تفسير سورة النصر

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة النصر من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
( وهي مكية، وقيل : مدنية، وهي أربع آيات، وخمس عشرة كلمة، وسبعة وأربعون حرفا )
عزّ وجلّ :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ يعني فتح مكة، وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق، وأصحاب الأخبار " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح قريشاً عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة، وقيل : عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض، وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلى الله عليه وسلم وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بينهما شر قديم، ثم إن بني بكر عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم أسفل مكة يقال له : الوتير، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير، فأصابوا منهم رجلاً، وتحاوروا واقتتلوا، وردفت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفياً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر : يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك، فقال كلمة عظيمة : إنه لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه ؟ قال : فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة، فوقف عليه -وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس- فقال :
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمو ولداً وكنا والدا *** ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا *** إن سيم خسفاً وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إن قريشاً أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا *** وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعاً وسجدا
فانصر هداك الله نصراً أيدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال : إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب "، وهم رهط عمرو بن سالم، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس :" كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد، ويزيد في المدة "، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشدد في العقد، ويزيد في المدة، وقد رهبوا من الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلاً قال : من أين أقبلت يا بديل ؟ وظن أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي. قال : وهل أتيت محمداً ؟ قال : لا، فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان : لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى، فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمداً، ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال : أي بنية، أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني ؟ فقالت : بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال : والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه، فلم يرد عليه شيئاً، ثم ذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال : أنا لا أشفع لك إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعندها الحسن بن علي غلاماً يدب بين يديها، فقال : يا علي إنك أمس القوم بي رحماً، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائباً، فاشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ويحك يا أبا سفيان، لقد أرى عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة وقال : يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. فقالت : والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني، قال : والله لا أعلم شيئاً يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك، قال : وترى ذلك مغنياً عني شيئاً ؟ قال : لا والله، ما أظن ذلك، ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال : أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق، فلما قدم على قريش قالوا : ما رواءك ؟ قال : جئت محمداً فكلمته، فوالله ما رد علي شيئاً، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيراً، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم، وقد أشار عليّ بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني ذلك شيئاً أم لا ؟ قالوا : وما ذاك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت. قالوا : فهل أجاز ذلك محمد ؟ قال : لا. قالوا : ويلك، والله ما زاد على أن لعب بك، فما يغني عنك ما قلت ؟ قال : لا، والله ما وجدت غير ذلك. قال : وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أي بنية، أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه، قالت : نعم. قال : فأين ترينه يريد ؟ قالت : لا والله، ما أدري ؟ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ، وقال : اللّهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها-فتجهز الناس، وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة- ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عامداً إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة، فصام النبي صلى الله عليه وسلم وصام الناس معه، حتى إذا كان بالكديد بين عسفان وأمج أفطر، ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين. ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد، فلما نزل بمر الظّهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يدرون ما هو فاعل، خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء، يتجسسون الأخبار، وينظرون هل يجدون خبراً، أو يسمعون به، وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق. قال ابن هشام : لقيه بالجحفة مهاجراً بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيماً بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب ليلتئذ : وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر. قال : فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطباً، أو صاحب لبن، أو ذا حاجة يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. قال العباس : فوالله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان، وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول : ما رأيت كالليلة نيراناً قط. فقال بديل : هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها، فعرفت صوته فقلت : يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال : يا أبا الفضل، فقلت : نعم. قال : ما لك فداك أبي وأمي. قلت : ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال : وما الحيلة ؟ قلت : والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فردفني، ورجع صاحباه، فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ، ويقولون : عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال : من هذا ؟ فقام إليّ، فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال : أبو سفيان عدو الله، الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء، قال : فاقتحمت عن البغلة سريعاً، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر فقال : يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني أضرب عنقه. قال : فقلت : يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، وقلت : والله لا ينجيك الليلة أحد دوني، فلما أكثر عمر في شأنه، قلت : مهلاً يا عمر. فوالله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال : مهلاً يا عباس، فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به. قال : فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال : ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئاً بعد، قال : ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي ما أح

سورة النصر
مدنية وهي ثلاث آيات وسبع عشرة كلمة وسبعة وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة النصر (١١٠): الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣)
قوله عزّ وجلّ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة وكانت قصة الفتح على ما ذكره محمد بن إسحاق، وأصحاب الأخبار «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صالح قريشا عام الحديبية اصطلحوا على وضع الحرب بين الناس عشرين سنة، وقيل عشر سنين يأمن فيهن الناس، ويكف بعضهم عن بعض وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد صلّى الله عليه وسلّم وعهده دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش، وعهدهم دخل فيه. فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وكان بينهما شر قديم ثم إن بني بكر عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم أسفل مكة يقال له الوتير، فخرج نوفل بن معاوية الدؤلي في بني الدئل من بني بكر حين بقيت خزاعة على الوتير، فأصابوا منهم رجلا، وتحاوروا واقتتلوا، وردفت قريش بني بكر بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل باللّيل مستخفيا حتى حازوا خزاعة إلى الحرم، وكان ممن أعان بني بكر من قريش على خزاعة ليلتئذ بأنفسهم بكر بن صفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو مع عبيدهم، فلما انتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر يا نوفل إنا قد دخلنا إلى إلهك فقال كلمة عظيمة إنه لا إله اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري إنكم لتسرفون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه قال: فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العهد والميثاق بما استحلوا من خزاعة، وكانوا في عقده خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وكان ذلك مما أهاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال:
يا رب إني ناشد محمدا... حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتمو ولدا وكنا والدا... ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا اعتدا... وادع عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا... إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا... إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا... وجعلوا لي في كداء رصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا... وهم أذل وأقل عددا
487
هم بيتونا بالوتير هجدا... وقتلونا ركعا وسجدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: قد نصرت يا عمرو بن سالم ثم عرض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنان من السماء، فقال إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، وهم رهط عمرو بن سالم، ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للناس كأنكم بأبي سفيان قد جاء يشدد في العقد ويزيد في المدة، ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بعسفان قد بعثته قريش إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشدد في العقد ويزيد في المدة وقد رهبوا من الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل وظن أنه أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بطن هذا الوادي قال: وهل أتيت محمدا قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان لئن كان جاء المدينة لقد علف