه الله تعالى حمد ربه عز وجل، وإن أمطر قال : اللهم صيبا نافعا ". حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
١ روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ واذكر أخا عاد ١ إذ أنذر قومه بالأحقاف ٢ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه٣ ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا ٤ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا ٥ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ٢٥ ﴾ [ ٢١- ٢٥ ].
١ أخا عاد : المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
٢ الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه، وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضر موت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
٣ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى : وقد مضت، ومن بين يديه ومن خلفه : قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
٤ لتأفكنا : لتصرفنا.
٥ عارضا : هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ؛ حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده، فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد، وقالوا له : إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم عن علم ذلك عند الله، وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأو سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به، فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ؛ ليكون فيها عظة للكفار الذي وقفوا نفس الموقف، ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت :﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾٣٨ فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير ﴿ أخا عاد ﴾ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا )١. وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سري عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ الآية [ ٢٤ ] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته، فإن كشفه الله تعالى حمد ربه عز وجل، وإن أمطر قال : اللهم صيبا نافعا ". حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
١ روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢١:﴿ واذكر أخا عاد ١ إذ أنذر قومه بالأحقاف ٢ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه٣ ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ٢١ قالوا أجئتنا لتأفكنا ٤ عن آلهتنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ٢٢ قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به ولكني أراكم قوما تجهلون ٢٣ فلما رأوه عارضا ٥ مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم ٢٤ تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين ٢٥ ﴾ [ ٢١- ٢٥ ].
١ أخا عاد : المقصود رسول الله إلى قوم عاد وهو منهم وهو هود عليه السلام كما ذكرت ذلك صراحة آيات أخرى مرت في سور عديدة سابقة.
٢ الأحقاف : معناها في اللغة صحارى الرمل أو كثبانه، وفي القسم الجنوبي الشرقي من جزيرة العرب منطقة تعرف بالأحقاف شمال بلاد حضر موت، والمقصود من الكلمة في الآيات هذه المنطقة.
٣ وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه : النذر جمع نذير، وقد خلت بمعنى : وقد مضت، ومن بين يديه ومن خلفه : قبله وبعده. والجملة تعقيب استطرادي أو استدراكي على ما قبلها.
٤ لتأفكنا : لتصرفنا.
٥ عارضا : هنا بمعنى السحاب.
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بالتذكير بقوم عاد ونبيهم ؛ حيث أرسل الله إليهم نذيرا منهم على جري عادته في إرسال النذر قبل هذا النذير وبعده، فدعاهم إلى الله وأنذرهم بعذابه فوقفوا منه موقف الجاحد، وقالوا له : إنما جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا، وتحدّوه بالإتيان بعذاب الله الذي يعدهم به، فأجابهم عن علم ذلك عند الله، وقصاراه أن يبلغهم رسالة ربه، وقال لهم إنكم تصدرون في موقفكم وتحديكم عن جهل وحمق. وما لبث القوم أن رأو سحابا أخذ يتجه نحوهم فحسبوه سحابا ممطرا، ولكنه لم يكن في الحقيقة إلا آثار عاصفة شديدة أرسلها الله عليهم وفيها العذاب الشديد الذي تحدوا نبيهم به، فدمرت كل شيء وأهلكت الجاحدين حتى لم يبق إلا أطلال المساكن. وقد عقبت الآية الأخيرة على ذلك بتوجيه الخطاب للسامعين لتنبيههم أن الله يجزي بمثل هذا المجرمين الجاحدين من الأمم.
والآيات قد جاءت بعد حكاية مواقف المناظرة والحجاج بقصد التذكير والتمثيل والتنبيه جريا على الأسلوب القرآني على ما ذكرناه في المناسبات السابقة ؛ ليكون فيها عظة للكفار الذي وقفوا نفس الموقف، ولقد كان العرب يعرفون قصة تدمير الله لمساكن عاد على ما تفيده هذه الآية في سورة العنكبوت :﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾٣٨ فاستحكمت الحجة والإنذار فيهم.
