تفسير سورة الأحقاف

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الأحقاف من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٦ – سورة الأحقاف
قال المهايمي : سميت بها لأن مكانها من حيث قبوله سرعة تأثير ريح العذاب فيه، كالدليل على إنذاره. ففيه إشعار على أن إنذارات القرآن كالدلائل على أنفسها. ثم في قصتهم اتساق الإنذار إلى صيرورة المرجوّ مخوفا. ففيه إشعار بأن إنذارات القرآن مما يخاف منها صيرورة ما يرجوه الجهال مخوفا عليهم. وذلك من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
وهي مكية. واستثنى بعضهم منها ﴿ والذي قال لوالديه... ﴾ ١ الآيتين. وقوله :٢ ﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله... ﴾ الآية. ﴿ ووصينا الإنسان بوالديه... ﴾ ٣ الأربع الآيات. ﴿ فاصبر كما صبر... ﴾ ٤ الآية، فهي مدنية –كذا قيل. وتقدم في طليعة سورة الجاثية تحقيق ذلك. وآيها خمس وثلاثون.
١ [٤٦/ الأحقاف/ ١٧]..
٢ [٤٦/ الأحقاف/ ١٠]..
٣ [٤٦/الأحقاف/ ١٥]..
٤ [٤٦/ الأحقاف/ ٣٥]..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣)
حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي: الحكمة وإقامة العدل في الخلق. وَأَجَلٍ مُسَمًّى أي: وبتقدير أجل معين لكل منها، يفنيه إذا هو بلغه، وهو يوم القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي: من هول ذلك اليوم مُعْرِضُونَ أي: لا يؤمنون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: من الأوثان التي تعبدونها. أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضيّ بالاستقلال، أو شيء سماويّ بالشركة، حتى تستحق العبادة. ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا تبكيت لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقليّ، بعد تبكيتهم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقليّ. أي: ائتوني بكتاب إلهيّ من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد، وإبطال الشرك، دالّ على صحة دينكم. أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي: أو بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين، شاهدة باستحقاقهم للعبادة. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: في دعواكم، فإنها لا تكاد تصح، ما لم يقم عليها برهان عقليّ، أو سلطان نقليّ. وحيث لم يقم عليها شيء منهما، وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل، تبين بطلانها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٥]
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ أي: دعاءه لعجزه عنها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ أي: لأنهم إما جمادات، وإما مسخّرون مشغولون بأحوالهم. و (الغفلة) مجاز عن عدم الفائدة فيها. أو هو تغليب لمن يتصور منه الغفلة على غيره.
لطيفة:
قال الناصر: في قوله إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ نكتة حسنة. وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة. ومن شأن الغاية انتهاء المغيّا عندها، لكن عدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية، لأنهم في القيامة أيضا لا يستجيبون لهم. فالوجه- والله أعلم- أنها من الغايات المشعرة بأن ما بعدها، وإن وافق ما قبلها، إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالثاني، حتى كان الحالتين، وإن كانتا نوعا واحدا لتفاوت ما بينهما، كالشيء وضده. وذلك أن الحالة الأولى التي جعلت غايتها القيامة، لا تزيد على عدم الاستجابة. والحالة الثانية التي في القيامة، زادت على عدم الاستجابة بالعداوة بالكفر بعبادتهم إياهم. فهو من وادي ما تقدم آنفا في سورة الزخرف في قوله بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ، وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ [الزخرف: ٢٩- ٣٠] انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٦]
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦)
وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب كانُوا أي:
آلهتهم لَهُمْ أَعْداءً أي: لتبرئتهم منهم. قال الشهاب: أعداء استعارة، أو مجاز مرسل للضارّ. وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ قال ابن جرير: أي وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا، بعبادتهم جاحدين، لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرّأنا إليك منهم، يا ربنا! أي: فالتكذيب بلسان المقال، قصدا إلى بيان أن معبودهم في الحقيقة الشياطين وأهواؤهم.
وقال القاشانيّ: كانوا أعداء، لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم، لا تكون إلا لغرض نفسانيّ. وكذا استعباد الموالي لخدمهم. فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب، كانوا لهم أعداء، وأنكروا عبادتهم. ، يقولون: ما خدمتمونا، ولكن خدمتم أنفسكم. كما قيل في تفسير قوله: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف: ٦٧]. انتهى.
وقيل: الضمير في كانُوا في الموضعين، للعابدين، لئلا يلزم التفكيك.
وفيه نظر: لأنه خلاف المتبادر من السياق، إذ هو لبيان حال الآلهة معهم، لا عكسه، ولأن كفرهم حينئذ إنكار لعبادتهم. وتسميته كفرا، خلاف الظاهر أيضا. وقد أوضح ذلك آية وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: ٨١- ٨٢]. والقرآن يفسر بعضه بعضا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٧]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ أي: بادهوه بالجحود أول ما سمعوه، من غير إجالة فكر، ولا إعمال روية. واللام في لِلْحَقِّ لام الأجل متعلقة ب قالَ. وقيل: بمعنى الباء، متعلقة ب كَفَرُوا، وعدّي الكفر باللام، حملا على نقيضه، وهو الإيمان، فإنه يعدى بها نحو أَنُؤْمِنُ لَكَ [الشعراء: ١١١].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني سوءا، إن أصابني به. و (أم) - على ما قالوا- منقطعة مقدرة ب (بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام، المتجوز به عن الإنكار والتعجيب. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر، حتى أضرب عنه، أن الكذب خصوصا على الله متفق على قبحه، حتى ترى كل أحد يشمئز من نسبته إليه بخلاف السحر، فإنه، وإن قبح، فليس بهذه المرتبة، حتى تكاد تعد معرفته من السمات المرغوبة.
وقال الناصر: هذا الإضراب في بابه مثل الغاية التي قدمتها آنفا في بابها، فإنه انتقال إلى موافق، لكنه أزيد من الأول، فنزل لزيادته عليه، مع ما تقدمه مما ينقص عنه، منزلة المتنافيين، كالنفي والإثبات اللذين يضرب عن أحدهما للآخر. وذلك أن نسبتهم للآيات إلى أنها مفتريات، أشدّ وأبعد من نسبتها إلى أنها سحر. فأضرب عن ذلك الأول إلى ذكر ما هو أغرب منه. انتهى.
هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي: تخوضون في حقه من أنه سحر أو إفك كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي: يشهد لي بالصدق بما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي: لمن راجع منكم الكفر وتاب وآمن.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى خلقه. قد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم، فلم تستنكرون بعثتي، وتستبعدون رسالتي، كقوله: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: ١٤٤]، و (البدع) كالبديع، بمعنى الجديد المبتدأ. قال ابن جرير: ومن البدع قول عديّ بن زيد:
فلا أنا بدع من حوادث تعتري... رجالا عرت من بعد بؤسى وأسعد
ومن البديع قول الأحوص:
فخرت فانتمت فقلت: ذريني... ليس جهل أتيته ببديع
وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ قال أبو السعود: أي: أيّ شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان، من أفعاله تعالى، وماذا يقدّر لنا من قضاياه. وعن الحسن رضي الله عنه: ما أدري ما يصير إليه أمري، وأمركم في الدنيا. وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة. والأظهر أن (ما) عبارة عما ليس علمه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية، دون ما سيقع في الآخرة، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين. انتهى.
وهذا الأظهر يقرب من قول الحسن. وهو ما عول عليه ابن جرير. قال ابن كثير: بل لا يجوز غيره. كيف؟ وهو صلّى الله عليه وسلّم جازم بأنه صائر إلى الجنة، هو ومن اتبعه
بإحسان. وأما في الدنيا، فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره، وأمر مشركي قريش، أيؤمنون، أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون بكفرهم. فأما الحديث الذي
رواه الإمام أحمد «١» عن أم العلاء، وكانت بايعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: (طار لنا في السكنى، حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين، عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فاشتكى عثمان عندنا، فمرضناه. حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقلت: رحمة الله عليك، أبا السائب! شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزّ وجلّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير.
والله! ما أدري- وأنا رسول الله- ما يفعل بي! قالت: فقلت: والله! لا أزكي أحدا بعده أبدا وأحزنني ذلك. فنمت، فرأيت لعثمان رضي الله عنه عينا تجري، فجئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري «٢» دون مسلم، وفي لفظ له: ما أدري- وأنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- ما يفعل به
. وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، بدليل قولها: فأحزنني ذلك. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة، إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والعميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام (والد جابر) والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وزيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة، وما أشبه هؤلاء رضي الله عنهم. انتهى كلام ابن كثير.
وقال المهايميّ: وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ أي: فيما لو يوح إليّ.
والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي. ولم يكن لي أن أضمّ إلى الوحي كذبا من عندي.
إِنْ أَتَّبِعُ أي: في تقرير الأمور الغيبية إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر عقاب الله على كفركم به، أبان لكم إنذاره وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠)
(١) أخرجه في المسند ٦/ ٤٣٦.
(٢) أخرجه في: الجنائز، ٣- باب الدخول على الميّت بعد الموت إذا أدرج في كفنه، حديث رقم ٦٦٦.
441
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: القرآن منزلا من لدنه، عليّ. لا سحرا ولا مفترى كما تزعمون وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: من الواقفين على أسرار الوحي بما أوتوا من التوراة عَلى مِثْلِهِ أي مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المصدقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه، كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ [الشعراء: ١٩٦]، وقوله: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: ١٨- ١٩]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى. أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله، شهادة على مثل شهادة القرآن، لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله، أو (المثل) صلة و (الفاء) في قوله تعالى فَآمَنَ للدلالة على أنه سارع إلى الإيمان بالقرآن، لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق وَاسْتَكْبَرْتُمْ أي: عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ استئناف مشعر بأن كفرهم، لضلالهم المسبب عن ظلمهم. ودليل على الجواب المحذوف. مثل: (ألستم ظالمين) أو (فمن أضل منكم) وذلك عدم الهداية مما ينبئ عن الضلال قطعا، فيكون كقوله في الآية الأخرى قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [فصلت: ٥٢].
قال أبو السعود: ووصفهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم، لظلمهم.
تنبيه:
روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام، فتكون الآية مدنية مستثناة من السورة، كما ذكره الكواشيّ، لأن إسلامه كان بالمدينة. وأجيب: بأن لا حاجة للاستثناء، وأن الآية من باب الإخبار قبل الوقوع، كقوله وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف:
٤٨]. ويرشحه أن شَهِدَ معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلا، فلا ضير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره به بيانا للواقع، لا على أنه مراد بخصوصه منها. هذا ما حققوه. ويقرب مما نذكره كثيرا من المراد من سبب النزول في مثل هذا، وأنه استشهاد على ما يتناوله اللفظ الكريم.
ثم أشار إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل والمؤمنين به، فقال سبحانه:
442
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١١]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (١١)
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ أي: الإيمان، أو ما أتى به الرسول خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به، كسائر الخيرات من المال والجاه.
قال ابن كثير: يعنون بلالا وعمارا وصهيبا وخبابا رضي الله عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء. وما ذاك إلّا لأنّهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة، وله بهم عناية. وقد غلطوا في ذلك غلطا فاحشا، وأخطئوا خطأ بيّنا، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [الأنعام: ٥٣] أي: يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا، ولهذا قالوا: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ، وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة. لأنه لو كان خيرا لسبقونا إليه، لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها.
انتهى. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي: بالقرآن فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ أي: كذب قديم، كما قالوا: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. قال ابن كثير: فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي
قال «١» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: بطر الحق وغمط الناس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٢]
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (١٢)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه، ورحمة لمن آمن به، وعمل بما فيه. وَهذا أي الذي يقولون فيه ما يقولون كِتابٌ مُصَدِّقٌ
(١)
أخرجه الترمذي في: البر والصلة، ٦١- باب ما جاء في الكبر ونصه: عن عبد الله، عن النبي ﷺ قال: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. ولا يدخل النار (يعني من في قلبه مثقال ذرة من إيمان).
قال، فقال له رجل: إنه يعجبني أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنة.
قال: إن الله يحب الجمال. ولكن الكبر من بطر الحق وغمص الناس.