منها النوى فعمد إلى مبرك ناقته فأخذ من بعرها ففته فرأى فيه النوى فقال أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم طوته عنه فقال: أي بنية أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني فقالت بل هو فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنت رجل مشرك نجس لم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما أنا بفاعل، ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه فقال أنا لا أشفع لك إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به، ثم خرج فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندها الحسن بن علي غلاما يدب بين يديها فقال: يا علي إنك أمس القوم بي رحما، وأقربهم مني قرابة، وقد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ويحك يا أبا سفيان لقد أرى عزم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة وقال: يا بنت محمد هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر. فقالت: والله ما بلغ بني أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت عليّ، فانصحني قال والله لا أعلم شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم فأجر بين الناس ثم الحق بأرضك قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا قال لا والله ما أظن ذلك ولكن لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره، فانطلق فلما قدم على قريش قالوا ما وراءك قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد عنده خيرا، ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى القوم، ثم أتيت علي بن أبي طالب فوجدته ألين القوم وقد أشار عليّ بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني ذلك شيئا أم لا قالوا: وما ذاك قال أمرني أن أجير بين الناس، ففعلت قالوا فهل أجاز ذلك محمد قال لا قالوا ويلك والله ما زاد على أن لعب بك فما يغني عنك ما قلت قال لا والله ما وجدت غير ذلك قال: وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالجهاز وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة، وهي تصلح بعض جهاز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال أي بنية أمركم رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم أن تجهزوه، قالت نعم. قال فأين ترينه يريد قالت لا والله ما أدري ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتهيؤ وقال اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، فتجهز الناس وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد تقدمت قصته في تفسير سورة الممتحنة ثم مضى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسفره، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدا إلى مكة لعشر بقين من رمضان سنة ثمان من الهجرة فصام النبي صلّى الله عليه وسلّم وصام الناس معه حتى إذا كان بالكديد بين
488
عسفان، وأمج أفطر ثم مضى حتى نزل بمر الظّهران في عشرة آلاف من المسلمين. ولم يتخلف من الأنصار والمهاجرين عنه أحد فلما نزل بمر الظّهران، وقد عميت الأخبار عن قريش، ولا يأتيهم خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يدرون ما هو فاعل خرج في تلك اللّيالي أبو سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار وينظرون هل يجدون خبرا أو يسمعون به وقد كان العباس بن عبد المطلب لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ببعض الطريق قال ابن هشام: لقيه بالجحفة مهاجرا بعياله، وقد كان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه راض فلما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مر الظّهران قال العباس بن عبد المطلب. ليلتئذ واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه الهلاك لقريش إلى آخر الدهر. قال فجلست على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك لعلي أجد حاطبا، أو صاحب لبن أو ذا حاجة يدخل مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة قال العباس: فو الله إني لأسير عليها وألتمس ما خرجت له إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول ما رأيت كالليلة نيرانا قط. فقال بديل هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب، فقال أبو سفيان خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها، فعرفت صوته فقلت يا أبا حنظلة فعرف صوتي، فقال يا أبا الفضل فقلت نعم قال ما لك فداك أبي وأمي قلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال:
وما الحيلة قلت والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأستأمنه لك فردفني، ورجع صاحباه فخرجت أركض به على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما مررت بنار من نيران المسلمين ينظرون إليّ، ويقولون عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال من هذا فقام إليّ فلما رأى أبا سفيان على عجز البغلة، قال أبو سفيان عدو الله الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد، ولا عهد ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وركضت البغلة فسبقته كما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء قال فاقتحمت عن البغلة سريعا، فدخلت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ودخل عليه عمر فقال: يا رسول الله هذا عدو الله أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد، ولا عهد فدعني أضرب عنقه قال فقلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذت برأسه، وقلت والله لا ينجيك الليلة أحد دوني فلما أكثر عمر في شأنه قلت مهلا يا عمر. فو الله ما تصنع هذا إلا أنه رجل من بني عبد مناف، ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، فقال مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليّ من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا لأني أعلم أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فائتني به قال فذهبت به إلى رحلي فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما رآه قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد قال ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله، قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك، وأوصلك أما هذه فإن في النفس منها حتى الآن شيئا فقال العباس: ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك فتشهد شهادة الحق وأسلم قال العباس: فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا قال نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا عباس احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله قال فخرجت به حيث أمرني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أحبسه قال ومرت به القبائل على راياتها كلما مرت به قبيلة قال من هؤلاء يا عباس، فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم، ثم القبيلة فيقول من هؤلاء، فأقول مزينة فيقول ما لي ولمزينة حتى نفدت القبائل. لا تمر قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته عنها. فيقول ما لي، ولبني فلان حتى مر رسول الله
489
صلّى الله عليه وسلّم في كتيبته الخضراء، وإنما قيل لها الخضراء لكثرة الحديد، وظهوره فيها وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد فقال سبحان الله من هؤلاء يا عباس؟ قلت هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المهاجرين، والأنصار. قال ما لأحد بهؤلاء من قبل ولا طاقة، والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما قلت ويحك إنها النبوة، قال فنعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم، فخرج سريعا حتى أتى مكة، فصرخ في المسجد بأعلى صوته يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال: قال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا ويحك، وما تغني عنا دارك قال من دخل المسجد، فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم، وإلى المسجد قال وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلما وبايعاه، فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الإسلام، ولما خرج حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عامدين إلى مكة بعث في أثرهما الزبير وأعطاه رايته وأمره على خيل المهاجرين والأنصار وأمره أن يركز رايته بأعلى مكة بالحجون، وقال لا تبرح حيث أمرتك أن تركز رايتي حتى آتيك، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما انتهى إلى ذي طوى وقف على راحلته معتجرا بشقه عليه برد حبرة، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليضع رأسه تواضعا لله عز وجل حين رأى ما أكرمه به من الفتح حتى أن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل، ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل مكة وضرب قبته بأعلى مكة، وأمر خالد بن الوليد، فيمن أسلم من قضاعة، وبني سليم أن يدخلوا من أسفل مكة وبها بنو بكر، وقد استنفرتهم قريش، وبنو الحارث بن عبد مناف ومن كان من الأحابيش أمرتهم قريش أن يكونوا بأسفل مكة، وأن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو كانوا قد جمعوا ناسا بالخندمة ليقاتلوا وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لخالد والزبير حين بعثهما لا تقاتلا إلا من قاتلكما، وأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كدى فقال سعد: حين توجه داخلا اليوم يوم الملحمة اليوم يوم تستحل الحرمة فسمعها رجل من المهاجرين قيل: هو عمر بن الخطاب فقال: لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم اسمع ما قال سعد بن عبادة، وما نأمن أن يكون له في قريش صولة فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلي بن أبي طالب أدركه بهذه الراية. فكن أنت الذي تدخن بها، فلم يكن بأعلى مكة من قبل الزبير قتال، وأما خالد بن الوليد، فقدم على قريش وبني بكر، والأحابيش بأسفل مكة، فقاتلوه فهزمهم الله، ولم يكن بمكة قتال غير ذلك، وقتل من المشركين اثنا عشر رجلا أو ثلاثة عشر رجلا، ولم يقتل من المسلمين إلا رجل من جهينة يقال له سلمة بن الميلاء من خيل خالد بن الوليد ورجلان يقال لهما كرز بن جابر، وخنيس بن خالد بن الوليد شذا وسلكا طريقا غير طريقه، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم إلا نفرا منهم سماهم أمر بقتلهم، وإن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وإنما أمر بقتله لأنه كان قد أسلم فارتد مشركا ففر إلى عثمان، وكان أخاه من الرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد أن اطمأن أهل مكة فاستأمنه له وعبد الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب، وإنما أمر بقتله لأنه كان مسلما فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقا، وكان له مولى يخدمه، وكان مسلما فنزل منزلا وأمر المولى أن يذبح له تيسا ويصنع له طعاما ونام فاستيقظ، ولم يصنع له شيئا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشركا، وكان له قينتان يغنيان بهجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمر بقتلهما معه والحويرث بن نقيد بن وهب، وكان ممن يؤذيه بمكة ومقيس صبابة، وإنما أمر بقتله لقتله الأنصاري الذي قتل أخاه خطأ، ورجوعه إلى قريش مرتدا، وسارة مولاة لبني عبد المطلب، وكانت ممن يؤذيه بمكة، وعكرمة بن أبي جهل فأما عكرمة فهرب إلى اليمن، وأسلمت امرأته أم حكيم بنت الحارث بن هشام، فاستأمنت له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنه فخرجت في طلبه حتى أتت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأما عبد الله بن خطل فقتله سعيد بن الحارث المخزومي وأبو برزة الأسلمي اشتركا في دمه وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله رجل من قومه وأما قينتا ابن خطل فقتلت إحداهما، وهربت الأخرى حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأمنها وأما سارة فتغيبت