وتعبير ﴿ أخا عاد ﴾ هو من التعابير العربية المألوفة، ويراد به الإشارة إلى أن رسول عاد كان منهم كما هو الحال في رسول الله إلى العرب. وهذا الرسول هو هود عليه السلام الذي تكررت حكاية قصته في سلاسل القصص السابقة ووصف فيها بأنه أخو عاد.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة قالت :" ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه بياض لهواته، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون المطر، وإذا رأيته عرف في وجهك الكراهية ؟ فقال : يا عائشة ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذّب قوم بالريح وقد رأى قوم العذاب فقالوا : هذا عارض ممطرنا )١. وحديثا آخر عن عائشة أيضا قالت :" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى مخيلة تغير وجهه وتلون ودخل وخرج وأقبل وأدبر، فإذا أمطرت السماء سري عنه وذكرت له الذي رأيت قال : وما يدريك لعله يا عائشة كما قال قوم عاد ﴿ فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا ﴾ الآية [ ٢٤ ] فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ". وأورد ابن كثير بالإضافة إلى الحديثين حديثا آخر في سياق الآيات رواه الإمام أحمد عن عائشة كذلك قالت :" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى ناشئا في أفق من آفاق السماء ترك عمله وإن كان في صلاته ثم يقول : اللهم إني أعوذ بك من شر عاقبته، فإن كشفه الله تعالى حمد ربه عز وجل، وإن أمطر قال : اللهم صيبا نافعا ". حيث ينطوي في الأحاديث صورة من صور مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند بعض الآيات استشعارا بما فيها من عبرة ونذير وإشراكا للمسلمين في هذا الاستشعار.
١ روى هذا الحديث الأربعة أيضا البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود. انظر التاج ج ٤ ص ٢٠٨..

﴿ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ١ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٢٦ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ٢٧ فلولا ٢ نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ٣ آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ٢٨ ﴾ [ ٢٦-٢٨ ].
١ فيما إن مكناكم فيه : فيما لم نمكنكم فيه، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشد تمكينا.
٢ فلولا : هنا بمعنى هلا للتحدي.
٣ قربانا : هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.
جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى الله عليه وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكّر قوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غي وضلال. فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عندما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلا إفكا وافتراء.
والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ ما حولكم من القرى ﴾ بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم، وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق الخ...
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:﴿ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ١ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٢٦ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ٢٧ فلولا ٢ نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ٣ آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ٢٨ ﴾ [ ٢٦-٢٨ ].
١ فيما إن مكناكم فيه : فيما لم نمكنكم فيه، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشد تمكينا.
٢ فلولا : هنا بمعنى هلا للتحدي.
٣ قربانا : هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.
جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى الله عليه وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكّر قوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غي وضلال. فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عندما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلا إفكا وافتراء.
والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ ما حولكم من القرى ﴾ بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم، وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق الخ...

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٦:﴿ ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه ١ وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون٢٦ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون ٢٧ فلولا ٢ نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا ٣ آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ٢٨ ﴾ [ ٢٦-٢٨ ].
١ فيما إن مكناكم فيه : فيما لم نمكنكم فيه، أي إنهم كانوا أقوى منكم وأشد تمكينا.
٢ فلولا : هنا بمعنى هلا للتحدي.
٣ قربانا : هنا بمعنى وسيلة للقربى والشفاعة.
جاءت الآيات معقبة على القصة جريا على النظم القرآني. ووجه الخطاب فيها للسامعين فقد مكن الله لقوم عاد في الأرض وآتاهم من وسائل القوة ما لم يمكنه ويؤته لقوم النبي صلى الله عليه وسلم السامعين وكان لهم سمع وأبصار وعقول فما استفادوا منها حينما جاءتهم آيات الله وجحدوها وسخروا منها. فحاق بهم سوء عواقب موقفهم دون أن تغني عنهم قوتهم وحواسهم وعقولهم شيئا. ولقد أهلك الله الأقوام الذين حول قوم النبي صلى الله عليه وسلم وذكّر قوم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيما أنزله على رسوله من آيات متنوعة الأساليب لعلهم يتعظون ويرجعون عما هم فيه من غي وضلال. فلو كان الشرك بالله مغنيا لأصحابه ونافعا لكان الشركاء نصروا الذين عبدوهم وأشركوهم مع الله واتخذوهم وسيلة قربى إليه. ولكن هذا لم يكن، وقد خذلهم الشركاء عندما حاق بهم العذاب وغابوا عنهم وظهر أن ما كانوا عليه لم يكن في الحقيقة إلا إفكا وافتراء.