أي: لكتاب موسى من غير تعلم من أنزل عليه إياه لِساناً عَرَبِيًّا أي: بيّنا واضحا. وفي تقييد الكتاب بذلك، مع أن عربيته أمر معلوم الدلالة، على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها، وهي غير عربية. ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تعالى. لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١٣ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٣) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ أي: لا غيره. ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: على العمل الصالح. قال القاضي: أي جمعوا بين التوحيد الذي هو خلاصة العلم، والاستقامة في الأمور، التي هي منتهى العمل. وثُمَّ للدلالة على تأخير رتبة العمل، وتوقف اعتباره على التوحيد فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ أي: من هول يوم القيامة وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: لا يحزنهم الفزع الأكبر. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٥]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (١٥)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً وقرئ (حسنا) وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور، في قوله تعالى: وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ [الأحقاف:
١٧] الآية.
حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً أي: ذات كره، أو حملا ذا كره، وهو المشقة. وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ أي: حمله جنينا في بطنها، وفطامه من الرضاع ثَلاثُونَ شَهْراً أي: تمضي عليها بمعاناة المشاق، ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية، وأكيد الرعاية. لا يقال: بقي ثلاثة أشهر، لأن أمد الرضاع حولان، لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد تمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما، كما ينبئ عنه
قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: ٢٣٣]، ولئن سلم أنهما أمدها، فيكون في الآية الاكتفاء بالعقود، وحذف الكسور، جريا على عرفهم في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاته صلّى الله عليه وسلّم على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين، كما بين في شرح الشمائل. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيها على العقود وترك الكسور، وسرّ ذلك هو القصد إلى ذكر المهم، وما يكتفي به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب، وتدقيق الأعداد.
قال ابن كثير: وقد استدل عليّ رضي الله عنه بهذه الآية مع التي في لقمان وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ [لقمان: ١٤]، وقوله تبارك وتعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ [البقرة: ٢٣٣]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويّ صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ أي: استحكم قوته وعقله وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أي: ألهمني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ أي: بالهداية للتوحيد، والعمل بطاعتك، وغير ذلك. وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي أي: واجعل الصلاح ساريا في ذريتي، راسخا فيهم إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ أي: من ذنوبي التي سلفت مني وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المستسلمين لأمرك ونهيك، المنقادين لحكمك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (١٦)
أُولئِكَ أي الموصوفون بالتوبة والاستقامة الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: من الصالحات فنجازيهم عليها وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ أي: معدودين في زمرتهم ثوابا ومقاما.
قال الشهاب: والظاهر أنه من قبيل وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: ٢٠] ليدل على المبالغة بعلوّ منزلتهم فيها، إذ قولك (فلان من العلماء) أبلغ من قولك (عالم). ولم يبيّنوه هاهنا، ومن لم يتنبه لهذا قال (في) بمعنى (مع). انتهى.
وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق
في الدنيا، وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور: ٢١].
ثم بيّن تعالى نعت من عصى ما وصّى به من الإحسان لوالديه، من كل ولد عاقّ كافر، وما له في مآله، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٧]
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧)
وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أي حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة أُفٍّ لَكُما أي:
من هذه الدعوة أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أي: أبعث من قبري بعد فنائي وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي أي: هلكت ولم يرجع أحد منهم وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ أي:
يطلبان الغياث بالله منه. والمراد إنكار قوله، واستعظامه، كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال (العياذ بالله) ! أو المعنى: يطلبان أن يغيثه الله بالتوفيق، حتى يرجع عما هو عليه وَيْلَكَ آمِنْ أي: صدّق بوعد الله، وأقرّ أنك مبعوث بعد موتك.
ووَيْلَكَ في الأصل معناه الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه، وأخذ ما ينجعه إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي: إن وعده تعالى لخلقه، بأنه يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب، لمجازاتهم بأعمالهم، حق لا شك فيه فَيَقُولُ أي:
مجيبا لوالديه، ورادّا عليهما نصيحتهما، وتكذيبا بوعد الله ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: أباطيلهم التي كتبوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٨]
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (١٨)
أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: الإلهي، وهو العذاب فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أي: الذين كذبوا رسل الله، وعتوا عن أمره إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ أي: ببيعهم الهدى بالضلال، والباقي بالفاني.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ١٩]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٩)
446
وَلِكُلٍّ أي من الفريقين دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيء وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي بنقص ثواب، ولا زيادة عقاب.
تنبيه:
روى ابن جرير عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ابن لأبي بكر الصديق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّيّ قال: نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال لأبويه- وهما أبو بكر وأم رومان، وكانا قد أسلما وأبى هو أن يسلم، فكانا يأمرانه بالإسلام، فكان يرد عليهما ويكذبهما ويقول: فأين فلان، وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات. فأسلم بعد، فحسن إسلامه- فنزلت توبته في هذه الآية وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا.
قال الحافظ ابن حجر: لكن نفي عائشة أن تكون نزلت في عبد الرحمن وآل بيته، أصح إسنادا وأولى بالقبول. وذلك ما رواه البخاري «١» والإسماعيليّ والنسائيّ وأبو يعلى أن مروان كان عاملا على المدينة، فأراد معاوية أن يستخلف يزيد، فكتب إلى مروان بذلك، فجمع مروان الناس فخطبهم، فذكر يزيد، ودعا إلى بيعته وقال: إن الله أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا، وإن يستخلفه، فقد استخلف أبو بكر وعمر. فقال عبد الرحمن: ما هي إلا هرقلية! فقال مروان: سنة أبي بكر وعمر.
فقال عبد الرحمن: هرقلية! إن أبا بكر، والله! ما جعلها في أحد من ولده، ولا في أهل بيته، وما جعلها معاوية إلا كرامة لولده! فقال مروان: خذوه. فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه. فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئا من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري. ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، ولكن رسول الله لعن أبا مروان، ومروان في صلبه.
ومما يؤيده أن الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هم المخلدون في النار في علم الله تعالى، وعبد الرحمن كان من أفاضل المسلمين وسرواتهم. وحاول بعضهم عدم التنافي بأن يقع منه ذلك قبل إسلامه، ثم يسلم بعد ذلك. ومعلوم أن الإسلام يجبّ
(١) أخرجه في: التفسير، ٤٦- سورة الأحقاف، ١- باب وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ، حديث رقم ٢٠٤٣، عن عائشة.