490
حتى استؤمن لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فعاشت حتى أوطأها رجل من الناس
فرسا له في زمن عمر بن الخطاب بالأبطح فقتلها، وأما الحويرث ابن نقيد فقتله علي بن أبي طالب قالت أم هانئ: لما نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأعلى مكة فر إليّ رجلين من أحمائي من بني مخزوم، وكانت عند هبيرة بن أبي وهب المخزومي قالت: فدخل عليّ علي بن أبي طالب أخي فقال: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما باب بيتي، ثم جئت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو بأعلى مكة، فوجدته يغتسل من جفنة وإن فيها لأثر العجين، وفاطمة ابنته تستره بثوبه فلما اغتسل أخذ ثوبه فتوشح به، ثم صلى ثمان ركعات الضحى، ثم انصرف إليّ فقال مرحبا وأهلا بأم هانئ ما جاء بك؟ فأخبرته خبر الرجلين وخبر علي بن أبي طالب فقال: قد أجرنا من أجرت وأمنّا من أمنت فلا نقتلهما ثم إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج لما اطمأن الناس حتى جاء البيت فطاف به سبعا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده فلما قضى طوافه دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة، وقد استكف له الناس في المسجد فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهي تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت، وسقاية الحاج ألا قتل الخطأ شبه العمد بالسوط، والعصا، ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى الآية ثم قال يا معشر قريش ما ترون إني فاعل فيكم، قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء، فأعتقهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المسجد، وكان الله أمكنه منهم عنوة فبذلك سموا أهل مكة الطلقاء، ثم جلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة بيده فقال: يا رسول الله اجمع لنا بين الحجابة، والسقاية فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أين عثمان بن طلحة فدعي له فقال هاك مفتاحك يا عثمان اليوم يوم وفاء وبر، قال واجتمع الناس للبيعة فجلس إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الصفا، وعمر بن الخطاب أسفل منه يأخذ على الناس. فبايعونه على السمع والطاعة فيما استطاعوا، فلما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء قال عروة بن الزبير: خرج صفوان بن أمية يريد جدة ليركب منها إلى اليمن فقال عمير بن وهب الجمحي يا رسول الله إن صفوان بن أمية سيد قومي قد خرج هاربا منك ليقذف بنفسه في البحر، فأمنه يا رسول الله، فقال هو آمن قال: يا رسول الله أعطني شيئا يعرف به أمانك، فأعطاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمامته التي دخل بها مكة، فخرج بها عمير حتى أدركه بجدة، وهو يريد أن يركب البحر فقال يا صفوان فداك أبي وأمي أذكرك الله في نفسك أن تهلكها، فهذا أمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جئتك به؟ فقال ويلك أغرب عني لا تكلمني قال: فداك أبي وأمي أفضل الناس، وأبر النّاس وأحلم الناس، وخير الناس ابن عمتك عزه عزك وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال إني أخافه على نفسي قال: هو أحلم من ذلك، وأكرم فرجع به معه حتى وقف به على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال صفوان: إن هذا يزعم أنك آمنتني قال صدق، قال فاجعلني في ذلك بالخيار شهرين قال: أنت بالخيار أربعة أشهر «قال ابن هشام وبلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حين افتتح مكة، ودخلها قام على الصّفا يدعو، وقد أحدقت به الأنصار فقالوا فيما بينهم أترون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فتح الله عليه مكة أرضه، وبلاده يقيم بها فلما فرغ من دعائه قال ماذا قلتم قالوا لا شيء يا رسول الله فلم يزل بهم حتى أخبروه.
فقال النّبي صلّى الله عليه وسلّم معاذ الله المحيا محياكم والممات مماتكم»
قال ابن إسحاق: وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف، وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من رمضان سنة ثمان، وأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد فتحها خمس عشرة ليلة يقصر الصلاة ثم خرج إلى هوازن وثقيف، وقد نزلوا حنينا (ق) عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام الفتح بقتيل لهم في الجاهلية فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الناس فحمد الله، وأثنى عليه وقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ألا وإنها لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد
491
من بعدي، ألا وإنما أحلت لي ساعة من نهار إلا، وإنها ساعتي هذه فلا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها، ولا يقطع شوكها، ولا تحل ساقطتها لا لمنشد، ومن قتل له قتيل، فهو بخير النظرين. إما أن يفتدي وإما أن يقيد فقال العباس: إلا الإذخر فإنا نجعله لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا الإذخر، فقام أبو شاه رجل من أهل اليمن فقال اكتبوا لي يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اكتبوا لأبي شاه قال الأوزاعي: يعني الخطبة التي سمعها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم».