والتعقيب قوي نافذ موجه إلى العقول والقلوب، وقد استهدف إثارة انتباه الكفار وحملهم على الاتعاظ بمن كان قبلهم ومن كان حولهم وأصابهم عذاب الله مع أنهم كانوا أشد منهم قوة وتمكنا، وصلة الآيات بالسياق قائمة واضحة.
والمتبادر أن تعبير ﴿ ما حولكم من القرى ﴾ بسبيل التذكير بالأقوام الذين ذكر القرآن قصصهم ممن كانوا يسكنون البلاد المتاخمة لمساكن الحجازيين السامعين للقرآن والموجه إليهم في بدء الأمر، أو واقعة على طريقهم ومناطق تجوالهم ورحلاتهم، وهي قبائل عاد وتبّع في جنوب جزيرة العرب، وقبائل ثمود في شمالها ومدين وقوم لوط في الشمال الغربي ومصر في الجنوب الغربي والرسّ في شرق الجزيرة الشمالي وقوم نوح في العراق الخ...

﴿ وإذ صرفنا ١ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ٢ ولوا إلى قومهم منذرين ٢٩ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ٣١ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ٣٢ ﴾ [ ٢٩-٣٢ ].
١ صرفنا : وجهنا أو بعثنا.
٢ فلما قضي : فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجن للقرآن، وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية
﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ﴾
وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء، وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال : " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ". ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلي مر به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك١. وسألوه الزاد فقال :( كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر. ما كان لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجن ) ٢. ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما :( قيل لعبد الله : من آذان النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال :( آذنت بهم شجرة )٣. وجاء في ثانيهما : " قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال العظم والروث لا يستنجى بهما ؟ قال : هما من طعام الجن، وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليه طعاما ) ٤. ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أُمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود : فجعلت تهوي به وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله تلا القرآن، فلما رجع قلت : يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق ) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود٥ يبدوا أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال : نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاعَ والمتاعُ الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة )، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا :( قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ). وفي رواية عن ابن عباس٦ أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماؤهم : حَسى وحَسى، ومَنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاثة صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون٧. وفي رواية عن ابن عباس٨ جاء فيها : لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا، فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون : " يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ".
وتعليقا على ذلك نقول : إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات، ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجن ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجن وهذا الحادث واحد٩. مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين– ربما كانت بضع سنين – ومع أن فحوى آيات كل من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛ وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهبت لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته، وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] تفيد أن الإنس لا يرون الجن ١٠.
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه. قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه : " إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم ". حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجن بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين، وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحق فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا موضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوئ المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها. ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال : إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [ ٣٥ ] من سورة ( ص ) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه – على الدين النصراني. وهذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني، فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ وإذ صرفنا ١ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ٢ ولوا إلى قومهم منذرين ٢٩ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ٣١ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ٣٢ ﴾ [ ٢٩-٣٢ ].
١ صرفنا : وجهنا أو بعثنا.
٢ فلما قضي : فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجن للقرآن، وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية
﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ﴾
وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء، وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال :" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ". ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلي مر به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك١. وسألوه الزاد فقال :( كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر. ما كان لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجن ) ٢. ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما :( قيل لعبد الله : من آذان النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال :( آذنت بهم شجرة )٣. وجاء في ثانيهما :" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال العظم والروث لا يستنجى بهما ؟ قال : هما من طعام الجن، وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليه طعاما ) ٤. ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أُمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود : فجعلت تهوي به وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله تلا القرآن، فلما رجع قلت : يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق ) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود٥ يبدوا أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال : نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاعَ والمتاعُ الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة )، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا :( قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ). وفي رواية عن ابن عباس٦ أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماؤهم : حَسى وحَسى، ومَنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاثة صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون٧. وفي رواية عن ابن عباس٨ جاء فيها : لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا، فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون :" يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ".