447
ما قبله، وأن معنى الوعيد في الآية إنما هو للمصرّين عليه الذين لم يقلعوا، لكثرة ما ورد في العفو عن التائبين. وقد نزل من الوعيد الشديد في أول البعثة آيات لا تحصى، وكلها تنعي على من كان مشركا آنئذ، ولم يقل أحد بشمولها لهم بعد إيمانهم، أو أنّ فيها ما يحط من أقدارهم، ويجعلها مغمزا لهم، إلا أن مروان لم يجد لمقاومة ما ألقمه إلا الشغب، وشغل الناس عن باطله بنغمة يطرب لها الجهلة، وقالة يلوكها الرعاع، وهم الذين يهمه أمرهم. ويرحم الله عبد الرحمن! فقد شفى الغلة، وصدع بالحق، في حين أن لا ظهير له ولا نصير- والله أعلم-.
قال ابن قتيبة في (المعارف) : أربعة رأوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نسق: أبو قحافة، وابنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وابنه عبد الرحمن بن أبي بكر، وابنه محمد بن عبد الرحمن.
وقال أيضا: قيل: كان عبد الرحمن من أفضل قريش، ويكنى أبا محمد، وله عقب بالمدينة، وليسوا بالكثير، مات فجأة سنة ثلاث وخمسين بجبل يقرب من مكة، فأدخلته عائشة الحرم ودفنته وأعتقت عنه. انتهى.
وفي دمشق في مقبرة باب الفراديس، المسماة بالدحداح، مزار يقال إنه عبد الرحمن بن أبي بكر، نسب إليه زورا. وما أكثر المزوّرات في المزارات، كما يعلمه من دقّق في الوفيات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٠]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (٢٠)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ أي يقال لهم أذهبتم طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها عطف تفسير لقوله أَذْهَبْتُمْ أي فما بقي لكم من اللذائذ شيء لاستيفائكم إياها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي بغير ما أباح لكم وأذن وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ أي عن طاعته، فأبعدكم عن كرامته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢١]
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٢١)
وَاذْكُرْ أَخا عادٍ يعني هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ جمع حقف، وهو الرمل المستطيل المرتفع. قال قتادة ذكر لنا أن عادا كانوا حيّا باليمن، أهل رمل، مشرفين على البحر. وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أي: وقد مضت الرسل بإنذار أممها قبله وبعده، متفقين على أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي لا تشركوا مع الله شيئا في عبادتكم إياه. وقال كل واحد منهم عليه السلام إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أي من عبادة غير الله عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي بمقدار هتكهم، عذاب الله بالشرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٢ الى ٢٣]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٢) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣)
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا أي لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب على عبادتنا إياها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ أي في وعدك أنه آت لا محالة. قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ أي إني وإن علمت إتيانه قطعا، فلا أعلم وقت مجيئه، لأن العلم بوقته عنده تعالى، فيأتيكم به في وقته الذي قدره له وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ. قال الطبريّ: أي مواضع حظوظ أنفسكم، فلا تعرفون ما عليها من المضرّة بعبادتكم غير الله، وفي استعجال عذابه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ أي فلما جاءهم عذاب الله الذي استعجلوه، فرأوه عارضا في ناحية من نواحي السماء، متجها نحو مزارعهم قالُوا هذا عارِضٌ أي سحاب عارض مُمْطِرُنا أي بغيث نحيا به بَلْ هُوَ أي قال هود بل هو مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ أي من العذاب رِيحٌ أي هي ريح. أو بدل من (ما)، فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ، تُدَمِّرُ أي تهلك كُلَّ شَيْءٍ أي من أموالهم وأنفسهم بِأَمْرِ رَبِّها أي إذنه الذي لا يعارض، فلم تدفع عنهم آلهتهم، بل دمّرتهم فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي بيوتهم.
ثم أشار إلى أن هذا لا يقتصر على عاد، بل ينتظر لمن كان على شاكلتهم من أهل مكة وغيرها، بقوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ أي الكافرين إذا تمادوا في غيهم، وطغوا على ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٦]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ أي مكنا عادا، وآتيناهم من كثرة الأموال وقوة الأجسام، فيما لم نمكنكم فيه من الدنيا. على أنّ (إن) نافية، أوثرت على (ما) لئلا توجب شبه التكرير الثقيل. وقيل (إن) شرطية محذوفة الجواب.
والتقدير: ولقد مكناهم في الذي، أو في شيء، إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر.
وقيل: هي صلة كما في قوله.
يرجّى المرء ما إن لا يراه ويعرض دون أدناه الخطوب
قال الزمخشريّ: والوجه هو الأول. ولقد جاء عليه في غير آية في القرآن هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً [مريم: ٧٤]، كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً [غافر: ٨٢] وهو أبلغ في التوبيخ، وأدخل في الحث على الاعتبار.
قال الناصر: واختص بهذه الطائفة قوله تعالى: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: ١٥]، وقوله: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ [الأنعام: ٦] أي: والأصل توافق المعاني في الآي الواردة في نبأ واحد. على ما فيه أيضا من سلامة الحذف والزيادة.
وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً قال الطبريّ: أي جعلنا لهم سمعا يسمعون به مواعظ ربهم، وأبصارا يبصرون بها حجج الله، وأفئدة يعقلون بها ما يضرهم وينفعهم، فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أي لأنهم لم يستعملوها فيما خلقت له، بل في خلافه إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي من العذاب.
قال الطبريّ: وهذا وعيد من الله عزّ وجلّ ثناؤه، لقريش. يقول لهم: فاحذروا
أن يحل بكم من العذاب على كفركم بالله، وتكذيبكم رسله، ما حلّ بعاد، وبادروا بالتوبة قبل النقمة.
لطيفة:
قال الشهاب: أفرد السمع في النظم، وجمع غيره، لاتحاد المدرك به، وهو الأصوات، وتعددت مدركات غيره، ولأنه في الأصل مصدر، وأيضا مسموعهم من الرسل متحد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٧]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ أي ما حول قريتكم يا أهل مكة مِنَ الْقُرى أي كحجر ثمود، وأرض سدوم ومأرب ونحوها، فأنذرنا أهلها بالمثلات، وخربنا ديارها، فجعلناها خاوية على عروشها وَصَرَّفْنَا الْآياتِ أي وعظناهم بأنواع العظات، وبيّنا لهم ضروبا من الحجج لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن الكفر بالله ورسله. قال الطبريّ:
وفي الكلام متروك، ترك ذكره استغناء بدلالة الكلام عليه، وهو: فأبوا إلا الإقامة على كفرهم، والتمادي على غيهم، فأهلكناهم، فلم ينصرهم منا ناصر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٢٨]
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨)
فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً أي: فهلا نصر هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمم الخالية قبلهم، أوثانهم التي اتخذوا عبادتها قربانا يتقربون بها، فيما زعموا، إلى ربهم إذ جاءهم بأسنا، فتنقذهم من عذابنا، إن كانت تشفع لهم عند ربهم، كما قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨].
بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ أي غابوا عن نصرهم، وامتنع أن يستمدوا بهم، امتناع الاستمداد بالضالّ ففي ضَلُّوا استعارة تبعية وَذلِكَ إِفْكُهُمْ أي ضياع آلهتهم عنهم، وامتناع نصرهم إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة. وَما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وإثر افترائهم في أنها شفعاؤهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٢٩ الى ٣٢]
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢)
وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ أي أملناهم إليك، وأقبلنا بهم نحوك يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا أي ليتم التدبر والتفكر فَلَمَّا قُضِيَ أي فرغ من قراءته، كمل تأثرهم به، فأرادوا التأثير به، لذلك وَلَّوْا أي رجعوا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي عما هم فيه من الضلال. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى أي المتفق على تعظيم كتابه. أي وقد علمنا صدقه لكونه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي من هذه الكتب كلها، وقد فضّل عليها إذ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أي معرفة الحقائق وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ أي لا عوج فيه، وهو الإسلام.
قال ابن كثير: أي يهدي إلى الحق في الاعتقاد والأخبار، وإلى طريق مستقيم في الأعمال. فإن القرآن مشتمل على شيئين: خبر وطلب. فخبره صدق، وطلبه عدل، كما قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: ١١٥]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة: ٣٣]، فالهدى هو العلم النافع. ودين الحق هو العمل الصالح. وهكذا قالت الجن: يهدي إلى الحق في الاعتقادات، وإلى طريق مستقيم، أي في العمليات.
يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ أي رسول الله محمدا إلى ما يدعوكم إليه من طاعة الله، وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ أي بمعجز ربّه، بهربه إذا أراد تعالى عقوبته، لأنه في قبضته وسلطانه، أنّى اتجه. وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أي نصراء ينصرونه من الله إذا عاقبه.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي أخذ على غير استقامة.
452
تنبيهات:
الأول-
روى الإمام مسلم «١» عن علقمة قال: سألت ابن مسعود رضي الله عنه: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقيل: استطير، اغتيل! قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال:
فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم. فقال:
أتاني داعي الجن، فذهبت معهم، فقرأت عليهم القرآن، قال: فانطلق بنا، فأرانا آثارهم
. وروى الإمام أحمد «٢» عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الجن يستمعون الوحي، فيسمعون الكلمة، فيزيدون فيها عشرا. فيكون ما سمعوا حقّا، وما زادوا باطلا. وكانت النجوم لا يرمى بها قبل ذلك. فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أحدهم لا يأتي مقعده إلا رمي بشهاب يحرق ما أصاب، فشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا من أمر قد حدث. فبثّ جنود، فإذا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصلّي بين جبلي نخلة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. ورواه الترمذي «٣»
والنسائي في كتابي التفسير من سننيهما. وهكذا قال الحسن البصريّ: إنه صلّى الله عليه وسلّم ما شعر بأمرهم حتى أنزل الله تعالى عليه بخبرهم.
وذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قصة خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف، ودعائه إياهم إلى الله عزّ وجلّ، وإبائهم عليه، فذكر القصة بطولها، ثم قال:
فلما انصرف عنهم، بات بنخلة، فقرأ تلك الليلة من القرآن، فاستمعته الجن من أهل نصيبين. قال ابن كثير: وهذا صحيح، ولكن قوله (إن الجن كان استماعهم تلك الليلة) فيه نظر. فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء، كما دلّ عليه حديث ابن عباس رضي الله عنهما المذكور. وخروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الطائف كان بعد موت عمه، وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين، كما قرره ابن إسحاق وغيره.
وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: هبطوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، فأنزل الله عزّ وجلّ عليه وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ...
(١) أخرجه في: الصلاة، حديث رقم ١٥٠.
(٢) أخرجه في ١/ ٢٧٤، والحديث رقم ٢٤٨٢.
(٣) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٧٢- سورة الجن.
453
الآية. قال ابن كثير: فهذا مع الأول من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يقتضي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا: قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج. فأما ما رواه البخاريّ ومسلم «١» جميعا عن معن بن عبد الرحمن قال: سمعت أبي يقول: سألت مسروقا: من آذن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدّثني أبوك- يعني ابن مسعود رضي الله عنه- أنه آذنته بهم شجرة، فيحتمل أن يكون هذا في المرة الأولى، ويكون إثباتا مقدما على نفي ابن عباس رضي الله عنهما، ويحتمل أن يكون في الأولى ولكن لم يشعر بهم حال استماعهم حتى آذنته بهم الشجرة، أي أعلمته باجتماعهم، ويحتمل أن يكون هذا في بعض المرات المتأخرات والله أعلم.
قال الحافظ البيهقيّ: وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم، ولم يرهم. ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن، فقرأ، عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ- كما رواه ابن مسعود رضي الله عنه-.
ثم قال ابن كثير: وأما ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه لم يكن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حال مخاطبته للجن، ودعائه إياهم، وإنما كان بعيدا منه، ولم يخرج مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحد سواه، ومع هذا، لم يشهد حال المخاطبة. هذه طريقة البيهقيّ. وقد يحتمل أن يكون أول مرة خرج إليهم، لم يكن معه صلّى الله عليه وسلّم ابن مسعود ولا غيره، كما هو ظاهر سياق الرواية الأولى من طريق الإمام مسلم. ثم بعد ذلك خرج معه ليلة أخرى- والله أعلم- كما روى ابن أبي حاتم في تفسير قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ من حديث ابن جريج قال: قال عبد العزيز بن عمر: أما الجن الذين لقوه بنخلة فجنّ نينوى، وأما الجن الذين لقوه بمكة، فجن نصيبين. وتأوّل البيهقيّ قوله (فبتنا بشرّ ليلة) على غير ابن مسعود، ممن لم يعلم بخروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى الجن، وهو محتمل، على بعد وبالجملة، فقد روي ما يدل على تكرار ذلك. وقد روي عن ابن عباس غير ما روى عنه أولا من وجه جيّد عن ابن جرير في هذه الآية، قال: كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسلا إلى قومهم، فهذا يدلّ على أنه قد روى القصتين. وذكر أبو حمزة الثماليّ أن هذا الحيّ من الجن كانوا أكثر الجن عددا،
(١) أخرجه البخاري في: مناقب الأنصار، ٣٢- باب ذكر الجن وقول الله تعالى: قل أوحى إلي أنه استمع نفر من الجن، الحديث رقم ١٨١٠.