(وأما التفسير) فقوله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ يعني إذا جاءك يا محمد نصر الله، ومعونته على من عاداك وهم قريش.
ومعنى مجيء النصر أن جميع الأمور مرتبطة بأوقاتها يستحيل تقدمها عن وقتها أو تأخرها عنه فإذا جاء ذلك الوقت المعين حضر معه ذلك الأمر المقدر، فلهذا المعنى قال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ يعني فتح مكة في قول جمهور المفسرين، وقيل هو جنس نصر الله المؤمنين وفتح بلاد الشرك عليهم على الإطلاق، والفرق بين النصر والفتح. أن النصر هو الإعانة والإظهار على الأعداء وهو تحصيل المطلوب، وهو كالسبب للفتح. فلهذا بدأ بذكر النصر وعطف عليه الفتح، وقيل النصر هو إكمال الدين وإظهاره، والفتح هو الإقبال الذي هو تمام النعمة. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً يعني زمرا وأرسالا القبيلة بأسرها. والقوم بأجمعهم من غير قتال قال الحسن: لما فتح الله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قالت العرب بعضها لبعض إذا ظفر الله محمد بأهل الحرم، وكان قد أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا. بعد أن كانوا يدخلون واحدا واحدا واثنين اثنين. وقيل أراد بالناس أهل اليمن (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا، وأرق أفئدة الإيمان يمان، والحكمة يمانية ودين الله هو الإسلام» وأضافه إليه تشريفا وتعظيما، كبيت الله وناقة الله قوله فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً يعني فإنك حينئذ لا حق به (ق) عن ابن عباس: قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال: بعضهم لم يدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله فقال إنه ممن قد علمتم قال فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم.
قال وما رأيت أنه كان دعاني يومئذ إلا ليريهم مني.
قال ما تقولون في قول الله تعالى: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ حتى ختم السورة، فقال بعضهم أمرنا أن نحمد الله، ونستغفره إذ نصرنا، وفتح علينا، وسكن بعضهم فلم يقل شيئا فقال لي أكذلك تقول يا ابن عباس، قال: قلت لا قال فما هو قلت هو أجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلمه، فقال إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، فذلك علامة أجلك فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا، قال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم (ق) عن عائشة قالت: «ما صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة بعد أن أنزلت عليه إذا جاء نصر الله والفتح، إلا يقول فيها سبحانك ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، وفي رواية قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن، وفي رواية قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكثر القول من سبحان الله، وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه، وقال أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده وأستغفر الله وأتوب إليه قد رأيتها إذا جاء نصر الله والفتح فتح مكة، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا». قال ابن عباس: لما نزلت هذه السورة علم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه نعيت إليه نفسه.
وقال الحسن: أعلم أنه قد اقترب أجله فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم بالزيادة في العمل الصالح قيل عاش
492
النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد نزول هذه السورة سنتين، وقيل في معنى السورة إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فاشتغل أنت بالتسبيح والتحميد، والاستغفار، فالاشتغال بهذه الطاعة يصير سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة.
وفي معنى التسبيح وجهان: أحدهما نزه ربك عما لا يليق بجلاله ثم احمده.
والثاني فصل لربك لأن التسبيح جزء من أجزاء الصلاة، ثم قيل عني به صلاة الشكر، وهو ما صلاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكة ثمان ركعات.
وقيل هي صلاة الضحى. وفي الآية دليل على فضيلة التسبيح، والتحميد حيث جعل ذلك كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح.
فإن قلت ما معنى هذا الاستغفار، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
قلت إنه تعبد الله بذلك ليقتدي به غيره. إذ لا يأمن كل واحد من نقص يقع في عبادته واجتهاده ففيه تنبيه على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مع عصمته وشدة اجتهاده ما كان يستغني عن الاستغفار فكيف بمن هو دونه وقيل هو ترك الأفضل والأولى لا عن ذنب صدر منه صلّى الله عليه وسلّم وعلى قول من جوز الصغائر على الأنبياء يكون المعنى، واستغفره لما عسى أن يكون قد وقع من تلك الأمور منه، وقيل المراد منه الاستغفار لذنوب أمته، وهذا ظاهر لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْمُؤْمِناتِ والله سبحانه وتعالى أعلم.