وتعليقا على ذلك نقول : إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات، ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجن ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجن وهذا الحادث واحد٩. مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين– ربما كانت بضع سنين – ومع أن فحوى آيات كل من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛ وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهبت لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته، وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] تفيد أن الإنس لا يرون الجن ١٠.
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه. قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه :" إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم ". حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجن بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين، وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحق فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا موضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوئ المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها. ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال : إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [ ٣٥ ] من سورة ( ص ) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه – على الدين النصراني. وهذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني، فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ وإذ صرفنا ١ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ٢ ولوا إلى قومهم منذرين ٢٩ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ٣١ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ٣٢ ﴾ [ ٢٩-٣٢ ].
١ صرفنا : وجهنا أو بعثنا.
٢ فلما قضي : فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجن للقرآن، وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية
﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ﴾
وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء، وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال :" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ". ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلي مر به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك١. وسألوه الزاد فقال :( كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر. ما كان لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجن ) ٢. ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما :( قيل لعبد الله : من آذان النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال :( آذنت بهم شجرة )٣. وجاء في ثانيهما :" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال العظم والروث لا يستنجى بهما ؟ قال : هما من طعام الجن، وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليه طعاما ) ٤. ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أُمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود : فجعلت تهوي به وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله تلا القرآن، فلما رجع قلت : يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق ) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود٥ يبدوا أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال : نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاعَ والمتاعُ الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة )، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا :( قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ). وفي رواية عن ابن عباس٦ أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماؤهم : حَسى وحَسى، ومَنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاثة صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون٧. وفي رواية عن ابن عباس٨ جاء فيها : لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا، فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون :" يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ".
وتعليقا على ذلك نقول : إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات، ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجن ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجن وهذا الحادث واحد٩. مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين– ربما كانت بضع سنين – ومع أن فحوى آيات كل من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛ وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهبت لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته، وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] تفيد أن الإنس لا يرون الجن ١٠.
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه. قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه :" إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم ". حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجن بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين، وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحق فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا موضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوئ المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها. ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال : إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [ ٣٥ ] من سورة ( ص ) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه – على الدين النصراني. وهذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني، فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ وإذ صرفنا ١ إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ٢ ولوا إلى قومهم منذرين ٢٩ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ٣٠ يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ٣١ ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ٣٢ ﴾ [ ٢٩-٣٢ ].
١ صرفنا : وجهنا أو بعثنا.
٢ فلما قضي : فلما انتهى.