وأخرجه مسلم في: الصلاة حديث رقم ١٥٣.
454
وأشرفهم نسبا. وعن ابن مسعود أنهم كانوا تسعة. ويروى أنهم كانوا خمسة عشر، وروي ستين، وروي ثلاثمائة. وعن عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ألفا. قال ابن كثير:
فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلّى الله عليه وسلّم. ومما يدلّ على ذلك ما رواه البخاري «١» في صحيحه أن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر رضي الله عنه لشيء قط يقول: إني لأظنه هكذا، إلا كان كما يظن. بينما عمر بن الخطاب جالس، إذ مرّ به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم. عليّ الرجل. فدعي له، فقال له ذلك، فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلا ما أخبرتني! قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال: بينما أنا يوما في السوق، جاءتني أعرف فيها الفزع، فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها ويأسها من بعد إنكاسها، ولحوقها بالقلاص وأحلاسها؟ قال عمر: صدق! بينما أنا نائم عند آلهتهم، إذ جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ، لم أسمع صارخا قط أشد صوتا منه، يقول: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. قال فوثب القوم.
فقلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح! أمر نجيح، رجل فصيح، يقول: لا إله إلا الله. فقمت، فما نشبنا أن قيل: هذا نبيّ- هذا سياق البخاريّ- وقد رواه البيهقيّ من حديث ابن وهب بنحوه. ثم قال: وظاهر هذه الرواية يوهم أن عمر رضي الله عنه بنفسه سمع الصارخ يصرخ من العجل الذي ذبح. وكذلك هو صريح في رواية ضعيفة عن عمر رضي الله عنه. وسائر الروايات تدلّ على أن هذا الكاهن هو الذي أخبر بذلك عن رؤيته وسماعه- والله أعلم-.
وهذا الرجل هو سواد بن قارب. قال البيهقيّ: وسواد بن قارب يشبه أن يكون هو الكاهن الذي لم يذكر اسمه في الحديث الصحيح. ثم
روى بسنده عن البراء قال: بينما عمر بن الخطاب يخطب الناس على منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذ قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فلم يجبه أحد تلك السنة. فلما كانت السنة المقبلة قال: أيها الناس! أفيكم سواد بن قارب؟ قال، فقلت: يا أمير المؤمنين! وما سواد بن قارب؟ قال، فقال له عمر: إن سواد بن قارب كان بدء إسلامه شيئا عجيبا! قال:
فبينما نحن كذلك، إذ طلع سواد بن قارب. قال، فقال له عمر: يا سواد! حدثنا ببدء إسلامك كيف كان. قال سواد: فإني كنت نازلا بالهند، وكان لي رئيّ من الجن.
(١) أخرجه في: مناقب الأنصار، ٣٥- باب إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حديث ١٨١٣. [.....]
455
قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم إذا جاءني في منامي ذلك، قال: قم فافهم، واعقل إن كنت تعقل! قد بعث رسول من لؤيّ بن غالب، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجنّ وتحساسها... وشدّها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى... ما خيّر الجنّ كأنجاسها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم... واسم بعينيك إلى رأسها
قال: ثم أنبهني فأفزعني وقال: يا سواد بن قارب! إن الله عزّ وجلّ بعث نبيّا، فانهض إليه تهتد وترشد. فلما كان من الليلة الثانية، أتاني فأنبهني، ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتطلابها... وشدّها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى... وليس قدماها كأذنابها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم... واسم بعينيك إلى قابها
فلما كان في الليلة الثالثة، أتاني فأنبهني، ثم قال:
عجبت للجن وتخبارها... وشدّها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى... ليس ذوو الشّرّ كأخيارها
فانهض إلى الصّفوة من هاشم... ما مؤمنو الجنّ ككفّارها
قال: فلما سمعته تكرر ليلة بعد ليلة، وقع في قلبي حب الإسلام من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله. قال: فانطلقت إلى رحلي، فشددته على راحلتي، فما حللت نسعة، ولا عقدت أخرى، حتى أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا هو بالمدينة- يعني مكة- والناس عليه كعرف الفرس، فلما رآني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: مرحبا بك يا سواد بن قارب، قد علمنا ما جاء بك. قال: قلت: يا رسول الله! قد قلت شعرا، فاسمعه مني! قال صلّى الله عليه وسلّم: قل يا سواد، فقلت:
أتاني رئيّي بعد ليل وهجعة... ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال، قوله كلّ ليلة:... أتاك رسول من لؤيّ بن غالب
فشمّرت عن ساقي الإزار ووسّطت... بي الدّعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن الله لا ربّ غيره... وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة... إلى الله، يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل... وإن كان فيما جاء شيب الذّوائب
وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة... سواك بمغن عن سواد بن قارب
456
قال: فضحك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى بدت نواجذه، وقال لي: أفلحت يا سواد! فقال له عمر رضي الله عنه: هل يأتيك رئيّك الآن؟ فقال: منذ قرأت القرآن لم يأتني، ونعم العوض كتاب الله عزّ وجلّ من الجن
. ثم أسنده البيهقيّ من وجهين آخرين. انتهى كلام ابن كثير.
وقد ساقه الإمام الماورديّ في (أعلام النبوة) مع نظائر له، في الباب السادس عشر، في هتوف الجن، ثم قال: ولئن كانت هذه الهتوف أخبار آحاد، عمن لا يرى شخصه، ولا يحج قوله، فخروجه عن العادة نذير، وتأثيره في النفوس بشير، وقد قبلها السامعون. وقبول الأخبار يؤكد صحتها، ويؤيد حجتها. فإن قيل: إن كانت هتوف الجن من دلائل النبوة، جاز أن تكون دليلا على صحة الكهانة، فعنه جوابان:
أحدهما: أن دلائل النبوة غيرها، وإنما هي من البشائر بها، وفرق بين الدلالة والبشارة إخبارا.