493
﴿ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ﴾ يعني زمراً وأرسالاً، القبيلة بأسرها. والقوم بأجمعهم من غير قتال. قال الحسن : لما فتح الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قالت العرب بعضها لبعض : إذا أظفر الله محمدا بأهل الحرم، وكان قد أجارهم من أصحاب الفيل، فليس لكم به يدان، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً، بعد أن كانوا يدخلون واحداً واحداً، واثنين اثنين. وقيل : أراد بالناس أهل اليمن. ( ق ) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أتاكم أهل اليمن، هم أضعف قلوباً، وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ودين الله هو الإسلام "، وأضافه إليه تشريفاً وتعظيماً، كبيت الله وناقة الله.
﴿ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ﴾ يعني فإنك حينئذ لاحق به. ( ق ) عن ابن عباس : قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فقال بعضهم : لم يدخل هذا الفتى معنا، ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم. قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم. قال : وما رأيت أنه كان دعاني يومئذ إلا ليريهم مني. قال : ما تقولون في قول الله تعالى :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ حتى ختم السورة ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله، ونستغفره إذ نصرنا، وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا. فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس ؟ قال : قلت : لا. قال : فما هو ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه، فقال ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾، فذلك علامة أجلك ﴿ فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ﴾. قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم. ( ق ) عن عائشة قالت :" ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن أنزلت عليه ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ إلا يقول فيها :" سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ". في رواية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده :" سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي " يتأول القرآن، وفي رواية قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر القول من سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه. وقال :" أخبرني ربي أني سأرى علامة في أمتي. فإذا رأيتها أكثرت من قول سبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه. قد رأيتها ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ فتح مكة، ﴿ ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ﴾ ". قال ابن عباس : لما نزلت هذه السورة علم النبي صلى الله عليه وسلم أنه نعيت إليه نفسه.
وقال الحسن : أعلم أنه قد اقترب أجله، فأمر بالتسبيح والتوبة، ليختم بالزيادة في العمل الصالح. قيل : عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة سنتين، وقيل في معنى السورة :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ﴾ فاشتغل أنت بالتسبيح والتحميد، والاستغفار، فالاشتغال بهذه الطاعة يصير سببا لمزيد درجاتك في الدنيا والآخرة.
وفي معنى التسبيح وجهان : أحدهما نزه ربك عما لا يليق بجلاله، ثم احمده.
والثاني فصل لربك ؛ لأن التسبيح جزء من أجزاء الصلاة، ثم قيل : عني به صلاة الشكر، وهو ما صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ثماني ركعات.
وقيل : هي صلاة الضحى. وفي الآية دليل على فضيلة التسبيح والتحميد، حيث جعل ذلك كافيا في أداء ما وجب عليه من شكر نعمة النصر والفتح.
فإن قلت : ما معنى هذا الاستغفار، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟
قلت : إنه تعبد الله بذلك ليقتدي به غيره ؛ إذ لا يأمن كل واحد من نقص يقع في عبادته واجتهاده، ففيه تنبيه على أن النبي صلى الله عليه وسلم مع عصمته وشدة اجتهاده ما كان يستغني عن الاستغفار، فكيف بمن هو دونه ؟ وقيل : هو ترك الأفضل والأولى لا عن ذنب صدر منه صلى الله عليه وسلم. وعلى قول من جوز الصغائر على الأنبياء يكون المعنى : واستغفره لما عسى أن يكون قد وقع من تلك الأمور منه. وقيل : المراد منه الاستغفار لذنوب أمته، وهذا ظاهر ؛ لأن الله تعالى أمره بذلك في قوله﴿ واستغفر لذنبك، وللمؤمنين، والمؤمنات ﴾ والله سبحانه وتعالى أعلم.
Icon