في الآيات إخبار رباني بما كان من استماع جماعة من الجن للقرآن، وبما كان من تأثيره فيهم وإنذارهم قومهم بالدعوة الربانية التي تضمنها، وحثهم على الاستجابة إليها وتخويفهم من عذاب الله وعبارتها واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليق على آية
﴿ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ﴾
وما بعدها
ولقد رويت روايات عديدة في سياق تفسير الآيات عن هذا الحادث، منها أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من الطائف حزينا آيسا، فإنه لما ماتت زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم مات عمه أبو طالب الذي كان ينصره ويحميه استوحش فسافر إلى الطائف لدعوة أهلها إلى الله وطلب النصرة منهم فلقي جفاء، وتعرض لسفهاء القوم الذين سبّوه ورشقوه بالحجارة حتى أدموه، فقال :" اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس فأنت رؤوف وأنت أرحم الراحمين وأنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني، أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ". ثم غادر الطائف يائسا حزينا حتى إذا بلغ نخلة قام في جوف الليل يصلي مر به نفر من الجن فسمعوا القرآن فآمنوا وذهبوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم فنزلت الآيات بخبر ذلك١. وسألوه الزاد فقال :( كل عظم يذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر. ما كان لحما، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد إخوانكم الجن ) ٢. ومنها حديثان رواهما البخاري جاء في أحدهما :( قيل لعبد الله : من آذان النبي صلى الله عليه وسلم بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال :( آذنت بهم شجرة )٣. وجاء في ثانيهما :" قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما بال العظم والروث لا يستنجى بهما ؟ قال : هما من طعام الجن، وإنه قد أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم ألا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليه طعاما ) ٤. ومنها حديث عن قتادة رواه الطبري جاء فيه :( إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إني أُمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا، ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا. فاتبعه عبد الله بن مسعود فدخل رسول الله شعبا يقال له الحجون وخط على عبد الله خطا ليثبته به قال ابن مسعود : فجعلت تهوي به وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها، وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على نبي الله تلا القرآن، فلما رجع قلت : يا نبي الله، ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم فقضى بينهم بالحق ) وفي رواية أخرى عن ابن مسعود٥ يبدوا أنها تابعة أو متفرعة عن هذه الرواية :( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله هل رأيت شيئا قال : نعم، رأيت رجالا سودا مستشعري ثياب بيض قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاعَ والمتاعُ الزاد فمتعتهم بكل عظم حائل أو بعرة أو روثة )، وفي رواية ثانية تبدو أنها متفرعة أيضا :( قلت يا رسول الله لقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك وتقول لهم اجلسوا. فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ). وفي رواية عن ابن عباس٦ أن عددهم سبعة وأن رسول الله جعلهم رسلا إلى قومهم وفي رواية أخرى أنهم كانوا تسعة وأن أسماؤهم : حَسى وحَسى، ومَنسى، وساصر، وناصر، والأردوبيان، والأحتم، وزوبعة. وأنهم من حي يقال له بني الشيصبان وكانوا أكثر الجن عددا وأشرفهم نسبا وهم عامة جنود إبليس. وأن الجن كانوا ثلاثة صنوف منهم على صفة الطيور، ومنهم على صفة الحيات والكلاب، ومنهم من يحلون ويظعنون٧. وفي رواية عن ابن عباس٨ جاء فيها : لما حيل بين الشياطين والسماء وأرسلت عليهم الشهب قالوا لبعضهم : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا في الأرض فانظروا، فانصرفوا يبحثون حتى التقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يصلي في أصحابه بنخلة صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن قالوا : هذا والله الذي حال بينكم فرجعوا إلى قومهم يقولون :" يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ".
وتعليقا على ذلك نقول : إن من هذه الأحاديث ما ورد في كتب الصحاح ومنها ما لم يرد. وفي جميعها غرائب وتناقضات، ولقد روى المفسرون بعضها في سياق سورة الجن ليتبادر من سياق بعضهم أن حادث الجن المذكور في سورة الجن وهذا الحادث واحد٩. مع أن الشقة واسعة بين نزول السورتين– ربما كانت بضع سنين – ومع أن فحوى آيات كل من السورتين يفيد بقوة أنهما حادثان مختلفان ولم تسند رواية الاستماع في طريق العودة من الطائف بأي سند، ولم يرو أحد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يذكر أنه دعا بالدعاء المروي ولم يكن معه أحد، وإحدى الروايات تذكر أن سماع الجن كان في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف يائسا حزينا في نخلة بينما تذكر رواية أخرى أنها في نخلة أيضا ولكنه كان مع أصحابه ؛ وبينما تذكر رواية أخرى أنها كانت في بعض شعاب مكة حتى إن أصحابه افتقدوه وخافوا أن يكون اغتيل أو استطير.
وإحدى الروايات تروى عن ابن مسعود أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم حينما ذهبت لتلاوة القرآن للجماعة إجابة لدعوته، وأنه أخبر أصحابه بذلك في حين أن رواية أخرى عن ابن مسعود أيضا تذكر أنه لم يصحب النبي صلى الله عليه وسلم أحد. والروايات تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بأشكالهم وثيابهم واجتمع بهم وقضى بينهم في حين أن فحوى الآيات يفيد أن الحادث قد أوحي به، ويلهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشعر به. هذا إلى ما في الروايات من غرائب عن أشكالهم وزادهم وأسمائهم وقبائلهم وظروف الاستماع والاجتماع، في حين أن آية سورة الأعراف هذه :﴿ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ﴾ [ ٢٧ ] تفيد أن الإنس لا يرون الجن ١٠.
ولقد أورد ابن كثير الذي أورد هذه الأحاديث وغيرها قولا عن ابن عباس في سياق هذه الآيات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما أوحي إليه. قول الجن. وأورد قولا مماثلا للحسن البصري أحد مشاهير علماء التابعين نصه :" إن النبي صلى الله عليه وسلم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم ". حيث يفيد هذا وذاك أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا ما ورد في الأحاديث من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن ومحاورتهم معه وسماعه كلامهم ومعرفته لأسمائهم وقبائلهم وموطنهم كقضية مسلمة.