والثاني: أن الكهانة عن مغيّب، والبشارة عن معين، فالعيان معلوم، والغائب موهوم. انتهى.
التنبيه الثاني:
قال الماورديّ: في صرف الجن المذكور في قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ [الأحقاف: ٢٩]، وجهان:
أحدهما- أنهم صرفوا عن استراق سمع السماء، برجوم الشهب، ولم يصرفوا عنه بعد عيسى إلا بعد بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: ما هذا الحادث في السماء، إلا لحادث في الأرض، وتخيلوا به تجديد النبوة، فجابوا الأرض، حتى وقفوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببطن مكة عامدا إلى عكاظ، وهو يصلي الفجر، فاستمعوا القرآن، ورأوه كيف يصلي ويقتدي به أصحابه، فعلموا أنه لهذا الحادث، صرفوا عن استراق السمع برجوم الشهب. وهذا قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه.
أقول: وعليه فتكون (إلى) في (إليك) بمعنى لام التعليل. وذكر في (المغني) أنها تأتي مرادفة اللام، نحو وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ [النمل: ٣٣]. وفيه تكلف وبعد، لنبوّه عما يقتضيه سياق بقية الآية.
ثم قال الماورديّ: وحكى عكرمة أن السورة التي كان يقرؤها اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق: ١].
457
أقول: سيأتي مرفوعا عن جابر أنها سورة الرحمن.
ثم قال الماورديّ:
والوجه الثاني- أنهم صرفوا عن بلادهم بالتوفيق، هداية من الله تعالى، حتى أتوا نبيّ الله ببطن نخلة، فنزل عليه جبريل بهذه الآية، وأخبره بوفود الجن، وأمره بالخروج إليهم، فخرج ومعه ابن مسعود، حتى جاء الحجون. قال ابن مسعود: فخط عليّ خطّا وقال: لا تجاوزه.
فعلى الوجه الأول، لم يعلم بهم حتى أتوه. وعلى الوجه الثاني، أعلمه جبريل قبل إتيانهم. واختلف أهل العلم في رؤيته لهم، وقراءته عليهم. فحكى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يرهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما سمعوا قراءته حين مروا به مصليا. وحكى ابن مسعود أنه رآهم. وقرأ عليهم القرآن.
أقول: تقدم لابن كثير ما فيه كفاية-.
ثم قال الماورديّ: وفي قوله فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف: ٢٩] وجهان:
أحدهما- فلما حضروا قراءته القرآن قالوا: أنصتوا لسماعه.
والوجه الثاني: فلما حضروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أنصتوا لسماع قوله. انتهى.
قال ابن كثير: وهذا- أي قولهم أنصتوا- أدب منهم.
وقد روى البيهقيّ عن جابر قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة الرحمن حتى ختمها، ثم قال: مالي أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردا. ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: ٤٢]، إلا قالوا: ولا بشيء من آلائك أو نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد، ورواه الترمذي «١»
وقال: غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد ابن مسلم عن زهير.
الثالث- دل قوله تعالى يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ [الأحقاف: ٣٢]، على أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عامّ الرسالة إلى الإنس والجن.
قال ابن كثير: لأنه دعا الجن إلى الله تعالى، وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين، وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم، وهي سورة الرحمن، ولهذا قال أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ.
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٥٥- سورة الرحمن، باب حدثنا عبد الرحمن بن واقد.
458
قال الماورديّ: لم يختلف أهل العلم أنه يجوز أن يبعث إليهم رسولا من الإنس، واختلفوا في جواز بعثة رسول منهم، فجوّزه قوم لقول الله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
[الأنعام: ١٣٠]، ومنع آخرون منه. وهذا قول من جعلهم من ولد إبليس، وحملوا قوله لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
على الذين لما سمعوا القرآن، وولّوا إلى قومهم منذرين. انتهى.
أقول: ونظيره تسمية رسل عيسى عليه السلام رسلا في آية إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: ١٤].
الرابع- استدل بقوله يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ من ذهب من العلماء إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة. إذ لو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا، لأوشك أن يذكروه.
قال الماورديّ: فأما كفارهم فيدخلون النار، وأما مؤمنوهم، فقد اختلفوا في دخولهم الجنة ثوابا على إيمانهم. فقال الضحاك: ومن جوز أن يكون رسلهم منهم، يدخلون الجنة. وحكى سفيان عن ليث أنهم يثابون على الإيمان بأن يجازوا على النار خلاصا منها، ثم يقال: لهم: كونوا ترابا كالبهائم. انتهى.
والحق- كما قال ابن كثير- أن مؤمنهم كمؤمن الإنس، يدخلون الجنة، كما هو مذهب جماعة من السلف. وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عزّ وجلّ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٥٦ و ٧٤]، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جلّ وعلا وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ [الرحمن: ٤٦- ٤٧]، فقد امتنّ تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة. وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القوليّ أبلغ من الإنس، فقالوا:
ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب، فلك الحمد. فلم يكن تعالى ليمتنّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم. وأيضا، فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار، وهو مقام عدل، فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة، وهو مقام فضل، بطريق الأولى والأحرى. ومما يدل أيضا على عموم ذلك قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: ١٠٧]، وما أشبه ذلك من الآيات. وما ذكروه هاهنا من الجزاء على الإيمان، من تكفير الذنوب، والإجارة من العذاب الأليم، هو يستلزم دخول الجنة، لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار. فمن أجير من النار دخل الجنة لا
459
محالة، ولم يرد معنا نص صريح ولا ظاهر عن الشارع، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة، وإن أجيروا من النار، ولو صح لقلنا به، والله أعلم. وهذا نوح عليه الصلاة والسلام يقول لقومه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [نوح:
٤] ولا خلاف أن مؤمني قومه في الجنة، فكذلك هؤلاء. وقد حكي فيهم أقوال غريبة. فعن عمر بن عبد العزيز أنهم لا يدخلون بحبوحة الجنة، وإنما يكونون في ربضها وحولها وفي أرجائها. ومن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم، ولا يرون بني آدم بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا. ومن الناس من قال: لا يأكلون في الجنة ولا يشربون، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس، عوضا عن الطعام والشراب، كالملائكة، لأنهم من جنسهم. وكل هذه الأقوال فيها نظر، ولا دليل عليها. انتهى.