ومهما يكن من أمر فإننا نكرر هنا ما قلناه في تعليقاتنا على موضوع الجن واستماعهم للقرآن في سورتي الناس والجن بوجوب الإيمان بما جاء في القرآن والثابت من الحديث، والوقوف عندهما بدون تزيد ولا تخمين، وبوجوب الإيمان كذلك بأن ما ورد عنهم قد توخى فيه حكمة سامية. وقد يكون من هذه الحكمة تدعيم الدعوة النبوية. فالآيات السابقة لهذا الفصل هي في صدد إفحام الكفار وتقريعهم وإنذارهم. واحتوى الفصل السابق مباشرة تذكيرا بما كان من موقف الأمم المماثل لموقفهم، فجاء هذا الفصل على أثره كأنما أريد به تقريع الكفار بالحادث الذي فكر فيه. فالجن الذين لهم في أذهان العرب ما لهم من الصورة القوية لم يلبثوا أن تأثروا بقوة القرآن وروحانيته وصدق لهجته حينما سمعوه وأدركوا ما فيه من دعوة الحق فآمنوا وذهبوا إلى قومهم مبشرين منذرين. وبهذا البيان المستلهم من روح الآيات يكون هذا الفصل متصلا بالآيات السابقة سياقا موضوعا أيضا.
وقد يصح أن يضاف إلى هذا استئناسا برواية نزول الآيات في طريق عودة النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف حزينا يائسا أن حكمة الله شاءت أن يكون هذا الحادث الغيبي وأن ينزل به هذا القرآن لرفع معنويات رسول الله صلى الله عليه وسلم وبث الصبر والثبات والأمل فيه وعدم إيئاسه من النجاح في مهمته. فإذا كان قومه في مكة والطائف يقفون منه هذا الموقف المناوئ المتصامم المؤذي فهناك طوائف من الجن يدهشون لبلاغة القرآن ويرون في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم هدى ونورا ويستجيبون إليها ويذهبون إلى قومهم مبشرين منذرين بها. ومع ما قلناه من أن بعض علماء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم لم يأخذوا خبر كلام النبي صلى الله عليه وسلم مع الجن وسماعه لهم ورؤيته إياهم قضية مسلمة فإن من الحق أن يقال : إن في الأحاديث التي أوردناها ما يفيد ذلك. ولد أوردنا حديثا صحيحا آخر في سياق الآية [ ٣٥ ] من سورة ( ص ) فيه خبر رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لعفريت من الجن أيضا. ولقد علقنا على هذا الأمر بما رأيناه كافيا وما قلناه هناك يصح قوله هنا، والله تعالى أعلم.
هذا، ومما هو جدير بالتنبيه أن فحوى هذه الآيات يلهم أن النفر المستمع كانوا ممن يؤمنون بالتوراة وبالتالي كانوا على الدين اليهودي في حين أن الذين حكي استماعهم للقرآن في سورة الجن كانوا- على ما تلهمه آيات هذه السورة ونبهنا عليه – على الدين النصراني. وهذا تستحكم الحجة وقوة الإلزام على الكفار ويظهر وجه آخر من وجوه حكمة التنزيل القرآني، فلقد آمن برسالة النبي صلى الله عليه وسلم فريق من يهود الإنس ونصاراهم مما ذكرته إحدى آيات السورة وآيات أخرى في سور سابقة، منها القصص والإسراء، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله وآمن بها فريق من يهود الجن ونصاراهم، وشهدوا بأن القرآن حق منزل من الله كذلك، فإصرار كفار العرب بعد هذا كله على موقفهم ضلال بيّن ومكابرة ظاهرة.

﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيى٢ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ٣٣ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٤ فاصبر كما صبروا أولوا العزم ٢ من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ٣ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون٣٥ ﴾ [ ٣٣- ٣٥ ].
( ١ )ولم يعي : ولم يتعب.
( ٢ ) أولو العزم : المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله.
( ٣ ) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.
في الآيات :
١- سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السماوات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.
٢- وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.
٣- وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة ؛ حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ : ذوقوا العذاب جزاء كفرهم وعنادكم.
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لاحق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.
وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين، وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.
ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا، وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتيم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب. ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها يمتّ إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين ١ أن تعبير ﴿ بلاغ ﴾ قد قصد به تقرير كون القرآن، أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين، أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون٢، والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين، ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.
لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد : أن كل الرسل كانوا أولي عزم، وأن الله لم يبعث نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وأن ( من ) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا إن بعضهم قال : إن جميع الأنبياء أولو عزم إلا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت... ﴾ الآية [ ٣٨ ] سورة القلم. وأن قوما قالوا : هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ ٩٠ ] وأن الكلبي قال : إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم، وأن هناك من قال : إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير : إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي : إنهم الذين شرّعوا الشرائع، وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت :( ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله ). حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها.
وذكر بعض المفسرين ٣ في صدد تعبير ﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ [ ٣٥ ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين، وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.
١ انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم..
٢ انظر تفسير الطبري والطبرسي..
٣ انظر تفسير البغوي و الطبرسي..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيى٢ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ٣٣ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٤ فاصبر كما صبروا أولوا العزم ٢ من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ٣ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون٣٥ ﴾ [ ٣٣- ٣٥ ].
( ١ )ولم يعي : ولم يتعب.
( ٢ ) أولو العزم : المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله.
( ٣ ) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.

في الآيات :


١-
سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السماوات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.

٢-
وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.

٣-
وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة ؛ حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ : ذوقوا العذاب جزاء كفرهم وعنادكم.
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لاحق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.
وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين، وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.
ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا، وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتيم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب. ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها يمتّ إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين ١ أن تعبير ﴿ بلاغ ﴾ قد قصد به تقرير كون القرآن، أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين، أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون٢، والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين، ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.
لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد : أن كل الرسل كانوا أولي عزم، وأن الله لم يبعث نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وأن ( من ) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا إن بعضهم قال : إن جميع الأنبياء أولو عزم إلا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت... ﴾ الآية [ ٣٨ ] سورة القلم. وأن قوما قالوا : هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ ٩٠ ] وأن الكلبي قال : إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم، وأن هناك من قال : إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير : إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي : إنهم الذين شرّعوا الشرائع، وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت :( ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله ). حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها.
وذكر بعض المفسرين ٣ في صدد تعبير ﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ [ ٣٥ ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين، وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.
١ انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم..
٢ انظر تفسير الطبري والطبرسي..
٣ انظر تفسير البغوي و الطبرسي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيى٢ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى بلى إنه على كل شيء قدير ٣٣ ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٤ فاصبر كما صبروا أولوا العزم ٢ من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ ٣ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون٣٥ ﴾ [ ٣٣- ٣٥ ].
( ١ )ولم يعي : ولم يتعب.
( ٢ ) أولو العزم : المتصفون بقوة النفس والعقل والإرادة. وقد صار هذا التعبير اصطلاحا يطلق على بعض رسل الله.
( ٣ ) كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ : كأنهم لم يلبثوا إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو بمثابة البرهة القصيرة التي لا تعدو ساعة من الوقت يقف فيها المسافر ليتبلغ بلقمة من الزاد ثم يستأنف سيره.

في الآيات :


١-
سؤال رباني عما إذا كان الكفار لا يقنعون بأن في خلق السماوات والأرض دون عناء ولا تعب دليلا قاطعا على قدرته على إحياء الموتى.

٢-
وتوكيد إيجابي بقدرته على ذلك وكونه قادرا على كل شيء.

٣-
وإنذار للكفار بما سوف يكون من أمرهم يوم القيامة ؛ حيث يسألون حينما يعرضون على النار ليطرحوا فيها عما إذا كان هذا حقا فيجيبون بالإيجاب فيقال لهم حينئذ : ذوقوا العذاب جزاء كفرهم وعنادكم.
وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر ويثبت في موقفه ومهمته كما صبر وثبت أولو العزم من الرسل قبله ولا حاجة إلى استعجال العذاب للكافرين فهو لاحق بهم حتما. وحينما يرون تحقيق ذلك سيشعرون كأنهم لم يلبثوا في موتهم إلا ساعة قصيرة من نهار كانت بمثابة بلغة أو وقفة قصيرة يتبلغون فيها ثم صاروا إلى نكال الله الذي لا يقع إلا على العصاة المشاقين لآيات الله ودعوته.