الخامس- قيل: سر التبعيض في قوله مِنْ ذُنُوبِكُمْ أن من الذنوب ما لا يغفر بالإيمان، كذنوب المظالم، أي: حقوق العباد. وفيه نظر، لأن الحربيّ لو نهب الأموال المصونة، وسفك الدماء المحقونة، ثم حسن إسلامه، جبّ الإسلام عنه إثم ما تقدم.
بلا إشكال. ويقال: إنه ما وعد المغفرة للكافر على تقدير الإيمان في كتاب الله تعالى إلا مبعضة، والسر فيه أن مقام الكافر قبض لا بسط، فلذلك لم يبسط رجاؤه كما في حق المؤمن- أفاده الناصر-.
السادس- قال ابن كثير: جمعوا في دعواهم قومهم بين الترغيب والترهيب، ولهذا نجع في كثير منهم، وجاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفودا وفودا، كما تقدم بيانه.
السابع- قال الماورديّ: الجن من العالم الناطق المميز، يأكلون ويتناكحون ويتناسلون ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء. وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية.
وقال القاشاني: الجن نفوس أرضية تجسدت في أبدان لطيفة مركبة من لطائف العناصر، سماها حكماء الفرس (الصور المعلقة). ولكونها أرضية متجسدة في أبدان عنصرية، ومشاركتها الإنس في ذلك، سميا (ثقلين). وكما أمكن الناس التهدّي بالقرآن أمكنهم. وحكاياتهم من المحققين وغيرهم أكثر من أن يمكن رد الجميع، وأوضح من أن يقبل التأويل. انتهى.
460
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٣٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي بإعادة الروح إلى الجسد، بعد مفارقتها إياه، وإخراجهم من قبورهم كهيئتهم قبل وفاتهم.
وفي ابن جرير بحث نحويّ في دخول الباء في بِقادِرٍ بديع. ويذكر في مباحث زيادة الباء، في مطولات العربية.
بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أي من إعادة المعدوم، ولو فني الجسد وغيره.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا أي الإحياء إحياء بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ فَاصْبِرْ أي على تبليغ الرسالة وتكذيبهم وإيذائهم كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أي: أولو الثبات والجد منهم، فإنك منهم. والعزم- في اللغة- كالعزيمة، ما عقدت قلبك عليه من أمر. والعزم أيضا القوة على الشيء والصبر عليه. فالمراد به هنا المجتهدون، المجدّون، أو الصابرون على أمر الله فيما عهده إليهم، وقدره وقضاه عليهم. ومطلق الجد والجهد والصبر موجود في جميع الرسل، بل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكثير من الأولياء. فلذا ذهب جمهور المفسرين في هذه الآية إلى أنهم جميع الرسل، وأن (من) بيانية لا تبعيضية، فكل رسول من أولي العزم، فإن أريد به معنى مخصوص ببعضهم، فلا بد من بيانه ليظهر وجه التخصيص. ومنشأ الاختلاف في عددهم إلى أقوال: أحدها- أنهم جميع الرسل. والثاني- أنهم أربعة: نوح وإبراهيم وموسى ومحمد. والثالث- أنهم خمسة بزيادة عيسى، كما قيل:
461
أولي العزم نوح والخليل الممجّد وموسى وعيسى والنبيّ محمد
والرابع- أنهم ستة، بزيادة هارون أو داود. والخامس- أنهم سبعة بزيادة آدم.
والسادس- أنهم تسعة، بزيادة إسحاق ويعقوب ويوسف. وقد يزاد وينقص.
وتوجيه التخصيص أن المراد بهم من له جد وجهد تام في دعوته إلى الحق، وذبه عن حريم التوحيد، وحمى الشريعة، بحيث يصبر على ما لا يطيقه سواه من عوارضه النفسية والبدنية، وأموره الخارجية، كمبارزة كل أهل عصره، كما كان لنوح. أو لملك جبار في عصره، وانتصاره عليه من غير عدة دنيوية، كنمروذ إبراهيم، وجالوت داود، وفرعون موسى. ولكل موسى فرعون، ولكل محمد أبو جهل.
وكالابتلاء بأمور لا يصبر عليها البشر بدون قوة قدسية، ونفس ربانية، كما وقع لأيوب عليه الصلاة والسلام. ومن هنا كشف برقع الخفاء عن وجه التخصيص، وهذا مما كشفت بركاتهم سره- أفاده الشهاب- وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ أي ولا تستعجل بمساءلتك ربك العذاب لهم، فإن ذلك نازل بهم لا محالة، وإن اشتد عليك الأمر من جهتهم. كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ أي من عذاب الله ونكاله وخزيه الذي ينزل بهم في الدنيا أو في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي لأنه ينسيهم شدة ما ينزل بهم من عذابه، قدر ما كانوا في الدنيا لبثوا، ومبلغ ما فيها مكثوا.
وقوله تعالى بَلاغٌ قال ابن جرير: فيه وجهان:
أحدهما- أن يكون معناه: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، ذلك لبث بلاغ، بمعنى: ذلك بلاغ لهم في الدنيا إلى أجلهم، ثم حذف (ذلك لبث)، وهي مرادة في الكلام اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليها.
والآخر- أن يكون معناه: هذا القرآن والتذكير بلاغ لهم وكفاية، إن فكروا واعتبروا، فتذكروا. انتهى.
وأشار المهايميّ إلى معنى آخر فقال: ليس من حق الرسل الاستعجال، بل حقهم بلاغ.
فَهَلْ يُهْلَكُ أي بعذاب الله إذا أنزله بمقتضى العدل والحكمة إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ أي الذين خالفوا مره، وخرجوا من طاعته. نعوذ بالله من غضبه، وأليم عقابه.
462

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم
سميت به، لما فيها من أن الإيمان بما نزل على محمد متفرقا، أعظم من الإيمان بما نزل مجموعا على سائر الأنبياء عليهم السلام. وهو من أعظم مقاصد القرآن. وتسمى سورة (القتال)، لدلالتها على ارتفاع حرمة نفوس الكفار المانعة من قتالهم، وما يترتب على القتال وكثرة فوائده- قاله المهايميّ-.
وهي مدنية. وحكى النسفيّ قولا غريبا، أنها مكية. وآيها ثمان وثلاثون.
463
Icon