وقد جاءت الآيات رابطة بين أجزاء الآيات وسياقها قبل فصلي عاد والجن الاستطراديين، وخاتمة لموقف المناظرة والحجاج الذي كانت آيات السورة بسبيله.
ومن هنا تكون الآيات متصلة بالسياق نظما وموضوعا، وقد جاءت في الوقت نفسه خاتمة لآيات السورة بالأسلوب المتكرر في خواتيم السور السابقة. وفيها تطمين وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأخيرة مدنية، وهو غريب. ويلاحظ أنها متممة لما قبلها ومنسجمة بالسياق انسجاما تاما، وأسلوبها ومضمونها يمتّ إلى التنزيل المكي وظروفه وهذا ما يحمل على الشك في ذلك.
ولقد ذكر بعض المفسرين ١ أن تعبير ﴿ بلاغ ﴾ قد قصد به تقرير كون القرآن، أو الإنذار الذي احتواه هو بلاغ للسامعين، أو ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه. وما حملناه عليه وأولناه به قد قال به مفسرون آخرون٢، والتعبير وروح الآية يتحملان المدلولين، ونرجو أن يكون المعنى الذي رجحناه مع مفسرين آخرين هو الصواب إن شاء الله.
لقد تعددت روايات المفسرين وأقوالهم في أولي العزم من الرسل. فروى البغوي عن ابن زيد : أن كل الرسل كانوا أولي عزم، وأن الله لم يبعث نبيا إلا كان ذا عزم وحزم ورأي وكمال عقل، وأن ( من ) إنما دخلت على الكلمة للتجنيس لا للتبعيض. غير أن هذا المفسر قال إلى هذا إن بعضهم قال : إن جميع الأنبياء أولو عزم إلا يونس بدليل أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تكن كصاحب الحوت... ﴾ الآية [ ٣٨ ] سورة القلم. وأن قوما قالوا : هم نجباء الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام والذين وصفوا في الآية الأخيرة من سلسلتهم ﴿ أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ﴾ [ ٩٠ ] وأن الكلبي قال : إنهم الذين أمروا بالمكاشفة على أعداء الدين وجهادهم، وأن هناك من قال : إنهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى، وهم المذكورون على النسق في سورتي الأعراف والشعراء وأن ابن عباس وقتادة قالا : هم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، وهناك من أدخل يوسف وأيوب في عداد أصحاب العزم. وقال ابن كثير : إن أشهر الأقوال إنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم الذين ذكروا معا في آيتين من سورتي الأحزاب والشورى. وقال الطبرسي : إنهم الذين شرّعوا الشرائع، وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها. ومع أن قول ابن زيد الذي رواه البغوي سديد فإن هذه المسألة لا يصح الجزم فيها إلا بأثر نبوي وليس هناك مثل هذا الأثر.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه ابن أبي حاتم عن عائشة قالت :( ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم طواه ثم ظل صائما ثم قال : يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله تعالى لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم فقال ﴿ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ﴾ وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ولا قوة إلا بالله ). حيث ينطوي في الحديث موقف من مواقف النبي صلى الله عليه وسلم الرائعة عند الآيات القرآنية وأخذه نفسه بأشد ما يكون من الصبر والجهد والاستغراق في طاعة الله استلهاما منها.
وذكر بعض المفسرين ٣ في صدد تعبير ﴿ ولا تستعجل لهم ﴾ [ ٣٥ ] أن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه ضجر من إصرار الكفار وتحديهم العذاب فتمنى أن يأتيهم العذاب في الدنيا فكان في الآية جواب الله على أمنيته. ونحن نميل إلى القول بأن التعبير أسلوبي يقصد به التطمين، وقد ورد المعنى في آيات كثيرة بصيغ متنوعة مرت أمثلة منها والله أعلم.
١ انظر تفسير الآية في تفسير الخازن وابن كثير وغيرهم..
٢ انظر تفسير الطبري والطبرسي..
٣ انظر تفسير البغوي و الطبرسي..

Icon